الاعتراضات على سفر المكابيين الأول والرد عليها
تدور حول السفرين بعض النقاشات والتساؤلات، وهي في أغلبها معنية بالترتيب الداخلي للسفرين، مع بعض الاعتراضات على عدة تواريخ، والقليل جدًا من التشكك في صحة االسفرين. الجدير بالذكر هنا أن الكتاب المقدس هو أكثر تعرض للأضواء والبحث والنقد، بحيث شملت الدراسات النقدية له على مدار مئات السنين، جميع كلماته بل وحروفه وعلامات الترقيم!، بحيث أن أي كتاب أو وثيقة في العالم لا يمكن أن تثبت ليوم واحد، متى تعرضت لبعض ما تعرض له الكتاب المقدس، ونحن نشكر النقاد والمحللين بل والمهاجمين، الذين زادوا من حبنا لكتابنا وتمسكنا به والسعي في دراسته، وكلما وُجه إليه النقد كلما زادنا ذلك تمسكًا به وفخرًا، وقديمًا قال أحد المدافعين عن الإيمان "إننا نشكر الهراطقة لأنهم دفعونا لدراسة أعمق في الكتاب المقدس".
وفيما يلي نورد هذه الاعتراضات مع الرد عليها ومناقشتها:
سفر المكابيين الأول:
1- يشير السفر إلى أن عصر الوحي قد انتهى، وأن الأسفار المقدسة التي في أيديهم هي المصدر الوحيد للتعزية في الحزن والضيق (12: 9) فكيف يمكن النظر إلى الأسفار التي ظهرت بعد ذلك ومنها سفرى المكابيين أسفارًا مقدسة موحى بها من الله.؟
[هذه الفكرة موجودة منذ عصر أرتحتشتا إذ قيل " أن كلمة الرب كانت عزيزة في تلك الأيام" وأن الوحي، قد توقف منذ ذلك الحين، ولكن هذا الكلام ليس دليلًا على توقف الوحي، بل هو شعور بمفارقة دور النبوءة وذلك بسبب خطايا الأمة، وحتى سفر استير نفسه والذي تنتمي أحداثه إلى القرن الخامس قبل الميلاد، كان مثارًا لنقاشات عديدة قبل قبوله ضمن قائمة الأسفار القانونية لدى اليهود أنفسهم، كما نعرف أن القسم الثاني من سفر حكمة سليمان وكذلك سفر يشوع بن سيراخ، قد كُتب خلال القرن الثاني قبل الميلاد في عصر المكابيين، وهو العصر المقصود هنا في التساؤل.
2- اعتمد المؤرخ اليهودي يوسيفوس في تأريخه على سفر المكابيين الأول، غير أن اقتباسه من السفر يتوقف عند الأصحاح الرابع عشر مما يوحى بأن باقي السفر ليس أصيلًا فكيف ذلك؟
[يمكن تفسير ذلك بعودة يوسيفوس إلى عمل سابق له وهو "الحروب اليهودية" والذي كان قد اعتمد فيه بدوره وبشكل كبير على المؤرخ نيقولا الدمشقى، ويرى بعض العلماء أن الوصف الموجود في كتاب يوسيفوس " الآثار اليهودية" لا يخلو من تأثر بسفر المكابيين الأول، لاسيما فيما يختص بالجزء الأخير من حكم سمعان، ولذلك فليس هناك من مبرر لإنكار الجزء الأخير من السفر (1).
3- توجد بعض التناقضات الداخلية الصغيرة في الإصحاح الرابع عشر، مما يعزز الرأي القائل بان السفر كان أصلًا أقصر من ذلك، فإن معظمها هو خليط مابين المديح الشعرى لسمعان (الآيات 4-15) وكذلك الجزء النثرى التالي له، ثم النقش الذي على الألواح النحاسية في مدح سمعان (الآيات 27 ب - 45) وتسلسل الأحداث من الأجزاء الأخرى من الإصحاح.
[ليست هناك تناقضات خطيرة فيما يُظن أنها اختلافات بل هي تنوعات أدبية، وربما هو اقتباس من الوثائق الرسمية التي نقل عنها الكاتب.
4- يرد في سفر الميكابيين الأول (6: 16) أن أنطيوخس أبيفانيوس مات في سنة 149 من تاريخ دولة اليونان (تاريخ السلوقيين) في حين جاء في سفر المكابيين الثاني (11: 21) أنه كان مالكًا في السنة 148 فكيف ذلك؟
[كاتب سفر المكابيين الأول اتبع تاريخ السلوقيين من شهر نيسان بعد وفاة الإسكندر الأكبر باثنتى عشر سنة تبعًا لحساب السكندريين، وأما الكاتب أو الملخص في السفر الثاني فقد اتبع تاريخ هذه الدولة من شهر أيلول من نفس العام، أو العام الذي يليه بحسب حساب الكلدانيين، إذن فالفرق في التاريخ وليس في الحدث ذاته، وهذا ما جعل البعض يظنون أن الفرق بين تاريخ تدنيس الهيكل وتاريخ تطهيره سنتان لا ثلاثة كما في الواقع (رجاء الرجوع إلى مسألة "التاريخ"في السفر في هذا القسم من الكتاب).
