25 - 06 - 2014, 11:27 AM | رقم المشاركة : ( 51 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
الفصل الثالث عشر: الحيرة الخلاقة
حلّ المساء وقد التقطت السماء غيمة شاردة لتسربل بها القمر الناقص وكأنّها تستحي من إرسال ضياءً غير مكتمل على رؤوس البشر. أُوقِدت المشاعل لتحلّ محلّ القمر المختبِئ، وسرَى ضوءٌ تُحرِّكه نسمات الليل النابتة من بطن البحر المُتلاطِم. كان البحرُ يُرسِلُ الهواء وكأنّ بوسيدون (إله البحار)، الذي يقطن في هيكلِه الواقع غرب جزيرة فاروس، يريد إطفاء شُعلة المدينة ليسري الظلام ويحتضن القلوب والعقول. توجّه إليوس إلى الموسيون تلك المرّة. وبينما كان يسير، كانت تبدو له المدينة جديدة كلّ الجدّة. أصبح يرى في المدينة ما لم يره قبلاً، وبدأ يسمع عمّا لم يسمعه من قبل. فالإسكندريّة كانت تعني له من قبل؛ الموسيون والجمنزيوم والمكتبة والسيرابيوم. لم يتعرّف على الوجه الخفي للإسكندريّة على حقيقته قبل هذا اليوم. وجد أنّ ما تعلّمه عن المدينة الفاضلة والعدل الاجتماعي يُختبر في تلك اللحظات. كان يحبّ في أفلاطون ميله إلى العدالة ومُناصرتها مقابل أي شيءٍ آخر، الأمر الذي وجده ينهار في المدينة؛ فالعدل غائب لخدمة مصالح أشراف المدينة وقادتهم. نظر إلى صورة هوراس الشاعر وهو يستجمع كلماته من فضاء الذاكرة، مُتحسِّرًا على العدل التائه بين مصالح الأغنياء، حين قال: إذا كان الرجل عادلاً حازمًا فقد تتصدّع الدنيا كلّها من حوله وتتساقط فوق رأسِه، وتجده تحت حطامها غير هيّابٍ ولا وَجِلٍ.. كانت تجري في عقله كلمات أفلاطون عمّن يحب الحقيقة فلا يجازي الإساءَة بالإساءِة، بل يُفضِّل أنْ يتحمّل على أنْ يرتكب هو الظلم. ويضرب في الأرض برًّا وبحرًا يبحث عن الناس الذين لا يجد الفساد سبيلاً إليهم.. والذين يهبون أنفسهم للفلسفة بحقٍّ ويمتنعون عن الشهوات الجسميّة. وإذا ما عَرَضَت عليهم الفلسفة أنْ تُطهرِّهم من الشرِّ وتُحرِّرهم منه، أحسّوا بأنّ من واجبهم ألاّ يقاوموا تأثيرها فيهم؛ ومن أجل ذلك يميلون نحوها، ويسيرون خلفها للهدف الذي تقودهم إليه. شعر إليوس أنّ أفلاطون إنمّا كان يوصِّف حياة المسيحيّين قبل أنْ يراهم، وأنّ الفلسفة المُحرِّرة ليست شيئًا سوى تعاليم المسيح يسوع. دخل إلى الموسيون وذهب ليلاقي بلينوس، الذي حالما رآه ابتسم وقال: مرحبًا برجل المهام الصعبة. لم يستطِع إليوس أنْ يُبادِله الابتسام، وقال بصوتٍ شاحبٍ مُختنقٍ: مرحبًا أيّها المُعلِّم.. - ما لك يا إليوس، يبدو أنّ همومًا قد باتت ليلتها في عقلك.. - إنّي في حيرةٍ من أمري أيّها المُعلِّم. فمنذ أنْ رأيت رِقَّ الإنجيل على طاولتك وأنا مدفوعٌ لعالم المسيحيّين. وحينما دخلت ذلك العالم رأيت ما لم أره من قبل.. رأيت متناقضات الحياة.. - ماذا تعني؟ - لقد بدأ الأمر بأبوللونيا أختي التي جاهرت بإيمانها المسيحي، وحينما هممتُ بمواجهة كليمندس بغضبي وجدت قوى تدفعني دفعًا إلى عالمهم وهناك شعرت أنّ يدًّا تستوقفني وتطرحني بلا حراك. لقد سمعت عن فضيلة ضبط النَفْس التي كان يتحدّث عنها سقراط إلاّ إنّني لم أرها مُتجسّدة من قبل بهذا الشكل. لقد جلست وسطهم وهم يعانون من ظلمٍ شديدٍ بيد أنّ إيمانهم كان يُحلِّق بهم بعيدًا عن ثورات الغضب والشغب الذي طالما اعتدته ممّن يقع عليهم ظلمٌ. إنّ هناك سِرًّا دفينًا في قلب كلٍّ منهم يدفعه لتجاوز الحياة بكلّ ما يجري فيها بل ويسخر من الموت الأليم الذي قد يصادف أحدهم على الطريق. لقد رأيت اليوم فتيات صغيرات يُقدِّمن الحبّ لفقراء المدينة وبالرغم من ذلك نالهم من الوالي جزاءً صارخًا، وجُلِدن بقسوةٍ ولم يُحرّكن ساكنًا ولم يصرخن طالبات الرحمة ولم تنُح نساؤهم ولم يتجمهر رجالهم، بل بدا الجميع وكأنّهم يُقدّمون ذبيحة للإله.. لم يفعلوا شيئًا سوى الصلاة.. الصلاة فقط!!! قام بلينوس من مقعدِه ووقف قبالة ردهة الغرفة ضامًا يديه خلف ظهره المنحني، وهو يقول: إنّ ما تعانيه من غصّةٍ أليمةٍ في قلبك لما رأيته، أعانيه ألمًا في عقلي الذي حاصرته كلمات يوحنّا.. أشعر أنا أيضًا أنّي مُحاصَر لا أستطيع الفرار من تلك الكلمات. وكلّما هممت بالخروج من دائرتها وجدت خيطًا يجذبني بقوّةٍ إلى تلك الدائرة لأبقَى في مدار صداها المُتردّد بقوّةٍ في أعماقي الداخليّة.. لا أفهم ما الذي يحدُث لي.. لم يسبق لي أنْ شعرت بأنّ قوّةً خفيّةً تقودني قبل هذا اليوم. كان المنطق وحده قائدي وكانت الفلسفة وحدها ربّان سفينتي، ولكنّي الآن أتلمّس أبعادًا جديدةً في نفسي تصرخ وتئنّ طالبةً مثل هذا التعليم الذي للوغوس المسيحيّين. لقد وجدت رقًّا يحتوي بعض كلمات أرسلها أثيناغورس، زميل الموسيون القديم والذي تحوّل إلى المسيحيّة، إلى الإمبراطور ماركوس أوريليوس والإمبراطور لوكيوس أوريليوس لدرء الشبهات عن مذهبِهم وحياتِهم التي تقوَّل عليها البعضُ، وهو الأمرُ المُستمِرُ حتّى الآن في الموسيون. لقد بدأت أُطالعه لعلّي أفهم كيف اقتاد ناصريٌّ، رجلاً عظيمَ الشأن مثل أثيناغورس، ولعلّي أميط اللّثام عن حياتِهم غير المفهومةِ للكثيرين في الإسكندريّة.. - وهل توصّلت لشيءٍ؟ - دعني أقرأ لك بعضًا من كلماته. فَرَدَ بلينوس الرقَّ الذي كان على الطاولة وسط غيره، وبدأ يقرأ.. .. لقد زعموا ضدّنا قصصًا عن ولائمٍ تتعارض مع التقوى، كذا عَلاقات جنسيّة مُحرّمة بين الجنسين حتّى يبرّروا لأنفسهم أُسُس الكراهية. ولأنّهم يعتقدون أنّه بالترهيب يمكنهم أنْ يدفعوننا بعيدًا عن مسار حياتنا، أو بتأليب الحُكّام علينا وجعلهم قساة غير متسامحين، لِما قالوه علينا من اتّهامات كبيرة. وإنْ كانت جهودهم تبوء بالفشل مع أولئك الذين يعلمون جيّدًا أنّه منذ القِدَم -وليس فقط في أيامنا تلك- من المعتاد أنْ تشنّ الرذيلة حربًا شعواء على الفضيلة، حتّى إنّ فيثاغورس ومعه ثلاثمائة آخرين، اُعدِموا حرقًا، وكذلك تمّ نفي هيراقليطس وديموقريطس، واحد من مدينة الأفسسيّين والآخر من أبديرا لأنّه اتُّهم بالجنون، كما حَكَمَ الأثينيّون على سقراط بالموت. ولأنّهم -لم يكونوا أقلّ سوءًا- من جهة الفضيلة، وحسب آراء العامّة، كذلك