مزمور 110 (109 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
المسيا الرب والملك والكاهن والديان
يُعْتَبَر هذا المزمور من أكثر المزامير التي اقتبس منها العهد الجديد بكونه مزمورًا مسيانيًا. عندما أراد الفريسيون والصدوقيون أن يُجَرِّبوا ربنا يسوع قدَّم لهم إجابة أفحمتهم. لقد سألهم: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ وإذ أجابوا أنه ابن داود سألهم: "فكيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلًا: قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك؟" (مت 22: 44). هنا نجد أربع حقائق:
أ. كتبه داود النبي.
ب. أُعْلِنَ له بالروح القدس.
ج. إنه مزمور مسياني.
د. أن المسيح هو ابن داود وربه، ابن الله المتجسد.
يُعَلِّق المرتل على هذا الموقف قائلًا: "فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة، ومن ذلك اليوم لم يجسُرْ أحد أن يسأله بتة" (مت 22: 46).
في يوم الخمسين أشار إليه بطرس الرسول في عظته (أع 2: 34- 35). كما أشار إليه الرسول بولس في رسالته إلى العبرانيين (عب 1: 13).
يرى بعض الدارسين أن هذا المزمور يُسَبَّح به بمناسبة تتويج أي ملك من نسل داود.
أما منهج هذا المزمور فيتكون من التالي[1]:
أ. الرئيس المُتَوَّج ينطلق في موكب إلى العرش الملكي في الهيكل [2].
ب. تقديم قضيب الملك له علامة سلطانه الملوكي [2].
ج. مركز الاحتفال بتتويجه هو مسحه بالدهن المُقَدَّس مع صلوات للتقديس [3].
د. الهتاف للملك الجديد، والمناداة به ملكًا [4].
هـ. ظهور الملك أمام كل الشعب، كمن هو مختار من الله ومسنود به [5-6].
و. يشرب من مياه الحياة من موقع مقدس مثل ينبوع جيحون في وادي قدرون شرق أورشليم، حيث تُوِّج سليمان ملكًا (1 مل 1: 39: 40) أو في هيكل أورشليم بكونه الينبوع الذي يهب حياة لكل المدينة، بل ولكل المملكة.
1. المسيا الرب
1.
2. المسيا الملك
2-3.
3. المسيا الكاهن
4.
4. المسيا الدّيان
5-7.
من وحي مزمور 110
لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ.
1. المسيا الرب
قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي:
اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي،
حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ [1].
ليتنا لا نكون من بين أعدائه، ليس فقط من بين أعدائه غير المؤمنين... بل ومن المملوءين من الحياة الدنسة. "لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله، إذ هو ليس خاضعًا لناموس الله" (رو 8: 7).
* يعلن المُخَلِّص معنى تلك الكلمات في الإنجيل عندما سأل: إن كان المسيح هو ابن داود، كيف إذن يدعوه داود بالروح ربه؟ (مت 22: 43)... بالنسبة لنا ذاك الذي هو ابن هو أيضًا ابن داود، أنه ليس ابن وابن آخر. إنه ليس شخصيْن، واحد بكونه الله وآخر بكونه إنسانًا. وإنما ذاك الذي هو ابن الله هو بنفسه أيضًا ابن داود...
الله لا يجلس، إنما ذاك الذي اتخذ جسدًا يجلس، ذاك الذي قيل له أن يجلس هو الكلمة المتجسد[2].
* لنؤمن ونعلن أنه ابن داود ورب داود. لا نخجل من أنه ابن داود، لئلا نجد رب داود يغضب منا[3].
* كيف يمكن أن الذي يملك على الكل مع الآب، يصعد إليه لينال مُلكًا؟ أجيب إنَّ الآب يعطي الابن أيضًا هذا المُلك من جهة كونه صار إنسانًا، لأنه عندما صعد إلى السماوات جلس عن يمين العظمة في الأعالي، منتظرًا أن يُوضَع أعداؤه تحت قدميه، لأنه قيل له من الآب: "اجلس عن يمين حتى أضع أعداءك موطئًا لقدميك"[4].
* "اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئ قدميك" (مز 110: 1). لأن بجلوس المسيح، بناسوته المأخوذ منا، عن يمين الآب، استحققنا الروح القدس الذي به نُحَطِّم أعداءنا الشياطين والخطايا والآلام والآثام، ونغلب الموت والجحيم، ونصعد إلى السماوات، إلى حيث المسيح رأسنا الذي قد جعلنا له جسدًا[5].
القديس مار أفرام السرياني
* "قال الرب لربي: أجلس عن يميني" (مز 110: 1). قال الرب هذا للرب، لا لعبدٍ، بل لرب الكل، ابنه الذي أخضع كل شيءٍ له. "ولكن حينما يقول إن كل شيءٍ قد أُخضع، فواضح أنه غير الذي أَُخضع له الكل". وماذا يلي هذا؟ "كي يكون الله الكل في الكل".
