29 - 01 - 2014, 05:58 PM | رقم المشاركة : ( 71 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 69 - تفسير سفر المزامير صرخات طريديُعتبَر المزمور 22 من أكثر المزامير التي اقتبس منها العهد الجديد، يليه مباشرة هذا المزمور. لهذا كثيرًا ما يُفَسَّر كمزمور مسياني يشير إلى شخص ربنا يسوع المسيح وعمله الخلاصي. ليس من دارس يتجاهل سمة هذا المزمور كمسياني، لكن التساؤل بينهم هو: هل هذا المزمور نبوي، يسجله داود المرتل متنبئًا عما يتم بمجيء المسيح وتحقيق عمله الخلاصي، أم هو رمزي، بكون داود الكاتب كان رجل الآلام يتحدث عن نفسه كرمزٍ للسيد المسيح. اقتباسات العهد الجديد أ. مز 69: 4- يو 15: 25. ب. مز 69: 9- يو 2: 17؛ رو 15: 3. ج. مز 69: 21- مت 27: 34، 48؛ مر 15: 23؛ يو 19: 28-29. د. مز 69: 25- أع 1: 16، 20 يقول ثيؤدورت أسقف كورش: [إنه نبوة عن آلام المسيح، والدمار النهائي لليهود بسبب ذلك.] سماته 1. يرى كثير من الدارسين نوعًا من الشبه بينه وبين المزمور 22. 2. في النص العبري يتسم المزمور بروعة الأسلوب وإبداع في الشعر. 3. يمثل المزمور مرثاة شخصية لنفسٍ مرة بسبب كثرة المقاومين وعنفهم، لكنه كأغلب المزامير التي تمثل مراثي تنتهي بتسبحة شكر لله وفرح عظيم بخلاصه. ابتداء من الآية 30 تتحول المرثاة هنا إلى تسبحة شكر. 4. غالبًا ما كان يُسبَّح بهذا المزمور في العبادة الجماعية، ليهب تعزية للنفوس المُتألِّمة. إنه يلهب القلوب نحو الغيرة على بيت الله [9]، واحتمال الألم من أجل الله [7، 9]. أقسامه 1. مرثاة تنبع من القلب 1-12. 2. صرخة لأجل الخلاص 13-21. 3. مجازاة الأشرار المقاومين 22-28. 4. تسبحة نصرة 29-35. من وحي مز 69 العنوان لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. عَلَى السَّوْسَنِّ. لِدَاوُدَ ذِكْرُ "على السوسن" وُرِدَ في عناوين المزامير 45 و69، 80. يدعو القديس أغسطينوس المزمور 45 مزمور حجال الملك، إذ هو مزمور حفل الزواج السماوي بين السيد المسيح وعروسه الكنيسة، الملك والملكة الجالسة عن يمينه، المخلص وشعبه المفديين بدمه. والمزمور 69 هو مزمور الصليب، حيث يحتمل السيد المسيح الموت من أجل عروسه. والمزمور 80 خاص بالكرمة التي نقلها الرب من مصر- أرض العبودية- إلى أرض الموعد، هذه التي غرستها يمينه. فالمزامير الثلاثة تخص الكنيسة العروس، الملكة، التي قدَّم لها عريسها مهرها دمه الثمين، والتي غرسها بنفسه ويتعهدها. هذه العروس التي يقول عنها العريس: "كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات" (نش 1: 2). إنه مزمور خاص بالمهر الذي يُقَدِّمه المُخلِّص عن عروسه المحبوبة لديه! 1. مرثاة تنبع من القلب خَلِّصْنِي يَا اللهُ لأَنَّ الْمِيَاهَ قَدْ دَخَلَتْ إِلَى نَفْسِي [1]. يبدأ المرتل وصف حاله كمن هو في وسط بحر من الضيقات والمتاعب. يبدو كأنه إنسان في حالة غرق، تبتلعه الدوامات وأمواج البحر الثائرة ضده. هذه هي مشاعر يونان النبي وهو في جوف الحوت: "لأنك طرحتني في العمق، في قلب البحار... جازت فوقي جميع تياراتك ولُججك" (يون 2: 3). في موضع آخر يقول المرتل: "نشلني من مياه كثيرة" (مز 18: 16). يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح وحده بإرادته قبل الموت، أما نحن وإن كنا لا نَقْبَله بإرادتنا، إلا أننا نحتمله بصبرٍ، لأنه هو الطريق الوحيد للالتصاق به. يليق بنا أن نشرب المَرَّ الذي قدَّمه اليهود للسيد المسيح في وقت آلامه. حقًا إن الملذات الزمنية لذيذة، والتجارب المؤقتة مُرَّة، لكننا نستخف بملذات العالم من أجل عذوبة الحياة الأبدية. * يقول إن المياه دخلت إلى نفسه، لأن تلك الجموع التي أشار إليها تحت اسم المياه قادرة أن تحقق قتل المسيح... لهذا هل هو يصرخ كمن يتألم بغير إرادته، إلا لأن الرأس هنا يمثل الأعضاء (المتألمة). لأنه هو تألم لأنه أراد، أما الشهداء فلم يريدوا ذلك. فقد سبق فأنبأ لبطرس عن آلامه، قائلًا: "متى شخت فإنك تمد يديك، وآخر يمنطقك، ويحملك حيث لا تشاء" (يو 21: 18). فمع أننا نرغب في الاقتراب من المسيح إلا أننا لسنا نريد الموت. ولذلك بإرادتنا أو بالصبر نتألم لأنه لا يوجد طريق آخر يُعطَى لنا (سوى الألم) لكي نلتصق بالمسيح. القديس أغسطينوس * لا تأتمن نفسك في أشياء تفيض دومًا، حتى تستطيع أن تقف ثابتًا. ليس من يستطيع أن يقف على الماء، إنما يجد الكل أمانًا عن الوقوف على صخرة الأمور الأرضية مثل الماء، مثل سيل جارف يعبر. يقول: "المياه قد دخلت إلى نفسي" [1]. الأمور الروحية صخرة، إذ يقول: "أقام على صخرةٍ رجليَّ" (مز 40: 2). الأمور الزمنية مثل وحلٍ وطينٍ، ليتنا نتخلص منها. فإننا هكذا يمكننا أن نبلغ إلى ظهور المسيح[88]. القديس يوحنا الذهبي الفم لم يكن داود النبي بالشخص الذي يضعف أمام التجارب والضيقات، لكن هذا المزمور يكشف مدى ما لحقه من متاعب، حتى كاد يشعر بأن نفسه قد أوشكت على الغرق. أما عن السيد المسيح، فلا يمكن أن ننكر حقيقة تأنسه، وبالتالي فإنه من جهة الناسوت يعلن أنه تألم حقيقة. فبحبه وتواضعه تأنس ليحمل آلامنا، ويشاركنا أتعابنا. لم يتجاهل العهد الجديد آلامه، بل أبرزها ليؤكد حقيقة تأنسه. "كان يُصلِّي قائلًا: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت" (مت 26: 39). "الآن نفسي قد اضطربت. وماذا أقول؟ أيها الآب نجني من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة" (يو 12: 27). "الذي في أيام جسده، إذ قدَّم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرعات للقادر أن يخلِّصه من الموت، وسُمِعَ له من أجل تقواه" (عب 5: 7). غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ وَلَيْسَ مَقَرٌّ. دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي [2]. يصوِّر المرتل موقفه أنه كإنسان في دوامة نهر أو بحر مملوء وحلًا، عاجز عن أن يتصرف، فقد صار ألعوبة في يد الدوامة وسط الوحل، وليس من مقر، إنما ينحدر على الدوام. شعر كأنه في أعماق بعيدة وسط المياه، وليس من منقذ، أو كمن يجرفه سيل شديد، وليس من نهاية! ليس من شيءٍ جامد يمكن أن يضع عليه قدميه ليتحرك في اتجاه معين، أو يجلس عليه حتى ليفكر كيف يَخلُص، وليس من عمق معين يبلغه... إنه في حاجة إلى عون من الخارج. يرى القديس أغسطينوس أن المُضطهَد والمضطهِد كليهما من الوحل. الثاني بسبب فقدانه البرّ صار وحلًا عميقًا يود أن يبتلع المُضطهَد الذي هو أيضًا مخلوق من الطين. لكن ماذا يفعل الضيق بالمُضطَهد؟ إنه يصير صورة الله وعلى مثاله. أي يصير ذهبًا! يَعبُر من التراب إلى الذهب! * ما هو الذي يُدعَى حمأة؟ هل هم ذات الأشخاص الذين يُضطهَدون؟ لأنه من الطين خُلِقَ الإنسان (تك 2: 7). لكن هؤلاء البشر الذين سقطوا من البرِّ صاروا وحلًا عميقًا، ومن لا يوافقهم يضطهدونه، ويريدون أن يسحبوه إلى الإثم فيخرجون من طينه ذهبًا. لأن الطين الذي لهم مثلهم يتأهل أن يتحوَّل إلى شكل سماوي. * شكرًا لرحمته ذاك الذي جاء إلى عمق البحر، ومنحنا أن يُبتلع بواسطة حوت البحر، لكنه لفظه في اليوم الثالث (مت 12: 40). جاء إلى عمق البحر، في ذاك العمق الذي أُلقينا فيه، ذاك العمق الذي حدث فيه دمارنا. جاء إلى هناك بنفسه، والعاصف جعله يغطس إلى أسفل، إذ عانى من الأمواج التي هي أصوات البشر القائلين: "اصلبه، اصلبه". تزايدت العاصفة حتى غطس في أعماق البحر. احتمل الرب الألم من أيدي اليهود، الذي لم يعانِ منه حين سار على المياه (مت 14: 25)، الأمر الذي لم يعانِ منه هو ولا سمح حتى لبطرس أن يعاني منه. القديس أغسطينوس تَعِبْتُ مِنْ صُرَاخِي. يَبِسَ حَلْقِي. كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنِ انْتِظَارِ إِلَهِي [3]. يُعْلِنُ المرتل أنه قد طالت صلواته جدًا وعَلت صرخاته واشتدت جدًا انفعالاته أمام الخطر الذي يلاحقه مع الحزن الشديد الذي خيَّم على نفسه، فيبس حلقه وصار في حالة خوار وإنهاك لكل قواه الجسمية والنفسية. لقد بُحَّ صوتُه وصار أجش، وكلَّت عيناه وذلك بسبب تركيز النظر لمدة طويلة في اتجاه معين انتظارًا لمجيء من ينقذ ويخلِّص. هذا ما يحدث مع العينين كما مع الجسد ككل، بل ومع القلب والفكر والنفس. في موضع آخر يقول داود المرتل: "خسفت من الغم عيني، نفسي وبطني. الآن حياتي قد فنيت بالحزن، وسنيني بالتنهد، ضعفت بشقاوتي قوتي، وبليت عظامي" (مز 31: 9). يرى القديس أغسطينوس أن السيد نفسه التزم الصمت أثناء محاكمته كما جاء في مزمور آخر: "وأكون مثل إنسانٍ لا يسمع، وليس في فمه حجة" (مز 38: 14)، وما جاء في إشعياء: "ظُلِم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه، كشاةٍ تُساقُ إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه" (إش 53: 7)، فكيف يقول هنا: "تعبت من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3)؟ لقد قال: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مز 22: 1). ولكن ما هو مدى شدة صوته، وإلى أي مدى زمني، حتى يجف حلقه؟ لقد طال وقت صراخه، إذ قال: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون" (مت 23: 13) إلى قوله: "ويل للعالم من العثرات" (مت 18: 7). لقد طال صراخه، حتى قال كثيرون من تلاميذه: "إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن يفهمه؟" (يو 6: 60). إننا لا نعرف ما يقوله، قال كل هذه الكلمات؛ لكن حلقه يبس بالنسبة للذين لم يفهمونه. بخصوص قوله: "كلت عيناي من انتظار (الرجاء) في إلهي" [3]، لا يُقصَد بهما العينين اللتين في رأسه، فقد جاء خصيصًا لكي يصالح العالم مع الآب، فكيف كلت عيناه من الرجاء في الآب. إنما الحديث هنا عن عينيه اللتين في جسده، أي في أعضائه. إنه صوت أعضائه، لا صوت الرأس، كما يقول القديس أغسطينوس. * إن لم تصر عبدًا فالزم النوح على نفسك وأنت تقول: "تعبتُ من صراخي، يبس حلقي" (مز 69: 3). لكي لا يُقال لك كما قيل إن "العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يستعد ولا يفعل بحسب إرادته يُضرَب كثيرًا... ومَنْ يودعونه كثيرًا يُطالبونه بأكثر" (لو 47:12-48). لأنه كما أخذنا معرفة عظيمة فإننا بالمثل نصير في خطر عظيم. القديس إسطفانوس الطيبي أَكْثَرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِي الَّذِينَ يُبْغِضُونَنِي بِلاَ سَبَبٍ. اعْتَزَّ مُسْتَهْلِكِيَّ أَعْدَائِي ظُلْمًا. حِينَئِذٍ رَدَدْتُ الَّذِي لَمْ أَخْطَفْهُ [4]. جاء المزمور كله يصوِّر ما حل بداود النبي من آلام ليس بسبب جريمة ارتكبها، وإنما بسبب حسد الأشرار له. فما حلّ به كان من أجل الله، إذ سلك في طريق مستقيم. هكذا السيد المسيح حمل الآلام ظلمًا، عوض ما كان يجب أن يحتمله آدم ونسله عدلًا! في حديث السيد المسيح الوداعي يقول لتلاميذه: "لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالًا لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية. وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي. لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب" (يو 15: 24-25). من جهة العدد فيبدو كأن أعداءه بلا عدد، أكثر من شعر رأسه، ومن جهة الإمكانيات فإنهم يعتزون بقدرتهم وإمكانياتهم. مما أحزن قلبه أن ما حلَّ به كان بلا سبب، ظلمًا. لو أنه ارتكب خطأ ما، لاعتذر عنه أو عوَّضهم عنه، لكنه ليس من سبب حقيقي سوى البغضة الدفينة في قلوبهم من جهته وروح العداوة والحسد. إنهم يقابلون حبه بالعداوة، وكما قال في موضع آخر: "يجازوني عن الخير شرًا ثكلًا لنفسي. أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا" (مز 35: 12-13). لقد اُتهم داود ظلمًا، حين خرج شمعي بن جيرا يَسِبَّه ويرشقه بالحجارة، وكان يقول له: "اخرج، اخرج، يا رجل الدماء ورجل بليعال. قد ردَّ الربُ عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه، وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك، وها أنت واقع بشرِّك، لأنك رجل دماء" (2 صم 16: 7-8). بالأكثر احتمل السيد المسيح الآلام عنا ظلمًا. وكما يقول إشعياء النبي: "لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمَّلها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحُبره شُفينا" (إش 53: 4-5). ويقول القديس بطرس: "فإن المسيح أيضًا تألم مرة واحدة من أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يُقَرِّبنا إلى الله، مماتًا في الجسد، ولكن مُحْيىً في الروح" (1 بط 3: 18). بإرادته قَبِلَ كلمة الله المتجسد أن يحقق العدل الإلهي فيه، عن خطايا ومعاصٍ وأخطاء لم يرتكبها، إنما ارتكبها آدم الأول وبنوه. لقد تُمم فيه الناموس، وحمل عقوبته عنا، هذا لم يكسر الناموس قط، لكي يردَّ الضالين إلى البرّ الذي هو مصدره. إن كان داود قد تألم بلا سبب، بسبب حسد البعض له، فإن ابن داود تألم عن البشرية كلها لكي يسدد دينها ويقدِّم لها بره وقداسته. يقول المرتل عن السيد المسيح إن أعداءه أكثر من شعر رأسه، وقد صُلِبَ السيد على جبل الجلجثة أي الجمجمة حيث نُزعَ الشعر عن الرأس، هؤلاء الذين أبغضوه بلا سبب، ونحن كأعضاء جسده لنترك العالم يبغضنا، ولكن بلا سبب، حيث لا نرد بغضة بالبغضة. * قارن أعداءه بشعر رأسه. لهذا فإنهم جُزوا عندما صُلب في موضع الجلجثة (الجمجمة) (مت 27: 33). والآن أيها المسيحي إن كان يلزم أن يبغضك العالم، لماذا لا تسمح له أن يبغضك بلا سبب؟ القديس أغسطينوس * "رددت الذي لم أخطفه" [4]. لهذا فإن المسيح باحتماله الموت ظلمًا دفع ما كان يجب أن يقدمه آدم عدلًا. بسط الأخير يده لثمارٍ حلوة، والأول بسط يديه للصليب المُر. واحد يشير نحو شجرة الموت، والآخر نحو شجرة الخلاص. ارتفع واحد ضد الله وسقط، وتواضع المسيح لكي يرفع كل البشر. جلب آدم الموت لكل أحد، واسترد المسيح الحياة لهم جميعًا[89]. الأب قيصريوس أسقف آرل * المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته. جسده صار خبزًا ليحي موتنا...! المجد للديان الذي دين، وجعل تلاميذه الاثنى عشر يَدينون الأسباط، والجهلة يلومون كتبة الأمم![90] * اجتمعت الأمم وجاءت لتسمع ضيقاته! المجد لابن الصالح الوحيد، الذي رذله أبناء الطالح! المجد لابن البار وحده، الذي صلبه أبناء الشرير! المجد للذي حلّ رباطاتنا، ورُبط من أجل جميعنا! المجد لذاك الجميل الذي أعادنا إلى صورته! المجد لذاك الحسن الذي لم ينظر إلي قُبحنا! المجد لذاك الذي زرع نوره (مز11:97) في الظلمة، فصار باختفائه موضع تعبير، فكشف أسراره، ونزع عنا ثوب قذارتنا (زك 3:3)! المجد لذاك العالي الذي مزج عقولنا بملحه (مت 49:9)، ونفوسنا بخميرته. جسده صار خبزًا ليحي موتنا! السبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 4:69 ، لو 6:16)، وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا![91] * المجد للذي حل رباطتنا، ورُبط من أجل جميعنا! السُبح للغني الذي دفع عنا ما لم يقترضه (مز 69: 4)، وكتب على نفسه صكًا وصار مدينًا! بحمله نيره كسر عنا قيود ذاك الذي أسرنا! المجد لكرَّام عقولنا الخفي! بذاره سقطت على أرضنا فأغنت عقولنا! ثمره جاء بمئة ضعف في كنز نفوسنا! مبارك هو "الراعي" الذي صار حملًا لأجل مصالحتنا! مبارك هو "الغصن" الذي صار كأسًا لأجل خلاصنا! مبارك هو "العنقود" الذي هو دواء الحياة! مبارك هو "الفلاح" الذي صار "قمحًا" لكي يزرع، و"حِزْمة" لكي تقطع! لنُسَبِّحه، فهو الذي أحيانا بتقليمه! لنُسَبِّحه، فهو الذي حمل اللعنة عنا بإكليل شوكه! لنُسَبِّحه، فهو الذي أمات الموت بموته! لنُسَبِّحه، فهو الذي زجر الموت الذي تغلب علينا! القديس مار أفرام السرياني * من جانب آخر، فإن السيد المسيح لم ينطق بغش من فمه (1 بط 2: 22، إش 53: 9).