اكتشف يونغ، من الوجهة السريرية (الإكلينيكية)، هذه المنطقة الواسعة من اللاشعور الإنساني، وسأحاول حصرًا أن أبرز بنيته. وهو أمر ليس بالهيَن: فالضباب يلفّ هذه المنطقة غالبًا.
فلنتذكر أول الأمر بعض المفاهيم الأولية، ولكنها الأساسية هنا:
- تتصف الذكورة بأنها: فاعلة، نافذة، ثاقبة، مخصبة، عدوانية، عقلانية، مفكّرة، صلبة.
- تتصف الأنوثة بأنها: مرنة، نفوذ، خصيب، لاعقلانية، حدسية، عاطفية، حنون، وديعة، حفيّة.
- القانون الأول: تنطوي كل شخصية إنسانية على صفات مذكرة وعلى صفات مؤنثة. ومن اليسير فهم ذلك: فالرجل المتوازن يتصف معًا بأنه فاعل ومرن، عقلاني وحدسي، صلب وحنون، عدواني وحفّي، الخ. كذلك فأن المرأة المتوازنة حنون وفاعلة، حدسية وعقلانية، معًا، الخ.
- القانون الثاني:
- لاشعور الرجل يحتوي على شخصية أنثوية.
- لاشعور المرأة يحتوي على شخصية مذكرة.
إذن:
الرجل ذو صفات مذكرة شعورية وذو صفات أنثوية لاشعورية (الشخصية الأنثوية)؛
والمرأة ذات صفات أنثوية شعورية وذات صفات مذكرة لاشعورية (الشخصية المذكرة).
للجزء المؤنث من شخصية الرجل والجزء المذكر من شخصية المرأة أهمية كبرى. أنهما لاشعوريان، ولكنهما مؤثران. واكتشافهما في التحليل النفسي، وصعودهما إلى الشعور، يمنحان "انفعالاً عنيفًا" وإحساسًا غريبًا بالتوحيد والكمالية.
وينفتح المجال الكبير عندئذ لدى الرجل، مجال الحدس والوداعة والحنان والثقة والعفوية إزاء الحياة. ويختفي الخوف (المحتمل) من النساء، ويتوقف البحث عن المرأة، بحث حنيني ظامئ، وتنقطع مئات الإسقاطات، وتصبح أنتينا والجنيات الأخرى ضربًا من الغبار.
أما لدى المرأة، فتبرز فاعليتها الثاقبة وعقلها وتأكيد شخصيتها وفكرها، وتختفي المرأة "الوديعة" وتظهر المرأة المتفتحة والكاملة.
وتتضح إذن قدرة هذه المناطق اللاشعورية، إذ أنها تُكوّن نصف الشخصية.
بعض الأمثلة أيضًا
ها هو ذا المثال الأكثر شيوعًا أو الأمر. ولنبق في مجال الرجل تلافيًا للتعقيد. ويمكن للرجل، وقد رأينا ذلك، أن يكبت جزءًا برمته من شخصيته، كذلك يمكنه أن يكبت كل شخصيته المؤنثة.
ومن المستهجن في حضارتنا، حيث لا يزال الفصل بين الرجل والمرأة فصلاً حاسماً، أن يتصف رجل من الرجال بصفات أنثوية.
يقول الناس، على سبيل المثال، عندما يربون الصبيان:
- الرجل لا يبكي: فإظهار العواطف أمر يناسب النساء، ومضمون ذلك: ممنوع على المرء أن يحتفظ بشخصيته وأن يكون عفويًا.
- ليس للرجل حدس، فهو أمر يناسب النساء، ومضمون ذلك أنه يُحرّم على الرجل أن يتبع صوتًا داخليًا يتصف في الغالب بأنه عظيم الفائدة.
- الرجل غير عاطفي: إنه أمر يناسب النساء، ومضمون هذا القول أن على الرجل أن يمتنع عن إظهار صفتي المحبة والحنان.
- خلق الرجل ليعمل ويفكر؛ ومضمون ذلك أن ليس بمقدور الرجل سوى العمل والتفكير، وعليه أن ينظر إلى كل ما يتبقى على أنه غير جدير به.
ويتضح بصورة مباشرة أن الفتى سيتعجل كبت صفاته الأنثوية إذا كان الناس ينظرون إليها على أنها تحط من شأنه. وسيمنع نفسه من إظهار المودة، والإصغاء إلى حدسه، والكشف عن عواطفه، الخ.