الابن الوحيد هو رب الكل، لكن ابن الآب المطيع لم ينل لاهوته (كأمرٍ جديدٍ)، بل هو ابن بالطبيعة حسب إرادة الآب. فليس الابن ناله، ولا الآب حسده لكي يغتصبه. فالابن يقول: "كل شيءٍ قد دُفع إليّ من أبي" (مت 11: 27؛ لو 10: 22). "دُفِعَ إليّ"، ليس كما لو كان ليس لي من قبل. وأنا أحفظه حسنًا، ولا أسلبه من الذي أعطاه لي[6].
* لكن الآن يجب أن أُذَكِّرَكم بقليلٍ من كثير مما يُقال بخصوص جلوس الابن عن يمين الآب، فالمزمور المائة والتاسع يقول: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئ قدميك" (مز 110: 1). ويؤكد المُخَلِّص هذا في الأناجيل، ذاكرًا أن داود لم ينطق بهذا من نفسه، بل بوحي الروح القدس قائلًا: "كيف يدعوه داود بالروح ربًا، قائلًا: قال الرب لربي اجلسْ عن يميني؟!" (مت 22: 43)، وقد استخدم بطرس والأحد عشر رسولًا هذا الدليل بنفس كلمات المزمور المائة والتاسع في سفر الأعمال في يوم البنطيقستي (حلول الروح القدس) عندما وقف ووعظ الإسرائيليين[7].
الذي صُلِبَ على الجلجثة صعد إلى السماوات من فوق جبل الزيتون من ناحية الشرق، فإنه بعدما نزل إلى الجحيم وصعد إلينا ارتفع من بيننا إلى السماوات، فيحدثه أبوه قائلًا: "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" (مز 110: 1)[8].
القديس كيرلس الأورشليمي
* مادام هذا النبي كان ملكًا، فمن هو هذا الذي يمكن أن يدعوه ربه وهو يجلس عن يمين الله إلا المسيح ابن الله، الذي هو ملك الملوك ورب الأرباب"؟[9]
* لقد نزع فكرهم الخاطئ. لهذا السبب أدخل داود في الحوار (مت 22: 41-46)، حتى تُعرَف شخصيته ولاهوته بأكثر وضوح. لقد ظنوا أنه إنسان مجرد، ومع ذلك قالوا إن المسيح هو "ابن داود". لهذا قدَّم لهم شهادة نبوية عن بنوته ومساواته لأبيه في الكرامة[10].
* إن كانت كل الخليقة تسجد للمسيح، فبقوله "الملائكة" (في عب 1: 6) يعني أعلى الكائنات العاقلة، وذلك كما جاء في العبارة: "لمَنْ منَ الملائكة قال قط: اجلس عن يميني" (مز110: 1)؟ فهو أعلي منهم. وكلمة الكتاب المقدس تمنعنا من العبادة للخليقة، إذ قيل: "لئلا ترفع عينيك إلى السماء، وتنظر الشمس والقمر والنجوم، كل جند السماء التي قسمها الرب إلهك لجميع الشعوب التي تحت كل السماء، فتغتر وتسجد لها وتعبدها" (تث 4: 19). فكما يُمنَع الشخص من العبادة لكائنات سماوية، هكذا يُمنَع من العبادة للكائنات الأخرى المخلوقة، حتى وإن كانت إحداها تفوق بقية المخلوقات. بهذا يلزم أن يدرك الشخص بكل ثباتٍ أن المسيح هو الخالق، وليس مخلوقًا، حتى وإن كان من أجلنا اتحد بجسدٍ مخلوق به نفس عاقلة، وبهذا فهو مسجود له من كل الخليقة بكونه الله[11].
* عن أي عرش للنعمة (عب 4: 16) يتحدث؟ ذاك العرش الملوكي الذي يقال عنه: "قال الرب لربي: اجلسْ عن يميني" (مز 110: 1) . ماذا يعني: "فلنتقدم بثقة" (عب 4: 16). إننا نتقدم بثقة، لأن لنا رئيس كهنة بلا خطية، يناضل العالم، إذ يقول : "تهللوا، أنا قد غلبتُ العالم" (يو 16: 33) ، هذا يعني أنه يعاني من كل الأشياء ومع هذا فهو طاهر من الخطايا. فمع أننا نحن تحت الخطية، إلا أن رئيس الكهنة بلا خطية، كما عني الرسول[12].
* سبق فأنبأ بما نطق به السيد المسيح على الصليب: "إلهي، إلهي لماذا تركتني" (مز 22: 1).
ووصف أيضًا الدفن، قائلًا: "حُسبت مثل المنحدرين إلى الجب... بين الأموات فراشي" (مز 88: 4-5).
وعن قيامته: "لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيَّك يرى فسادًا" (مز 16: 11).
وعن صعوده قال: "صعد الله بهتاف، الرب بصوت الصور" (مز 47: 5).
وعن الجلوس عن يمين الله (الآب) "قال الرب لربي: اجلسْ عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك" (مز 110: 1).
* "اجلسْ عن يميني حتى أضع أعداءَك موطِئًا لقدميك" (مز 1:110)، لأن جلوسه عن اليمين، لا يبطل وضع أعدائه تحت قدميه. أو ما قاله الرسول: "لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداءِ تحت قدميه" (1 كو 25:15). فإنه حتى عندما يُوضعون حتى قدميه لا يتوقف عن أن يملُك، إنما يُفهَم ذلك أنه يملك أبديًا، فيبقون دومًا تحت قدميه[13].
