الروح القدس وتكريس القلب
في القديم حوّلت النار المادية الأدوات الذهبية التي بين يدي شعب إسرائيل إلى العجل الذهبي الصنم، الذي كان قائمًا في قلوبهم يتعبدون له خفية، فظهرت نيتهم الداخلية، وأعلن معبودهم الخفي (خر 24: 32). وفي أيام بختنصر إذ دخل الثلاث فتية أتون النار المنظور من أجل برّهم أُعلن إلههم الخفي الذي كان يعمل في قلوبهم، إذ ظهر شبيه بابن الآلهة يتمشى معهم وسط الأتون، يحتضنهم ويحميهم من النار المنظورة، هكذا أرسل الله ناره الإلهية، روحه القدوس، الأقنوم الإلهي، لكي يعلن السيد المسيح المخفي في قلوبنا.
إن عمل الروح القدس الناري فينا هو أنه يختمنا بالختم الملوكي في أعماق النفس الداخلية، فنحمل صورة السيد المسيح فينا، وتصير النفس والجسد بكل إمكانياتهما وتصرفاتهما ملكًا للرب. هذا هو مفهوم التكريس: أننا نحمل الختم الإلهي معلنًا أن كل ما فينا هو له.
يحدثنا الرسول بولس عن هذا الختم الإلهي، قائلًا:
"ولكن الذي يثبّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله الذي ختمنا أيضًا وأعطى عربون الروح في قلوبنا". (2 كو 1: 21-22)
"الذي فيه أيضًا إذ آمنتم خُتِمتم بروح الموعد القدّوس الذي هو عربون ميراثنا لفداءِ المُقتَني..." (أف 1: 13-14)
"ولا تُحزِنوا روح الله القدوس الذي بهِ خُتِمتم ليوم الفداءِ". (أف 4: 30)
"ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت إذ لهُ هذا الختم..." (2 تي 2: 19)
وجاء في أوامر الرسل: [أيها الأسقف أو القس قد رتبنا سابقًا والآن نقول أن تمسح أولًا بزيت ثم تعمد بماء وأخيرًا تختم بالميرون.]
* إننا نقبل أولئك الهراطقة الذين يرجعون إلى الأرثوذكسية... ويُختمون أولًا بالميرون المقدس على جباههم وعيونهم وأنوفهم وأفواههم وآذانهم [249].
مجمع القسطنطينية المسكوني
* كما أن الرسولين بطرس ويوحنا بعد صلاة واحدة حلّ الروح القدس على سكان السامرة بوضع الأيدي (أع 8: 14-17) هكذا في الكنيسة أيضًا منذ ذلك الحين ينال جميع المعمدين الروح القدس ويختمون بختمه عند دعاء الكهنة ووضع أياديهم.
* انظروا كيف صرتم مشاركي اسم المسيح كهنوتيًا، وكيف أُعطى لكم ختم شركة الروح القدس [250].
* لقد ختمت جميع قوى نفوسكم بختم الروح القدس... ووضع الملك رسالته عليكم، خاتمًا إياها بختم النار (لو 3: 16) لا يقرأها الغرباء ويحرفوها [251].
القديس مار افرآم السرياني
عمل هذا الختم المقدس، ختم الروح القدس أنه يجعلنا مَقدسًا للرب، بيت الله المدشّن له، إذ يقول الرسول: "أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم... فمجّدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله" (1 كو 6: 19-20). كما يقول: "أَما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسدهُ الله، لأن هيكل الله مقدس، الذي أنتم هو". (1 كو 3: 16-17)
هذا الختم الناري يكرس النفس كما الجسد ليصير الإنسان بحق عروسًا روحية للسيد المسيح الملك السمائي. وكما يقول القديس مقاريوس الكبير: [حواس النفس الخمسة المُدركة إن نالت النعمة من فوق وتقديس الروح صارت حقًا الخمس عذارى اللواتي نلن حكمة النعمة من فوق.]
ختم القوة الروحية والكمال
في سرّ الميرون إذ ننعم بختم الروح القدس فنتمتع بالشركة مع الرسل فيما وهبهم الله يوم الخمسين، إذ قال لهم: "ها أنا أرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلْبسُوا قوةً من الأعالي" (لو 24: 49)، "لكنكم ستنالون قوَّةً متى حلَّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلى أقصى الأرض" (أع 1: 8).