4- ورد في سفرى المكابيين ثلاث روايات مختلفة عن موت أنطونيوخس أبيفانوس، الأولى في (1مكا 16: 1-16) والثانية في (2مكا9) والثالثة في (2مكا1: 13-17) فأي من الروايات الثلاث هو الأصح ولماذا هذا التباين؟
[تفيد الروايتان الواردتان في (1مكا6؛ 2 مكا 9) بأن أنطيوخوس مات في فارس إثر آلام مفاجئة أصيب بها، وأما اختلاف الاسمين مابين "ألمايس" "وبرسابوليس" فإن ألمايس هي صيغة للاسم عيلام في بلاد فارس، وأما برسابوليس فهو اسم أطلق على نفس المكان، وإن كان بعض علماء الجغرافيا يرون أنه اطلق في بعض الأحيان على منطقة في شمال عكا (بتولمايس) والروايتان متفقتان، وأما الرواية الثالثة فهي عبارة عن "تقليد شعبي لموت أنطوخيوس" أو رواية شعبية "ملحمة" وللتوفيق بين العرضين يحتمل أن يكون أنطيوخس قد تعرض لخطر لم يصل به إلى حد الموت، وإنما أفضى إلى موته في طريق عودته. جدير بالذكر أيضًا أن الكتاب المقدس أورد العديد من القصص والأحداث والتي كذب فيها الرواه، ولا يمكن أن ينال ذلك من سلامة الوحي، إذ أن الوحي يؤكد أن ذلك قيل بالفعل، أو أن الخطايا قد حدثت بالفعل، ذلك مع عدم رضى الله عنها، وهو الأمر الذي حدث في قصة موت شاول الملك، والتي رويت بطريقتين (صموئيل أول ص31 ؛ صموئيل الثاني ص1) وكان الراوي في القصة الثانية كاذبًا.
6- لماذا لم يشر إلى اسم الله مطلقًا في سفر المكابيين الأول، وإنما أشير إليه بعبارات مثل إله السماء كما ورد في (3: 18) أو السماء كما ورد في (3: 19، 50، 60 و4: 10، 55 و12: 15).
[جاء ذلك على سبيل التقديس، وتنزيه اسم الله عن النطق به بشفاه تشعر بدنسها، فمنذ قبل الميلاد بعدة قرون توقف اليهود عن نطق كلمة "يهوه" وهي لفظة الجلالة، حيث استعيض عنها عند الكلام أو القراءة بلفظات أخرى مثل أدوناي (أي السيد أو ربى) و"السماء" و"شداى" (أي أقوى الأقوياء) ولذلك فإننا نلاحظ أن إنجيل متى والذي كُتب لليهود استخدم هذا التعبير "السماء" كثيرًا (35مرة)، بينما تذكر الأناجيل الثلاثة الأخرى اسم الله بحرية أكثر [ورد تعبير "ملكوت السموات" في إنجيل متى حوالي 35 مرة. راجع التعليق على لفظة "يهوه" في (القيمة العقائدية للسفرين)].
7- كاتب السفر بدا وكأنه يتساهل في السبت (على سبيل المثال في 2: 41) فهل يوحى ذلك بأن الكاتب صدوقى بعكس الفريسيين الذين يتعاملون مع السبت بحرص كثير.؟
[إن ما ورد في (2: 41) يؤكد أن اليهود لم يتساهلوا في السبت، ولكنهم أصبحوا أكثر تفهمًا لروح الشريعة، ومع اتساع أفقهم اللاهوتي - لاسيما من بعد السبي - رأوا أن السبت قد وُضع لأجل الإنسان، حيث صرح بذلك بعض الربيين، وعندما نطق السيد المسيح بهذه الحقيقة كان الكثير من اليهود يتفهمونها (مر2: 27) وفي هذا الإطار قرر اليهود أن الحرب جائزة في السبوت، متى كانت دفاعًا عن النفس.
8- لا يوجد في السفر أية إشارة إلى الرجاء المسيانى، رغم كل ما ورد عنه في الأنبياء، بل ويرد في (2: 47) ما يشير إلى الاعتقاد بأنه يومًا ما ستملك أسرة داود، فكيف يفسر ذلك؟
[رأى اليهود في شخص يهوذا الكابى "مخلص إسرائيل" (9: 21) مثلما كان القضاة والملوك قديمًا (قضاة 3: 9 وملوك ثان 13: 5) ورغم أن النبوة كانت قد توقفت، إلا أن الناس كانوا مازالوا ينتظرون مجئ "النبى" والمذكور في (تثنية18: 15، 18) ليقرر ما يجب أن يفعلونه بحجارة المذبح التي تنجست (4: 46) أو ليقرر من الذي يجب أن يصبح كاهنًا أو حاكمًا بعد التعيين المؤقت لسمعان وخلفاؤه (14: 41) ولم يظهر التنبؤ بمجئ المسيح المنتظر بالتحديد ولكن إحياء إسرائيل كدولة يبدو أنه كان تنبؤ بعصر المسيا، ولذلك فإن سمعان يُمتدح بألفاظ مستعارة من التنبؤات بالمسيا (14: 4- 15) قارن مع (ميخا4: 4، زكريا 8: 4- 6، 12). وهكذا يظهر الحشمونيين في السفر وقد تحقق فيهم الرجاء المسيانى.