فالاتّهامات العشوائيّة من بعض الأشخاص لن يمكنها أنْ تُلقي بظلالها علينا فيما يتّصل باستقامة حياتنا، لأنّنا نقف مع الله، في سيرةٍ عطرةٍ، ورغم ذلك سوف أتولّى الردّ على هذه الاتّهامات أيضًا، وإنْ كنت واثقًا أنّ ما قلته حتّى الآن، أظهر لك ما أريد، لأنّكم وأنتم الذين تفوقون الناس كلّهم ذكاءً، تعرفون أنّ هؤلاء الذين يتوجّهون بحياتهم إلى الله، ليصير كلٌّ منهم بلا لومٍ ولا شكايةٍ أمام الله، لا تراود أذهانهم أفكارٌ حتّى عن أبسط الخطايا، لأنّنا لو اعتقدنا أنّنا نحيا حياتنا هذه فقط لكان هناك شكٌّ في أنّنا نُخطِئ، وذلك لعبوديّتنا للحمٍ ودمٍ، أو قد تتسيّدُ علينا محبّة الكسبِ والرغبةِ الحيوانيّة. نحن نعلمُ أنّ الله شاهدٌ على فكرنا وكلامنا ليل نهار. إذ أّنه وهو النور، يُبصِرُ ما في قلوبنا. إنّنا لواثقون بأنّه عندما نترك هذه الحياةُ الراهنةُ، سنحيا حياةً أخرى أفضل من تلك التي نحياها الآن؛ حياةً سماويّةً وليست أرضيّةً، إذ سنسكن بالقرب من الله. ومع الله سنتحرّر من كلّ تغيُّرٍ أو ألمٍ، بالروح وليس بالجسد، رغم أنّه سيكون لنا جسدٌ.. لأنّ الله لم يخلقنا كغنمٍ أو كحيواناتٍ، تلك التي تحمل الأثقال كمجرّد أداةَ عملٍ ممّا يعني أنّنا سنهلك ونصبح عدمًا. بناءً على ذلك فمن غير المحتمل أنْ نرغب في عمل الشرّ حتّى لا ندفع بأنفسنا أمام الديّان الأعظم لنعاقب!! ساد صمتٌ.. وكأنّهم قد اتّفقا على ما لا يمكن إعلانه في الموسيون.. قَطَعَ بلينوس حبال الصمت قائلاً لإليوس: دبِّر لي لقاءً مع مُعلِّم المسيحييّن.. - أتقصد كليمندس.. - نعم.. كليمندس.. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:28 AM | رقم المشاركة : ( 52 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
الفصل الرابع عشر: إشراقة المسيا
استقرّت الشمسُ في كبد السماء مُعلنةً عن زمان الدفء لأهالي الإسكندريّة الذين زارهم ليلها القارص البرودة وتركَ آثاره داخل أبدانهم. جلست روحامه بجانب سارة التي بدأت تستفيق وتفتح عينيها بتثاقلٍ. كانت تُداعِبُ شعرها بلمساتِ أمٍّ حانيةٍ وهي تقول: - كيف حال صغيرتي اليوم؟ مطّت سارة شفتيها لتُعبِّر عن بقايا ألمٍ قائلةً: أبارك الربّ.. تلفّتت حولها بعينيّها التي تحاول الانفلات من ظلام الأجفان، وقالت: أين أنا؟ - نحن في نَزْلِ المحبّة الخاص بالمسيحييّن.. - هل ماريا هي التي جاءت بنا إلى هنا؟ - لقد رأى بعضهم أنّنا وحدنا وقد غُشي عليك فحملوك وجاءوا بك إلى ههنا وقد سهروا على راحتك طوال الليل. - إنّهم أُناسٌ طيبون.. - بالفعل فهم ملائكةٌ في ثيابِ بشرٍ. - هذا عكس ما سمعناه قبلاً. - لقد ضلّلنا الكثيرون ونحن صِغار ليخفوا عنّا الحقيقة.. نظرت روحامه لوجه سارة وقد علت وجهها مِسحةٌ من الفرح والهدوء وهي تقول: سارة.. لقد آمنت أنّ يسوع الناصري هو المسيّا.. أمالت سارة جسدها المُثخنُ بالجراح ممّا سبّب لها ألمًا، بدا على وجهها المُنقبض، وقالت: هل آمنت بتعاليم المسيحييّن لأنّهم آوونا ليلةً عندهم؟!! أجابت روحامه وهي