فالذي أظهر كل برّ وتواضع ليس فقط لم يتعرض لهذا النوع من الألم عن استحقاقه، بل وفُرِضَ عليه لتتحقق فيه نبوات الأنبياء، التي أعلنت أنها ستتم فيه، كما جاء في المزامير إذ سبق روح المسيح فتغنَّى قائلًا: "يجازونني عن الخير شرًا" (مز 35: 12). "حينئذ رددت الذي لم أخطفه" (مز 69: 4). "ثقبوا يديَّ ورجليَّ، أحصوا كل عظامي، وهم ينظرون ويتفرسون فيَّ" (مز 22: 16-17). "ويجعلون في طعامي علقمًا وفي عطشي يسقونني ماء" (مز 69: 21). "يقسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 17). لقد احتمل هذا كله لا عن شر ارتكبه، لكن لكي يتم فيه كلام الأنبياء... العلامة ترتليان * واضح أن الشَعْرَ أحيانًا يشير إلى الفضائل وأحيانًا أخرى إلى الخطايا. فعندما تكلم النبي عن خطاياه قال: "هذا الشَعْرُ الذي بلا عدد لرأسي[92]". الأب قيصريوس أسقف آرل وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ [5]. ربما يتساءل البعض: كيف يحسب داود النبي ما حلّ به كان ظلمًا، وطُلب منه أن يرد ما لم يخطفه [4]، بينما يعترف هنا بحماقته وذنوبه؟ أ. إن كان ما حلّ به من أعدائه لم يكن بسبب خطية أو شر أو خطأ ارتكبه ضدهم، لكن داود لا يقدر أن يتبرر أمام الله، فقد يكون هذا تأديبًا من قبل الله عن خطايا ارتكبها خفية. ب. بالنسبة للسيد المسيح الذي بلا لوم ولا خطية، فإن ما احتمله من آلامٍ وصلبٍ وموتٍ ليس عن خطية ارتكبها، وإنما تكفيرًا عن خطايانا، فينسب ما نفعله نحن إليه، لكي يدفع الثمن في جسده بالصليب. لقد قدم نفسه ذبيحة خطية عنا. وكما يقول الرسول: "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية (أو ذبيحة خطية) لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (2 كو 5: 21). ج. يرى البعض أن المزمور كغيره من المزامير أو الأسفار النبوية تتنبأ عن السيد المسيح في عبارات معينة، لكن ليس كل المزمور أو أي أصحاح من الأنبياء يشير بكامله عن السيد المسيح. يقول القديس أغسطينوس ليس في السيد المسيح، قوة الله وحكمته، شيئًا من الحماقة والذنوب، إنما هنا صوت أعضاء جسده التي هي نحن. صوت اعترافنا بجهالاتنا وخطايانا ليغفر لنا خطايانا. لاَ يَخْزَ بِي مُنْتَظِرُوك، يَا سَيِّدُ رَبَّ الْجُنُودِ. لاَ يَخْجَلْ بِي مُلْتَمِسُوك، يَا إِلَهَ إِسْرَائِيلَ [6]. يطلب المرتل من إله السمائيين الإله القدير رب القوات، وإله شعبه المحبوب لديه، أن يسند منتظريه الذين يتكلون عليه، وأن يعطيه نعمة أمام قديسيه. في رأي القديس أغسطينوس إن هذا هو صوت السيد المسيح الرأس الذي يقول: "أنتم تؤمنون بالله، فآمنوا بي" (يو 14: 1). وهو أيضًا صوت الكنيسة كلها التي بحق تقول: "لا يخزَ بي منتظروك يا رب، إله القوات" [6]. لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ. غطَّى الْخَجَلُ وَجْهِي [7]. يؤكد المرتل أن ما حلّ به ليس بسبب خطأ ارتكبه أو شر مارسه ضد أحدٍ، وإنما من أجل الله نفسه. هذا حق بالنسبة لداود، كما بالنسبة للسيد المسيح، وللمؤمنين به. * ليس بالأمر العظيم ما قيل هنا: "احتملت"، فإن ما قيل هنا هو "لأجلك احتملت". أما إن كنت تحتمل لأنك تخطيء، فإنك تحتمل لأجل نفسك، لا من أجل الله. يقول بطرس: "لأنه أي مجد هو إن كنتم تُلطَمون مخطئين فتصبرون؟ بل إن كنتم تحتملون لأنكم تحفظون وصية الله فبالحق تحتملون لأجل الله، وتبقى مكافأتكم إلى الأبد." (1بط 2: 20) * يليق بالمسيحي أن يكون له عدم الخجل هذا، عندما يأتي بين أناس يكون لهم المسيح عثرة. إن كان يستحي من المسيح، فسيُمحى من كتاب الحياة. يليق بك ألا تخزى عندما تُهان من أجل المسيح. عندما يقولون لك: يا عابد المصلوب، يا متعبد لمن مات موتًا شريرًا، يا من تكرم المذبوح! هنا إن كنت تستحي فأنت ميت! انظر العبارة التي لا تخدع أحدًا. "من ينكرني قدام الناس، أنكره أنا أيضًا قدام أبي الذي في السموات" (مت 10: 33؛ لو 9: 26). القديس أغسطينوس صِرْتُ أَجْنَبِيًّا عِنْدَ إِخْوَتِي، وَغَرِيبًا عِنْدَ بَنِي أُمِّي [8]. ما يحزن قلب المرتل أن إخوته، أي بني جنسه، تجاهلوه وحسبوه غريبًا عنهم. أما ما هو أمَرّ من ذلك فإن بني أمه أي أقربائه جدًا الذين يحبهم أيضًا يتجاهلونه. "تجلس تتكلم على أخيك، لابن أمك تضع معثرة" (مز 50: 20). بلغ بالنبي أنه شعر بأن أقرب من له، أباه وأمه قد تركاه. إن أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمني" (مز 27: 10). كما عانى من أحبائه وأقربائه: "أحبائي وأصحابي يقفون تجاه ضربتي، وأقربائي وقفوا بعيدًا" (مز 38: 11). * صار غريبًا عن بني المجمع... لماذا لم يعرفوه؟ لماذا دعوه أجنبيًا؟ لماذا تجاسروا قائلين: لا نعرف من أين هو؟ "لأن غيرة بيتك أكلتني" [8]، بمعنى أنني أضطهد فيهم آثامهم؛ لأنني أحتمل بصبرٍ الذين أنتهرهم؛ لأنني طلبت مجد بيتك، لأنني ضربت بالسوط الذين سلكوا في هيكلك بدون لياقة (يو 2: 15). القديس أغسطينوس وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ وَقَعَتْ عَلَيَّ [9]. كان المرتل مملوءًا غيرة على بيت الرب، كما على الوصية الإلهية، وعلى خلاص كل نفس وقدسية الحياة. "أهلكتني غيرتي، لأن أعدائي نسوا كلامك" (مز 119: 39). * لاحظوا وجود نوعين من الغيرة، نوع مملوء حبًا والآخر مملوء بغضة. أشير إلى الأول في الكلمات: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9)، والآخر في الكلمات: "أمسكت الغيرة بالشعب الجامد، والآن تلتهم النار أعداءك" (راجع إش 26: 11)[93]. القديس أغسطينوس * إن السيد له المجد قد طَرد الباعة من الهيكل مرتين. الأولى في بدء كرازته (يو 2: 12-17)، والثانية قبل آلامه (مت 21: 12). وقد تم المكتوب في سفر المزامير: "غيرة بيتك أكلتني" (مز 69: 9). * لكن كيف يمكننا أن نصير مقتدين بالمسيح؟ بممارسة كل شيء من أجل المصلحة العامة وليس لمجرد نفعنا الخاص. يقول بولس: "لأن المسيح أيضًا لم يُرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (رو 15: 3). ليته لا يطلب أحد شيئًا لنفسه. بالحق يطلب الإنسان ما هو لخيره، عندما يتطلع إلى خير قريبه. ما هو لخير الأقرباء هو خيرنا نحن، فنحن جسد واحد، وأعضاء لبعضنا البعض[94]. القديس يوحنا الذهبي الفم * في المزمور الثامن والستين (LXX) يقول المخلص إنه لم يأتِ لأجل مسرته بل لأجل مسرة الله الآب. إذ يقول: "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني". (يو 6: 38) اعترض اليهود وحكموا عليه بالموت كخاطئ. لذا يضع المرتل نفسه في موضع المسيح ويقول: "تعييرات معيريك وقعت عليَّ" (مز 69:9)[95] الأب أمبروسياستر وَأَبْكَيْتُ بِصَوْمٍ نَفْسِي، فَصَارَ ذَلِكَ عَارًا عَلَيَّ [10]. إذ بكى المرتل في تذلل أمام الله رافق البكاء بالصوم. يقول في موضع آخر: "أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13). يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كان صائمًا، أي جائعًا وعطشانًا عندما تركه الذين آمنوا به. * إنه جوعه أن يؤمن الناس به، وعطشه عندما قال للمرأة: أنا عطشان، أعطيني لأشرب (يو 4: 7)، نعم كان عطشانًا إلى إيمان أولئك الذين قال عنهم: "يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34). ولكن ماذا قدَّم له هؤلاء الذين كان يعطش إليهم؟ قدموا خلًا. الخل Vetus يُدعى أيضًا قديمًا old. لقد أعطوه الإنسان القديم ليشرب، ولم يريدوا أن يتجددوا... لقد قبل أن يصوم عن أن يقبل المرارة... وخلال هذا الصوم قبل العار، فصار موبخًا لأنه لم يقبل الشر. القديس أغسطينوس * من لا يصوم ينفضح ويتعرى ويتعرض للجراحات. لو أن آدم ستر نفسه بالصوم لما صار عريانا (تك 3: 7). تحررت نينوى من الموت بالصوم. والرب نفسه قال: "هذا الجنس من الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم" (راجع مت 17: 21؛ مر 9: 29)[96]. القديس أمبروسيوس * بعد أن أعطيتِ اهتمامًا عظيمًا لأفكاركِ، يلزمكِ أن تلبسي سلاح الصوم، مترنمة مع داود: "أدَّبتُ بالصوم نفسي" (راجع مز 69: 10). "أكلتُ الرماد مثل خبزٍ" (مز 102: 5). "أما أنا فعندما أقلقتموني كانت ثيابي مُسحًا" (مز 35: 13 الفولجاتا) طُرِدَتْ حواء من الفردوس، لأنها أكلت من الثمرة الممنوعة، وإيليا من الجانب الآخر بعد أربعين يومًا من الصوم حُمِلَ على مركبة نارية إلى السماء[97]. القديس جيروم جَعَلْتُ لِبَاسِي مِسْحًا، وَصِرْتُ لَهُمْ مَثَلًا [11]. كانت علامات الحزن عند اليهود هي البكاء، والصوم، ولبس المسوح؛ وأحيانًا وضع التراب والرماد. يقول المرتل: "حوَّلت نوحي إلى رقصٍ لي؛ حللت مُسحي، ومنطقتني فرحًا" (مز 30: 11). أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا؛ أذللت بالصوم نفسي" (مز 35: 13). * جعلت لباسي مسحًا، بمعنى وضعت ضدهم جسدي لكي ينفسوا عن غضبهم، أخفيت عنهم لاهوتي. إنه "مسح"، لأن جسدي كان قابلًا للموت، لكي يدين الخطية في الجسد. القديس أغسطينوس يَتَكَلَّمُ فِيَّ الْجَالِسُونَ فِي الْبَاب،ِ وَأَغَانِيُّ شَرَّابِي الْمُسْكِرِ [12]. كانت مجالس القضاء عادة تقام عند أبواب المدينة (أي 29: 7-17؛ تث 25: 7؛ يش 20: 4؛ را 4: 1-2؛ 1 مل 22: 20؛ مرا 5: 14). وكان الهدف منها أنه إن أراد مُتَّهم أن يدخل المدينة يلزم دراسة حالته، فلا يُسمَح للظلم أن يُمارَس داخل المدينة. داود النبي الملك والقاضي صار كمن هو تحت محاكمة ظالمة، أو تحت سخرية من الذين أقاموا أنفسهم قضاة يحكمون عليه. وجاءت محاكمة ابن داود سواء في مجامع دينية أو دور قضاء مدينة تمثل فضيحة للطبيعة البشرية التي تود أن تحكم على ديان المسكونة كلها. وَجَدَ السكارى الذين يسلكون بلا تعقل في منظر المحاكمة مجالًا للسخرية، يرون في داود مثلًا وهزءًا وأضحوكة. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المُسكِر هو "عرقي بلح" المستخرج من البلح. * إخوتي، من يخاف الله يذكر كلمات الرسول بطرس "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (١ بط ٥: ٨). فإن لم يستطع أن يبتلعه عن طريق الانحراف به نحو الشر، يحاول أن يفسد حياته - إن كان ممكنًا - عن طريق انتهاره للناس وقبوله وشايات الألسنة المفترسة، وبهذا يسقط في فخ إبليس. فمتى عجز الشيطان عن إفساد حياة شخص بريء، حاول إهلاكه بإسقاطه في الشك القاسي من جهة أخيه، والحُكْم عليه بتسرُّع، ممَّا يُسقطه في فخاخه وبهذا يسهل افتراسه. ومن يستطيع أن يعرف أو يتكلَّم عن كل حيل إبليس وشباكه؟! ومع هذا أشير إلى ثلاث طرق من حيله حَذَّرنا الله ضِدَّها على فم الرسول. أولًا: "لا تكونوا تحت نير مع غير المؤمنين، لأنَّه أية خُلطة للبرّ والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة؟!" (2 كو 6: 14) ثانيًا: أن لا نقبل وشاية الألسن المفتريَّة... ثالثًا: ألاَّ نكون في أدنى شك مُضِر، لا أساس له، من جهة أي خادم من خدَّام الله، متذكرين كلمات الرسول: "لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب الذي سينير خفايا الظلام، ويظهر آراء القلوب. وحينئذ يكون المدح لكل واحدٍ من الله" (١ كو ٤: ٥). كما قيل أيضًا أن الأمور التي من الخارج تخصُّكم أمَّا خفايا الأمور فتخص الرب إلهكم. إنه من الواضح أن مثل هذه الأمور لا تحدث في الكنيسة دون أن يحزن القدِّيسون والمؤمنون بسببها. ليت الله ذاته يكون عزاءنا هذا الذي أمرنا بأن نحزن وأوصانا ألاَّ نكون فاترين في الحب بسبب هذه الشرور، إنَّما نصبر إلى النهاية حتى نخلص. فلا تضيفوا إلى آلامي شيئًا بشكوككم التي لا أساس لها، من جهة أي إنسان. أتوسَّل إليكم ألاَّ تفعلوا هذا، حتى لا أقول لكم إنكم قد زدتم آلام جروحي. لأنَّه من السهل عليَّ احتمال تعييرات من هم يتلذَّذون بشرورهم، هؤلاء الذين قيل عنهم بخصوص المسيح نفسه "صرت لهم مثلًا. يتكلَّمون فيّ. الجالسون في الباب. (وصرت) أغاني شرابي المسكر" (مز ٦٩: ١٢). هذه التعييرات منهم أسهل عليَّ من أن تصدر من أولئك الذين تعلَّموا الصلاة وطلبوا السعادة. لأنَّه لماذا يجلس مثل هؤلاء عن الباب ويراقبون الساقطين ولو كان الساقط أسقفًا أو كاهنًا أو راهبًا أو راهبة. هؤلاء الذين لهم رجاء للإيمان والقيام؟! إن لم يكن وقت لكثرة رحمتك، ماذا نفعل من أجل كثرة آثامنا...؟ لماذا الرحمة؟ في غفران الخطايا! ولماذا الحق؟ في تحقيق الوعود! القديس أغسطينوس 2. صرخة لأجل الخلاص أَمَّا أَنَا فَلَكَ صَلاَتِي يَا رَبُّ فِي وَقْتِ رِضًى. يَا اللهُ بِكَثْرَةِ رَحْمَتِكَ اسْتَجِبْ لِي بِحَقِّ خَلاَصِكَ [13]. لم يجد المرتل من يرفع إليه شكواه، فقد تكتَّلت كل القوى ضده، وسخر الجميع به، لذا لم يعد أمامه سوى أن يرفع شكواه إلى العرش الإلهي. فإن الطغاة والظالمين لا يقدرون أن يغلقوا هذا الباب أمام المظلومين. يبقى باب العرش الإلهي مفتوحًا، والوقت دائمًا هو وقت رضى، فالله لا يغلق أبواب مراحمه في أوقات معينة. فإن هذه هي مسرته أن يستمع إلى صرخات المظلومين والمضطهدين. الله يود أن يسمع، ليس من أجل استحقاقات الصارخين، ولا من أجل لجاجتهم، وإنما من أجل كثرة رحمته، واهتمامه بخلاص الجميع، وتمتع الكل بالحق الإلهي. "هكذا قال الرب: في وقت القبول استجبتك وفي يوم الخلاص أعنتك" (إش 49: 8). "اطلبوا الرب مادام يوجد، ادعوه وهو قريب" (إش 55: 6). "هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص" (2 كو 6: 2). نَجِّنِي مِنَ الطِّينِ فَلاَ أَغْرَقَ. نَجِّنِي مِنْ مُبْغِضِيَّ، وَمِنْ أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ [14]. سبق أن رأينا أن الطين يشير هنا إلى الأشرار، فإن كان الأشرار يضغطون بالاضطهادات على الصديقين لكي يغرقوا، فإن الصديقين من جانبهم يطلبون من الله أن يُحَرِّر نفوسهم حتى لا تسقط تحت قيود الطين، فتتسخ نفسه بالشرور. يقدم الأشرار اتهامات ظالمة، لكي يشوهوا صورته، فيكون كمن هو غارق في الطين، وتحوطه البغضة من كل جانب، فلا يقبل الأشرار أقل من موته والخلاص منه. "ولما فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًا فصارت شباكهم تتخرَّق" (لو 5: 7). شباكهم امتلأت سمكًا عن طريق المعجزة، لكي يثق التلاميذ بأن عملهم التبشيري لا يضيع سُدى، وهم يلقون شباكهم على جمهور الوثنيِّين والضالِّين. لكن لاحظوا عجز سمعان ورفاقه عن جذب الشبكة، فقد وقفوا مبهورين صامتين، وأشاروا بأيديهم إلى إخوانهم على الشاطئ ليمدُّوا إليهم يد المساعدة. معنى ذلك أن كثيرين ساعدوا الرسل القدِّيسين في ميدان عملهم التبشيري، ولا زالوا يعملون بجد ونشاط... لازالت الشبكة مطروحة، والمسيح يملؤها بمن يخدمونه من أولئك الناس الغارقين في بحار العالم العاصفة والثائرة، كما ورد في المزامير: "نجِّني من الطين فلا أغرق. نجِّني من مبغضيَّ، ومن أعماق نفسي" (مز 69: 14). البابا كيرلس الكبير لاَ يَغْمُرَنِّي سَيْلُ الْمِيَاهِ، وَلاَ يَبْتَلِعَنِّي الْعُمْق،ُ وَلاَ تُطْبِقِ الْهَاوِيَةُ عَلَيَّ فَاهَا [15]. سبق فأعلن أن جسده قد بلغ إلى أعماق المياه؛ ها هو يطلب ألا تنحدر نفسه إلى أعماق المياه، أي لا تسقط تحت سلطان الأشرار، فيشاركهم شرورهم. يرى المرتل أن الأحزان والمضايقات والاضطهادات قد تكتلت ضده. ليس من يقدر أن ينقذه منها سواء ساكن السماء، فقد انهارت عليه سيول مياه جارفة، وفتحت الأعماق فاهها لتبتلعه، وأبواب الهاوية تتلقفه. *دعونا نفحص خدود العريس ونستمع للعروس التي تتكلم عنها "خداه كخميلة الطيب وأتلام رياحين ذكية" يعني النص أن خديه يشبهان كوبًا للشرب أو آنية ليست عميقة ولا عالية ويعتبر هذا التشبيه مدحًا. فإذا مدح أي شخص نوع من التعليم المفتوح البسيط النقي مثل هذه الآنية فإن عمقه لا يمكن أن نخطئه. كما يقول النبي: "لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا تطبق الهاوية عليَّ فاها" (مز 15:69)[98]. القديس غريغوريوس النيسي * "لا تطبق الهاوية عليَّ فاهها" [15]، لأنها عندما