يحمل المؤمن الروح القدس في داخله معينًا له وسندًا في جهاده الروحي وحربه ضد الخطية وعبوره إلى طريق الكمال.
* عندئذ يأتي الختم الروحي الذي سمعنا عنه في قراءات اليوم، لأنه بعد الجرن يتبقى قبول الكمال بحلول الروح القدس خلال استدعاء الكاهن [252].
* الذين يعتمدون في الكنيسة يتقدمون إلى مدبري الكنيسة، وبصلاتنا ووضع الأيدي يتقبلون الروح القدس ويتكملون بختم الرب [253].
* إذ نتمم وصايا الرب بواسطة روحه، الذي وحده يعرف إرادة الله (1 كو 2: 11)، وإذ يكملنا الروح في نفسه (2 كو 12: 9)، وهو نفسه يكمل فينا (1 كو 13: 10، يو 14: 12) حينما نتطهر من كل نجاسات الخطيئة وعيبها، يأتي بنفوسنا إلى المسيح كعرائس جميلات طاهرات بلا دنس، فتستريح نفوسنا في الله في ملكوته ويستريح الله فينا إلى دهر الدهور [254].
* فلنلتمس من الله أن يهب لنا أجنحة حمامة (مز 55: 6)، أي الروح القدس، لنطير إليه ونستريح، ولكي ينزع الريح الشرير ويقطعه من نفوسنا وأجسادنا، أي الخطيئة الساكنة في أعضاء نفوسنا وأجسادنا، لأنه هو وحده القادر على فعل ذلك [255].
* يُعطى هذا الميرون للذين اعتمدوا حديثًا، وإذ يُمسح الجسد تتقدس النفس بالروح القدس [256].
ختم ملوكي
مسْح الإنسان لقبول الروح الناري الذي يقدسه على الدوام لا يعني مجرد تكريس القلب لله وانطلاق الإنسان من كمال إلى كمال، لكنه يهبه سمات ربنا يسوع المسيح بكونه الملك ورئيس الكهنة وموضوع النبوة، فيصير المؤمن -في المسيح يسوع- بالروح القدس مَلكًا وكاهنًا ونبيًا بمفهوم روحي،يصير ملكًا روحيًا صاحب سلطان على جسده بأحاسيسه الداخلية وعواطفه وأفكاره، يقبل من الأفكار ما يشاء ويرفض ما يشاء. وكملكٍ له سلطان أن يدوس على الحيّات والعقارب وكل قوة العدو. ويصير كاهنًا روحيًا، فإنه إذ دخل مياه المعمودية المقدسة شارك السيد المسيح في دفنه وقيامته، أي شاركه عمله الفصحي الكهنوتي، فصار له بالروح القدس أن يقدم ذبيحة الشكر وذبيحة الألم والموت اليومي من أجل الرب كما يتقبل قوة قيامة المسيح كأنها جديدة كل يوم. صار له حق تقديم جسده ذبيحة حب عقلية مقدسة مرضية لدى الله (رو 12: 1). يقدم التسابيح والصلوات والأصوام والعطاء. صار أيضًا نبيًا بالمفهوم الروحي، فيرى الأمور المستقبلة الخاصة بأبديته مكشوفة في قلبه، بل يعيش متمتعًا بعربونها.
* كل مؤمن يُمسح كاهنًا وملكًا، غير أنه لا يصير ملكًا حقيقيًا ولا كاهنًا حقيقيًا، بل ملكًا روحيًا وكاهنًا روحيًا، يقرب لله ذبائح روحية وتقدمات الشكر والتسبيح [257].
* الأشخاص الروحيون الآن، الذين يُمسحون بالمسحة السماوية يصيرون مسحاء حسب النعمة، فيكونون هم أيضًا ملوكًا وأنبياء للأسرار السماوية [258].
_____
الحواشي والمراجع:
[249] قانون 7.
[250] رسالة 73 ضد الهراطقة، عظة 33:8.
[251] تعليم الإيمان 5.
[252] De Sacr. 3,2,8.
[253] Epist. To Jubianus, Bishop of Mauretania 73:9.
[254] عظة 9:19.
[255] عظة 3:2.
[256] Protech. 21.
[257] في الكهنوت 4.
[258] عظة 1:17.