القديس أغسطينوس
* لا يمكن للفكر البشري أن يعرف مشاركة ومساواة الله الآب مع ابنه الوحيد ما لم يلهمه الروح القدس، وليس دم ولا لحم يقدران أن يكشفا ذلك. لكن هذا القول نطق به داود النبي بوحي الروح القدس، كما قال ربنا في الإنجيل المقدس.
قوله: "قال الرب لربي" يشير إلى مساواة الآب والابن في اللاهوت والربوبية، وفي كافة الخواص الجوهرية...
يدل الجلوس على اليمين الاستقرار وعدم زوال ملكه.
أما اليمين فيدل على الكرامة والمفاخرة الإلهية...
القول: "قال الرب لربي اجلسْ عن يميني" يدل على أن الابن لم يأخذ الكرامة والجلوس اختطافًا كما حرَّرَ الرسول: "الذي إذ كان في صورة الله لم يُحسب خلسة أن يكون معادلًا لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبدٍ، صائرًا في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسانٍ، وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 2: 6-8). لكن لم يكن الابن أسفل وارتفع، ولا لأخذ كرامة لم تكن فيه أولًا، بل وهو لم يزل في أحضان أبيه تواضع، ومن بعد آلامه وموته وقيامته آخذًا مجدًا وكرامة كائنيْن فيه على الدوام كإله. وهذا الذي يقوله: الآن مجدني أنت يا أبتاه بالمجد الذي كان لي عندك من قبل كوْن العالم. فالقول: "اجلس عن يميني" قيل له من قبل الآب بعد تجسده...
قولنا: جلس الابن عن يمين الآب، معناه أنه وهو في تجسده صار في كرامته يُسجَد له من الخلائق سجودًا غير منفصل، لأننا لسنا نسجد للاهوت الابن بانفراده ولناسوته بانفراده؛ كلا بل نسجد سجودًا واحدًا للابن المتجسد كما نجثو للملك اللابس البرفير بسجود واحد.
2. المسيا الملك
يسوع المسيح هو المسيا والملك والكاهن في نفس الوقت، الأمر الذي لم يكن يتحقق قط حيث كان الملك من سبط يهوذا، والكاهن من سبط لاوي، فلا يجمع إنسان ما بين الدوريْن أو اللقبيْن.
مسيحنا يحكم كملك الملوك خلال محبته الكهنوتية الفائقة.
يُرْسِلُ الرَّبُّ قَضِيبَ عِزِّكَ مِنْ صِهْيَوْنَ.
تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ [2].
* لم يقل المرتل اقتل أعدائك، بل ماذا؟ "تسلط في وسط أعدائك". لتجعل أعداءك الذين كانوا غرباء يصيرون أصدقاءك... هؤلاء الذين هم أعداء تحت سلطان غريب. الآن صلاة داود هي: تسلط على أعدائك، أي امنحهم أن تكون ربًا لأعدائك[14].
* إن قضيب عزِّه من صهيون هو كرازة الإنجيل المقدس التي بدأتْ من صهيون حتى انتشرتْ في كل العالم.
يُقال "قضيب" بما أن القضيب هو علامة المُلك. فبكرازة الإنجيل خضعت لمُلك المسيح.
وتسلطه في وسط أعدائه أعني عابدي الأصنام، وأيضًا الذين آمنوا من أهل الختان.
ولأن الرسل بكرازة الإنجيل كأنهم بقضيب من حديد رضضوا الأصنام ومعابدهم وكفرهم، كآنية الفخار...
وأيضًا يُقال قضيب عز الصليب المُكَرَّم، لأنه كما أن عصا موسى صنعت آيات وخلَّصتْ الإسرائيليين، وأهلكت أعداءهم، كذلك صليب ربنا يصنعه من عظائم يخلص شعب الله، ويهلك أعداءه. هذا القضيب، أعني الصليب الكريم مع كرازة الإنجيل أرسلهما الرب وهو الروح القدس.
إذن ها قد أوضح النبي جهارًا الثالوث القدوس المساوي في الجوهر والربوبية. لأنه بقوله: قال الرب لربي أظهر الآب والابن؛ وبقوله: يرسل الرب قضيب عزك أظهر الروح القدس صانع القوات، ومعطي الرسل القضيب الذي يرضض رؤوس المضادين، ويهدي المؤمنين.
* تسلط، أحكم بين الوثنين واليهود والهراطقة والإخوة الكذبة. "تسلط فيوسط أعدائك". إننا لا نفهم هذه العبارة بطريقة صحيحة إن كنا لا نرى أنها بالفعل تتحقق[15].
* يقول الآب لابنه: "وتحكم في وسط أعدائك" (راجع مز 110: 2). شرهم، وليس إرادة المسيح، هو الذي جعلهم أعداء. في هذا توجد عطية عظيمة من الرب.