إنه، بالاختصار، سيكبت جزءًا برمته من شخصيته. فهو إذن سيتحطم إلى جزأين ويصبح "هجينًا" بشريًا. ويفقد عفويته ومرونته. وينظر بعين السوء إلى تدخل دوافعه الغريزية العميقة التي يكبتها بقدر ما يستطيع. هذا إذا لم يصرّح بأنها "غير جديرة به".
ماذا يبقى لهذا الرجل؟
يبقى له الجزء المذكر من شخصيته. ولكي يعوّض ما ينقصه، أي جزءه المؤنث، يعزز ذكورته، فيضخمها، ويصبح جافًا وعقلانياً بإفراط.
ويضع الحياة في معادلات. إنه، من الناحية النفسية، يحمل نظارتين مستديرتين. ذلك هو بوليتكنيكي الوجود الذي يعرف كل شئ، ولكنه لا يعلم شيئًا.
ولكن في ذلك لا يمنع من أن صفاته الأنثوية موجودة دائمًا، ما دامت مكبوتة في اللاشعور. فهي إذن ذات تأثير!
ماذا يحدث عندئذ...
يجوس الكبت الواسع، ويبقى حيًا كالنبات المائي، ويتجلى الكبت في "أحلام اليقظة". ويستسلم الرجل ذو الذكورة المضخمة إلى الاستيهامات عندئذ. وتبدو فيها الفتيات الوديعات واللطيفات، المرنات والحفيّات: الغامضات والمجهولات، والنساء المغويات والشريرات كالهلاك الأبدي، وبطلات الروايات والسينما، البعيدات والشريرات الجزء المؤنث الذي كبته ، والذي يرغب لاشعوره في فرضه عليه... فتذكروا حالة حنا، "عاشق" القارب الشراعي.
ولكن الرجل العقلاني بإفراط يهتز. ولن يعترف إطلاقًا بهذه الأحلام الحنينية، التي تنضح كما ينضح العرق من الجسم. إلا لمحلله النفسي.
فإما أن "يقع" الكبت، الذي يتم إسقاطه إلى الخارج، على امرأة من لحم ودم. وتلك عندئذ امرأة على قياس ما هو مكبوت: أنثوية بإفراط، غبية بعض الشئ، أدنى من الرجل الذي ينتفع بها لكي يؤدي دور البطل ذي الذكاء العالي. ويحس الرجل، إذ يتزوجها، بأنه قد وجد نفسه مجددًا، وأصبح "كاملاً". إنه يتزوج كبته بما أنه يتزوج أنوثته المكبوتة!
وهو إذ يفعل ذلك: كما يقول يونغ، فإنه يتزوج ضعفه الأعظم، أي جملة كبته.
وإما أن يتم إسقاط كبته على رجل من الرجال. فثمة انجذاب نحو رجل مخنث. وتلك عندئذ لواطية كامنة أو صريحة، حيث يؤدي الرجل المريض، موضوع بحثنا، دور الذكر الفاعل ... هذا إذا لم يرتبط معه بصداقة "لا تفنى" أي أقوى من الموت.
تعقيد كبير
كل ما قدمته حول الموضوع، كما قلت سابقًا، ليس سوى مدخل لميدان وساع. فالجزء المؤنث من شخصية الرجل يمكن أن يتم كبته بفعل عوامل أخرى. ومثال ذلك شاب يُنمّي عواطف الكره اللاشعوري لأمه. إنه سيكبت كل ما هو شبيه بأمه لديه. وسيكبت كل ما هو مؤنت لديه، أي سيكبت الجزء المؤنث من شخصيته إذن. فإذا أسقط هذا الجزء إلى الخارج، كان ذلك الإسقاط مصحوبًا بشحنة قوية من الكره. وسيعتقد عندئذ أنه يحتقر النساء ويبغضهن، في حين أنه يبغض الجزء المؤنث من ذاته.
وهذا هو السبب الذي من أجله كان المشكل شديد الصعوبة في التحليل النفسي. ومع ذلك، أكرر أن الجزء الؤنث من شخصية الرجل والجزء المذكر من شخصية المرأة لا يمكن أبدًا إيجادهما في الخارج، وإنما في ذات كل منهما.