شهادة التاريخ المبكر للعلامة بنتينوس
أقدم شهادة عنه هي للعلامة كليمنضس السكندري تلميذه وخليفته في رئاسة الإسكندرية، فقد أورد ذكر معلمه في شروحاته للكتاب المقدس، معتمداً على فكره التفسيري، فيقول:
"أما بانتينوسنا، فقد قال...".
وهنا يبرز بنتينوس كمصدر ثقة في علم التفسير وكمرجع أساسي لإكليمنضس وللمعلمين في هذا الزمان، ولابد أيضاً من ملاحظة التعبير الذي استخدمه العلامة كليمنضس في وصف العلامة بنتينوس"بانتينوسنا"... هذا التعبير الذي يدل على المحبة والتقدير اللذين يكنهما كليمنضس لمعلمه بنتينوس، وأيضاً على أنه معلم لأبناء جيله.
ويشهد العلامة أوريجين أيضاً لبنتينوس، وهو ما يذكره لنا المؤرخ الكنسي يوسابيوس عن أوريجانوس الذي يقول في معرض حديثه عن قيامه بدراسة أقوال الفلاسفة اليونانيين حتى يستطيع أن يواجه الهراطقة في عصره:
"وفي هذا اقتدينا ببنتينوس الذي أفاد الكثيرين قبل عصرنا بسبب تمكنه في هذه الأمور".(5)
ثم عودة ثانية إلى كتابات كليمنضس (يذكرها لنا يوسابيوس المؤرخ الكنسي عن كتاب تحت يده ولكنه مفقود منا الآن)، حيث يذكر بنتينوس:
"وفي كتابه "وصف المناظر" يتحدث عن بنتينوس بالاسم كمعلمه، ويبدو لي أنه يشير إلى نفس الشخص في الكتاب الأول من مؤلفه "الأنسجة" عندما يشير إلى ابرز خلفاء الرسل الذين قابلهم قائلاً: ليس هذا المُؤَلف (أي كتاب الأنسجة) كتاباً كُتب لمجرد التظاهر، ولكن ملاحظاتي قد ادخرت لزمن الشيخوخة خشية النسيان، وهي صورة لم تمسها يد الفنان، وهي مجرد تسجيل بسيط غير منمق للكلمات القوية الحية التي كان لي حظ سماعها، وتصوير لأشخاص مباركين بارزين". (6)
ويعود يوسابيوس بعد ذلك بقليل ويسرد من كتابات كليمنضس السكندري حيث يقول:
"أما الكتب المعنونة" وصف المناظر "فهي بنفس العدد، وفيها يذكر بنتينوس بالاسم كمعلمه، وينقل آراءه وتعاليمه". (7)
ويقول يوسابيوس القيصري: "ونحو هذا الوقت عهد إلى بنتينوس وهو شخص بارز جداً سبب علمه، إدارة مدرسة المؤمنين في الإسكندرية إذ أنشأت بها منذ الأزمنة القديمة مدرسة العلوم المقدسة، وكان يديرها رجال في غاية المقدرة والغيرة نحو الإلهيات وبرز بينهم في ذلك الوقت بنتينوس لأنه تهذب بفلسفة الرواقيين، وقد أظهر غيرة حارة نحو الكلمة الإلهية حتى أنه عُين سفيراً لإنجيل المسيح إلى أمم الشرق وأُرسل بعيداً حتى بلاد الهند، لأنه كان حقاً لا يزال يوجد الكثير من الكارزين بالكلمة الذين سعوا باجتهاد لأن يستخدموا غيرتهم الإلهية على مثال الرسل لزيادة انتشار وتثبيت الكلمة الإلهية، وكان بنتينوس واحداً منهم حتى أنه ذهب إلى بلاد الهند ومن المعروف أنه عثر هناك على إنجيل متى الرسول لدى الذين عرفوا المسيح إذ أن برثلماوس، أحد الرسل، كان قد كرز بينهم وترك لهم ما كتبه متى باللغة اليونانية واحتفظوا به حتى ذلك الوقت... وبعد الكثير من الأعمال الصالحة، صار في النهاية على رأس مدرسة الإسكندرية وشرح كنوز التعليم الإلهي بالكلمة الشفاهية وبالكتابة، في هذا الوقت تعلم كليمنضس في الإسكندرية الكتب الإلهية على يد بنتينوس حتى صار مشهوراً". (8)
ومن جهة أخرى، يسجل لنا كليمنضس تلميذ العلامة بنتينوس وخليفته في مدرسة الإسكندرية ذكرياته عن معلمه:
"وحينما جئت إلى الأخير (بنتينوس) كان أقدرهم... وقد تتبعت آثاره إذ كان مختفياً في مصر، فوجدت الراحة... كان كالنحلة الحقيقية التي تجمع رحيق الأزهار من المروج النبوية والرسولية (يعني أسفار العهدين القديم والجديد)، ليغرس في نفوس سامعيه المعرفة، هذا العنصر غير المائت..... هم (أي معلمو مدرسة الإسكندرية) يحفظون التقليد المبارك المستمد مباشرة من الرسل القديسين بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس والأبناء تسلموه من الآباء (وإن كان قليلون منهم قد شابهوا آبائهم)،حتى استودعت لنا هذه البذار الرسولية الآبائية، وأنا أعلم جيداً أنهم يجذلون فرحاً، لا أقول أنهم يسرون، بهذا التكريم. بل أن حفظ هذا الحق (أي التقليد) حسب ما سلموه إلينا هو في ظني موافق للنفس الراغبة في التمسك بالتقليد المبارك لئلا يضيع".(9)
وينقل يوسابيوس الكثير من مؤلف ضائع لاكليمنضس السكندري اسمه "ملخصات Υποτυπώσεισ "يذكر فيه الكثير عن الشيخ المبارك بنتينوس معلمه وعن تعليمه وما تسلمه منه من تقاليد.(10)
ويذكر لنا التاريخ مكانة العلامة بنتينوس ودوره التعليمي باعتباره من أوائل المعلمين السكندريين في المعرفة، ويذكر القديس جيروم، المشهور بأنه عالم ومؤرخ كنسي لا يُضارع، أن الكنيسة القبطية كنيسة غاية في الإعجاب، في منهجها التعليمي ومعيشتها النسكية التقوية التي جذبت البعيدين والقريبين، ومن تسجيلات القديس جيروم التاريخية:
"وبنتينوس الفيلسوف الذي من الرواقيين- ابتدأ يعلم في الإسكندرية سنة 179 م. وتنيح في سنة 216 م- كان ذا بصيرة وذكاء حاد وعلم، وذلك حسب التقليد القديم الذي كان منذ أيام القديس مرقس الإنجيلي أن الرجال الكنسيين يلزم أن يكونوا من العلماء".(11)
ويقدم الكتاب الكنسيون بنتينوس دائماً كمعلم لقادة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية، وقد استقر منذ أيام مار مرقس الرسول الإنجيلي وصار تقليداً دائماً في كنيسة الإسكندرية، أن لا يضطلع بالمسئوليات الكنسية إلا المتعمقون في المعرفة الروحية والإنجيلية على أعلى مستوى كحياة ومعرفة وعلم، مما يثبت أن التنظيم الكنسي بكافة مناهجه بدأ ناضجاً وكاملاً على يدي مار مرقس الكاروز.
وحديث العلامة يوسابيوس عن هذه المدرسة ابتداء من هذا التاريخ يرجع إلى اتساع نشاطها وبدء خدمتها في الأوساط اليونانية الفلسفية:
"ونحو هذا الوقت عُهد إلى بنتينوس- وهو شخص بارز جداً بسبب علمه – إدارة مدرسة المؤمنين في الإسكندرية. إذ كانت قد أنشئت بها منذ الأزمنة القديمة (أي قبل بنتينوس) مدرسة للعلوم المقدسة، ولازالت قائمة حتى يومنا هذا (أي في القرن الرابع)، وكان يديرها – كما وصل إلى علمنا – رجال في غاية الاقتدار والغيرة نحو الإلهيات، وقيل أنه برز من بينهم في ذلك الوقت بنتينوس، لأنه تهذب بفلسفة الرواقيين" (12).
وبالجملة يؤكد تاريخ التقليد المبكر على أن بنتينوس ذا غيرة شديدة نحو كلمة الله وأنه مبشر بالإنجيل وأنه كارز لبلاد الهند مقتدياً بالرسل، وله أعماله المجيدة في التعاليم الإلهية الشفاهية والمكتوبة وفي التفاسير الكتابية وفي رئاسة مدرسة الإسكندرية اللاهوتية.
تحدث عنه تلميذه اكليمنضس كأعظم وأكمل معلم وأقدر فيلسوف، وجد فيه تعزيته وتعلم منه المعرفة غير الفاسدة، واصفاً مقابلته الأولى لبنتينوس بإزاء مقابلاته لكثيرين من الفلاسفة بأنها "المقابلة الأخيرة لكنها الأولى في قوتها"، معتبراً أنه موهوب من روح الكتاب، لذلك يلقب بنتينوس بلقب يجمع ما تتسم به شخصيته من قداسة وعلم وفلسفة "القديس العلامة بنتينوس الفيلسوف".