لا تزال تداعب شعرها في حنوٍّ: لا يا حبيبتي، فلقد قضيت طوال النهار، وأنت نائمة، أسمع عن حياة يسوع الناصري وتعاليمه ومعجزاته فوجدت أنّ هذا لا يمكن أن يُحقِّقه بشرٌ مخادعٌ لقد آمنت أنّ المسيح جاء بالحبّ للبشريّة، كما وَهَبَ الغفران للجميع دونما تمييز.. صمتت سارة لبُرهة قبل أن تقول: لا أخفيك سِرًّا يا أمّي فلقد لاقيت من ماريا، الفتاة المسيحيّة، حنوًّا لم أعهده في أحدٍ من قبل بالرغم من جفوتي معها ونحن سجينتان. - ألم أقل لك.. إنّ الإيمان يا سارة يُختبرُ من خلال الحبّ، وحُبّ المسيحييّن للجميع ليس له مثيل.. نظرت سارة في عينيها نظرة طفل وهي تقول: وماذا عرفتي عن إله المسيحييّن، حدثيني عنه.. بدأت تقصُّ لها روحامه كلّ ما سمعته من الكاهن عن حياة يسوع.. ثمّ قالت لها: حينما تستردّين عافيتك سيبدأ المُعلّم بإرشادنا إلى الحياة المسيحيّة.. - ومن هو المُعلِّم؟ - يدعونه كليمندس.. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:28 AM | رقم المشاركة : ( 53 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
بينما كانت روحامه وسارة يتجاذبان أطراف الحديث، انتبهت سارة وإذ بأعينٍ تتفرّس فيها في صمتٍ وأسى، إنّه أبشالوم الذي نهب المدينة نهبًا من شرقها إلى غربها ليُلاقي سارة. حينما رأته حاولت تحويل وجهها وكأنّها نعامةً تضعُ وجهها في التراب آملةً ألاّ يراها الصيّاد وهي خائرة. اقترب من مِرقدها وهو يقول: سارة.. كيف حالك اليوم؟؟ قامت روحامه لتفسح لهما مكانًا للحديث وخرجت من الغرفة. أجابت سارة بوجهٍ خجلٍ وكأنّه قد التفّ بحريرٍ قرمزي: أباركُ الربّ.. قال أبشالوم: لم أعرف بما حدث إلاّ منذ قليل.. لماذا لم تأتي إليّ بعد ما حدث؟؟ - لم أستطع أنْ أواجهك بعار ولادتي، فأنا ابنة لـ.. - أنا لا أهتمّ برَحِمِ الماضي الذي أطلقك إلى الوجود، فأنت لي حاضرٌ طاهرٌ نقيٌّ برئٌ لطالما حلمت به في ليالي غربتي.. - إنّ مجتمعنا لا يرحمُ مَنْ هم مثلي؛ إنّهم يَشْهِرون الماضي سيفًا على رقبة كلّ مَنْ يحاول أنْ يتحرّر منه، ليولَد من لحظات الحاضر المفعم بالأمل.. - أنا لا أعبأ بأحدٍ.. - ولكنّني لا أستطيع أنْ أكون سببًا لطردك من بيت أبيك ومن وسط مُعلّميك ومن بين الحي اليهودي جُملةً. لقد ذُقت مرارة الرفض ولا أحتمل أنْ أُلقي بك في لُجّة هذا المصير القاسي.. - دعيني اختار طريقي، وطريقي معك في أي مكان.. - أنت لم تعرفُ قسوة ليالي الإسكندريّة على الفقراء وخاصّة اليهود منهم.. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:29 AM | رقم المشاركة : ( 54 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
دخلت إلى الغرفة فتاةٌ لتطمئن على سارة، وكانت تسألها عن حالها بوجهٍ صبوحٍ ارتسمت عليه ابتسامةٌ كعادة أهل المكان. وحينما اطمأنّت عليها قالت لها: سأُحضِر لك طعام الغذاء بعد نصف الساعة. أومأت سارة إيماءة موافقة مشفوعة بشكرٍ صامت. نظر إليها أبشالوم قائلاً: ولكن ماذا تفعلين في هذا المكان؟ أليس هذا هو نَزْلُ المسيحيّين؟!!
