رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
أوّل جريمة في التاريخ كانت بدافع الحسد: قَتْل قايين هابيل. بعد ذلك صار الحسد المؤثِّر الأكبر في سلوك الإنسان. لذا قال الجامعة: "رأيت كل التّعب وكل فلاحِ عملٍ أنّه حَسَدُ الإنسان من قريبه" (جا 4: 4). وبين التخصيص والتعميم رأينا ما فعله إخوة يوسف بن يعقوب به أنّه كان من حسد (تك 37: 11). وكذا انحسد داثان وأبيرام من موسى وهرون فانفتحت الأرض وابتلعتهما ومَن وما لهما (مز 105: 16 – 18). والأبرز أنّ رؤساء الكهنة والكتبة والفرّيسيّين ومَن سايرهم أسلموا يسوع إلى الرومان حسداً (مت 27: 18). سفر الأمثال يصف قسوة الحسد بأنّها كنخر العظام (أم 14: 30) ولطبيعة الحسد العاصفة في النفس يتساءل كاتب سفر الأمثال: "مَن يقف قدّام الحسد" (أم 27: 4)؟ وفي أكثر من مكان في العهد الجديد يرد الكلام على الحسد في معرض الكلام على الرياء والخبث والخصام والقتل (1 بط 2: 1؛ تي 3: 3؛ 1 كو 3: 3؛ غلا 5: 21...). والحسد يأتي من عشق للذات لأنّ "المحبّة لا تحسد" (1 كو 13: 4) وتالياً من شهوة الإثم والرغبة في اقتناء ما للخطأة والآثمين. لذلك لا يكفّ الكتاب العزيز عن التنبيه: "لا يحسدنّ قلبُك الخاطئين" (أم 23: 17)، "ولا تحسد عمّال الإثم" (مز 36: 1) و"لا تحسد الظالم ولا تختر شيئاً من طرقه" (أم 3: 31) و"لا تحسد أهل الشرّ ولا تشتهِ أن تكون معهم" (أم 24: 1). أن يطلب المرء ما للصالحين وأن يغار لهم، فهذه غيرة في الحسنى وهي حسنة (غلا 4: 18). أما أن يبغض النور (يو 3: 20) ويكمن للبار لأنّه يضايقه (حك 2: 12) ويعمل على التخلّص منه لأنّه يقف في طريق مراميه الفاسدة فهذا حسد وشرّ وخبث ورياء. قليلون يعون أنّ الحسد حاكمٌ بأمره فيهم. يغلِّفونه بغير غلافه ويسمّونه بغير أسمائه. يتلبّسون بالعِلم والمنطق والموضوعية لتمويه ما في داخلهم. هذه حركة تلقائية فيهم. لا يعرفون حقيقة ما في أنفسهم ودوافعهم ونواياهم. الحسد طاقة سالبة تأخذ شكل حرارة داخلية تنبعث من القلب وتقبض على الأحشاء وتنتشر في النفس والجسد كتيّار كهربي وتحاصر العقل وتمسك بزمام الإنسان وتؤثّر في حركة الدم فتوجّه الفكر والتصرّف في اتجاه مناقضة الإنسان الآخر، موضوع الحسد. الحاسد، إذ ذاك، يوجّه عينه الداخلية إلى معاينة سيّئات المحسود منه. هذه تجعله مبرَّراً في عين نفسه وتبعث فيه نشوة فاسدة. أما حسنات مَن هو مقابله فلا يراها كحسنات أو هو يغضّ الطرف عنها أو يَسِمُها بِسِمَاتٍ ونوايا مُغْرِضة. وبسهولة يخترع على مَن هو، في العمق، غريماً له، سيئات شتى. هذه يتحرّك عقله ليستجمع معطيات متفرّقة لدعمها لا صلة لها بهذه السيئات. لكنّه يربطها بعضها بالبعض الآخر بحركة فكرية مبتدَعة فتَبرز وكأنّها سلسلة متراصة من البيّنات تؤكّد تفسير الحاسد لها. كل ذلك بخباثة عميقة ورياء راسخ. إذا ما سمع الحاسد غريمه يتكلّم استَنْفَرت قواه الداخلية للحال. ما يخطر بباله أو حتى ما يجاهر به يكون على هذا النحو: صوته منخفض، صوته مرتفع عنده لهجة عدائية، يستخف بعقول