قبلًا كان الشر الروحي (أف 6: 12) بصفة عامة يُستخدَم ليجعل أعناقنا تنحني لنير الأسر. هكذا حتى داود كتب أنه بطريقةٍ ما عن أيدي الذين انتصروا عليه. "على ظهري حرث الأشرار" (راجع مز 129: 3). أما الآن فقد خضع الشر الروحي لنصرة المسيح وليديه، حتى صار الشر الذي يُسَبِّب مرارة الأَسْر، خاضعًا إلى الأبد في التصرفات والأعمال[16].
شَعْبُكَ مُنْتَدَبٌ فِي يَوْمِ قُوَّتِكَ،
فِي زِينَةٍ مُقَدَّسَةٍ مِنْ رَحِمِ الْفَجْرِ.
لَكَ طَلُّ حَدَاثَتِكَ [3].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "معك الرئاسة (البدء) في يوم قوتك في بهاء القديسين. من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك".
يرى القديس جيرومأن يوم قوته هو يوم صلبه، حيث يسكب بهاءه على قديسيه. وأنه إذ قال: "يا أبتاه، في يديك أستودع روحي" (لو 23: 46). لقد نطق بهذه الكلمات كإنسانٍ، ولم يصلِ عن ضعف، لأنه هو واحد مع الآب، هو البدء كما الآب هو البدء. إنه يفتح الباب لقديسيه حتى متى طلبوا منه ينالون ويكونون في بهاء.
يقول القديس جيروم [فكرة أنه ينال لكي يعطي يلزم ألا تعثر أحدًا. إنما هو تعبير يتناسب مع ناسوت الابن، فإنه إذ أخذ جسد الإنسان، بالضرورة يأخذ على عاتقه أن يتحدث بلغة الإنسان. المسيح إنسان، وإنسان حقيقي؛ نقول هذا من جهة تأنسه... على أي الأحوال إن كان ضعف الجسد يعثركم، إن كان الصليب والجراحات والضربات والجلد وكل متاعب الصليب تعثركم، ارجعوا إلى البدء، إلى ميلاده (الأزلي) الإلهي فلا تتعثرون، لأن الآب يقول عن الابن: "من البطن قبل كوكب الصبح ولدتك"... الآب وهو لم يأخذ طبيعة بشرية، يقول بأسلوب بشري: "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك". ليس لي رحم، لكنني لا أقدر أن أشير إلى أبوتي بطريق آخر دون استخدام لغة بشرية... "من الرحم" أي "من جوهري"... على أي الأحوال، فإن هذا المزمور في الواقع يُظهِر أنه يلد الابن من الرحم، أي من طبيعته، من كيانه، من جوهره. "من الرحم" تعني بوضوح "من جوهر لاهوته". كل ما للآب من جهة اللاهوت هو للابن الذي ولده[17].]
[عندما يقول المرتل: "قبل كوكب الصبح" فلنفهم: "قبل القمر وقبل الشمس وقبل كل مخلوقٍ"... قبل أن يُرَى كوكب الصبح في العالم وُلد النور الحقيقي. وفي مزمور آخر يقول: "بنورك نعاين النور" (مز 36: 10). هذا القول موجَّه إلى الآب: "أيها الآب، في نور الابن نرى النور، الروح القدس[18].]
جاء في تفسير القديس أغسطينوس: "معك البدء"... لقد أجاب الذين سألوه: "أنا من البدء" (يو 8: 25). ولما كان أبوه هو أيضًا البدء، الذي منه الابن الوحيد الجنس، حيث "من البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله" (يو 1: 1). ماذا إذن أن كان كل من الآب والابن هما البدء، فهل يوجد بدءان؟ حاشا! فكما أن الآب هو الله، والابن هو الله، فإن الآب والابن هما بدء واحد...
"معك البدء"، لم ينفصل الآب عنك قط.
* عن أي سلطان تتكلم "في بهاء القديسين"؟... يتحدث عن ذاك السلطان عندما يصير القديسون في بهاء، ليس وهم لا يزالون حاملين جسدهم الأرضي، ويئنون في جسد مائت قابل للفساد...
"من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك"... الرحم (البطن) والحضن يُقالان عن موضع سري. ماذا يعني: "من الرحم"؟ مما هو سري، مما هو خفي، من ذاتي، من جوهري. هذا هو معنى الرحم، لأن "في جيله من كان يخبر؟!" (راجع إش 53: 8). إذن لنفهم قول الآب للابن "من رحمي قبل كوكب الصبح ولدتك". إذن ماذا يعني: "قبل كوكب الصبح"...؟ هذا التعبير يستخدم بالمعنى الرمزي وأيضًا الحرفي، وقد تحقق. لأن الرب ولد ليلًا من العذراء مريم كشهادة الرعاة التي تؤكد هذا، إذا كانوا في حراسة لقطيعهم (لو 2: 7-8)[19].
* لنتأمل مليًا في يوم قوة الرب، حتى عندما نعرف ما هو البدء الذي له، وكيف يكون هذا البدء معه، إذ هذا البدء عينه في يوم قوته هو أيضًا بهاء القديسين. هذا البدء الذي للرب في يوم قوته، أقول إنه معه حتى يصير قديسوه في بهاءٍ[20].