حكت له سارة عن كلّ شيءٍ بدءًا بماريا التي عرفتها في السجن وقد كانت تحاول أنْ تُخفِّف من كربها، وكيف كانت تُشجّعها أثناء لسعات السياط القاسيّة، كما أوضحت له كم يعاملونها في المكان بحُبٍّ غامرٍ وكأنّها واحدة منهم، دون أي مقابل. وبدأت تشرح له عن حوارها مع أمّها عن يسوع، المسيّا، الذي جاء ليبذر الحبّ في أرض العالم الجافّة وكيف كان يُلاحقه قادة اليهود ويؤلبون ضدّه جموع الشعب خوفًا على مراكزهم وطموحاتهم الماديّة والسياسيّة.. كانت تحكي بينما كان وجه أبشالوم شاردًا وكأنّه يواجه مُعلّمه الرابي موشى الذي يُلقي عليه بنظرات الغضب لأنّه يسمع عن إله المسيحيّين.. كان يشعر بقلبه يقبل الكلمات إلاّ أنّ عقله الذي تكدّس بافتراءات الرابيّين ضدّ المسيّا وقف حائلاً بينه وبين كلمات سارة. كان كلام سارة يتآلف ويجدل مع نصّ المزمور الثاني والعشرين ونصّ إشعياء شبكةً قد اقتنصته للمسيّا. ما أقسَى الحقيقة التي تُخالفُ قناعاتنا القديمة وتُرسِلُ لنا شعًاعًا ذهبيًّا ليرينا ذبول إيماننا القديم وعقائدنا السابقة. وما أعتَى الصراع مع قوى التقاليد والعادات والاحتفالات الدينيّة والمُسلّمات الإيمانيّة التي تترعرع في مجتمعٍ أُحادي التعليم لا يسمح بصوتٍ للآخر في ساحته. ولعلّ المشاعر التي قد فطرت على صورة المجمع وأصوات الرابيّين ورفقة المدراش وسُكُون السبت ووليمة الفصح هي التي تقود التمرُّد على جِدّة الحياة التي كانت تبنيها النعمة من خلال كلمات سارّة. كان الصراع متأجّجًا ما بين العقل الذي يتحصَّن بالذاكرة التي تُلقي بسهامها على يسوع، وبين نقاوة الحياة ولا محدوديّة القدرة وقوّة التأثير التي لحياة يسوع تلك التي لا يُخطئها بصيرٌ. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:29 AM | رقم المشاركة : ( 55 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
- أبشالوم.. هل تسمعَ ما أقول؟
- نعم.. - وما لك صامتًا؟؟ - لا شيء.. فقط أريد أنْ أسمع عن إيمان المسيحيّين.. - إذًا تأتي معنا إلى المُعلِّم.. - المُعلِّم!! - نعم.. المُعلِّم كليمندس، ولكن قبلها يمكنك أنْ تعرج على الكاهن لتطرح عليه تساؤلاتك وتشكو إليه حيرتك. خرج أبشالوم سائلاً عن مكان الكاهن، وحالما وجده أطلعه عمّا يجيش في صدره من صراعٍ وما يحوم فوق عقلِه من شكوكٍ. فما كان من الكاهن إلاّ أنْ اصطحبه لغرفةٍ صغيرةٍ قد احتوت القليل من البرديّات والرقوق. جذب إحداها وأعطاها لأبشالوم. - ما هذا؟؟ - إنّه نصٌّ كتبه الشهيد يوستين قبيل استشهاده بعدَّة أعوام يحوي حوارًا مع تريفو اليهودي حول فَهْم النصوص المُقدّسة ومدى مطابقتها لحياة الربّ يسوع كمسيّا حقيقي جاء إلى العالم والعالم لم يعرفه. أخذ أبشالوم البرديّة وخرج خارجًا وجَلَسَ في ركنٍ بدا أنّه يخلو من المارّة. فتحها وبدأ يقرأ حتّى وصل إلى الفقرة التي تقول: ختانكم هو الأوّل وقد أُجري ويعمل أيضًا بالحديد وتبقَى قلوبكم قاسية أمّا ختاننا.. أُجري بأحجارٍ منحوتةٍ؛ أي بالأقوالِ التي وَعَظَ بها الرُسل، ومن حجر الزاوية، ومن الحجر الذي انقطع لا باليدّين. هذا الختانُ ختننا من عبادة الأصنام ومن كلِّ شرٍّ. لقد خُتنت قلوبنا من كلِّ فسادٍ إلى حد أّننا فرحون بأنْ نموت لأجل اسم الحجر الجميل الذي منه ينبع ماءٌ حيٌّ لقلوبِ الذين بواسطته يُحبّون أبَا الكون الذي يروي مَنْ يريدون أنْ يستقوا ماءَ الحياة.. أغلق أبشالوم البرديّة وذهب ليسأل عن موعد لقاء المُعلِّم بحثًا عن ماء الحياة.. __________________ |
||||
25 - 06 - 2014, 11:30 AM | رقم المشاركة : ( 56 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
الفصل الخامس عشر: ليكن نور
جلس الجمعُ على الأرائِك الخشبيّة. كان الخجل يعتري البعض لئلا يُرى من أحد الأقارب أو الأصدقاء أو رفقة العمل.. لقد دُفِعوا دفعًا إلى تلك اللّحظات وكأنّ قوى عُليا قد أرسلت جنودها لمُحاصرتهم في ذلك المكان وتلك البقعة. كان بعضهم يتلفّتون يُمنة ويسارًا يستطلعون الوجوه. كان الجمعُ الحاضرُ لوحةً تحمل مختلف الأعراق والأجناس والمراتب الاجتماعيّة بل والخلفيّات الفكريّة والثقافيّة. فالفيلسوف يجاور صانع الزجاج.. الفتاة الفقيرة تجاور تلك التي نالت حظًّا من المال.. الزانية تجاور الطهور.. اليهودي يُجالِس الأُممي.. لم يُفرِّق بينهم شيءٌ وكأنّ روحًا قد بوّق في الأرضِ فكانت الاستجابة ذاك الخليطُ من البشر. جلس كلٌّ منهم يحمل شوقًا.. منهم مَنْ أراد التعرُّف على اللُّوغس الإلهي، ومَنْ طَمَحَ في رؤية الإله العادل، ومَنْ رنا قلبها إلى غافر الخطايا الحاني، ومَنْ تلمّست الأكاليل عن الصبر والألم والاحتمال، ومَنْ هي آملةٌ في أبٍّ حقيقيٍّ وملاذٍ آمنٍ.. لكلٍّ طموحٌ واشتياقٌ.. لكلٍّ رجاء. هل يصير يسوع محطّ الترحال للقلوب الجريحة والعقول الحائرة؟ كان هذا مطلبهم الصامت وإنْ ارتسم على وجوههم شوقًا. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:30 AM | رقم المشاركة : ( 57 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
كان من بين الحاضرين بلينوس الفيلسوف وإليوس الشغوف بالمعرفة، وأبولّلونيا الفتاة المجاهرة بالإيمان، وروحامه التائبة، وسارة الكسيرة القلب، وميلانيه وإيلارية وماريا بطلات المحبّة، وآخرون وأُخريات قد جاءوا ليقتاتوا بخبز السماء إذ لم تعد الأرض تُشْبِعُ جوعهم بحنطتها وزيتها..