الناس لا يعرف العربية، ارتكب أخطاء نحوية طريقته وعظية، متشدّد، زمّيت فكره غير واضح أفكاره ينقصها الترابط، متفلسف! متفذلك! مَن يظنّ نفسه يكون؟! وإذا ما قرأ له شيئاً يشعر بالضيق والاختناق متى عَبَر بأفكار نيّرة أو كان أسلوب صاحبه سلساً لطيفاً. ويسعى إلى تهدئة نفسه في اضطرابها بالبحث عن العيوب الكتابية الأسلوبية والأخطاء اللغوية في ما يقرأ. ينتقد بسهولة. ويستلذّ النقض تحت ستار الدقة في الكتابة والفكر القويم. والحاسد، إن طرق مسمعه كلام فيه تعرّض لمَن يحسده، شعر بالانشراح. فكأنّه ينال مكافأة. والشخص الثالب يصير له، إذ ذاك، قريباً. أما إذا سمع كلاماً طيِّباً في شأن المحسود منه فإنّه ينزعج ويضطرب ويسعى إلى تشويه صورة غريمه أو يسكت على مضض إذا لم يكن الظرف مؤاتياً للكلام وهو متضايق مشوّش. ولأجل المفارقة، قد يسعى الحاسد إلى مصادقة المحسود منه ويتملّقه. يرغب في أن يكون قريباً منه ليطّلع على أسراره وخصوصياته. هذا يعطيه مادة أوفر للشماتة والتشهير به وتقديم نفسه فيما يقوله في شأنه كعارف وخبير. الحاسد يأكل نفسَه غيظاً وحمقاً. إذا ما قيل له عن غريمه إنّه مريض أولُ ما يتبادر إلى ذهنه القول: "بيستاهل"! "خلّي يتعلّم"! هذا لأنّه متكبّر، "شايف حاله"! إلغاء الحاسد مَن هو محسود منه يصير مطلباً. إلغاؤه، فكرياً، أول الأمر. اعتباره كأنّه غير موجود مع أنّ الحاسد يشعر بوجود غريمه ثقيلاً في نفسه. لا مانع لديه أن يساهم في تشويه صورته أو إفساد سمعته أو إلغائه من أفق الناس. ومتى استبدّ الحسد بنفس صاحبه يصير مستعداً لأن يرضى بالتخلّص منه أو حتى بالاشتراك في ذلك. المحسود منه للحاسد عدو. يعتبر نفسه في حال حرب معه. يوحي الحسد للحاسد بأنّ كرامته جريح. لذا تصرّفه حيال غريمه أدنى إلى الانتقام. ما يعانيه الحاسد يردّه إلى المحسود منه. هو السبب! كلّ مصيبتي منه! لا يهدأ له بال لا في ليل ولا في نهار إلاّ إذا أزعج غريمه وشوّه صورته. وإذا ما حلّت بغريمه مصيبة أو مَرِض مرضاً خطيراً فإنّه يشعر بأنّ السماء عينها تزكّيه. يجيِّر اللهَ لنفسه ولفكره ولموقفه. لو لم يكن صاحبه ملوماً لما حصل له ما حصل. أما بعد فإنّ في كل نفس حسداً. ليس أحد خالياً من هذا الداء. هذا من فعل السقوط، من عشق الإنسان لنفسه. والحسد يقوى أو يضعف بمقدار اقتبالنا له أو مقاومتنا إيّاه. ونحن مقاوموه باسترحام الله أولاً وبذكر حسنات غريمنا ثانياً وجعل سيئاتنا نصب أعيننا ثالثاً. فقط الله قادر أن ينجّينا من ضواري الحسد فينا بتعاوننا. طالما الإنسان مستكبر فلا يمكنه أن يعرف حقيقة ما يفعله الحسد فيه. عليه أن يتّضع، أن يعرف نفسه، أن يحسّ بخطاياه، أن يقرّ بأنّه تراب ورماد، ونعمة الله تسلّط الضوء على شناعة هذه الخطيئة الرهيبة فيه. وكلّما شعر المرء بالضيق مما في نفسه وبالقرف وانتظر، بصمت، خلاص إلهه، مثابراً على لوم ذاته وإدانة ما في نفسه وذِكْرِ الموت كلّما كان أدنى إلى الخلاص من وحش ولا أشرس... في نفسه! الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما |
|