تستقبل الخطاة البائسين دون نوالهم دواء التوبة، تُغلق من فوق وتُفتح من تحت. فيكون في الهاوية طريقًا متسعًا، ولكن لا يوجد تنفّس حُر بعد، حينما تضغط الأبواب من فوق إلى أسفل[99]. الأب قيصريوس أسقف آرل * "إذًا، مَنْ يظن أنه قائمٌ فلينظر أن لا يسقط"، لأنّ الذي سقط له فكرٌ واحدٌ فقط، هو أن يقوم مرةً ثانيةً، أمّا الذي هو قائمٌ ثابتٌ فعليه أن يكون متيقِّظًا حتى لا يسقط. والسقطات لها أنواعٌ مختلفة. والذين سقطوا فقدوا بلا شكٍّ رسوخ أقدامهم. أما الذي احتفظ برسوخ قدميه فينبغي ألاّ يحكم على الذي سقط بأنه أدنى منه، بل عليه أن يخاف على نفسه لئلاّ يسقط ويهلك ويذهب إلى هوّةٍ أعمق. لأنه حيث إنّ صراخه لأجل النجدة يكون مكتومًا بسبب عمق الهوّة، فربما لا يستطيع أن يطلب معونةً، لأنّ الإنسان البار يقول:" (لعل) العمق لا يبتلعني ولا تُطبِق الهاوية عليَّ فاها" (مز 69: 15). القديسة الأم سنكليتيكي اسْتَجِبْ لِي يَا رَبُّ لأَنَّ رَحْمَتَكَ صَالِحَةٌ. كَكَِثْرَةِ مَرَاحِمِكَ الْتَفِتْ إِلَيَّ [16]. صار ملجأ المرتل الوحيد هو مراحم الله الصالحة والفيَّاضة. "التفت إليَّ وارحمني، لأني وَحْدٌ ومسكين أنا" (مز 25: 16). * "استجب لي يا رب، لأن رحمتك عذبة". إنه يقدِّم هذا سببًا لضرورة أن يُستجاب له؛ لأنه عذبة هي رحمة الله... من يسقط في ضيق يلزم أن تكون رحمة الله له عذبة. بخصوص حلاوة رحمة الله، انظروا ما يقوله الكتاب في موضع آخر: "مثل مطر في وقت جفاف، هكذا حسنة هي رحمة الله في الضيق" (سي 17: 28). ما يقوله هناك حسنة (جميلة) يقول عنها عذبة. حتى الخبز لا يكون حلوًا ما لم يسبقه جوع. لهذا فإنه إن كان الرب يسمح لنا بتعب فهو رحوم. فإنه لا ينزع المعونة بل يلهب فينا الشوق إليها. القديس أغسطينوس وَلاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنْ عَبْدِكَ لأَنَّ لِي ضِيقًا. اسْتَجِبْ لِي سَرِيعًا [17]. حَجْب وجه الله يحطم النفس، لأن الله هو مصدر حياتها، تحتاج دومًا إلى عنايته الإلهية، والتمتع بالشركة معه. حَجْب الوجه هو موت للنفس لذا يصرخ طالبًا النجدة، لا بإزالة الاتهامات الظالمة والضيقات وإنما بظهور وجهه الإلهي عليه. * إنني في ضيق، حزني قد تقدَّم، فلتتبعه رحمتك. القديس أغسطينوس اقْتَرِبْ إِلَى نَفْسِي. فُكَّهَا. بِسَبَبِ أَعْدَائِي افْدِنِي [18]. غالبًا ما يشعر الإنسان في لحظات الضيق كأن الله قد ابتعد عنه، وسلَّمه لمضايقيه، أو للضيقات. هنا يصرخ المرتل إلى الله لكي يقترب من نفسه ويفكها، أي يخلِّصها. يشعر المرتل كأن الأعداء قد وضعوا نفسه في موقف لا يمكن لإمكانيات البشرية أن تحلها، فمن أجل هؤلاء الأعداء القساة يتدخل الله بكونه المخلص الوحيد. تدَّخُل الله بمراحمه ونعمته هو الدرس العملي ليدرك الأعداء أن حكمتهم وقدرتهم وسلطانهم كلا شيء أمام الله. في موضع آخر يصرخ داود النبي: "إلى متى تنساني كل النسيان؟ إلى متى تحجب وجهك عني؟ إلى متى أجعل همومًا في نفسي، وحزنًا في قلبي كل يوم؟ إلى متى يرتفع عدوي عليَّ؟ انظر واستجب لي يا رب إلهي... لئلا يقول عدوي قد قويت عليه، لئلا يهتف مضايقي بأني تزعزعت" (مز 13: 1-4). يطلب المرتل من الله أن يقترب من نفسه ليحلها من رباطاتها، ويخلصها بسبب أعدائها. هنا يرى القديس أغسطينوس أن هذه الطلبة عجيبة، وأن الخلاص إما أن يكون خفية أو علنًا فالله لم ينقذ أجساد الإخوة المذكورين في سفر المكابيين (2 مك 7) من نار المُضطهِدين، بينما أنقذ أجساد الثلاثة فتية المذكورين في سفر دانيال (دا 3: 26). أنقذ نفوس المجموعة الأولى سرًا، وأنقذ أجساد المجموعة علانية. يرى القديس أغسطينوس إنه لو طبقنا هذا على شخص السيد المسيح، فإنه سمح له أن يخلِّص نفسه سرًا، حيث نزل إلى جحيم وتمم رسالته من جهة الذين كانوا مسبيين، ولكن من أجل الأعداء المقاومين خلص جسده أيضًا حيث قام من الأموات وصعد إلى السماوات، فلم يرَ جسده فسادًا. أَنْتَ عَرَفْتَ عَارِي وَخِزْيِي وَخَجَلِي. قُدَّامَكَ جَمِيعُ مُضَايِقِيَّ [19]. كثيرًا ما يشير الكتاب المقدس إلى عار الصليب الذي في حقيقته هو قوة الله للخلاص. وإذ يرتبط المؤمنون- كجسد المسيح- بالمصلوب، يضايقهم العالم، متهمًا إياهم بالعار والخزي والخجل. يُميِّز القديس أغسطينوس بين هؤلاء الثلاثة، متطلعًا إلى العار بكلمات الاستخفاف التي تصدر ضدهم. والخزي هو اتهامهم أنهم بلا ضمير، أو تصرفاتهم تنخر في الضمير، وأما الخجل فهو أن تصرفاتهم تسبب احمرارًا لوجه. ما هي جريمة المسيحيين- أعضاء جسد المسيح- التي تسبب عارًا وخزيًا وخجلًا؟ يقول القديس أغسطينوس: [يُوَجَّه الاتهام ضد المسيحيين، والجريمة الحقيقية هي أنهم مسيحيون.] عانى داود النبي الكثير من شاول الملك، كما من ابنه أبشالوم المتمرد. أما بخصوص ما لحق بالسيد المسيح من إهاناتٍ وعارٍ وخزيٍ فقد قيل عنه: "أما أنا فدودة لا إنسان، عار عند البشر، ومحتقر الشعب. كل الذين يرونني يستهزئون بي. يفغرون الشفاه، وينغضون الرأس، قائلين اتكل على الرب فلينجه، لينقذه لأنه سُرّ به" (مز 22: 6-8). "من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). "قدامك جميع مضايقي" [19]. ما أشتكي منه ليس افتراءً، فأنت يا الله العالم بكل شيء، وما يفعله الأعداء الأشرار في الخفاء منظور بالنسبة لك. كان داود يشعر أنه يشبه حَمَلًا لا حول له، وقد التف حوله ذئاب لا عدد لها. الْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي فَمَرِضْتُ. انْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَزِّينَ فَلَمْ أَجِدْ [20]. حتى النساء عندما بكين لما رأين آلام السيد المسيح، قال لهن: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ، بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن" (لو 23: 28). بلا شك أن الضيق والشعور بالظلم يسبب انكسارًا للقلب، ويؤدي إلى إصابة الجسد بالمرض. فالدواء أو العلاج هو وجود معزٍ رقيق المشاعر، يشاركه آلامه. لكن من يستطيع أن يدخل قلب المتألم ويواسيه مثل الله الكلي الحب والحنو؟ يظن بعض الدارسين أن موت السيد المسيح السريع كان بسبب شدة الحزن والضيق، الأمر الذي سبب انكسارًا لقلبه. لكن حقيقة موته- مهما تكن الأسباب- فهي بناء على سلطانه أن يضع نفسه وأن يأخذها، فقد قبل العار والخزي كما قبل الآلام الجسمانية بإرادته من قبل حبه للبشرية، ولأجل خلاص العالم. إذ تأنس قبل الآلام جاء عنه: "فصرخ يسوع أيضًا بصوتٍ عظيم، وأسلم الروح" (مت 27: 50؛ راجع مر 15: 37؛ لو 23: 46). "وفي الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوتٍ عظيمٍ، قائلًا: ألوي، ألوي، لما شبقتني. الذي تفسيره: إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" (مر 15: 34). "ومعزين لم أجد"، بقدر ما تكاتلت كل القوى المعادية ضده، لم يكن حوله أحد من المعزين. فقد خانه أحد تلاميذه، وأنكره آخر، وتركه الكل في اللحظات المُرَّة. حتى في البستان لم يستطع التلاميذ أن يسهروا معه ساعة واحدة. يقول في إشعياء النبي: "قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب، لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). على الصليب، إذ حمل خطايانا، شعر كلمة الله المتجسد كأن الآب قد حجب وجهه عنه. هذه الصورة من التخلي عنه من الجميع فريدة، داود النبي لم يعانِ منها هكذا. * تطلع النبي بعينيّ النبوة إلى يسوع المتألم فرآه آتيًا من آدوم بثياب حُمر فسأله: "ما بال لباسك مُحمرّ وثيابك كدائس معصرة" (إش 63: 2). رأى لباسه قد أغرق بالدماء، وثيابه كمن قد اِجتاز معصرة، فانسكبت دماؤه كلها. وقد صور يسوع نفسه حاله على لسان أنبيائه فقال: "قد دُستُ المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد" (إش 63: 3). "اِنتظرتُ رقَّة فلم تكن، ومعزِّين فلم أجد" (مز 69: 20). "أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اِكتنفتني. فغروا علي أفواههم كأسد مفترس مزمجر. لقد أحاطت بي كلاب جماعة من الأشرار اِكتنفتني" (مز 22: 12، 13، 16). "فنظرت ولم يكن معين وتحيرت إذ لم يكن عاضد" (إش 63: 5). ربي... لقد اِجتزتَ المعصرة وحدك... أُهرق دمك الزكي وليس من يدافع ولا من يترفق! القديس مار يعقوب السروجي * الذين يقابلوننا في الطريق - الآتون إلينا من الشرق أو من أرمينيا أو من أية بقعة في الأرض - تنساب دموعهم كالنهر كلما رأونا، كانوا ينوحون وهم يرافقوننا في الطريق في أنينٍ! أقول هذا لكي تعرفي أن لي أحباء كثيرين، يشاركوننا عذابنا، وهذه تعزية كبيرة لنا. فلو أن الأمر على خلاف ذلك لكان الوضع ثقيلًا يصعب احتماله، وهذا ما يشتكي منه النبي قائلًا: "انتظرت إنسانًا يشاركني آلامي فلم يكن، ومعزِّين فلم أجد" (مز 69: 20). يا لها من تعزية عظيمة أن يجد الإنسان العالم كله يشاركه أحزانه...! إننا نجد أيضًا في ذكرى الآلام مصدرًا للفرح المستمر. إذ تفكرين في هذا انزعي عنكِ غيم الحزن، واكتبي لي باستمرار عن صحتك. تأملي هذا أن الأمور المفرحة والمحزنة في الحياة الحاضرة تعبر جميعها. فإن كان الباب ضيقًا والطريق كربًا، فإنه مهما يكن الأمر فهو طريق! اذكري هذه العبارة التي كررتها لك كثيرًا: "إن كان الباب واسعًا والطريق رحبًا فإنه هو أيضًا مجرد طريق" (راجع مت 7: 13). عندما تتركين الأرض وتنحلين عن الجسد، ابسطي جناح الحكمة، حتى لا يهلكك سواد الدخان. إنها أمور أرضية، لا تنسحبي إلى الأرض! إن رأيتي ظلمًا كثيرًا صنعوه بنا، وقد سيطروا على العاصمة، وتمتعوا بكرامات، وساروا في مواكب الحرس، رددي هذه العبارة "واسع هو الباب ورحب هو الطريق الذي يؤدى إلى الهلاك". بالأحرى أبكي عليهم. ونوحي من أجلهم! إنهم يصنعون آثامًا في العالم، وعوض تفكيرهم في خطاياهم يتمتعون باحترامات الناس. سيذهبون ومعهم احترامات الناس بكونها جزاءًا قد نالوه! [100] القديس يوحنا الذهبي الفم * إذا أذابت الحرارة الشمع فإنّ البرودة تكون سببًا في صلابته. فإذا جعل المديح النفس تفقد عافيتها، إذًا فمن المؤكَّد أنّ التوبيخ والإهانة يقودان النفس بكل تأكيد إلى قمم الفضيلة. يقول الكتاب: "اِفرحوا وتهللوا... إذا قالوا عليكم كل كلمةٍ شريرةٍ من أجلي كاذبين" (مت 5: 12-11)، وفي مكانٍ آخر: "في الشدّة فرّجتَ عني" (مز4: 1 حسب السبعينية)، وأيضًا: "انتظرَت نفسي انتهارًا وإذلالًا" (مز 68: 20 حسب النص). وتوجد أيضًا آيات لا حصر لها مثل هذه في الكتاب المقدس نافعة للنفس. القديسة الأم سنكليتيكي وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلًا [21]. هذا لم يحدث مع داود النبي، لكنه حدث حرفيًا مع السيد المسيح عند صلبه، كما ورد في الإنجيل المقدس. يرى البعض أنه قُدم له على دفعتين أو ربما على ثلاث دفعات. أ. قدموا له خلًا ممزوجًا بالمر (مت 27: 34). ب. قدموا له خلًا غير مضاف إليه مُرّ (مت 27: 48). ج. ربما قدم له خمر ممزوج بمرٍ. كان شرب الخل شائعًا بين الجنود الرومان، أما الخمر الممزوج بالمُر فبين اليهود. وهذا كله كان يُقدَّم من أجل التخفيف عن الآلام التي للصلب غير المحتملة، لكن هنا في المزمور ورد ذلك كنوعٍ من الاستخفاف والسخرية، وليس كنوعٍ من الشفقة على المصلوب. ورد في لو 23: 36، أنه قُدم له كنوعٍ من السخرية. ورد المُر gall في النسخة العبرية للكتاب المقدس 11 مرة، 8 مرات جاءت بمعنى المُر، ومرة بمعنى السم، ومرة بمعنى حقد venom، ومرة بمعنى الشوكران hemlock، وهو نبات يُستخرج من ثمره شراب سام. هذا المر غير مستخرج من كبد حيوانات، وإنما من نباتات أو من جذورها (تث 29: 18). رأينا في حديثنا عن صوم السيد المسيح، أنه كان جائعًا وعطشانًا لإيمان الناس به لأجل خلاصهم. لقد عطش، فقدموا له خلًا، الذي معناه "قديم". يطلب للبشرية التجديد المستمر ليحملوا بالإيمان صورته، لكنهم مصرون على تقديم الخل، أي الحياة القديمة. * كنت عطشانًا، فقدموا لي خلًا، بمعنى كنت مشتاقًا لإيمانهم، ولكنني وجدت فيهم القدم (الإنسان القديم لا الجديد). القديس أغسطينوس * هكذا تكلم أيضًا داود النبي مشيرًا إلى الصليب قائلًا: "ثقبوا يديَّ ورجليَّ" (مز 22). لم يقل "سيثقبون"، بل "ثقبوا"، و"أُحصي كل عظامي" (مز 22: 17). ويصف أيضًا ما يحدث بين الجنود قائلًا: "مقتسمون ثيابي بينهم وعلى لباسي يقترعون" (مز 22: 18). وأشار أيضًا إلى تقديمهم المر إليه ليأكل، وخلًا ليشرب فقال: "ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). القديس يوحنا الذهبي الفم * بالرغم من احتمال كل هذه الآلام إذ جاء لخلاص الجميع إلاّ أن الشعب (اليهودي) جازاه مجازاة شريرة. قال يسوع "أنا عطشان". هذا الذي أخرج لهم الماء من الصخرة الصماء، يطلب ثمر كرمته التي زرعها، فماذا فعلت كرمته؟ هذه الكرمة التي بحسب الطبيعة هي من الآباء القديسين، لكنها بحسب قلبها مثل سدوم. "لأن جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة" (تث 32: 32). قدمت هذه الكرمة لسيدها إسفنجًا مغموسًا خل فوق قصبة. "ويجعلون في طعامي علقمًا، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). ها أنت ترى وضوح النبوة وصفاءها! لكن أي نوع من العلقم وضعوا في فمه؟ "أعطوه خمرًا ممزوجًا بمرّ" هذا المر طعمه كالعلقم شديد المرارة. أبهذا تجازي الرب أيتها الكرمة؟! أهذه تقدمتك له؟! بالحقيقة قال إشعياء في القديم مولولًا عليك: "كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة. فنقبّه ونقّىّ حجارته وغرسه كرم سورق... فانتظر أن يصنع عنبًا (إذ عطش طالبًا عنبًا) فصنع شوكًا" (راجع إش 5: 1-2). هل رأيت الإكليل التي تزينت به؟! لكن ماذا أفعل؟ "سأوصي السحب أن لا تمطر عليه مطرًا" (راجع إش 50: 6). لأن السحب هي الأنبياء الذين نُزعوا من بينهم وصاروا للكنيسة...[101] القديس كيرلس الأورشليمي * لقد قبَّل يهوذا ليس لأن المسيح يعلمنا أن نتظاهر، وإنما يعلمنا أنه لم يرد أن يهرب من الخائن. لهذا لم يحرم يهوذا من تقديم التزام الحب له. مكتوب: "كنت رجل سلام مع الذين يبغضون السلام" (مز 69: 21 LXX)[102]. القديس أمبروسيوس * من بين الأمور الأخرى التي تنبأوا بها عنه، مكتوب: "يجعلون في طعامي علقمًا (سمًا)، وفي عطشي يسقونني خلًا" (مز 69: 21). نحن نعرف في الإنجيل كيف حدثت هذه الأمور. أولًا قدموا علقمًا. أخذه وذاقه وتفله. فيما بعد وهو على الصليب معلقًا فلكي تتحقق هذه النبوات قال: "أنا عطشان" (يو 19: 28). أخذوا إسفنجة مملوءة خلًا ووضعوها على قصبة، وقدموها له حيث كان معلقًا. أخذها وقال: "قد أكمل" (يو 19: 30). ماذا يعني: "قد أكمل"؟ كل ما قد تنبئ له قبل آلامي قد تحقق[103]. القديس أغسطينوس 3. مجازاة الأشرار المقاومين لِتَصِرْ مَائِدَتُهُمْ قُدَّامَهُمْ فَخًّا، وَلِلآمِنِينَ شَرَكًا [22]. ترتبط هذه العبارة بالعبارات الثلاث التالية [23-25]. وكما يقول القديس أغسطينوس لم يكن هذا القول إلا نبوة قيلت في أسلوب يبدو كمن يشتهي للأعداء هذا. فالسيد المسيح لم يُصَلِّ ضد أعدائه، وإنما من أجلهم (لو 23: 34). لقد صار طعامهم ليس موضوع لذةٍ وسرورٍ، وإنما كفخٍ يصطادهم، كما يحدث مع الحيوانات عند اصطيادهم بوضع طُعم لها. فما يظنونه طعامًا يقوتهم، يصير لهم فخًا لهلاكهم. وما يحسبونه لسلامهم، إذا به يكون لسقوطهم. فيما هم يظنون أنهم قد صاروا في أمان بعد صلب السيد المسيح، إذا بهم في فخٍ لا يعرفون كيف يهربون منه. في جوعه وعطشه إلى إيمانهم وحبهم يود أن يهبهم ذاته حياة أبدية، فقدموا له عوض الطعام والشراب علقمًا وخلًا. جحدوا الإيمان به ونصبوا فخًا خفيًا للخلاص منه. أما هو فحزين عليهم، لأنهم في طعامهم يُنصب لهم الفخ. طعامهم أن يبتلعوه هو ومؤمنيه وهم أحياء. يقول المرتل: إذًا لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا" (مز 124: 3). بقوله "قدامهم" يُعلن أنه يود أن يكتشفوا الخطر الذي حلّ بهم، فيعترفوا بخطئهم ويهربوا من الفخ الذي نصبوه لأنفسهم. * قد يبدو لقليلي الفهم أن بعض النصوص الكتابية مناقضة لشريعة السيد المسيح الآمر بمحبة الأعداء. فلقد جاء في العهد القديم كثير من الأدعية ضد الأعداء، مثال ذلك "لتَصِر مائدتهم... فخًّا" (مز 22:69)، "ليكن بنوهُ أيتامًا وامرأته أرملة" (مز 9:109) وغيرها من تلك العبارات التي جاءت في نفس المزمور متنبئة عن يهوذا. أما في العهد الجديد فلقد جاءت بعض النصوص التي يبدو فيها شيء من التعارض مع وصية الرب ووصية الرسول "باركوا لاعنيكم". مثال ذلك ما قاله رب المجد عندما لعن المدن التي لم تقبل كلمته (مت 20:11-25)، وما جاء على لسان الرسول عن شخص معين ليجازه الرب حسب أعماله" (2 تي 14:4)[104]. القديس أغسطينوس لِتُظْلِمْ عُيُونُهُمْ عَنِ الْبَصَرِ، وَقَلْقِلْ مُتُونَهُمْ دَائِمًا [23]. "الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله" (2 كو 4: 4). اقتبس الرسول بولس هذا النص في حديثه عن اليهود الذين رفضوا الإنجيل (رو 11: 10). الذين قاوموا السيد المسيح وكنيسته يفقدون روح الفهم والمعرفة ويصيرون عميان روحيًا. جاءت كلمة "متون" في الترجمة السبعينية: "ظهور"، فإن قوة الإنسان في حقويه، فإن كان ظهر الإنسان (أو حقويه) ضعيفًا لا يقدر أن يمارس عملًا ما، بل غالبًا ما يكون ظهر محنيًا أو في حالة شبه فالج. * هذا يعني أنه ليت تعزياتهم وخيراتهم تتحول إلى هلاكهم، وأن يكونوا مفتوحين لكي يهاجمهم كل أحدٍ[105]. القديس يوحنا الذهبي الفم * لما ضُرب إخوة يوسف بالحسد قدَّموا ظهورهم لا وجوههم للحب الأخوي، هكذا أيضًا اليهود التعساء فضَّلوا الحسد عن الحب لمصدر الخلاص، الذي جاء إليهم. مثل هؤلاء قيل عنهم في المزمور: "لتظلم عيونهم عن البصر، ولتكن ظهورهم واهية دائمًا" [23]. الأب قيصريوس أسقف آرل * كانت هذه (الظلمة أثناء الصلب) علامة واضحة لليهود أن أذهان صالبيه قد التحفت بالظلمة الروحيَّة، إذ حدث عَمَى جزئي لإسرائيل (رو ١١: ٢٥)، وقد لعنهم داود في محبَّته لله، قائلًا: "لتَظلمّ عيونهم فلا ينظروا" (مز 69: ٢٣). انتحبت الخليقة ذاتها ربَّها، إذ أظلمت الشمس، وتشقَّقت الصخور، وبدا الهيكل نفسه كمن اكتسى بالحزن، إذ انشقَّ الحجاب من أعلى إلى أسفل. وهذا ما عناه الله على لسان إشعياء: "أَُلبس السماوات ظلامًا، وأَجعل المُسح غطاءها" (إش ٥٠: ٣)[106]. القديس كيرلس الكبير * عدم استحقاق الراعي غالبًا ما يكون متلازمًا مع عدم استحقاق الرعية، فإذا كان الرعاة لا يملكون نور المعرفة نتيجة لخطيئتهم الشخصية فإنه تبعا لذلك تعثر الرعية بسبب جهلها حسب قصاص القضاء. من أجل ذلك قال رب المجد يسوع: "إن كان أعمى يقود أعمي يسقطان كلاهما في حفرة." (مت 15: 14؛ لو 6: 39) وفي هذا قال صاحب المزامير متنبئًا: "لتظلم عيونهم عن البصر وقلقل متونهم دائمًا." (مز 69: 23). إن القادة هم بالحقيقة عيون، إذ أنهم في واجهة أعلى الرتب وقد أخذوا على عاتقهم توضيح الطريق، أما الذين يتبعونهم فقد ارتبطوا بهم وعليه فهم يدعون "بالمتون". وهكذا عندما تظلم العيون، تنحني المتون أيضًا، لأنه عندما يفقد القادة نور المعرفة، ينوء الذين يتبعونهم تحت نير خطاياهم[107]. الأب غريغوريوس (الكبير) * لأننا حين نكد في عملٍ ما، وننحني بانشغال به والميل إليه، فإننا نستلقي عادة ونستريح. لكن الخطاة الذين اقترفوا آثامًا شنعاء، خاصة الأشرار منهم لا يمكن أن يستلقوا ويستريحوا. إذ قيل عنهم: "إحنِ ظهورهم دائمًا" (مز 23:69). لأن الذين لا يلتصقون بالمسيح، لا يرتفعون بأنفسهم إلى السماويات، من ثم لا يرتفع معه الذين موتهم شرير جدًا، كما هو مكتوب "موت الأشرار شرير للغاية" (مز 21:34)، لكن الإنسان الذي يموت مع المسيح، ويدفن مع المسيح، لا يجد راحةً فقط بل وقيامة أيضًا (راجع رو 4:6). وعن هذا الإنسان قيل بحق "شفيتَ كلَ ضعفاته في مرضه" (مز3:41)، خاصة إذا كان شهيدًا، تنكشف ضعفاته في الآلام، وموته بالقيامة[108]. القديس أمبروسيوس صُبَّ عَلَيْهِمْ سَخَطَكَ، وَلْيُدْرِكْهُمْ حُمُوُّ غَضَبِكَ [24]. لِتَصِرْ دَارُهُمْ خَرَابًا، وَفِي خِيَامِهِمْ لاَ يَكُنْ سَاكِنٌ [25]. هنا نبوة عن العقوبات المفجعة التي تحل عليهم من قبل الغضب الإلهي. أعلن ذلك السيد المسيح حين بكى على أورشليم ورثاها، قائلًا: "يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا. هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا" (مت 23: 37-38). اقتبس القديس بطرس هذه العبارة وطبَّقها على يهوذا الخائن: "لأنه مكتوب في سفر المزامير: لتصر داره خرابًا، ولا يكن فيها ساكن" (أع 1: 20). لأَنَّ الَّذِي ضَرَبْتَهُ أَنْتَ هُمْ طَرَدُوهُ، وَبِوَجَعِ الَّذِينَ جَرَحْتَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ [26]. من الصعب جدًا أن يُطبق هذا على داود النبي، لكنه تحقق بالنسبة للسيد المسيح حيث قيل عنه: "ونحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله، ومذلولًا. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه" (إش 53: 3-4). "فيقول له ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول: هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي... اضرب الراعي فتشتت الغنم، وأرد يدي على الصغار" (زك 13: 6-7). لقد ضُرِبَ السيد المسيح بكونه الراعي، فتشتت الغنم[109]. ربما يتساءل أحد: لماذا يلقي باللوم عليهم إن كانوا يطردون أو يضطهدون من يضربه الله ويضيفون جراحات لمن يجرحه الله؟ بالنسبة للسيد المسيح فإن ما حلَّ به هو حسب مسرته ومسرة الآب أن يتألم ويُصلب من أجل خلاص العالم. أما هم ففعلوا هذا لا لأجل هدف صالح، وإنما بسبب حسدهم وحقدهم. أما بالنسبة للمؤمنين فيَسمَح الله أحيانًا بتأديبهم لأجل بنيانهم، أو لأجل تزكيتهم، أم هم فيستغلون هذا ليمارسوا بغضهم وكراهيتهم. * لم يرتبك التلاميذ فقط، بل بالحري الأمر كان قد أقلقهم جدًا، وكان من الصعب عليهم إدراك هذا السرّ، كيف يمكن أن يقوم من الأموات، أو كيف من يصنع آيات لا حصر لها لحساب الشعب يُسلم لموت والعار؟ لكن هذا يتفق مع ما قاله النبي: "اضرب الراعي" (زك 13: 7). يقول أيضًا داود للآب: "لأن الذي ضربته أنت هم اضطهدوه" (مز 69: 29 LXX)... لقد قبل الآب باختيار الابن أن يتألم هكذا. لقد سمح له أن يتألم مع أنه كان له السلطان أن يمنع الألم. هذا الأمر واضح من العبارة الخاصة بسلطان بيلاطس على المسيح. "لم يكن لك سلطان البتة لو لم تكن قد أعطيت من فوق" (يو 19: 11)، أي "لو لم يسمح لي الآب أن أتألم"[110]. القديس كيرلس الكبير اِجْعَلْ إِثْمًا عَلَى إِثْمِهِمْ، وَلاَ يَدْخُلُوا فِي بِرِّكَ [27]. إذ يسقط الإنسان في إثم يجد نفسه ينجرف إلى إثم آخر، وهكذا كل خطية تدفع الإنسان إلى خطية أخرى. أو كما يقول آباء البرية، إنه إذ يسقط الإنسان في خطية ولا يقدم توبة عنها يصير ألعوبة يتلقفه شيطان ليسلمه لآخر في سخرية. بهذا يفقد الإنسان رجاءه في الخلاص والتمتع ببرّ المسيح، إذ يجده نفسه قد سقط في كم خطير من خطايا متباينة! يرى البعض أن السقوط في خطية يولِّد خطية جديدة، فتتكاثر الخطايا، ما لم يركز الإنسان عينيه على المخلص القادر أن يقيمه ويهبه إمكانية الشركة معه. يرى القديس أغسطينوس أنهم إذ صلبوا السيد المسيح وهم يحسبونه إنسانًا عاديًا ارتكبوا إثمًا، أما وقد أعلن عن نفسه وشخصه وأصروا على مقاومته فيزداد إثمهم إثمًا، وكما يقول السيد المسيح نفسه في مثل الكرم والكرامين: "وأما الكرامون، فلما رأوا الابن قالوا فيما بينهم: هذا هو الوارث هلموا نقتله ونأخذ ميراثه" (مت 21: 38). كما قال لهم: "لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية. ولكن الآن تقولون إننا نبصر، فخطيتكم باقية" (يو 9: 11). وأيضًا: "لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية. وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم" (يو 15: 22). لِيُمْحَوْا مِنْ سِفْرِ الأَحْيَاء،ِ وَمَعَ الصِّدِّيقِينَ لاَ يُكْتَبُوا [28]. "سفر الحياة": أشار إليه موسى النبي بكونه رمزًا، كأن الله يسجل أسماء الصديقين الذين يتمتعون بالحياة الأبدية. عندما أخطأ الشعب خطية عظيمة وبخهم، وصعد إلى الرب ليكفر عن خطيتهم، حيث صنعوا لأنفسهم آلهة من ذهب؛ وفي نفس الوقت شفع فيهم، قائلًا للرب: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32). يرى البعض[111] إن فكرة هذا الكتاب مصدرها الآتي: أ. ربما ما اعتاد عليه قادة الجيوش من حذف اسم الجندي الذي يهجر الجندية أو يموت من سجل الجندية. ب. وجود سجلات دقيقة لبعض المدن يُسجَّل فيها أسماء المواطنين، كحصر لهم. يحذف من هذه السجلات أسماء المرتدين عن الإيمان، والفارين والمجرمين وأيضًا الأموات. ج. ربما جاءت من فكرة قيام بعض الممالك والإمبراطوريات بعمل اكتتاب من حين إلى آخر لكل الدول التابعة لها (لو 2: 1). الله بسابق علمه يعرف الصديقين فيختارهم ويمجدهم. فمحو اسم الشرير من سفر الحياة، إنما صورة رمزية لدور الشرير نفسه في حرمانه من المجد الأبدي. عندما قاوم اليهود الرسولين بولس وسيلا، قال الرسولان: "كان يجب أن تُكلَموا أنتم أولًا بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم" (أع 13: 46). يقول الرسول بولس: "لأن الذين سبق فعرفهم سبق فعينهم، ليكونوا مشابهين صورة ابنه... والذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا. والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا. والذين بررهم، فهؤلاء مجدهم أيضًا" (رو 8: 29-30). * الذين لا يلتصقون بالمسيح لا يرتفعون إلى السماويات، وبالتالي فإن هؤلاء الذين موتهم شرير للغاية لا يقومون معه كما هو مكتوب: "موت الخطاة شر للغاية". أما الإنسان الذي يموت مع المسيح ويُدفن معه، لا يجد فقط راحة، بل وقيامة[112]. القديس أمبروسيوس * بينما كان لا يزال يصلِّي ظهر له ملاك الرب مُرعِب للغاية، وقد أمسك بيده سيفًا ناريًا استله. قال لأبينا باخوميوس: "كما أن الله محا اسمه من سفر الحياة (خر 32: 32-33؛ مز 69: 28) هكذا فلتسحبه من وسط الإخوة، فإنهم ليسو جاهلين. فإنه بالحقيقة حتى بالنسبة للجاهلين فان النجاسات التي من هذا النوع تظهر كرجاسات أمام الرب"[113]. سيرة القديس باخوميوس ربما يتساءل أحد إن كان بيلاطس بنطس الوالي قال: "ما كتبت قد كتبت" (يو 19: 22)، فكيف يمحو الله اسم شخص سجله في كتاب الحياة؟ ألا يعلم الله مسبقًا إن كان سيتمتع بالحياة الأبدية أم لا؟ للإجابة على ذلك فإن المرتل يُحدِّث أناسًا أشرار يَحسبون أنفسهم أبرارًا، فهم يظنون أنهم ببرهم قد سجلوا أسماءهم في سفر الحياة مع طغمة الصديقين. يؤكد لهم المرتل أنهم وإن ظنوا هذا فإن الله يمحو أسماءهم من سجل الصديقين. هذا ومن جانب آخر، فإن الله في محبته للبشرية كثيرًا ما يحدثهم بلغتهم البشرية حسب مفاهيمهم. فبقوله يمحو أسماءهم لا يعني المفهوم الحرفي، لأنه لا يوجد كتاب بالمفهوم المادي. 4. تسبحة نصرة أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَكَئِيبٌ. خَلاَصُكَ يَا اللهُ فَلْيُرَفِّعْنِي [29]. إن كان النبي يشكو من هؤلاء الأعداء القساة، المقاومين في تشامخ، يعترف أنه مسكين وبائس، عاجز بنفسه عن المقاومة. لا يقاوم العنف بالعنف، إنما يشعر بثقل المرارة والحزن الشديد، ليس من يقدر أن يعزيه ويرفع نفسه المنحنية غير الله. لقد حمل السيد المسيح كل خطايا العالم، وصار ذبيحة خطية عنهم، وقبل بإرادته أن ينزل عن الجحيم، لكي إذ يقوم ويصعد إلى السماء يحمل فيه أصحاب القلوب المنكسرة. صار الغني -خالق السماء والأرض- مسكينًا وحزينًا، لكي يحمل المساكين والحزانى إلى ملكوته السماوي المفرح. أُسَبِّحُ اسْمَ اللهِ بِتَسْبِيح،ٍ وَأُعَظِّمُهُ بِحَمْدٍ [30]. جاء السيد المسيح إلى أرضنا يشاركنا آلامنا، لكنه وهو متألم، بل وهو حامل آلامنا كان متهللًا بالروح من أجل البسطاء والأطفال الذين يتمتعون بإعلانات إلهية يعجز الحكماء عن إدراكها (لو 10: 21). وإذ قام من الأموات لم نسمع عنه أنه بكى أو حزن بعد. إنه يود أن نشاركه الحياة المُقامة فتتحول أحزاننا إلى تسبيح لا ينقطع، وفرحٍ مجيد دائم. إنه يحملنا بصليبه إلى بهجة قيامته، وحياة النصرة على آخر عدو وهو الموت (1 كو 15: 55-57). هنا يكشف للمساكين والحزانى الغنى الحقيقي والفرح الذي لا يُنزع منهم، وهو التسبيح لاسم الله، وتقديم الحمد لعظمته. فَيُسْتَطَابُ عِنْدَ الرَّبِّ، أَكْثَرَ مِنْ ثَوْرِ بَقَرٍ ذِي قُرُونٍ وَأَظْلاَفٍ [31]. إذ تتحول حياتنا إلى تسبيح دائم، يتقبل هذه التسابيح كذبيحة يُسر بها أفضل من الذبائح الحيوانية. "ذابح الحمد يمجدني" (مز 50: 23). * تخرج تسبحته من فمي فتسر الله أكثر من ذبيحة ثمينة تُقدَّم على مذبح. القديس أغسطينوس يَرَى ذَلِكَ الْوُدَعَاءُ فَيَفْرَحُونَ، وَتَحْيَا قُلُوبُكُمْ يَا طَالِبِي اللهِ [32]. ليس ما يُسر قلب المؤمن أكثر من قبول الله لذبائح الحمد والشكر والتسبيح. إنه بهذا ينعم بعربون الحياة الأبدية والشركة مع السمائيين. "يُسبِّح الرب طالبوه، تحيا قلوبكم إلى الأبد" (مز 22: 26). يرى القديس أغسطينوس أن المؤمن وهو يوجه بصيرته الداخلية لتتفرس في الله إنما تطلبه لكي تجده فتحيا نفسه. وإذ تجده تشتاق إليه لتبلغ إلى أعماق جديدة فتطلبه، وتبقى في هذا الطلب في نمو دائم لا ينقطع! * لنوجِّه نظرات عقولنا بمعونة الرب، فتطلب الله. كلمة النشيد الإلهي هي: "اطلبوا الله، فتحيا نفوسكم" (راجع مز 69: 33). لنطلب ذاك الذي يوجد، بهذا نطلب الموجود. إنه يختفي لكي نبحث عنه ونجده. إنه فوق كل قياس حتى عندما يوجد؛ وعندما يوجد يمكن أن يُبحَث عنه... لهذا لم يُقل: "اطلبوا وجهه دائمًا" كما يحدث بالنسبة لبعض البشر: "دائمًا تتعلمون ولن تبلغوا معرفة الحق"، بل بالحري يُقال عنه: "عندما يبلغ الإنسان إلى النهاية عندئذ تكون البداية"[114]. * اطلبوا الرب يا أيها المساكين، الجائعين والعطاشى، فإنه هو نفسه الخبز الحي النازل من السماء (يو 6: 33، 51). "اطلبوا الرب فتحيوا". أنتم تطلبون خبزًا لكي يحيا جسدكم، وتطلبون الرب لكي تحيا نفسكم. القديس أغسطينوس لأَنَّ الرَّبَّ سَامِعٌ لِلْمَسَاكِينِ، وَلاَ يَحْتَقِرُ أَسْرَاهُ [33]. يشتاق الله أن يجيب طلبات شعبه وصلواتهم، إن حملوا روح التواضع. إذ يسمعونه يقول: "ويكون إني قبلما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع" (إش 65: 24). إنه لا يستخف بالذين سجنوا لأجله، وصاروا من أجل اسمه أسرى. ينسبهم إليه، فيدعوهم النبي "أسراه" أو المسجونين لأجله. "لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمسبيين بالعتق، وللمأسورين بالإطلاق" (إش 61: 1). "مُخرج الأسرى إلى فلاحٍ" (مز 68: 6). لا يكف الله عن أن يمل أذنيه ليسمع تنهدات المأسورين. "ليدخل قدامك أنين الأسير" (مز 79: 11). * الغِنَى الحقيقي للإنسان المسكين هو التأمل في الخليقة وتسبيح الخالق. القديس أغسطينوس تُسَبِّحُهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الْبِحَارُ، وَكُلُّ مَا يَدِبُّ فِيهَا [34]. كل المسكونة تُسبِّح الله، السماء والأرض والبحر، كل المؤمنين أينما وُجدوا في اتحاد مع السمائيين يكونون جوقة رائعة للتسبيح لمخلص العالم. لأَنَّ اللهَ يُخَلِّصُ صِهْيَوْن،َ وَيَبْنِي مُدُنَ يَهُوذَا فَيَسْكُنُونَ هُنَاكَ وَيَرِثُونَهَا [35]. يبدأ المرتل بعض المزامير بصيغة الجمع وينتهي بصيغة المفرد كما في المزمور 66 حيث يبدأ بهتاف الأرض كلها لله [1-12] وينتهي بعبادته الشخصية في بيت الرب وتمتعه بمراحمه الإلهية [13-20]. وفي مزامير أخرى يبدأ بعلاقته الشخصية بالله [69: 1-31] وينتهي باشتراك سكان السماء والأرض والذين في البحار في التسبيح لله، واهتمام الله بخلاص صهيون وبناء مدن يهوذا [69: 32-36]. أحيانًا يتحدث بصيغة المفرد كل المزمور، وتارة بصيغة الجمع. ماذا يعني هذا سوى أنه ليس من عزل بين العلاقة الشخصية التي تربط المؤمن بالله، وعلاقته كعضو في الجماعة المقدسة بالله. فإذ يبني الله أورشليم الداخلية في القلب إنما يعمل في الجماعة كلها، وإذ يهتم بالجماعة فإنه يعمل في كل مؤمن كأن حبه له يعادل حبه لكل الجماعة. "فيسكنون هناك ويرثونها" [35]، من هم الذين يسكنون في مدن يهوذا سوى الودعاء وطالبو الرب والمساكين والأسرى والمُسَبحين سواء كانوا في السماء أو على الأرض أو في رحلتهم عبر البحار [32-34]. إنه يجمع الكل متى تمتعوا بعمله الخلاصي ليقيم منهم صهيون الجديدة، كنيسة الله المقدسة. * "لأن الله يخلص صهيون" [35]. إنه يجدد كنيسته، المؤمنين من الأمم المنضمين إلى ابنه الوحيد. إنه لا يخدع الذين يؤمنون به بخصوص مكافأة وعده. "لأن الله يخلص صهيون، ويبني مدن يهوذا". هذه هي الكنائس عينها. لا يقل أحد متى يبني مدن يهوذا؟ يا من تريد أن تتعرف على الصرح العظيم، كن حجرًا حيًا حتى تدخل فيه. الآن مدن يهوذا تُبنَى، لأن كلمة "يهوذا" معناها "اعتراف". بالاعتراف في تواضعٍ تُبنَى مدن يهوذا، حتى تبقى بدون المتشامخين الذين يستحون من الاعتراف. القديس أغسطينوس وَنَسْلُ عَبِيدِهِ يَمْلِكُونَهَا، وَمُحِبُّو اسْمِهِ يَسْكُنُونَ فِيهَا [36]. السِمَة العامة في كل شعب الله الحقيقي الذي يتمتع بالسكنى مع الله، أو سكنى الله في وسطهم هي الحب "محبو اسمه يسكنون فيها" [36] يتمتعون بذلك هم ونسلهم الذين يسلكون على منوالهم ويشتركون معهم في إيمانهم. من وحي مز 69 من الأعماق صرخت إليك * انهمرت سيول الأشرار عليَّ، دخلت المياه إلى نفسي، وغاصت كما في أعماق وَحْلٍ بلا حدود! ماذا يطلب الأشرار مني؟ إنهم تراب ووحل، لن يستريحوا حتى تتحول أعماقي إلى وحلٍ وفسادٍ! أصرخ إليك، فتُحوِّل مقاومتهم لبنيان نفسي. بنار الضيقات تُحوِّل ترابي إلى ذهب ثمين! وتُخرِج من الإناء الفخاري إناء للكرامة! * أنت وحدك تسمع صرخات قلبي! لقد يبس حلقي من الصراخ. وكلَّت عيناي من ترقبي لمجيئك. لتحل في داخلي، تحول مرارتي إلى عذوبة. وينفتح فمي للتسبيح والحمد، وتنفتح عيناي، لترى عظم جمالك وبهائك! * إن كان الأعداء قد كثروا أكثر من شعر رأسي، فإني أتحد بك يا رأس الكنيسة. فتتبدد كل خطط الأشرار. * هاج الملوك والرؤساء عليك بلا سبب. حكموا عليك ظلمًا. بحبك قبلت الصليب، لتدفع دينًا لم تقترضه. لأتحد بك أيها المصلوب، فتتحول كل الاضطهادات إلى شركة مجد معك! أجد في العار، عار الصليب، قوتك للخلاص. عوض الخزي والخجل أعتز بنَسَبي لك. * ليحسبني العالم غريبًا عنه وأجنبيًا. بك صرت من أهل بيت الله! صمت عن العالم وكل ما فيه، لأنك أنت شبعي وفرحي. * ليلبس جسدي المسوح، وليحسبني العالم مثلًا، وليسخر الساكرون بالعالم بي. فأنت هو لباس نفسي ومجدي، وإكليلي! أنت هو تسبحتي وفرحي. * هوذا العدو - إبليس - بكل طاقاته يود أن يغرقني. هل تقدر الهاوية أن تبتلع ما هو لك؟ هل يقدر إبليس أن يحطم من يختبر عذوبة رحمتك؟ لتكثر الضيقات، فبدونها لا أستعذب رحمتك. بدونها لن تعطش نفسي للتمتع ببهاء وجهك. بدونها لا تصرخ أعماقي لتقترب أنت إليَّ * في وسط آلامك صرخت وأسلمت الروح، يا خالق الأرواح والأجساد! تركك الجميع، ليس من يقدم رقة وحنوًا، ولا من ينطق بكلمة تعزية. حقًا إذ صرت مجرَّبًا تعين المجربين. وحين يطردنا العالم من المحلة، نحمل معك عار الصليب. * ليقدم لي العالم علقمًا وخلًا! أنت طعامي وشرابي، تحول المرارة إلى حلاوة. أنت طعام الملائكة، تشبع النفوس! * نفسي حزينة للغاية، من أجل الذين أعدوا لأنفسهم مائدة، فإذا بهم يُعدُّون فخًا لأنفسهم. أظلمت عيون قلوبهم، ففقدوا رؤية السماويات. وضعفت قوتهم، فانحنت نفوسهم كما في عبودية مرة. تحولت بيوتهم إلى خراب، لأن قلوبهم صارت خاوية لا يسكنها روحك القدوس. * في محبتك لي تسمح بتأديبي. فيجد الأشرار فرصتهم لبث سمومهم. يضيفون إلى جراحاتي جراحات جديدة. شتان بين جراحاتي التي تسمح لي بها لبنياني، وجراحات الأشرار التي تكشف عن حسدهم وكراهيتهم! * يمارسون شرورهم عن معرفةٍ وعمدٍ، فيضيفون إلى إثمهم إثمًا ويغلقون أبواب برَّك حتى لا يدخلوا إليه. في تشامخهم يظنون أنهم أبرار. يحسبون أسماءهم مسجلة مع أبرارك في كتابك! لكنهم بإصرارهم على عدم التوبة، لم تُكتب أسماؤهم في كتابك! * أخيرًا أعترف لك إني مسكين حزين. تفتح لي أبواب رحمتك، فأغتني بالتسبيح لك. وتملأ قلبي بتعزيات روحك القدوس! تنصت إلى صلاتي يا سامع للمساكين. وتشتم ذبيحة التسبيح رائحة سرور ورضى. لك المجد يا من صرت مسكينًا لتضم إليك المساكين! |
||||
29 - 01 - 2014, 06:01 PM | رقم المشاركة : ( 72 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 70 (69 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير أسرع لنجاتي يا رب!جاءت هذه القصيدة تشبه إلى حدٍ كبير المزمور الأربعين. يرى البعض أن هذا المزمور يُعتبَر مُلحقًا للمزمور السابق (69)، ومقدمة للمزمور التالي (71). يبدو أن داود كان في كارثة خطيرة لحقت به، ويشعر أن كل لحظة من لحظات عمره لها ثمنها. لذا يفتتح المزمور طالبًا من الله أن يسرع لإنقاذه [1]، ويختمه بأن يسرع إليه ولا يبطئ [5] قام القديس أغسطينوس بتفسير هذا المزمور في عظة ألقاها في عيد الشهداء. إذ حسب هذا المزمور يُمَثِّل قصيدة يقدِّمها السيد المسيح للآب باسم أعضاء جسده المُتألِّمين، خاصة الشهداء بهذا يمكننا القول أنه لحن كنسي خاص بالشهداء، الذين اقتدوا برأسهم السيد المسيح، الذي بإرادته قَبِل أن يدفن كحبة الحنطة لكي يأتي بثمر كثير. (يو 12: 24). * شكرًا لحبة الحنطة، هذا الذي أراد أن يموت فيأتي بثمرٍ مُضاعَف. شكرًا لابن الله الوحيد، ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي لم يستنكف من أن يخضع لموتنا ليجعلنا أهلًا لحياتنا. انظروا ذاك الذي كان بمفرده حتى ذهب إلى هناك... كان حبة حنطة واحدة بطريقة ما حتى تتمثل به حنطة كثيرة في آلامه فنرتفع عندما نحتفل بأعياد ميلاد الشهداء![115] كثيرة إذن هي أعضاؤه تحت رأس واحد هو مخلصنا نفسه، مرتبطة معًا برباط الحب والسلام، كأنها إنسان واحد، فنسمع غالبًا صوتًا واحدًا لإنسانٍ واحدٍ، وواحد يصرخ كأن الكل يصرخ معًا في واحدٍ. القديس أغسطينوس العنوان لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ لِلتَّذْكِيرِ اَللهُمَّ إِلَى تَنْجِيَتِي يَا رَبُّ، إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ [1]. الصلاة النقية هي أسرع رسالة يمكن أن ترتفع من القلب إلى السماء وفي لمح البصر تنعم بالاستجابة الإلهية، أكثر مما تسأل وفوق ما تطلب. أحيانًا يؤجِّل الرب الاستجابة لكي نتزكى أمامه إننا واثقون في حكمته وتدبيره، كما يزداد بالأكثر شوقنا إلى مراحمه العذبة. * بخصوص هذا التدبير (نظامالصلاة الدائمة)، إذا قارنته بتعليم الأطفال (الذين ليس لهم القدرة أن يتلقنوا الدروس الأولية الخاصة بالحروف الهجائية، لكنهم يتعرفون على شكلها، ويتدربون على رسمها قدر ما يستطيعون، حيث تُقدَّم لهم نماذج منها على الشمع...) هكذا يلزمني أن أقدم لك شكل التأمل الروحي لتضعه نصب عينيك على الدوام... وتتدرب على التأمل فيه باستمرار لأجل نفعك... حتى تصعد إلى نظرة أعلى. سنعرض عليك طريقة خاصة لبلوغ هذا التدبير الذي ترغب فيه، وتلك الصلاة التي يجدر بكل أحد أن ينفذها لأجل تقدمه الروحي في تذكر الله، متذكرًا هذا التدبير في قلبه بغير انقطاع، طاردًا كل أنواع الأفكار الأخرى. لأنه لا يقدر القلب أن يتمسك به ما لم يتحرر من كل اهتمامٍ خاص بالجسد. لقد سُلِّمت إلينا هذه الطريقة بواسطة قليلين تسلَّموها عن آباء شيوخ حاذقين... فلكي تحتفظ بتذكر الله الدائم ضع قدام عينيك هذه الصلاة الورعة: "يا الله التفت إلى معونتي، يا رب أسرع وأعني" (مز1:70). اُختيرت هذه الآية من الكتاب المقدس كله ليس جزافًا، إنما تحمل كل المشاعر التي يمكن أن توجد في الطبيعة البشرية، وتتفق مع كل الظروف والأخطار التي تحلّ بنا. فهي تحمل تضرعًا إلى الله من أجل كل الأخطار، وتحمل اعترافًا ورِعًا مملوء انسحاقًا واهتمامًا يقظًا ومخافة دائمة. إنها تحمل إحساس الإنسان بضعفه، مع ثقة في الاستجابة، وتؤكد بأن المعونة حاضرة وسريعة، لأن الإنسان إنما يدعو الله الحاضر معنا على الدوام لكي يعينه. إنها تحمل تأجج حب ومحبة، وتحمل فهمًا بخصوص مؤامرات الأعداء (الشياطين) ومهالكهم. فمن يرى نفسه محوطًا بهم ليلًا ونهارًا يعترف بعجزه عن التحرر منهم بغير مساعدة معينة. هذه الآية حصن منيع للذين يتعبون من هجمات الشياطين، ودرع حصين، فهي لا تسمح للذين يسقطون في اكتئاب وقلق فكري أو المتضايقين بالحزن أو المهمومين بالقنوط وكل أنواع الأفكار المشابهة، أن ييأسوا من وجود علاجٍ شافٍ، إذ تُعلِن أن الله الذي نتضرع إليه ناظر إلى صراعنا على الدوام، وليس ببعيد عن سائليه. إنها تنذرنا نحن الذين نصيبنا هو النجاح الروحي وبهجة القلب، فلا ننتفخ قط لسعادتنا، إذ تؤكد لنا أنه لا يمكننا أن نعيش بدون الله حافظنا... هذه الآية هي معين، ونافعة لكل واحد منا مهما كانت أحواله، لأن الإنسان يحتاج في كل أموره إلى معونة. محتاج إلى مساعدة الله، ليس فقط في الأحزان والضيقات، بل وأيضًا في النجاح والأفراح، حتى يُنقَذ من الأولى ويستمر في الثانية. لأن الضعف البشري يعجز عن أن يحتمل كليهما بغير معونة الله[116]. الأب إسحق * سنعرض عليك هذه الطريقة لبلوغ ذلك التدبير الروحاني الذي تهواه كل نفس تسعي لتذكر الله علي الدوام مع ضبط العقل. أول كل شيء انسَ نفسك واترك أفكارك وهيا تقدم معي نحو الله عاريًا من كل اهتمامات الجسد، وثق أن الطريق الذي ستسير فيه اجتازه آباؤنا الشيوخ الذين تمكنوا من معرفة أسرار الروح. عليك بهذه الصلاة: "يا الله التفت إلي معونتي. يا رب أسرع وأعني". أما هذه الآية فلم تنتخب جزافا" بل بعد خبرة لأنها تتوافق مع كل ظروف الحياة البشرية. فهي تحمل تضرعًا إلي الله مقابل كل الأخطار والضيقات وتحمل أيضًا اعترافًا منسحقًا بالعجز واهتمامًا متيقظًا ومخافة دائمة فهي تشير إلى إحساس الفرد بضعفه مع ثقة في الاستجابة وتأكيد بأن المعونة حاضرة سريعة، وهي تشير خفيًا إلى قرب الله منا وأنه كل حين حاضر معنا يستمع إلينا. الأب اسحق تلميذ أبا أنطونيوس الكبير لِيَخْزَ وَيَخْجَلْ طَالِبُو نَفْسِي. لِيَرْتَدَّ إِلَى خَلْفٍ وَيَخْجَلِ الْمُشْتَهُونَ لِي شَرًّا [2]. طبيعة الخطية أن تُقدِّم الخزي لصانعها، وإن لم يتب يلحقه الخزي على مستوى أبدي. طلبته هنا ضد طالبي نفسه تميل بالأكثر إلى النبوة عما سيحل بهم، وليس إلى لعنة تصدر منه ضدهم. لِيَرْجِعْ مِنْ أَجْلِ خِزْيِهِمُ، الْقَائِلُونَ: هَهْ! هَهْ! [3]. من أكثر الأسلحة التي يستخدمها الأشرار ضد أولاد الله هي السخرية بهم واحتقارهم. هذا ما فعله العالم بمخلصه، فكم بالأكثر بالكارزين به! السخرية ليس بالأمر الجديد، فهي لغة الأشرار في حديثهم مع الصديق، لكي يتزكى الأخير باتزانه وثباته كالصخر أمام زوابع لا حول لها. كلمة "هَهْ" تكررت في مز 35: 21، 25، وهي تعبير عن نوعٍ من السخرية يرى القديس أغسطينوس إن القول: "هَهْ! هَهْ"، يصدر إما من الذين يسخرون من المؤمنين، أو الذين يتملقونهم بكلمات مديح معسول. وَلْيَبْتَهِجْ وَيَفْرَحْ بِكَ كُلُّ طَالِبِيك،َ وَلْيَقُلْ دَائِمًا مُحِبُّو خَلاَصِكَ: لِيَتَعَظَّمِ الرَّبُّ [4]. بينما يسخر طالبو نفس الصديق به، يُسَبِّح الصديق الرب ويعظمه على عمله الخلاصي، ويفرح به. لم يكن ممكنًا لسجن فيلبي الداخلي أن يسحب قلبي بولس وسيلا من أفراح السماء! أَمَّا أَنَا فَمِسْكِينٌ وَفَقِيرٌ. اللهُمَّ أَسْرِعْ إِلَيَّ. مُعِينِي وَمُنْقِذِي أَنْتَ. يَا رَبُّ لاَ تَبْطُئ [5]. المسكنة من أجل الرب تجعله يسرع إلى الخلاص ولا يتباطأ. المسكنة بالروح والفقر الاختياري من أجل الرب هما جناحا الصلاة لتبلغ إلى حضن الله وتغتصب مراحمه العظيمة. لا يستطيع غِنَى العالم ولا كراماته أن ينزع عن الصديق شعوره بالمسكنة والفقر، إذ لا يجد ما يغنيه ويعزيه سوى مراحم الله الفائقة. * ماذا يعني: "لا تبطئ"؟ لأن كثيرين يقولون، إنه يوجد وقت طويل حتى يأتي المسيح. ماذا إذن، هل سيأتي قبل الأوان الذي عيَّنه عندما نقول: "لا تبطئ"؟ ماذا تعني هذه الصلاة "لا تبطئ"؟ ليت مجيئك لا يبدو لي إنه يتأخر كثيرًا. فإنه بالنسبة لكم يبدو أنه يتبقى زمن طويل، أما بالنسبة لله الذي ألف سنة عنده كيومٍ واحد أو هزيع من ثلاث ساعات فهو ليس بزمن طويل. القديس أغسطينوس من وحي مز 70 من يقدر أن يسحب فرحك عني! * مع كل صباح يُعد لي العدو فخاخًا لاصطيادي، ومع كل صباح أتذوق عذوبة مراحمك الفائقة. لتكثر مضايقات العدو، فمع كل ضيقة أختبر طَعْمًا جديدًا لمراحمك الإلهية. يبذل العدو كل الجهد ليصطادني. وأنت تُسرع إليَّ لترفعني إليك. ماذا تعمل فخاخ العدو، مادمتُ مرتفعًا بك كما إلى سماواتك؟ * لن يكف العدو عن أن يُعَيِّرني. يسخر بي، ويحسبني أضحوكة ومثلًا! لا يكف عن القول: ههْ! ههْ! ها هو يجمع في رصيده كم لا يُقدَّر من السخرية. يسخر بي إلى لحظات، فتسخر به جهنم أبديًا. * كلما طلب العدو نفسي ليستعبدها، أتمتع بصليبك واهب الحرية. تبتهج نفسي بخلاصك! وتتعظم أعمالك فيَّ. هل يمكن للعدو أن يسحبني من بين يديك؟ هل تقدر كل قواته أن تحرمني من بهجتك؟ * إن ألقى العالم كله بكل إمكانياته في يدي، أبقى مسكينًا وفقيرًا، حتى أغتني بك، يا من افتقرت لكي بفقرك تغنيني! * لتسرع يا مخلصي إليَّ ولا تبطئ! لتسرع لا لتنقذني من العدو فحسب، وإنما لكي أقتنيك وتمتلكني. أنا لك، وأنت لي، يا حبيب نفسي! |
||||