دَخَلَ المُعلِّم يُجلّله وقارٌ لم يستلهمه من غنى الملبس أو حشد الخدم. كانت عيناه تشهد أنّه لم يهجع سوى سويعات قليلة في اللّيل إلاّ أنّهما كانتا ثاقبتان وكأنّهما تخترقان أفكار الجلوس. كانت هيبته فيضٌ يسري من جمّ تواضعه وغزير علمه وقوّة منطقه وعنفوان الحقّ المُعْلِن عنه. وقف أمامهم كما وقف المسيح أمام الجموعِ على الجبل، أَرْسلَ كلماته المغموسة في صحائف التقوى والبرّ، فملّحت قلوب المستمعين بملح النعمة الإلهيّة. وَقَفَ قبالتهم كما لقائدٍ مهيبٍ جلّلته بطولاتٌ في معاركِ الماضي القريب.. وقف للإعلان عن المعركة الأسمَى في الوجود والصراع الأقصَى في الحياة والنزال الأضنَى في أعماق الإنسان؛ صراع النور والظلمة.. الحقّ والبُطل.. البرّ في المسيح والفناء في أساطير الحجارة المُؤلَّهة. حملت نبراته فيضًا سماويًّا من المنِّ كان يُغذّي به أرواحهم الجائعة. فجّرَت كلماته ينابيع المياه الساكنة داخل قلوبهم لتروي نفوسهم الظمأى إلى الخلود والديمومة. نبّتت كلماته في وجدانِهم نبتاتَ من نورٍ أَرْسَلَت لقاحها إلى أرجاء النفس الفسيحة. كلماتُه كانت تتباسط مع البُسطاء تارةً وتُحلّق مع الفلاسفة تارةً أخرى، إلاّ أنّه في كلتا الحالتين كان لِسنٌ، بليغ العبارة، رشيق اللَّفظ، قوي المنطق والحُجّة، مالكًا البيان والتبيان، ذَلِقَ اللّسان، مُعلنًا أسرار الروح.. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:30 AM | رقم المشاركة : ( 58 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
لقد جاء المسيح ليطلب ويُخلِّص ما قد هلك..
كانت تلك هي بادئة كلماته التي تلقّفت القلوب الساعيّة إلى الخلاص. نظر إليهم مليًّا بعد لحظةٍ صامتةٍ وقال: نعم إنّ دعوته إلى الجميع هي الخلاص. والخلاص يعني التحرُّر من قيود الماضي والعادات والقناعات والممارسات اللّاّأخلاقيّة والعبادات اللّاعقليّة.. لقد جاء الله إلينا في صورة بشرٍ كإنسانٍ مثلنا، مُظهِرًا لنا حياته النقيّة الصافية التي بلا عيب والتي بحسب مشيئة الآب. لم ينفصل عن الآب.. هو في الآب وعن يمين الآب.. وصورة الآب.. هو الله المُتجسِّد.. لقد جاء ليصير لنا نموذجًا نحتذيه إذ هو الصورة النقيّة الكاملة والتي نسعَى بكلّ قوانا أنْ نذوب فيها لتمتزج به أرواحنا ونصير على شاكلته. لقد شكّلنا بنفسه لأنّه رغب أنْ يُوجِدنا ونحن عدمٌ وأرادنا لذاتِه خواصًا، ووضع فينا النفخة الساحرة المليئة بالحبّ؛ الروح الإلهي. إنْ كان أحدٌ من الجلوس يتشكّك في محبّة الله دعني أسأله: كيف لا تكون محبوبًا وأنت الذي إليك أُرسِل الابن الوحيد الخارج من حضن الآب!! هل يمكن لله الخالق أنْ يُمقت شيئًا ويوجده؟!! بالطبع لا. أحبّائي، إنّ إرادة الله مُقدّسة وأعماله مُقدّسة، لذا فإنّ الإنسان هو أشرفُ وأنبلُ ما خَلَقَ وقد خلقه لا لشيءٍ إلاّ لفيض محبّته.. ولكن الإنسان غرق في لُجّة الحياة.. عصف التيه الأعظم.. الظلمة الحالكة التي غطّت الجميع.. لذا أرسل الله ابنه لإرشادنا إلى ميناء الإيمان. إنّ اللُّوغوس هو المُرشِد الحقيقي لكلِّ مَنْ قَبِلَ الإيمان به.. ومُرشِدنا هو الأفضل لذا يُقدِّم لنا الحياة الفُضلَى، تلك الحياة تبدأ حينما نحيا في ظلّ إرادته، مُتشبّهين به.. نعم مُتشبّهين به في كلّ شيءٍ لنُحقِّق هدف الله كما جاء في الكتاب. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:31 AM | رقم المشاركة : ( 59 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
إنّ كلّ مَنْ يهتدي بهدي اللُّوغوس، ابن الله، ويشترك معه في المسير، يتجدّد يومًا بعد يومٍ. وكلُّ مَنْ يشترك في الحياة الأبديّة لا يصير إلى فسادٍ.. إنّها دعوةٌ لأنّ نعيش العمر كُلّه في ربيعٍ دائمٍ. فسلوكنا الجديد ودعوتنا العُليا تُثبِّت دعوة الحقّ في قلوبنا لتظلّ الحكمة في دواخلنا مزدهرة أبدًا..