* المسيح، شمس القيامة، "ولد قبل كوكب الصبح"، ومعه مُنحت أشعة الحياة. إذن ليته لا يحتقر أحد الكلمة، لئلا بغير قصدٍ يحتقر نفسه[21].
* انظروا هذا الميلاد الفريد "قبل كوكب الصبح"، قبل خلقة كل شيء، كل الملائكة وكل مخلوق. لماذا؟ "كل شيء به كان" (يو 1: 3) [22].
* واضح أن الكتاب المقدس الذي يعرف أكثر من الكل عن طبيعة كل شيءٍ يقول خلال موسى عن المخلوقات: "في البدء خلق الله السماوات والأرض، أما عن الابن فإنه لا يقدم آخر سوى الآب نفسه ليقول: "من الرحم ولدتك قبل كوكب الصبح". مرة أخرى: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك"[23].
* يُقال "يوم قوته" عن نهار صلبه الذي به أظهر قوة عظيمة عندما زلزل الأرض وأظلم الشمس، وفتح القبور، وشقق الصخور، وكسر أبواب الجحيم، وحطم المتاريس الدهرية، وخلَّص الأسرى من سائر العظائم المشهورة.
أيضًا يُقال يوم قوته عن يوم الدينونة الذي فيه يأتي بمجد أبيه، ويعرف قوته للجميع. ففي ذلك اليوم تكون لله الرئاسة التي هي الصليب الذي حمله على منكبيه، كما قال إشعياء النبي، وكما قال هو بنفسه: "حينئذ تظهر علامة ابن الإنسان في السماء. وعند ذلك يحصل القديسون في بهاءٍ وجلالٍ، إذ يشرق الصديقون كالشمس.
3. المسيا الكاهن
أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَنْدَمَ:
أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ،
عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ [4].
* أقسم الرب؛ لقد قدَّم وعدًا مُقَدَّسًا، لا لذاك الذي وُلد قبل كوكب الصبح، بل لذاك الذي وُلد من بتول بعد كوكب الصبح: "أنت هو الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق". إنه ليس ضروريًا أن يشرح هذه العبارة حيث ناقشها الرسول المقدس في رسالته إلى العبرانيين. فإن هذا هو ملكي صادق الذي بلا أب ولا أم... وكل الكنسيين اجمعوا أنه بدون أب من جهة الجسد، وبدون أم بكونه الله[24].
* هل الله الذي يمنع البشر من القسم (مت 5: 34) هو بنفسه يقسم...؟ الإنسان، خلال عادة القَسَم قد ينزلق إلى الحنث باليمين، لهذا بحق مُنِعَ من القَسَم... فإنه قد يقسم بالحق أو باطلًا، أما من لا يقسم، فلا ينحث بقسم، لأنه لا يقسم قط. [لكن الله إذ يقسم لن يحنث بالقسم][25].
* أولًا ظهرتْ الذبيحة التي تُقدَّم الآن لله بواسطة المسيحيين في كل العالم المتسع. بعد مدة طويلة من هذا الحدث (تقديم ذبيحة ملكي صادق)، قيل بالنبي أن هذه الذبيحة تتحقق في المسيح، الذي يأتي في الجسد. "أنت هو الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مز 110: 4). بمعنى آخر، ليس على رتبة هرون، لأن هذا النظام كان لابد أن يزول عندما تشرق هذه الأمور التي أُشير إليها مُقَدَّمًا خلال هذه الظلال.
* أيها الفريسي... لو كنتَ على دراية بالأسفار المقدسة الموحى بها من الله وعلى عِلْم بكلام ونبوات الأنبياء القديسين، فربما كنتَ تتذكر الطوباوي داود الذي يقول بالروح عن المسيح مُخَلِّص الكل: "أقسم الرب ولن يندم أنك أنت كاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادقً، لذلك اشرحْ لي هل هناك فريسي أو أي كاتب خدم الله على رتبة ملكي صادق، هذا الذي بارك إبراهيم وقَبِل منه العشور، وكما كتب بولس الحكيم جدًا: "بدون كل مناقشة الأصغر يُبارك من الأكبر" (راجع عب 7: 7). لذلك فإن أصل وبداية وجود إسرائيل، وهو إبراهيم أب الآباء، قد تبارك بواسطة كهنوت ملكي صادق، أما ملكي صادق وكهنوته فكان مثالًا للمسيح مخلصنا جميعًا، الذي صار رئيس كهنتنا ورسول اعترافنا، الذي يُقَرِّب إلى الله الآب الذين يؤمنون به، لا عن طريق ذبائح دموية وتَقْدِمات بخور، بل يُكَمِّلهم للقداسة بواسطة خدمة أعلى من الناموس، لأن "لنا رئيس كهنة مثل هذا قد جلس في يمين عرش العظمة في السماوات" (عب 8: 1)[26].
* أقسم الرب بخصوصه، قائلًا: "أنت كاهن إلى الأبد". قال: "إلى الأبد" بحق. لأن غيره هم كهنة مؤقتون يخضع الجميع للخطية، أما هو فيملك كهنوتًا لا يُنتَهَك. الكل يخضعون للموت، أما هو فحيٌّ على الدوام. إذ كيف يمكن أن يهلك ذاك الذي هو نفسه قادر أن يُخَلِّص آخرين؟ فإن مثل هذا يناسبنا[27].