30 - 01 - 2014, 05:07 PM | رقم المشاركة : ( 73 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 71 - تفسير سفر المزامير صلاة شيخ مُجرب! لم يُذكر اسم واضع المزمور، إنما يشير فيه أنه شيخ يمر بضيقاتٍ كثيرة، يضع ثقته في الله، ويطلب منه أن يذكره في شيخوخته. إن كانت الشيخوخة لم تعفِه من وجود أعداء مضايقين له، لكنها لا تُضعف عبادته وثقته في الله مخلصه. واضح من أسلوبه أن الكاتب هو داود النبي حيث يستخدم ذات مصطلحاته، مثل: "أمل إليَّ أذنك"، "صخرتي وحصني"، "ملجأي"، "أسرع" الخ. أقسامه 1. إعلانه عن ثقته في الله 1-5. 2. غذاؤه التسبيح منذ ولادته إلى شيخوخته 6-9. 3. مقاومة الأعداء لا تهدأ 10-11. 4. صرخة قلب 12-14. 5. تسبحة النصرة 15-24. من وحي مز 71 العنوان جاء العنوان في الترجمة السبعينية: "لداود. مزمور تغنَّى به أبناء يوناداب، وللذين اُقتيدوا للسبي". يعلق القديس أغسطينوس[1] على العنوان بأن أبناء يوناداب، أطاعوا وصية أبيهم، فرفضوا شرب الخمر وبناء بيوت وغرس زرع وكروم، مع سكناهم في خيام كل أيام حياتهم (إر 35: 5-10). أطاعوا وصايا أبيهم كأنها من قبل الرب إلههم، مع أن الله لم يأمر بذلك، لكنها تحمل روح الوصية الإلهية. لقد باركهم الرب من أجل طاعتهم لأبيهم، موبخًا شعبه على عصيانهم له، وهو إلههم. 1. إعلانه عن ثقته في الله بِكَ يَا رَبُّ احْتَمَيْتُ، فَلاَ أَخْزَى إِلَى الدَهْرِ [1]. جاءت الافتتاحية [1-3] مطابقة لافتتاحية المزمور 31: 1-3. إذ يشعر المرتل بأن الضيقات تلاحقه في شيخوخته يظهر أمام الله، ليعلن إيمانه به، وثقته في مواعيده الإلهية، وأن الذين يتكلون عليه لا يخزون. إذ تحل بالإنسان متاعب وضيقات، يجد في الله وحده الحماية، فيصرخ: "ارحمني يا الله ارحمني، لأنه بك احتمت نفسي، وبظل جناحيك احتمي إلى أن تعبر المصائب" (مز 57: 1). "احفظني يا الله، لأني عليك توكلت" (مز 16: 1). "احفظ نفسي واَنقذني، لا أخزى لأني عليك توكلت" (مز 25: 20). * عظيمة هي قوة الرجاء في الرب، قلعة لا تُقهر، سور واقٍ لا يمكن مهاجمته، إمداد عسكري لا ينهزم، ميناء هادئ، برج منيع، سلاح لا يُقاوم، قوة لا تُقهر قادرة على اكتشاف ملجأ في موضع لا يتوقعه أحد. بهذه القوة يصير غير المسلحين مسلحين، يكون حال النساء أفضل من الرجال، ويبرهن الأطفال أنهم بسهولة يصيرون أكثر قوة من الذين يمارسون فنون الحرب. أي عجب إن كانوا يغلبون أعداءً بينما في الواقع هم يغلبون العالم نفسه... الرجاء بالرب يُغير كل شيء[2]! القديس يوحنا الذهبي الفم * في كل الأسفار الإلهية، نعمة الله التي تخلصنا تودع نفسها فينا، لكي ما نودع نحن أنفسنا فيها. هذا ما يتغنى به هذا المزمور... هذه النعمة التي يوصي بها الرسول... إنه يقول: "لأني أصغر الرسل، أنا الذي لست أهلًا أن أُدعى رسولًا، لأني اضطهدت كنيسة الله" (1 كو 15: 9). يقول: "لكنني رُحمت، لأني فعلت بجهلٍ في عدم إيمان" (1 تي 1: 13). يقول بعد ذلك بقليل: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبولٍ، أن المسيح جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (1 تي 1: 15)... نعم سبق كل البشر، ليس من جهة الزمن، إنما من جهة تدبيره الشرير. يقول: "لكنني رُحمت ليُظهر يسوع المسيح فيَّ أنا أولًا كل أناةٍ، مثالًا للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية"، أي أن كل خاطي وظالم يائسٍ من نفسه له فكر المُجالد (الشخص الأسير أو العبد الذي يقاتل حتى الموت لكي يُعطي مُتعة للناس في روما القديمة)... هذه النعمة التي لله تُودع فينا في هذا المزمور أيضًا. * لقد خزيت بالفعل، لكن ليس إلى الأبد. لأنه كيف لم يخزَ ذاك الذي قيل له: "فأي ثمرٍ كان لكم حينئذٍ من الأمور التي تستحون بها الآن؟" (رو 6: 21) ماذا إذن يُفعل حتى لا نخزى إلى الأبد؟ "اقتربوا إليه، واستنيروا، ووجوهكم لا تخجل" (راجع مز 34: 5). أنتم مخزيون في آدم. انسحبوا من آدم، واقتربوا إلى المسيح، وعندئذٍ لا تخزون. "فيك يا رب أترجى، فلا أخزى إلى الأبد" (LXX). فإنني في نفسي أنا الآن في خزي، فيك لا أخزى إلى الأبد[3]. القديس أغسطينوس أَمِلْ إِلَيَّ أُذْنَكَ وَخَلِّصْنِي [2]. كثيرًا ما يكرر المرتل كلمة "برَّك" في هذا المزمور، وإن كانت قد ترجمت أحيانًا "عدلك". يعتمد رجاء المؤمن على برّ الله، ببرّه يتمم وعوده الإلهية مع مؤمنيه. * "ببرِّك نجني وأنقذني" [2 LXX]. ليس ببرِّي الذاتي، بل ببرَّك. فإنني فيما هو لي أكون أحد الذين يُقال عنهم: "لأنهم إذ كانوا يجهلون برّ الله، ويطلبون أن يُثبِّتوا برّ أنفسهم لم يُخضعوا لبرّ الله" (رو 10: 3). لذلك يقول "في برِّك" وليس فيما هو لي؛ فماذا هو لي؟ يتقدمني الإثم. وعندما أصير بارًا، إنما هو برِّك أنت. فبالبرّ الذي تعطيني أصير بارًا... "أمل إليَّ أذنك". هذا أيضًا اعتراف بالتواضع. من يقول: "أمل إليَّ"، يعترف أنه راقد كمريضٍ ملقى عند قدميّ الطبيب الواقف. أخيرًا، لتلاحظ أن المتحدث إنسان مريض[4]. القديس أغسطينوس مَلْجَأٍ أَدْخُلُهُ دَائِمًا. أَمَرْتَ بِخَلاَصِي، لأَنَّكَ صَخْرَتِي وَحِصْنِي [3]. إذ يفحص المرتل كل حياته يعلن عن خبرته مع الله، أنه بالحق هو صخرته وحصنه وملجأه. "يا رب ملجأ كنت لنا في دورٍ فدورٍ" (مز 901: 1). "أمل إليّ أذنك سريعًا، اَنقذني. كن صخرة حصن بيت ملجأ لتخليصي" (مز 31: 2). * كن حاميًا لي" [3]. ليت رماح العدو لا تبلغ إليَّ، فإنني غير قادر على حماية نفسي... انظروا فإن الله نفسه يصير موضعًا لهروبكم، هذا الذي كنتم تهربون منه خائفين... ارفعني من الأرض، فأَتكئ عليك لكي أرتفع إلى موضع حصين[5]. * يوجد ضعف بشري شديد، لا يزال يوجد السبي الأول، كما يوجد أيضًا ناموس في الأعضاء يحارب ضد ناموس الذهن، ويود أن يقود أسرى إلى ناموس الخطية (رو 7: 23). لا يزال الجسد الفاسد يضغط على النفس (حك 9: 15). مهما يكن ثباتك بنعمة الله، فإنك مادمت تحمل إناءً خزفيًا، فيه كنز الله، يجب التخوف إلى حدٍ ما من ذات الإناء الخزفي (2 كو 4: 7). لهذا فإنك "أنت هو ثباتي"، كي أحيا ثابتًا في هذا العالم ضد كل التجارب[6]. القديس أغسطينوس مِنْ كَفِّ فَاعِلِ الشَرِّ وَالظَالِمِ [4]. في رسالة بعثها القديس جيرومإلى أوستاخيوم يعزيها فيها بعد وفاة والدتها القديسة باولا، كتب فيها أن بعض الأشرار شهَّروا بأمها، حاسبين سلوكها التقوى نوعًا من الخبل الفكري. هكذا صارت القديسة باولا في نظر البعض مجنونة وتحتاج إلى علاج. * أعرف أنه عندما أُرسل إليها بخصوص أمراض أطفالها الخطير خاصة بخصوص توكستيوس Toxotius التي كانت تحبها جدًا. إذ ضاقت نفسها أولًا حققت القول: "انزعجت فلم أتكلم" (مز 77: 4). وبعد ذلك صرخت بكلمات الكتاب المقدس: "من أحب أبنًا أو ابنة أكثر مني، فلا يستحقني" (مت 10: 37). وصلَّت للرب وقالت: "يا رب استبقِ بني الموت" (راجع مز 79: 11)، أي الذين يموتون جسديًا لأجلك كل يوم. إنني أعلم أن ناشر فضائح... أخبرها مرة إن البعض يظنون أنها مجنونة وتحتاج إلى علاج في عقلها، وذلك بسبب غيرتها المتقدة في الفضيلة. لقد أجابت بكلمات الرسول "صرنا منظرًا للعالم وللملائكة والناس" (1 كو 4: 9)، "نحن جهال من أجل المسيح" (1 كو 4: 10)[7]. القديس جيروم للأسف أحيانًا يستنجد الإنسان بالشيطان أو أحد قواته ليخلصه من الشيطان نفسه! يميّز القديس أغسطينوسبين نوعين من الأشرار، واحد يدعوه عاصيًا، والآخر يدعوه ظالمًا. الأول هو من استلم الناموس وعصاه، والثاني من لم يستلم الناموس وأخطأ. * يوجد عدو في الداخل، وهو الناموس العامل في الأعضاء. ويوجد أيضًا أعداء في الخارج... هؤلاء الأشرار نوعان: البعض هم الذين استلموا الناموس، وآخرون لم يستلموه. كل اليهود والمسيحيين استلموا الناموس. لذلك فإن التعبير العام للشرير (يشمل النوعين) العاصي للناموس بالنسبة لمن استلمه؛ أو الظالم بدون ناموس، إن كان لم يستلمه. يتكلم الرسول عن الاثنين، قائلًا: "لأن كل من أخطأ بدون الناموس، فبدون الناموس يهلك، وكل من أخطأ في الناموس، فبالناموس يُدان" (رو 2: 12). أما أنت الذي من النوعين تتنهد. لتقل لله ما تسمعه في المزمور: "يا إلهي نجني من يد الشرير" [ع4]. من أي شرير؟ "من يد ذاك الذي يعصى الناموس والظالم"[8]. القديس أغسطينوس الرَبَّ مُتَّكَلِي مُنْذُ صِبَايَ [5]. خبرة داود النبي مع الله، ورجاؤه فيه، خبرة طويلة تمتد منذ صباه. ففي حديثه وهو غلام مع شاول الملك قال: "الرب الذي أنقدني من يد الأسد، ومن يد الدب، هو ينقذني من يد هذا الفلسطيني" (1 صم 17: 37). * بحق إن رجائي فيك يا رب، لن أخزى إلى الأبد "الرب رجائي منذ صباي" [5][9]. القديس أغسطينوس 2. غذاؤه التسبيح منذ ولادته إلى شيخوخته عَلَيْكَ اسْتَنَدْتُ مِنَ البَطْنِ، وَأَنْتَ مُخْرِجِي مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي. بِكَ تَسْبِيحِي دَائِمًا [ع6]. لا تعود رعاية الله لداود منذ صباه فحسب، وإنما ترجع إلى بدء حياته حين حملت به أمه في أحشائها، وحين تمت ولادته. "لأنك أنت جذبتني من البطن. جعلتني مطمئنًا على ثدييْ أمي. عليك أُلقيت من الرحم. من بطن أمي أنت إلهي؛ لا تتباعد عني، لأن الضيق قريب، لأنه لا معين" (مز 22: 9-11). تلامس داود مع محبة الله ومراحمه حتى في أحشاء أمه، فالبعض صار لهم الرحم قبرًا، والبعض ماتوا عند خروجهم من رحم أمهاتهم. لم نسمع عن أحدٍ قدم ذبيحة شكر، لأن الله رعاه وهو في رحم أمه، وأخرجه إلى العالم سالمًا، لكن داود لا يتجاهل أعمال الله معه منذ الحَبَل به، بل وربما قبل الحَبَل، حيث كان في فكر الله، وكان يعده لرسالة معينة. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل بدأ يترجى الله منذ شبابه، حيث سلَّحه ضد الشيطان؛ تسلح بالإيمان والمحبة والرجاء وبكل بقية العطايا الإلهية. لكن الله كان حاميًا له منذ كان في رحم أمه. * هل الرب رجاؤك منذ شبابك؟ أليس هو أيضًا هكذا منذ صباك؟ أليس هو أيضًا منذ طفولتك؟ بالتأكيد هو هكذا. اُنظر ماذا تبع ذلك... "فيك تقويت من البطن" اسمع أيضًا: "من بطن أمي أنت حاميَّ"... * الآن؛ أنتم تئنون. الآن أنتم في مكان آمن تجرون، حتى تخلصوا الآن إذ أنتم ضعفاء تحتاجون إلى علاج الطبيب. ماذا عندما تبلغون الصحة الكاملة، وتصيرون مثل ملائكة الله (مت 22: 30)، هل ستنسون تلك النعمة التي تخلصكم؟[10] القديس أغسطينوس * يا ابن الله حرك ألحاني لتسبيحك، وبتراتيلها تُهلل لك كل حواسي. منذ البداية مُهيأ لساني لتسبيحك، ولو بطل من تسبيحك يستحق القصاص. ربي لن أهدأ من التغني بتراتيلك، لئلا أُعذب من قبل العدالة في الدينونة العادلة. فم الإنسان مهيأ لتسبيح اللاهوت، ومن يهدأ من التسبيح يُلام ويُحتقر. لما خلق الخالق الفم وضع فيه الصوت والكلمة ليتحرك للتسبيح. وهكذا يجب على كل من شعر بوجود الخالق أن يسبّح الرب الذي خلقه. ليس فم الإنسان صاحب سلطان ليستخدم الأخبار التافهة والكلمات غير اللائقة. عندما خلق الخالق الفم أتقنه لتسبيحه، وليس ليتلفظ بأمورٍٍ باطلةٍ. يقول الرب لمن يتوقف عن تسبيحه: اصرخ بحنجرتك، وارفع صوتك كالبوق. ربي، أنا خليقتك، ساعدني لأتعجب من أعمالك، واسمح لي أن أسبح كما يليق بخليقتك. اسمح للقلب أن يخدمك بأفكار القداسة، لأنك مخوف للخلائق. قدّس لساني من كل الأخبار العالمية، وبعِشرتك يتحرك للتسبيح. ربي، ها قد فتحتُ فمي، فاملأه من تسبيحك كما وعدتَ، ولا يمر فيه كلام باطل ليتفوه به. لتتحرك ألحاني صوب موهبتك المملوءة عجبًا، وأنا أشكر تسبحتك يا ابن الله[11]. * ربي مُلكك هو الفم والكلمة واللسان، أعط للفم الحركة لتسبيحك وهو غير مستحق. مُلكك هو العقل والفهم والتفكير، فساعد العقل ليُخبر بقصتك وهو يتطلع إليك. مُلكك هي حركات النفس وأفكارها، فساعد النفس لترى جمالك وتصفك. أيها الكلمة الذي جاء ليصير جسدًا، أعطني كلمتك لأتكلم بها عن مجيئك المملوء عجبًا. أتيت عندنا، ومكثت في أبيك، أنت فوق وتحت، والسماء والأرض مملوءتان منك يا ابن الله. املأ فمي تسبيحًا كما قلتَ: افتحه واملأه، فافتحه واملأه، ولو أنه ليس مفتوحًا لأنه كسلان. أنت فاتح الأفواه المغلقة لتتكلم، مَن يقدر أن يفتح فمه بدونك؟ مَرةً حتى الأتان تكلمت (عد 22: 22-30)، ليعرف كل أحدٍ بأنه يسهل عليك أن تعطي النطق حتى للبهيمة[12]. القديس يعقوب السروجي أَمَّا أَنْتَ، فَمَلْجَإِي القَوِيُّ [7]. إذ يتطلع الناس إلى المرتل، وقد حلت به الضيقات بصورة عنيفة ومتلاحقة، صاروا ينظرون إنه إنسان غريب وشاذ، مختلف عن كل البشرية، كأن الله قد صبّ كل غضبه عليه. أما المرتل ففي أعماقه كانت تعزيات الله تعمل بقوة وسط الآلام والمحن. يرى بعض الدارسين في الكلمة العبرية المترجمة هنا "آية" أنها قد تأخذ المعنى الصالح. إذ كان الناس يتطلعون إليه في دهشةٍ وإعجابٍ، كيف يحتمل المحن ويجتازها بسلام. وجاءت هذه الكلمة في عظات القديس أغسطينوس "الهُوّلة" monster وهو حيوان أو نبات ذو صورة غير سوية، أي مخيف وغريب الشكل؛ أو "مَسخ"، أي شخص مشوَّه وبشع. * لماذا يسبونني ويظنونني أنني مَسخ؟ لأنني أؤمن بما لا أراه. لأنهم سعداء بالأمور التي ينظرونها، يبتهجون بالشرب والخلاعة والطمع والغنى والنهب والكرامات الدنيوية، تبييض الحوائط الطينية (أي الرياء)؛ بهذه الأمور يبتهجون. لكنني أنا أسير في طريقٍ مختلفةٍ، مستخفًا بهذه الأمور الحاضرة، بل وأخاف من ترف العالم، ولا أثق إلا في وعود الله. أما هم فيقولون: "لنأكل ونشرب، لأننا غدًا نموت" (1 كو 15: 32)... اسمعوا الجانب الآخر: "نعم، لنصم ونصلِّ، لأننا غدًا نموت". إذ أحفظ هذا الطريق الكرب الضيق، أصير مثل مسخٍ لكثيرين، أما أنت فملجأي القوي. كن معي أيها الرب يسوع، ولتقل لي: "لا تخشَ الطريق الضيق، فأنا سرت فيه أولًا. أنا هو الطريق ذاته (يو 14: 6)؛ أنا أقودك، أقودك فيَّ، وأقودك إليَّ"[13]. القديس أغسطينوس يَمْتَلِئُ فَمِي مِنْ تَسْبِيحِكَ، الْيَوْمَ كُلَّهُ مِنْ مَجْدِكَ [8]. الإنسان الجاحد لا يشكر ولا يسبح ولا يفرح بعمل الله حتى في أوقات الفرج. وإن قدم الشكر لا ينبع ذلك عن أعماقه. أما في وقت المحن فيثور في داخله كما أحيانًا بكلماته ضد الله. أما أولاد الله فيجدون فرحهم وبهجة قلوبهم في تسبيحهم وشكرهم الله حتى في وسط الظلام الحالك. إنه لا ينسى مراحم الله في الماضي، ويثق في حكمة الله وسط الضيق الحاضر، ويطمئن في أن الله ينقذه ويخلصه ويمجده في حينه. إنه سيبقى يسبحه "اليوم كله"، أي الآن وإلى الأبد. يرىالقديس مار يعقوب السروجيأن الله في حبه للإنسان خلقه كائنًا موسيقيًّا متهللًا، يشارك السمائيين فرحهم به، وتسابيحهم له. يمارس على الأرض الحياة السماوية التي لا تعرف إلا الفرح الدائم. يرنم المرتل، قائلًا: "ابتهجوا أيها الصديقون بالرب، للمستقيمين ينبغي التسبيح. اعترفوا للرب بقيثارة، وبكينارة ذات عشرة أوتار رتلوا له. سبحوا له تسبيحًا جديدًا؛ ورتلوا له حسنًا بتهليلٍ" (مز 33: 1-3). خلق الله كل كيان الإنسان ليسبحه، فيعزف التسابيح بجسده كما بنفسه، أو بلسانه كما بقلبه، أو جهارًا كما سرًا. يسبح الصديقون الرب بأجسادهم التي يقدمونها ذبيحة حيَّة مقبولة (رو 12: 1). يقول القديس أغسطينوس: [ليته لا يفكر أحد في الآلات الموسيقية التي للمسارح، فالأمر هنا يشير إلى أمور داخلية، كما قيل في موضع آخر: "فيّ يا الله أرّد لك التسبيح".] ويقول القديس جيروم: [أجسادنا ونفوسنا هي قيثارتنا تعمل في تناغم معًا بكل أوتارها في لحن![14]] * يا رب لن أتوقف عن تسبيحك، حتى بعد وفاتي. من يحيا لك وبك لا يموت؛ ولا يقوَ صمت الموت على إسكاته. * ما هو "اليوم كله"؟ بدون انقطاٍع! في وقت الفرح، لأنك أنت راحتي. وفي وقت الضيق، لأنك تصحح الأمور. قبل أن أوجد أنا، لأنك أنت هو الخالق. وعندما وُجدت، لأنك أنت تهب الصحة. عندما أخطئ، لأنك أنت هو الغافر. وعندما أرجع إليك، لأنك أنت هو المعين. عندما أثابر، لأنك أنت تكلل![15] القديس أغسطينوس لاَ تَتْرُكْنِي عِنْدَ فَنَاءِ قُوَّتِي [9]. يتوقع داود مع شيخوخته أن يحل به الهزال الجسمي، لذا يطلب من الله ألا يفارقه وقت الشيخوخة. أما الإنسان الجاحد، فيترك حتى الذي خدمه، متى حلت به الشيخوخة أو المرض، ولم يعد قادرًا على خدمته، كما فعل الرجل العماليقي بالغلام المصري، الذي قال لداود: "قد تركني سيدي، لأني مرضت منذ ثلاثة أيام" (1 صم 30: 13). * ما هو زمن الشيخوخة؟ عندما أضعف، لا تتركني... حتى يمكنكم أن تقولوا مع الرسول: "حينما أنا ضعيف، فحينئذٍ أنا قوي" (2 كو 12: 10). لا تخافوا أنكم تُطردون في ذاك الضعف، في زمن الشيخوخة، لماذا؟ أليس ربكم صار ضعيفًا على الصليب؟ ألم يكن قدامه أناس أقوياء للغاية وثيران سمينة، كإنسانٍ لا قوة له، أُخذ أسيرًا وتحت ضغطة، يهزون الرؤوس قائلين: "إن كنت ابن الله، فانزل عن الصليب" (مت 27: 40) هل تُرك لأنه صار ضعيفًا، ذاك الذي فضل ألا ينزل عن الصليب، لئلا يبدو كمن يستعرض القوة، وقبل أن يخضع لشتائمهم؟ ماذا يعلمكم بعدم النزول إلا الاحتمال بصبرٍ على شتائم الناس، وأن تكونوا أقوياء بإلهكم؟ ربما في شخصه قيل: "صرت مسخًا لكثيرين، أما أنت فملجأي القوي"[16]. القديس أغسطينوس 3. مقاومة الأعداء لا تهدأ لأَنَّ أَعْدَائِي تَقَاوَلُوا عَلَيَّ، وَالَّذِينَ يَرْصُدُونَ نَفْسِي تَآمَرُوا مَعًا [10]. أعداؤنا الحقيقيون هم إبليس وجنوده الذين لن يطلبوا أقل من هلاك نفسه. موت الجسد لا يشغلهم قدر هلاك النفس. إنهم يكرسون طاقاتهم ووقتهم للترصد والتآمر ضد أولاد الله. يصرخ المرتل: "كثيرون يقولون لنفسي: ليس له خلاص بإلهه" (مز 3: 2). "أعدائي يتقاولون عليّ بشرٍ. متى يموت ويبيد اسمه" (مز 41: 5). * علة الحسد هو سعادة الإنسان الذي وُضع في الفردوس، إذ لم يطق الشيطان الامتيازات التي نالها الإنسان. مع أنه تشكل من الطين اُختير ليقطن الفردوس. بدأ الشيطان يتطلع إلى الإنسان كخليقة سفلية، إلا أنه كان له رجاء في الحياة الأبدية، بينما وهو من طبيعة أسمى منه سقط وصار جزءًا من الوجود السفلي[17]. القديس أمبروسيوس القديس أنبا أنطونيوس الكبير القديس غريغوريوس النزينزي الْحَقُوهُ وَأَمْسِكُوهُ، لأَنَّهُ لاَ مُنْقِذَ لَهُ [11]. يُسر الأشرار حين يتصورون أن الله ترك إنسانًا ما أو تخلى عنه، إذ يجدون الفرصة للهجوم عليه وسبيه بسهولة. * يُقال هذا عن المسيح، فإن هذا الذي بقوة اللاهوت العظيمة، إذ هو مساوٍ للآب، أقام موتى إلى الحياة، وفي لحظة صار ضعيفًا في أيدي الأعداء كمن هو بلا قوة، وقد أُلقي القبض عليه... لقد قال وهو على الصليب ما كانوا يفكرون فيه عليه: "لماذا تركتني؟" (مت 27: 46) لماذا يفكر هؤلاء الناس في شرورهم فيَّ أنني متروك وحدي؟ ما هذا، أن يفكروا فيَّ أنني متروك وذلك في شرهم؟ "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1 كو 2: 8)، واضطهدوه وألقوا القبض عليه. ليتنا أيها الإخوة نأخذ هذا بالأكثر على أعضاء المسيح، ونتعرف على صوتنا في هذه الكلمات. فإنه (المسيح) استخدم هذه الكلمات في شخصنا نحن، وليس بخصوص قوته وجلاله، ولكن فيما صار عليه بسببنا، وليس بحسب ما هو عليه ذاك الذي خلقنا[20]. القديس أغسطينوس 4. صرخة قلب يَا اللهُ لاَ تَبْعُدْ عَنِّي. يَا إِلَهِي إِلَى مَعُونَتِي أَسْرِعْ [12]. كثيرًا ما يشعر الإنسان في وسط ضيقته كأن الله قد تخلى عنه. لهذا يصرخ إليه لكي يُسرع لنجدته. تكررت هذه الطلبة في مز 22: 11، 19؛ 35: 22؛ 38: 21، 22؛ 70: 1. * الرب ليس ببعيد نهائيًا. "قريب هو الرب من المنكسري القلوب" (مز 34: 18)[21]. القديس أغسطينوس * أصبحت النعمة أمًا للأرض.،. فتضرعت إلى الرب قائلة: كفى الأرض هذا الجنون! انزل ونجها من الضلال. دخل طلب النعمة أمام العزة الإلهية التي أرسلت الطبيب الرحوم إلى المرضى[23]. * شيدت النعمة - أم المراحم - العالم، وهي تحمله، لو تركته سيسقط. تبسط الدجاجة جناحيها على صغارها لتجمعها وتحببها وتحافظ عليها. إنها ترسم مثالًا للاهوت الذي بسط مراحمه على الخلائق مثل جناحيها، وحماها[24]. * الطفل محتاج إلى المرضعة ليحيا منها، والمخلوق محتاج إلى الخالق ليقوم به. لو تركت الأم الطفل عندما تلده، لكان من الأصلح له ألا يأتي إلى الولادة منها. ورب العالم لو تركه بعد خلقه، لكان من الأصلح له بألا يوجد منذ البداية. إنه لا يتركه، فالمرأة لا تترك جنينها، وإن هي نسيت هو لا ينسى المخلوق أبدًا (عب 6: 10)[25]. القديس مار يعقوب السروجي لِيَلْبِسِ الْعَارَ وَالْخَجَلَ الْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرًّا [13]. * ماذا يعني: "مخاصمو نفسي"؟ مخاصمون كما لو كانوا في معركة. فإنه يُقال إنهم مخاصمون هؤلاء الذين يتحدون للدخول في معركة. إن كان الأمر هكذا لنحذر من الذين يخاصمون نفوسنا. ماذا يعني: "يخاصمون نفوسنا"؟ أي يثيروننا لنقاوم الله، حتى أننا بالشرور التي نعاني منها لا نُسر بالله... كل الناس الذين يتعاملون معكم ليجعلوكم قلقين في أحزانكم وتجاربكم، لهم هذا الهدف، إنكم تستاءون من الله بسبب ما تتألمون به، حتى يخرج من أفواهكم: "ما هذا؟ ماذا فعلت ليحل بي هذا؟" الآن، هل لم تفعلوا شيئًا من الشر، وأنتم أبرار وهو (الله) ظالم؟[26] القديس أغسطينوس وَأَزِيدُ عَلَى كُلِّ تَسْبِيحِكَ [14]. كلما سبَّح المخلوق - سواء كان من البشر أو من الطغمات السمائية - وشكر الله على إحساناته تتجلى أمامه مراحم الله تبدو كأنها جديدة، أو كأن عينيه لم تنظرها من قبل، فيبقى الكائن المسبح مملوءًا رجاءً، يزداد تهليلًا وفرحًا، فلا يجد مللًا من التسبيح لله. إنه يتمتع دومًا بخبرات جديدة في علاقته بالله الكلي الحب والرحمة والحنو. حب الله لا يُوصف، ومراحمه لا تُحصى، فيبقى ينبوع التسبيح والتهليل لا ينقطع إلى الأبد. يرى القديس أغسطينوس أن الله مُمجد ومُسبح في كل أعماله، لكنه يليق بالمؤمن أن يضيف إلى هذا تطلعه إلى قيامتنا من الأموات بالسيد المسيح كأعظم عملٍ يعطي مجدًا لله، وكموضوعٍ عظيمٍ للتسبيح. * هل يوجد شيء يضاف (إلى تسبيحه)؟ إن كان كل شيءٍ يسبحه، فهل تضيفون شيئًا؟ الله مُسبح في كل أعماله الصالحة، في كل خليقة له، في كل تدبيره في كل الأمور، في تدبيره للأزمنة، في أنظمة المواسم، في ارتفاع السماوات، في إثمار المناطق التي للأرض، في دورات البحر، في سمو الخليقة في كل موضع، في أبناء البشر أنفسهم، في تسليم الناموس، في خلاص شعبه من عبودية المصريين، وفي كل أعماله العجيبة، ولكن لم يُسبح بعد في قيامة الأجساد للحياة الأبدية. لهذا فلتضيفوا هذه التسبحة بقيامة ربنا يسوع المسيح، حتى ندرك صوته فوق كل تسبيحٍ سابقٍ. هذا ما يليق بنا بحق أن نفهمه هنا[27]. القديس أغسطينوس يبدأ دربه ويطير المستيقظون أمام مجيئه، ويشير إلى الألوف وتركض القوات أمامه. ترتعب الطغمات والربوات، فيرهبها ويطير معه أفواج وصفوف اللهيب. ترتجف الأقاصي من أفواجه السريعة التي ترش الجمرات، وتلقي البروق والنور العظيم. يخرج بعجبٍ ليصنع القضاء والعدل وترى العوالم بوضوح غيرته العظمى. يطير الصالحون للقاء الملك الذي انتقل من موضعه باحتفالٍ، ويستقبلونه ليكونوا معه كما وعد. يلتقي فوج سمعان بفوج آل جبرائيل، ويأتي معه مختاروه وملائكته. يرتل آلاف بولس مع ربوات آل ميخائيل التسبيح بأبواقهم وبشعانينهم. يأتي رسل النور مع كرامات الكراسي بالمجد مع الديان باحتفالٍ عظيمٍ. ترعد الخلقة بالقوات قدام ابن الملك الآتي ليدين الأحياء والأموات باستقامة[28]. القديس مار يعقوب السروجي 5. تسبحة النصرة فَمِي يُحَدِّثُ بِعَدْلِكَ الْيَوْمَ كُلَّهُ بِخَلاَصِكَ، لأَنِّي لاَ أَعْرِفُ لَهَا أَعْدَادًا [15]. جاءت كلمة "بعدلك" في الترجمة السبعينية: "ببرِّك". هنا يجمع البرّ مع الخلاص، فالخلاص الذي ننعم به هو ثمر برّ الله وأمانته في تحقيق وعوده الإلهية لنا. بالنسبة لنا خلاصنا هو الترجمة العملية لبرّ الله غير المُدرك. يقول الرب: "أليس أنا الرب ولا إله غيري. إله بار ومخلص، ليس سواي" (إش 45: 21). لا يعرف المؤمن أعدادًا لأعمال الله المملوءة حبًا ورحمة وخلاصًا، فيبقى يسبح بلا انقطاع دون نهاية. * من ثمَّ، أضيف إلى كل تسبيحك، وذلك لأنني وإن كنت بارًا، إنما هذا البرّ هو برَّك أنت فيَّ، وليس برِّي الذاتي، فإنك أنت تبرر الخطاة (رو 4: 5). "اليوم كله بخلاصك" ما هو"خلاصك"؟ليته لا يحسب أحد أنه يخلص بنفسه، "للرب الخلاص" (مز 3: 8). لا يخلص أحد نفسه بنفسه، "باطل هو خلاص الإنسان" (مز 60: 11). "اليوم كله خلاصك"، في كل الأوقات. إن حلت محنة، فلتكرزوا بخلاص الرب، إن حلّ فرج اكرزوا بخلاص الرب. لا تكرزوا وقت الفرج، وتفقدوا سلامكم وقت الشدة، وإلا فلا يتحقق القول "اليوم كله". فإن اليوم كله هو نهار مع ليله... لذلك ففي اليوم كله تحدثوا بتسبيح الله، أعني في الفرج كما في الشدة. في الفرج كما في وقت النهار؛ وفي الشدة كما في وقت الليل[29]. القديس أغسطينوس ربي، يشكرك الأبرار بسيَرهم، والأبرار بفضيلة أفعالهم. ليشكر القتلى بالدم الذي سال من أعناقهم، وجميع المضطهَدين بعذابات أعضائهم المتنوعة. ليسبّح اسمك الأنبياء بجمال إيحاءاتهم، والرسل والشهداء بذبح أشخاصهم. ليشكر الأحبار بذبائح أفكارهم المملوءة سلامًا، وجميع الكهنة بألبستهم وبأزيائهم. ربي، ليسبّح الشعوب والعوالم بشعانينهم، وكل الأقاصي والجهات مع سكانها. والبحر بأمواجه، واللجة بأسماكها، والعلو بوديانه، والعمق بطغماته، والسماء (الجلد) بنورها، والأرض بأبنائها. والسماء بالمستيقظين، والرياح بالهبوب، والغيوم بالبروق، والرعود بالأصوات، والأفواه بالكلمة، والعقل بالتعجب. والأفكار بالمحبة، والكاروبيم بالخوف، والسيرافيم بالتقديس، والنار بالقوة، والريح بشدتها، والكل مع الكل، والمبددين الذي جمعتهم، والساقطين الذين أنهضتهم، والمنكسرين الذين جبرتهم، والعبيد الذين حررتهم، والمطرودين الذين أعدتهم، والصغار الذين عظمتهم. والمرضى الذين تفقدتهم، والمعلولين الذين شفيتهم، والمسلوبين الذين أنقذتهم، والمتعبين الذين أرحتهم، والغاضبين الذين صالحتهم، والدنسين الذين طهرتهم. والأسرى الذين حللتهم، والسجناء الذين حررتهم، والموتى الذين أحييتهم، يشكرون محبتك دون أن يوفوها، لك التسبيح[30]. القديس مار يعقوب السروجي أَذْكُرُ بِرَّكَ وَحْدَكَ [16]. إلى أين يأتي داود النبي ليلتقي بالسيد الرب القدير في أعمال رحمته؟ حقًا كان لخيمة الاجتماع مكانة خاصة في قلب داود وفكره. كان يشتهي أن يبقى في بيت الرب كل أيام حياته، حيث يشعر أنه في بيت أبيه! لكن إذ طُرد من قصره أو من مكان إقامته، وصار مستحيلًا عليه الدخول إلى بيت الرب، لا يستطيع تغيير المكان أن يحرمه من الوجود في أحضان أبيه القدير. ما يشغل داود النبي هو برّ الله وحكمته ورحمته وقدرته وأمانته في وعوده. كل كيانه ممتص في الله! * "آتي بقوة الرب" [16]، ليس بقوتي أنا، بل بقوة الرب. فإنهم يتمجدون في قوتهم التي للحرف... ولأن الحرف يقتل، والروح يحيي (2 كو 3: 6)، فإني لا أعرف الحرف، بل أدخل في قوة الرب... "يا رب، أذكر برَّك وحدك" [16]. آه! "وحدك". إني أسأل: لماذا أضاف كلمة "وحده"؟ أما كان يكفي القول: "أذكر برَّك"؟ يقول: "وحده"، فإنني لا أذكر برِّي أنا. "أي شيء لك لم تأخذه؟" (1 كو 4: 7) برَّك وحده يخلصني، أما ما هو لي وحده، فهو ليس إلا خطايا. ليتني لا أتمجد في قوتي، ليتني لا أبقى في الحرف، لأرذل الحرف، أي تمجيد الناس للحرف ولقوتهم الفاسدة، كأناس مسعورين[31]. القديس أغسطينوس وَإِلَى الآنَ أُخْبِرُ بِعَجَائِبِكَ [17]. يشعر رجال الله أن معلمهم الحقيقي هو الرب، يفتح عن أعينهم، فيرون أعمال محبته العجيبة، خاصة نحو بني البشر. قيل:" (وأجعل)... كل بنيكِ تلاميذ الرب" (إش 54: 13). ما هو تعليم الله لداود من صباه؟ الفرح بعمل الله وحكمته وتدبيره الخلاصي. * ماذا تعلمني؟ أن أذكر برَّك وحده. فإنني إذ أعيد النظر في حياتي الماضية أرى ما أنا مدين به، وما استلمته عوض أن أسدد المطلوب مني. مطلوبة مني العقوبة، وقد دفعتها النعمة. مطلوب مني الجحيم، وقد وُهبت لي الحياة الأبدية. "اللهم، قد علمتني منذ صباي". منذ بداية إيماني الذي به جددتني. علمتني أنه ليس شيء يسبق هذا، لذلك وجب عليَّ أن أقول إنه ما كان مطلوبًا مني قد دفعته أنت. فإنه من يرجع إلى الله سوى من الإثم؟ من خلص إلا من السبي؟ لكن من يقدر أن يقول إن سبيه كان ظلمًا، إن كان قد ترك (الله) قائده وذهب إلى المدمر؟ الله هو الذي كان يجب أن يكون قائدنا، وإبليس هو مدمِّر: أعطى القائد وصية، والمدمر قدم خداعًا (تك 2: 17؛ 3: 5). أين كانت آذانكم بين الوصية والخداع؟ هل كان الشيطان أفضل من الله؟ هل كان المخادع أفضل من خلقك...؟ "اللهم، قد علمتني منذ صباي". منذ الوقت الذي فيه رجعت إليك، وتجددت بك يا من خلقتني، وأعدت خلقة من أوجدته، وأعدت تشكيل من شكَّلته؛ منذ الوقت الذي فيه تحولت إليك تعلمت أنه ليس عن استحقاق سابق، وإنما نعمتك حلَّت عليَّ مجانًا لكي أذكر برَّك وحده[32]. القديس أغسطينوس وَأَيْضًا إِلَى الشَّيْخُوخَةِ وَالشَّيْبِ يَا اللهُ لاَ تَتْرُكْنِي، حَتَّى أُخْبِرَ بِذِرَاعِكَ الْجِيلَ الْمُقْبِلَ، وَبِقُوَّتِكَ كُلَّ آتٍ [18]. داود النبي في شيخوخته وشيبته لا يتكل عن خبراته الطويلة، ولا على حكمته أو شعبيته أو إمكانياته المادية أو سلطانه الزمني، لكنه يبقى متكئًا على صدر الله، يسأله ألا يفارقه! * أنت علمتني عن نعمتك منذ صباي، وحتى الآن، بعدما تعديت صباي "أخبر بعجائبك". [17]. لأنك أنت معي حتى لا أموت، يا من أتيت لكي أقوم. "وأيضًا إلى الشيخوخة والشيب"، أي حتى آخر نفس لي، إن لم تكن أنت معي، لا يكون لي استحقاق من ذاتي، إنما ليت نعمتك تبقى معي على الدوام... "لا تتركني، حتى أخبر بذراعك الجيل المقبل" [18]: ذراع الرب هو المسيح، لا تتركني. لا تدعهم يفرحون الذين يقولون: "إنما إلى حين يُوجد المسيحيون". ليبقَ أشخاص يخبرون عن ذراعك "لكل جيلٍ مقبلٍ" [18]، إن كان سيوجد جيل مقبل، فهذا يعني إلى نهاية العالم. فإنه إذ ينتهي العالم، لا يعود يوجد جيل مقبل[33]. القديس أغسطينوس يَا اللهُ مَنْ مِثْلُكَ! [19]. يحوي برّ الله هنا الشعور بأمانة الله في تحقيق وعوده الإلهية، خاصة نزول عمانوئيل إلينا، يحمل ما لنا، لنحمل ما له! جاء يقدم لنا نفسه لكي نقتنيه، فننعم بواهب الخيرات الروحية من غنى حقيقي وسلامٍ مع السماء، ومصالحة معها، وحبٍ لإخوتنا. نلبسه، فيستر عُرينا الداخلي. نقتنيه، فيُحول جفافنا إلى الإثمار، ومرارتنا إلى عذوبة. نزل إلينا كمعلمٍ سماويٍ، ليلهب قلبنا بالسماويات، ويحررنا من محبة الزمنيات. من أجلنا غطس كسبّاح في أعماق الجحيم، ليحطمه، ويطلقنا من هذا السجن المظلم إلى ملكوته المنير. قبل الموت بالصليب، ليقتل بموته الموت. * ليتني أخبر كل جيلٍ مقبلٍ: أنتم تأتون من السبي، وتنتمون إلى آدم (الجديد واهب الحرية). لأخبر كل جيلٍ مقبلٍ أنه ليس لي قوة من عندي، ولا برّ من عندي، وإنما "قوتك وبرَّك إلى العلياء يا الله الذي صنعت العظائم" [19]. "قوتك وبرَّك"، إلى أي مدى؟ هل حتى إلى الجسد والدم؟ لا، بل "إلى العلياء يا الله الذي صنعت العظائم". فإن العلياء هي السماوات، وفي الأعالي الملائكة والعروش والسلاطين والرئاسات والقوات. إنهم مدينون لك بما هم عليه. إنهم مدينون لك بالحياة التي لهم. إنهم مدينون لك أنهم يحيون بالبِرّ. مدينون لك بالبركات التي يعيشونها... لا تظنوا أن الإنسان وحده ينتمي إلى نعمة الله، ماذا كان الملاك قبل أن يُخلق؟ ماذا يكون الملاك إن تركه ذاك الذي خلقه؟[34] القديس أغسطينوس خلطتك المراحم بالبشر الذين كانوا هالكين، وباختلاطك بهم وجدتهم لكي تردهم. صرت منا، وها أنت معنا بجوارنا. أنت عمانوئيل الذي جاء يحرر عبيد أبيه، يا أيها الابن الحبيب. ها أنت معنا، وأنت إلهنا. بالنبوة كُتب عنك أنك عمانوئيل. * صار فقيرًا لأجلنا، وجعلنا أغنياء بمراحمه. صار ابن الإنسان، وجعلنا أولاد الله. أصعدنا من انحطاط العبيد، وأقامنا في درجة الأبناء الأعزاء (2 كو 8: 9؛ يو 15: 15). صار ميتًا بإرادته، وسلمنا للحياة التي لا تموت، لئلا يتسلط الموت بعد علينا. أضاء المسكونة التي كانت مظلمة، ومهَّد طريق الحياة للبشر، ليذهبوا عند أبيه المجيد[35]. القديس مار يعقوب السروجي * يتشامخ الإنسان لكي ينتسب إلى السبي الأول، ويسمع الحية تقترح: ذق، فتكونان كآلهة (راجع تك 3: 5). هل البشر يصيرون كآلهة؟ "يا الله من مثلك؟" ليس أحد في الحفرة، ليس أحد في الجحيم، ليس أحد في السماء، لأن هؤلاء جميعًا أنت خلقتهم. لماذا يصارع المخلوق مع خالقه؟ "يا الله من مثلك؟" أما بالنسبة لي يقول آدم البائس، آدم الذي في كل إنسان، بينما بإرادة منحرفة أردت أن أكون مثلك، انظر ما قد صرت عليه. فمن السبي أصرخ إليك: أنا الذي كنت في حالٍ حسنٍ كملكٍ صالحٍ، صرت مسبيًا لدى مخادعي. أصرخ إليك، لأنني سقطت من عندك. متى سقطت من عندك؟ عندما طلبت بفسادٍ أن أكون مثلك... بالضلال الشرير، وتشامخه الشرير، حُكم عليه بالموت بانسحابه من طريق البرّ. انظروا لقد كسر الوصية، لقد نزع عن رقبته نير ضبط النفس، انتفخ بروح متعجرف وكسر لجام القيادة إربًا إربًا. أين هو الآن؛ إنه بالحق أسير، يصرخ: "يا رب من هو مثلك؟" في انحراف أردت أن أكون مثلك، فصرت مثل بهيمة! بالحقيقة كنت مثلك حينما كنت تحت سلطانك وتحت وصيتك. لكن "الإنسان في كرامةٍ لا يبيت، يشبه البهائم التي تُباد" (مز 49: 12). الآن إذ هو في شبه بهيمة، يصرخ مؤخرًا ويقول: "يا الله، من هو مثلك؟"