9 - ولماذا لا توجد في السفر أية إشارة إلى الخلود وقيامة الأموات، رغم إيمان اليهود بهما في ذلك الوقت، كما ظهر ذلك أيضًا في (2مكا7: 9، 11، 14، 29).
[عدم ذكر ذلك صراحة ونصًا لا يعنى عدم إيمان الكاتب بها، أو أن السفر غير مستوف لجوانبه القانونية، فإن روح السفر مشبعة بهذا الفكر وذلك الاشتياق للحياة الأخرى، كما أن الكثير من الأسفار الأخرى ليس بها إشارات صريحة للقيامة والخلود، ولم يقلل ذلك من قانونيتها إذ هي مشبعة ضمنًا بذلك.
10- جاء ذكر تدشين الهيكل في (4: 36) قبل خبر موت أنطيوخس في (6: 1 ومايليه) وكان المفروض أن يحدث العكس، فقد جاء تجديد الهيكل بعد موت أنطيوخس وتحقيق سلسلة من الانتصارات فكيف ذلك.؟
[وجود بعض الوقائع في غير ترتيبها الزمني، لا يُخل بوحدة السفر، فالسفر متكامل من حيث الفكر الديني، وكان لكاتب السفر محورًا يدور حوله، بل أنه متى حاولنا وضع كل حدث في ترتيبه الزمني الصحيح لأخل ذلك بسياق السفر، ووجود مثل هذا الاختيار في ترتيب الأحداث حدث في الكثير من الأسفار، مثل قصة يهوذا بن يعقوب وأولاده في سفر التكوين (أصحاح 38) تقطع، السرد الطبيعي لقصة يوسف الصديق، والتي بدأت في الأصحاح 37) واستمرت حتى نهاية السفر كما نلاحظ أن قصة شفاء الأعميان في الإنجيل، يبرز التساؤل الآتي: متى شفيا؟ هل قبل دخول أريحا أم بعد دخولها (متى ص9)
11- تتعارض رئاسة سمعان للكهنوت مع ماورد في الشريعة من حيث أن هذه الرتبة هي وقف على سبط لاوي وبالتحديد عائلة هارون.
[يجب الانتباه أولًا إلى أن متتيا أبو المكابيين كان من سلالة يوياريب رئيس إحدى الفر ق الكهنوتية (1مكا 2: 1و54) وبتعيين يوناثان ومن بعده سمعان رؤساء كهنة تحولت رئاسة الكهنوت من بيت أونيا (حونيا) إلى عائلة الحشمونيين، ولكن الخطورة كانت في اتجاهين أولهما أصبحت رتبة تباع لمن يدفع أكثر فاستغل الحكام السلوقيين ذلك، ثم أصبحت ورقة رابحة يكسبون بها تحالف القائد اليهودي (1مكا 10) وثانيهما: انشغال رئيس الكهنة بالاهتمامات السياسية أكثر من واجباته الدينية، وهو الأمر الذي أفضى إلى مأساة أرسطوبولس، والذي أخطأ في إتمام الطقوس، فأهانه اليهود في الهيكل مما دفعه إلى قتل الآلاف منهم كما سيجيء.
12- ورد في الأصحاح التاسع آية تكررت مرتين، تفيد بزحف بكيديس يوم السبت إلى ضفاف الأردن، فلم هذا التكرار؟ (1مكا 9: 34، 43).
[هذا أسلوب لغوى شائع، من حيث إعادة التأكيد على البداية، مثل قولنا: "فلما بدا الصوم الكبير.." وكان الآباء في الصوم لا يخرجون من قلاليهم.. (ويطول الشرح) ثم يعود الكاتب فيذكر بالبداية من جديد فلما بدأ الصوم.. الخ وعندئذ يكمل حديثه.
13 - ويرد في (13: 43) أن سمعان المكابى عسكر عند "جازر" والصواب أنه عسكر عند "غزة" فماذا الخلط بين الاسمين؟
[ورد في النسخة اللاتينية "الفولجاتا" أن الموضع الذي عسكر سمعان عنده "غزة" بالفعل، ويرجع السبب في ذلك إلى الشبه الشديد بين الاسمين في اللغات الأخرى. أنظر التعليق على هذه الآية عند التفسير.