* من أين دُعِي ملكي صادق كاهن الله العلي، إن كان قبل الكهنوت اللاوي لم يكن يُجد لاويون، الذين اعتادوا أن يقدموا ذبائح لله؟[28]
* حقق بهذا أن هذا الكهنوت يدوم إلى الأبد، وأنه لا يزول مثل كهنوت هارون الذي جعل الله مذبحه في موضع واحدٍ من العالم. فلما عُدم ذلك "الموضع الذي فيه المذبح، بَطُلَ كهنوتهم ونُزِع بعدم وجود المذبح، وفقد شعبهم القربان والغفران. وأما كهنوت المسيح الذي بخبزٍ وخمرٍ على طقس ملكي صادق، ومذبحه موجود في جميع الأرض، فإنه دائم إلى الأبد. والكاهن المسيح هو ملك البرّ وملك السلام بالحقيقة[29].
القديس مار أفرام السرياني
* لدى عودة إبراهيم من كسر أعدائه، استقبله ملكي صادق، كاهن الله العلي، بخبزٍ وخمرٍ. وكانت تلك المائدة قد سبقت وصورَّت المائدة السرية هذه، كما أن ذاك الكاهن كان رمزًا وصورة للمسيح الكاهن الأعظم الحقيقي. لأن النبي يقول: "أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مز 110: 4). وخبزات التقدمة تلك كانت صورة لهذا الخبز. هذه هي إذًا الذبيحة الطاهرة أي غير الدموية، التي تكلم عنها الرب بلسان النبي: "إنها تُقَرَّب له من مشارق الشمس إلى مغاربها" (مل 1: 11)[30].
* مرة أخرى، نجد في الكاهن العظيم ملكي صادق (تك 14: 18) رمزًا آخر بخصوص سرّ ذبيحة الرب، كما يشهد الكتاب الإلهي حيث يقول: "وملكي صادق ملك ساليم أخرج خبزًا وخمرًا" (تك 14: 18). لقد كان "كاهنًا لله العلي"، وقد بارك إبراهيم.
أما عن كون ملكي صادق رمزًا للمسيح، فهذا ما يعلنه الروح القدس في المزامير، متكلمًا من الآب نحو الابن "... أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق" (مز 110: 4).
كان هذا الطقس بالتأكيد مستمدًا من هذه الذبيحة... فإذا كان ملكي صادق كاهن الله العلي، قدَّم خبزًا وخمرًا، وفي هذا بارك إبراهيم.
لأنه من هو كاهن الله العلي (بحق) مثل ربنا يسوع المسيح، الذي قدَّم ذبيحة الله الآب، قدَّم ما قدَّمه ملكي صادق، أي خبزًا وخمرًا، أي جسده ودمه؟!
استمرت البركة التي أُعطيت لإبراهيم في المسيحيين. لأنه إن كان إبراهيم قد آمن بالله، "فحُسب له برًا" (تك 15: 6)، فكل من يؤمن بالله، ويحيا بالإيمان، يُحسب له برًا... ويحسب مبرَّرًا ومطوَّبًا في إيمان إبراهيم، كما يُعَرِّفنا الرسول بولس، قائلًا: "آمن إبراهيم بالله، فحسب له برًا" (غل 3: 6). والآن فأنتم إذ تؤمنون تُحسَبون أولادًا لإبراهيم. وقد سبق فرأى الكتاب المقدس أن الأمم يتبررون بالإيمان، فتنبأ لإبراهيم أن فيه تتبارك جميع الأمم (غل 3: 6-8).
لذلك فإن مباركة إبراهيم بواسطة الكاهن ملكي صادق الواردة في سفر التكوين، سبق أن أُعلنتْ كمثال لتقدمة المسيح، التي هي من خبزٍ وخمرٍ. وإذ كمَّل الرب المثال وأتمه، قدَّم خبزًا ومزج الكأس من خمر.
* من هو كاهن لله العلي أكثر من ربنا يسوع المسيح، الذي قدَّم لله الآب ذبيحة، هي ذات التي قدَّمها ملكي صادق، أي الخبز والخمر، وبالحق هما جسده ودمه؟[31]
* رفضوا[32] بوق إشعياء الذي أعلن الحبل الطاهر (إش 14:7)؛
وأخرسوا قيثارة المزامير التي غَنَّت عن كهنوته (مز 4:110)،
وأسكتوا قيثارة الروح التي غنّت عن ملكيته (مز 4:110).
وتحت صمتٍ هائل، أغلقوا على الميلاد العظيم الذي جعل الكائنات السماوية والأرضية تصرخ: مبارك هو ذاك الذي أشرق خارجًا من الصمت المطبق![33]
القديس مار أفرام السرياني
رآه القديس يوحنا الحبيب ملتحفًا بثوب الكهنوت حتى القدميْن، ومنطقة من ذهب عند ثدييه (رؤ 1: 13). ما هو هذا الثوب الكهنوتي سوى جسده القائم من الأموات، وما هما ثدياه إلا المعرفة النابضة بالحياة والفهم الروحي النقي. وكما يقول الأب فيكتوريانوس: [الكلمات "في ثوب كهنوتي" تشير بوضوح إلى الجسد الذي لم يفسد بالموت، والذي يحمل خلال موته كهنوتًا أبديًا. "متمنطقًا عند ثدييه بمنطقة من ذهبٍ" (رؤ 1: 13) توحي بالمعرفة النابضة بالحياة والفهم الروحي الطاهر يوهبان للكنائس[34].]