ولكن البعض قد يُخطِئ ويترك المسير. فالخطيئة هي نقيض التفكير العاقل، إنّها المرض الذي أصاب منّا الرأس والجسد، وقتها يصير اللُّوغوس كطبيب.. نعم كطبيبٍ لشفاء الجسد والروح من كُلِّ ما ألمَّ بها من جرّاء الخطيئة والإثم. ومَنْ يشفيه اللُّوغوس من شكل العالم وممارساته لا يخشَى شيّئًا إذ يُصبح له اللُّوغوس غافرًا للخطايا. فلا تخشى من خطاياك وضعفك، فأبُ العالمِ يغمرُ بحبّه الذين ألقوا بأنفسهم في حضنِه ليقودهم إلى البنوّة بروحه الرقيق.. إنّ الروحَ يدعونا لنقتني قلوبًا رقيقةً مسالمةً.. لنكون مُنقادين إلى الخيرِ.. ودعاء.. بلا حقدٍ ولا سلوكٍ شائنٍ، لأنّ الجنس العتيق؛ إنساننا الأوّل كان مُعوجًّا.. قاسي القلب، ولكنّنا الآن، جماعة الأولاد.. الخليقة الجديدة.. مُرهفين كأطفالٍ أنقياء.. إنّ مُعلِّمنا هو المسيح يسوع.. الإله القدّوس.. اللُّوغوس مُرشِد كلّ البشر.. اللّه المُحبّ لقد جاء اللُّوغوس ليُعرّفنا على الآب ومن ثمّ على الحياة الأبديّة. لقد جاء إلينا الابن الوحيد للآب مُتجسّدًا لكي ما يُقدِّم لنا المغفرة لأنّه الإله ولكي ما يُقدِّم لنا التعليم كإنسانٍ جاز الحياة مثلنا بلا خطيئة حتّى لا نسقط في شباك الخطيئة. |
||||
25 - 06 - 2014, 11:31 AM | رقم المشاركة : ( 60 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: رواية ليكن نور - الراهب سارافيم البرموسي
يا للسِرِّ المُعجزِ.. الآبُ واحدٌ للعالم، واللُّوغوس واحدٌ للعالم، والروح القدس واحدٌ.. تلك هي الفلسفة الحقيقيّة التي أُعلِنَت لنا نحن الذين تلقنّا الفلسفة من قبل لنعبُر من خلالها إلى الحقِّ الكاملِ في المسيح.
ولعلّ البعض يرى أنّ الفلسفةَ هي نبتٌ شيطانيٌّ ولكنْ دعوني أقول لكم إنّ الفلسفةَ هي بحثٌ وسعيٌ واجتهادٌ وتأمُّلٌ للوصول للحقيقة.. هي حيازة الحكمة على قدر جهد البشر.. منها تعلّمنا التحكُّم في اللِّسان وقمع شهوات البطن وترويض الغرائز والمجاهرة بالحقِّ، وكلّها فضائل كانت تُعِدُّ قلوبنا لاحتضان المسيح والإيمان به. إنّ الفلسفة كانت ضرورة لتهيئة العقل الهلّليني لقبول المسيح كما كان الناموس تهيئةً للقلب اليهودي لقبول المسيّا. لقد عبَّدت الفلسفة الطريق لكلّ مَنْ أراد أنْ يكتمل في اللُّوغوس. أمّا لنا نحن الذين قد آمنا وعَرِفنا الحياة الأبديّة تبقى الفلسفة لنا واسطةً لشرح الإيمان للعالم أجمع. |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
يا قليلي الإيمان الراهب سارافيم البرموسي |
سماؤنا الراهب سارافيم البرموسي |
وجهٌ من نور الراهب سارافيم البرموسي |
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي |
ميلاديات أبونا الراهب سارافيم البرموسي |