4. المسيا الدّيان
الرَّبُّ عَنْ يَمِينِكَ،
يُحَطِّمُ فِي يَوْمِ رِجْزِهِ مُلُوكًا [5].
يعلق القديس جيروم على قول المرتل: "يحطم في يوم رجزه ملوكًا" [5]، قائلًا بأن إبليس في لحظة من الزمن أراه كل ممالك العالم، وقال له: "لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن، لأنه إليّ قد دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد" (لو 4: 6). في يوم صراعه ومعركته سيحطم ملوكًا!
* في بدء المزمور نجد: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني"، والآن يقول المرتل: "الرب عن يمينك". إن كان هو جالسًا عن يمين الآب، كيف على العكس يجلس الآب عن يمين الابن...؟ أقول هذا كله لكي أؤكد بوضوح الابن مساوي للآب[35].
* هؤلاء الملوك جرحهم بمجده، وبثقل اسمه جعلهم ضعفاء، فلم تعد لديهم قوة ليحققوا ما اشتهوه. لقد جاهدوا بكل قوة أن يمحوا الاسم المسيحي من على الأرض ولم يستطيعوا. لأن "من سقط على هذا الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه" (مت 21: 44)[36].
* بقوله: "الرب عن يمينك" يظهر أن اليمين السابق ذكرها [1] لم تكن مكانية، لأنه إن كان الابن عن يمين الآب، فكيف يكون الآب عن يمين الابن المخاطب إليه. فاليمين السابق ذكرها كانت بمعنى الكرامة الأبوية. وأما هذه اليمين فبمعنى المصاحبة.
يَدِينُ بَيْنَ الأُمَمِ.
مَلأَ جُثَثًا أَرْضًا وَاسِعَةً.
سَحَقَ رُؤُوسَهَا [6].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يقضي بين الأمم ويملأهم جثثًا. ويرض رأس كثيرين على الأرض"
يعلق القديس جيروم على سحق الملوك وإدانة الأمم وكثرة الجثث الملقاة أيضًا، قائلًا بأنه على الصليب تَعَثَّر الذين لم يُصَدِّقوا الرسل. وكما قال سمعان الشيخ: "وُضِعَ لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تُقاوَم" (لو 2: 34).
* أنه يرض رؤوس غير المؤمنين. يرض رؤوس المتذبذبين، الذين إيمانهم غير كامل. إنه يسحق رؤوس في أرض الكثيرين، وليس في أرض الكل. فلو قيل "أرض الكل" لما كان لنا رجاء[37].
* أيا كُنتَ يا من تعاند المسيح، فإنك ترتفع إلى العلا كبرجٍ حتمًا سيسقط. خير لك أن تطرح نفسك، وتتواضع، وتلقي بنفسك عند قدمي الجالس على يمين الآب حتى يُبنَى ما فيك من دمار. إن ثبت في علوك الشرير ستُطرَح، ولا تستطيع أن تُبنَى. عن هذا تقول الأسفار المقدسة في موضع آخر: "يهدمهم ولا يبنيهم" (مز 28: 5)... أتجاسر فأقول يا إخوتي أنه من الأفضل أن تسلك هنا بتواضع برأسٍ مجروحة عن أن تكون برأس مشيدة للسقوط في الحكم بالموت الأبدي. إنه يسحق رؤوس كثيرة عندما يسمح لها بالسقوط، وسيبنيها ويقيمها من جديد[38].
مِنَ النَّهْرِ يَشْرَبُ فِي الطَّرِيقِ،
لِذَلِكَ يَرْفَعُ الرَّأْسَ [7].
جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "وفي الطريق يشرب الماء من الوادي، لذلك يرفع رأسًا".
يرى يوسابيوس القيصري[39]أن الغدير (النهر) الذي يشرب منه السيد المسيح هو تجربة الآلام التي اجتازها، وكما قال للآب: "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39)، وأيضًا: "إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك" (مت 26: 42). وإذ شرب السيد المسيح الكأس في طاعة حتى الموت رفع رأسه، وكما يقول الرسول بولس: "لذلك رفَّعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسمٍ" (في 2: 9).
* "يشرب من سيل في طريق جانبي" (راجع مز 110: 7). ليتنا نفحص الطريق أولًا، وبعد ذلك نتطلع إلى السيل الذي في طريق جانبي. الآن فإن الطريق هو طريق هذا العالم، الطريق الذي سار فيه... لقد جاء إلى طريق العالم، وسار في طريقنا، وشرب أيضًا من السيل الذي في هذا العالم. هذا السيل ليس فيه مياه طبيعية جارية. إنها مياه تأتي من الأمطار والفيضانات والعواطف والزوابع. لا يوجد السيل على الجبال بل في الوديان والانحدارات والأماكن الشديدة الانحدار... مياه السيل غير نقية بل مملوءة بالوحل. قبل هذا لأن مياه هذا العالم دائمًا عكرة ومملوءة بالتجارب. أتريدون كيف قيل إنه يشرب من سيل مضطرب؟ لقد قال بنفسه: "نفسي حزينة حتى الموت" (مت 26: 38). ويقول الإنجيلي: "وابتدأ يحزن ويكتئب" (مت 26: 37). إذن شرب ربنا من مياه سيل هذا العالم، ماء الحزن، الماء الذي ليس فيه فرح. لقد أخذ الكأس وملأها من فيض هذا العالم، ولأن المياه مملوءة طميًا صلَّى: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" (مت 26: 39). شرب من سيل هذا العالم ليس في بيته بل في الطريق، مُسْرِعًا إلى طريق آخر... إن كان الرب يشرب من سيل هذا العالم، كم بالأكثر يكون بالنسبة لخدامة المُخْلِصين...؟
ذاك الذي هو رأس الجميع رفع نفسه، أو بأكثر دقة، رفع رأسه، ولم يرفع نفسه، لأنه هو دائمًا منتصب...
لقد رفع رؤوسنا نحن الذين كنا منحنين وعاجزين عن التطلع نحو السماء، كنا متطلعين فقط نحو الأرض. أتريدون أن تقتنعوا أنه يرفع رأس الإنسان؟ لقد حل المرأة (لو 18: 11-13). التي ربطها الشيطان بقيودٍ. لقد رفع رأس تلك التي عاشت كل حياتها منحنية، وسجدت له[40].
* يُقال "وادي" عن سيل المحن والشدائد، والشُرْب منه كناية عن الامتلاء بالمحن. وأما الطريق، فيُقال عن هذا العمر الحاضر، نجتازه سالكين في هذا الدهر. فإذًا يقول النبي: إن المسيح كان عليه أن يشرب من الوادي، أي تصيبه محن، كما كتب الرسول: "لأنه في ما هو تألم مجربًا، يقدر أن يُعِين المُجَرَّبين" (عب 2: 18). وأما بعد امتحانه، فإنه يرفع رأسًا، أي تعرف الناس قاطبة أنه ملك على الكافة...
شرب ربنا من هذا الوادي كأس الموت عندما كان سالكًا طريق هذا العمر، ومجتازًا من هذا الوادي، فارتفع رأسه، أعني مجده وجلاله.
من وحي مزمور 110
لأقتنيك يا ربي وملكي وشفيعي وإكليلي!
* بروح النبوة رأى داود أسرارك، فتهللتْ نفسه!
اشتهي أن يقتنيك،
ومعك لا يطلب على الأرض شيئًا!
* رآك ربه الجالس عن يمين الآب،
فانفتح أمامه باب الرجاء في السماء!
أنت وحدك قادر على مصالحة الآب مع البشرية.
لا بالكلام المُجَرَّد، وإنما بالحب الباذل.
جلوسك عن يمين الآب،
وجلوس الآب عن يمينك،
يجتذب بصيرتي، بل وكل كياني.
أنت رأس الكنيسة، يا قوة الآب القدير!
ماذا بعد نحتاج، وأنت في وسط كنيستك،
وفي نفس الوقت جالس عن يمين الآب؟
* انحني أبي إبراهيم أمام ملكي صادق رمزك.
قدَّم له العشور، إذ شعر بعظمتك فيه.
أنت رئيس الكهنة السماوي،
أنت وحدك بلا خطية،
نقتنيك ونلتحف بك، فنحمل برّك.
تشفع بدمك الثمين، فتغفر كل خطايانا،
وتهبنا شركة أمجادك!
* قضيب مُلْكِك يا ملك الملوك يُحَطِّم قوة العدو.
لم يعد لإبليس مكان في قلوبنا،
إذ انحدر كما من السماء كالبرق.
فصار لنا أن نطأ كل حيله وخداعاته وأكاذيبه!
انفضح العدو بقوة صليبك،
وشُهِّر به كضعيف لا حوْل له.
أقمتَ منا ملوكًا يا ملك الملوك.
هب لنا أن نحيا بروح الملوكية السماوية.
* أنت ديَّان الأرض كلها.
استعرض إبليس أمامك كل ممالك العالم.
ظن أنه سيدها إلى الأبد.
وادَّعى أنه قادر أن يهبها لمن يشاء!
في جهالة حسبك تطلب العالم،
وأنت الغَنِي الذي افتقر بإرادته لكي يُغْنِي مؤمنيه بالمجد السماوي!
نزلتَ إلى أرضنا،
وسلكتَ طريق الأشواك والتجارب،
وشربت من مياه حزننا،
لكي تُقَدِّم لنا نفسك الطريق الحق.
تحملنا فيك، وتدخل بنا إلى حضن أبيك.
تفجّر في داخلنا مياه الروح المحيي.
تروينا من ينابيع حبك.
وتشبعنا بالخبز النازل من السماء.
ماذا نطلب بعد يا ربنا وملكنا وكاهننا السماوي وديَّان الأرض كلها!