[36] القديس أغسطينوس هو الطبيب ومنه تجري كل المعونات، وهو الينبوع الذي يتدفق حياة لمن هم حواليه. به يُطرد الأبالسة والشياطين من الإنسانية، وتُشفي أمراض وقروح المرضى. وبه تتنقى حياة النفس ومنه تستنير، وبه تُذبح خطايا العالم التي كانت كثيرة. هو يبرر العشارين بقوة كرازته، وبالغفران يجعل الخطاة كاملين. هو طرد إبليس الكنعانية التي طلبت منه، وهو يطفيء هوى نفسك إن كنت تنظر إليه. هو الذي يحمل ثقل العالم بجبروته، وعليه تستند كل الخلائق، وبه توجد. هو شمس البرّ والنور العظيم، وهو الطبيب والشافي لجميع المرضى (مل 2: 4). هو الغنى، وابن الغني، ومثري الكل، وهو قوة كل الضعفاء، وبه يتقوون (2 كو 8: 9؛ أف 2: 4). هو الذي يضمد الأوجاع والأمراض ويطرد الأبالسة، مبارك من نزل وافتقد العالم وشفى أمراضه[37]. القديس مار يعقوب السروجي تَعُودُ فَتُحْيِينَا، وَمِنْ أَعْمَاقِ الأَرْضِ تَعُودُ فَتُصْعِدُنَا [20]. اليد الإلهية التي بحكمة سمحت بالضيق، هي عينها بذات الحكمة والحب ترفعنا وتنجينا، بل وتحيينا. * "أنت الذي أريتنا ضيقات كثيرة ورديئة" [20]. عن استحقاق أيها العبد المتكبر. لأنك بحماقة أردت أن تكون مثل إلهك الذي خلقك على صورة ربك (تك 1: 27). هل كنت تظن أن هذا حسن لك، عندما تنسحب من هذا الصلاح؟ حقًا قال الله لك: إن انسحبت مني، وإن حسن هذا عندك، لا أكون أنا هو صلاحك. مرة أخرى إن كان هو صالح، وعلى أعلى مستوى الصلاح، وهو صالح في ذاته وبذاته، وليس بصلاحٍ خارجيٍ، وهو نفسه صلاحنا الرئيسي، فبانسحابك منه، ماذا ستكون عليه سوى أن تكون شريرًا؟ أيضًا إن كان هو طوباويتنا ماذا يبقى لمن ينسحب منه سوى البؤس؟ ارجع إذن بعد البؤس، وقل: "يا رب، من مثلك؟ كم من ضيقات ترينا كثيرة ورديئة". لكن هذه (الضيقات) هي تأديب ونصح وليست تخليًا. أخيرًا، إذ يقدم الشكر، يقول: "تعود فتحيينا، ومن أعماق الأرض تعود فتُصعدنا" [20]... من أعماق الأرض أرجعتنا، من أعماق الخطية وغرقها[38]. القديس أغسطينوس وعندما يؤدب بشدةٍ، لا تظن بأن غضبه غصبه، وتحرك ليؤدب الإثم الذي رآه. هو كما هو عندما يؤدب وعندما يطيل أناته، لأن الله لا يتغير عما هو عليه[39]. القديس مار يعقوب السروجي وَتَرْجِعُ فَتُعَزِّينِي [21]. لا ينتظر داود النبي الخلاص الأكيد فحسب، وإنما يرافقه بركات وأمجاد وتعزيات أكثر مما يسأل، وفوق ما يطلب. لقد أصعدنا الرب من أعماق الأرض، بل من القبور، عندما قام وقدم بنا الحياة المُقامة، ووهبنا أن نطلب ما هو فوق، بهذا وهبنا الراحة الحقيقية والتعزيات السماوية وشركة الأمجاد. في شيء من الإطالة يعلق القديس أغسطينوس على كلمة "تعود" [20]، وأيضًا: "ترجع" [21]. فإن ما ناله إنما هو انعكاس وامتداد لما حدث مع السيد المسيح. إذ قام يقيمنا معه، وإذ صعد يصعدنا معه. * إننا نرجع من أعماق الأرض بإيماننا به، ذاك الذي سبقنا فقام من أعماق الأرض... ها أنت تسمع "تعود"، ثم "ترجع"، لأن المسيح يذهب أمامنا، والآخرون يترجون (أن ينالوا)[40]. القديس أغسطينوس أُرَنِّمُ لَكَ بِالْعُودِ يَا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ [22]. يسبح المرتل الله ليس فقط من أجل أعمال محبته تجاهه، وإنما من أجل كل سماته الإلهية العجيبة. يسبحه من أجل حقه ومن أجل أنه القدوس. فالمؤمن الحقيقي لا يخشى الحق الإلهي، ولا يضطرب، لأن الله قدوس. إنما يجد في الحق الإلهي ينبوعًا ليتعرف على الحق ويختبره ويستعذبه. ويجد في القداسة الإلهية ليس رعبًا بسبب خطاياه ونجاسات قلبه، إنما يجد مصدرًا مجانيًا ونعمة فائقة ليتمتع بالشركة مع القدوس، فتنحل الخطية وتهرب، إذ لا تجد لها مكانًا في قلبه أو فكره أو أحاسيسه! يرنم المرتل بالرباب كما بالعود، أي بالروح كما بالجسد، كما يقولالقديس أغسطينوس. * ما هي الرباب؟ إنها آلة من الخشب والأوتار. ماذا يعني هذا؟ يوجد شيء من الاختلاف بينهما وبين العود... يبدو أنه يقصد بالرباب الروح، وبالعود الجسد[41]. القديس أغسطينوس الشمس النيّرة ليست نيّرة لنفسها أو تسير لنفسها، لكن لها نور لتنير البشر. ولأجلهم صارت النيرات في السماء، ولهم تنفع الأيام والليالي. للبشر يوجد التمييز والمعرفة والكلمة والصوت، ليعطوا التسبيح للعلي في موضعه. فم الإنسان متقن كأنما لتسبيح الرب، ومن يبطل من التسبيح صار ناكرًا (للجميل). ولهذا لك الفم لتسبّح به وتشكر به وتهلل به وتبارك به. سبّح لأن لك الكلمة المسبِّحة، وهلل لأن لك الصوت المملوء أنغامًا. اشكر لأن لك الذهن والتمييز، وبارك لأنك صرتَ إناء ناطقًا وغير صامتٍ. لم تكن شيئًا وجعلتك المراحم شيئًا عظيمًا، وبما أنك صرتَ موجودًا، فاشكر بعجبٍ، لماذا أنت ساكت؟ ادخل إلى ذاتك وانظر إلى شخصك في داخلك، ففيك توجد كل عجائب القدرة الخالقة[42]. القديس مار يعقوب السروجي وَنَفْسِي الَّتِي فَدَيْتَهَا [23]. يسكب التسبيح لله فرحًا على كل كيان الإنسان، على نفسه وجسده! يرى القديس أغسطينوس أن الشفتين تعبران أحيانًا عما في الداخل، وأخرى عما في الخارج. فقد يبتسم الإنسان، لكن ابتسامته لا تعبر عن سلامه الداخلي أو بهجة نفسه. هنا يؤكد المرتل أن بهجته تمس الخارج والداخل. شفتاه تبتهجان، ونفسه أيضًا، كما يلهج لسانه اليوم كله. يليق بالمؤمن أن تتهلل نفسه وهو يسبح الله، وأن يشترك جسده أيضًافي البهجة الداخلية. وَلِسَانِي أَيْضًا الْيَوْمَ كُلَّهُ يَلْهَجُ بِبِرِّكَ. لأَنَّهُ قَدْ خَزِيَ، لأَنَّهُ قَدْ خَجِلَ الْمُلْتَمِسُونَ لِي شَرًّا [24]. كان المرتل في يقين أنه يتمتع بالنصرة. يغني بنشيدها وهو بعد في التجربة، متأكدًا أن الله إلهه يهبه إياها. * لسان الجسد"اليوم كله يتأمل برَّك" [24]، أي، أبديًا بلا توقف. لكن متى يحدث هذا؟ فيما بعد عند نهاية العالم، عند قيامة الجسد وتحوله إلى حالة ملائكية[43]. القديس أغسطينوس من وحي مز 71 أنت ملجأي وأنا في أحشاء أمي * قبل أن أعرفك، وأنا في أحشاء أمي، كنت لي ملجأ وحصنًا وسندًا. قبل أن أعبر إلى هذا العالم. كنتُ في فكرك، موضوع حبك. أعددت لي رسالة كابنٍ لك. وقدمت لي رعايتك، ملجأ لي. * عبرت طفولتي وصبوتي وشبابي، وها أنا في شيخوختي، أصرخ إليك. لا تتركني، ليس من يسندني سواك! * ليس لي برّ أتكئ عليه، إنما برَّك هو سندي، حبك هو سرّ خلاصي. أنت صخرتي وحصن حياتي. * أنت تعرف كثرة أعدائي. أنت تعلم شرورهم وظلمتهم. يجدون مسرتهم في العنف. قانونهم هو الظلم بعينه. أنت وحدك رجائي وخلاصي! * أنت هو تسبحتي وقوتي. أنت فرحي وبهجتي. بك تتهلل أعماقي اليوم كله. لا يشغلني النهار عنك، ولا يسحبني الليل عن فرحي بك. النهار كما الليل، يدفعانني للتسبيح لك. في وسط النور أتهلل بنورك. وفي وسط ظلمة الليل ألجأ إليك، فأنت نور العالم. * عندما أضعف وأخور، يتخلى أقرب من لي عني، وتبقى أنت وحدك ملجأي. * عدو الخير وملائكته لن يفتروا عن مقاومتي. لن يستريحوا حتى يحطموا نفسي. لتسرع يا إلهي لمعونتي! لتملأ حياتي كلها بك. فأنت نصرتي وتسبحتي! * ماذا يطلب العدو مني؟ إلا أن ينزع صورتك عنيَ! لن يكف عن إثارتي، كي أقيم من نفسي إلهًا، وأظن في نفسي أني بار! لأرجع إليك وأتمتع ببرَّك! ليس لي شيء من ذاتي! كل صلاح فيَّ هو عطيتك! أنت تقدس روحي وجسدي. فأسبحك بجسدي كما بربابٍ. وبروحي كما بعودٍ. كل كياني يبتهج بك، ويشهد ببرَّك، أيها القدوس العجيب! |
||||
30 - 01 - 2014, 05:12 PM | رقم المشاركة : ( 74 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 72 - تفسير سفر المزامير مملكة المسيح مخلص العالم المجيدةركز المزمور السابق على برّ الله الأمين في وعوده الصادقة نحو مؤمنيه المتألمين. هنا يكشف المرتل بروح النبوة عن مملكة المسيح المهتم بخلاص البشر، والذي يرد لهم المجد المفقود. الصورة المقدمة هنا عن الملك ومملكته تقترب جدًا من النبوات الواردة بخصوص السيد المسيح في إش 11: 1-5؛ إش 60-62. يعتبر هذا المزمور خاتمة القسم الثاني من سفر المزامير الذي يطابق سفر الخروج (مز42-72)، والتي تتحدث عن الخلاص كحياة كنسية جماعية. جاءت مقدمة هذا القسم (مز42-48) تعلن عن الأم الكنيسة شعب الله وخلاصها وهذا يطابق بداية سفر الخروج (1-15)، وجاء هذا المزمور الختامي يطابق ما ورد في نهاية سفر الخروج (25-40) حيث يعلن عن إقامة خيمة الاجتماع وظهور مجد الله علانية فيها كقصرٍ للملك السماوي، يريد أن يسكن وسط شعبه. هنا في نهاية هذا القسم من سفر المزامير ننعم بمملكة ابن داود، مملكة المسيَّا مخلص العالم. يُقال إن هذا المزمور كان يُستخدم في الكنيسة الأولى كتسبحة في عيد ميلاد السيد المسيح وعماده، فتحتفل بقبول الأمم لمملكة المسيح والخضوع له، كما تتذكر مجيء المجوس من الأمم للخضوع للملك. أقسامه 1. دستور المملكة: البرّ 1-4. 2. مملكة بلا نهاية 5-7. 3. مملكة بلا حدود 8-11. 4. مملكة حب 12-14. 5. مملكة مباركة 15-17. 6. مملكة تسبيح 18-20. من وحي مز 72 العنوان لِسُلَيْمَانَ: يرى البعض أن الكاتب هو سليمان الحكيم، أو على الأقل هو الذي وضعه في قالبه الشعري. غير أن كثير من الدارسين يرون أن الكاتب هو داود النبي بخصوص سليمان الملك في عيد تجليسه كرمزٍ للسيد المسيح، فهو مزمور رمزي مسياني. نقف في دهشة أمام داود الملك الشيخ، وهو يحتفل بتجليس ابنه سليمان ملكًا، فإن ما يشغل قلب داود وفكره ليس ابنه سليمان الحكيم، وإنما الملك الحقيقي المسيَّا المخلص، الذي يقيم مملكته الإلهية في قلوب البشرية لكي تتمتع ببرِّه، وتختبر الحياة السماوية المطوبة. يتطلع كثير من علماء اليهود إلى هذا المزمور بكونه مسياني. ظن اليهود أن هذا المزمور خاص بالملك سليمان بن داود، يقدمه المرتل داود لله، لكي يفيض ببركاته على الملك الشاب سليمان كما على الشعب. غير أننا نرى بعض العبارات لا تنطبق على سليمان، إلا بكونه رمزًا للسيد المسيح: ا. يحكم أبديًا. ب. يحقق السلام حيث وحَّد الأمم، مقدمًا للجميع سلامه. وكما جاء عنه في الرسالة إلى أهل أفسس أنه سلامنا الذي جعل الاثنين واحدًا، ونقض الحجاب الحاجز. ج. جعل البعيدين أهل بيت الله. د. جاء شرح هذا المزمور في الترجوم اليهودي أنه خاص بالمسيَّا. يقول: [اللهم أعطِ مشورات أحكامك للملك مسيَّا، وبرَّك للملك ابن داود.] كما جاء فيه شرح للعدد 17 بخصوص اسم الملك هكذا: [يُذكر اسمه إلى الأبد، وقبل أن توجد الشمس كان معدَّا، وجميع الأمم تتبارك باستحقاقه.] هـ. جاء في التلمود والمدراس أن الكلمة المترجمة "يمتد" [17] هي بالعبرية yinnon ومعناها سيدوم، وهي أحد أسماء المسيَّا، حتى أن الربيِّين يقولونها سرّا ويشرحونها "أي المسيَّا"، وأنه دُعي هكذا لأنه سيجعل النائمين تحت التراب يقومون من الأموات. إلى مجيء السيد المسيح كان اليهود يظنون أن هذا المزمور وأمثاله تشير إلى المسيَّا الملك الذي يملك على الأرض. فلا نعجب إن كانت الجموع أرادت أن تقيم يسوع المسيح ملكًا. بل والرسل أنفسهم إلى لحظات ما قبل صعوده "سألوه قائلين: يا رب هل في هذا الوقت ترد إلى إسرائيل". وأخيرًا بعد صعوده وحلول روحه القدوس عليهم تذوَّقوا عربون ملكوته السماوي، وأدركوا قوله الإلهي: "مملكتي ليست من هذا العالم". * "سليمان" تفسر "صانع سلام"، ولهذا فإن مثل هذه الكلمة موجهة إلى ذاك الذي بالحق تنطبق الكلمة عليه، والذي به تنم الوساطة لغفران الخطايا، نحن الذين كنا أعداء صولحنا مع الله. "ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه" (رو 5: 10). هو نفسه صانع سلام... فإننا إذ نجد سليمان الحقيقي، أي صانع السلام الحقيقي، فعلينا أن نلاحظ ما يعلمنا به المزمور خاص به[1]. القديس أغسطينوس 1. دستور المملكة: البرّ اللهُمَّ، أعْطِ أَحْكَامَكَ لِلْمَلِكِ، وَبِرَّكَ لاِبْنِ المَلِكِ [1]. لا ينطبق هذا القول على شاول بن قيس، ولا على داود بن يسَّى، لأن كليهما ليسا ابنيّ ملك، إنما ينطبق على سليمان بكونه ملكًا، وفي نفس الوقت هو ابن ملك. * يقول الرب نفسه في الإنجيل: "الآب لا يدين أحدًا، بل قد أعطى كل الدينونة للابن" (يو 5: 22). هذا إذن هو "اللهم، أعطِ أحكامك للملك". ذلك الذي هو الملك أيضًا هو ابن الملك، فإن الله الآب بالتأكيد الملك. هكذا مكتوب أن الملك صنع عرسًا لابنه (مت 20: 2)[2]. القديس أغسطينوس العلامة أوريجينوس * لقد أحيا الإنسان فيه، فإنه لأجل هذا اتحد الكلمة بالإنسان، حتى لا تعود تملك اللعنة التي ضد الإنسان. هذا هو السبب الذي لأجله سجل (الأنبياء) الطلب المُقدم لحساب البشرية في المزمور الواحد والسبعين (٧٢): "اللهم أعطِ أحكامك للملك"، سائلين أن يُسلم حكم الموت الذي صدر ضدنا للابن. عندئذ إذ يموت عنا يبطله فيه. هذا ما عناه حين قال بنفسه في المزمور السابع والثمانين: "عليَّ استقر غضبك" (مز ٨٨: ٧). فقد حمل الغضب الذي حلّ علينا[4]. البابا أثناسيوس الرسولي قوله: "لأعطِ حكمك للملك" معناه أنك أيها الإله الآب كما حكمت بإرسال ابنك لخلاص العالم، كما أعلن روحك القدوس، فتمم ما قد حكمت به، وأرسله إلى العالم. فالمسيح بما أنه هو الله ذاته فهو عنصر العدل، لكن بما أنه إنسان أيضًا يُقال عنه أنه أخذ عدلًا من الآب. ويدعو الذين آمنوا من اليهود شعبه، لقوله في إشعياء: "هذا الشعب يقترب مني بفمه". أما الفقراء هنا فهم الأمم الذين كانوا عديمي الخبرة الإلهية. الآب أنثيموس الأورشليمي وَمَسَاكِينَكَ بِالحَقِّ [2]. الملك الذي ينعم بأحكام الله وبرّه يهتم بالشعب بكونه شعب الله المؤتمن عليه. يسلك معه بروح البرّ والحب، ويهتم بالمساكين أي بالمظلومين. لا يطيق الله ظلم الرؤساء والحكام، سواء الدينيِّين أو المدنيين: "الرب يدخل في المحاكمة مع شيوخ شعبه ورؤسائهم. وأنتم قد أكلتم الكرم. سلب البائس في بيوتكم، ما لكم تسحقون شعبي، يقول السيد رب الجنود؟" (إش 3: 14-15). "اسمعوا هذا أيها المتهممون المساكين لكي تبيدوا بائسي الأرض" (عا 8: 4). يرى القديس أغسطينوس أن التكرار هنا مع ذكر كلمتي "شعبك" و"مساكينك"، إنما تعني أن شعب الله مساكين بالروح. [بالحقيقة بهذا يُظهر أن شعب الله يلزم أن يكونوا مساكين أي غير متشامخين، بل متواضعين. فإنه طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات (مت 5: 3). كان أيوب فقيرًا بهذا الفقر حتى قبلما يفقد غناه الأرضي العظيم. فإنه يلزمني أن أشير إلى هذا، لأنه يوجد أشخاص مستعدون أن يوزعوا كل مالهم على الفقراء، ولكنهم لا يريدون أن يكونوا هم أنفسهم مساكين الرب. إذ يفتخرون في تشامخ، ظانين أن حياتهم الصالحة تُنسب إليهم لا إلى نعمة الله. بهذا لا يعيشون حسنًا مهما فعلوا من أعمال صالحة كما يبدو لهم[5].] تَحْمِلُ الجِبَالُ سَلاَمًا لِلشَعْبِ، وَالآكَامُ بِالبِرِّ [3]. الملك الذي يسلك ببرَّ الله تمتلئ مملكته بالسلام. وكما قيل عن سليمان: "هوذا يولد لك ابن يكون صاحب راحة، وأُريحه من جميع أعدائه حواليه، لأن اسمه يكون سليمان، فاجعل سلامًا وسكينة في إسرائيل في أيامه" (1 أي 22: 9). وقيل عن السيد المسيح: "فيقضي بين الأمم، وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمةٍ سيفًا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد" (إش 2: 4). "لنمو رياسته وللسلام لا نهاية" (إش 9: 7). "ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 10). يرى القديس أغسطينوس أن السلام والعدل (البرَّ) متلازمان، وأن من يتمتع بالسلام الحقيقي يتمتع بالعدل أيضًا. كما يرى الجبال تشير إلى العظماء (المهتمين بخلاص الآخرين)، بينما تشير التلال إلى من هم أقل منهم. وكما قيل في مزمور آخر: "عند خروج إسرائيل من مصر... الجبال قفزت مثل الكباش، والآكام مثل حملان الغنم" (مز 114: 1، 4). * أولئك المتفوقون في الكنيسة لسلوكهم بالقداسة هم الجبال. إنهم مهمون لتعليمهم الآخرين (2 تي 2: 2). بحياتهم هكذا يتمثل الآخرون بهم لنفعهم. أما الآكام فهم الذين يتبعون سمو السابقين خلال طاعتهم لهم... لكِلا الاثنين (الفريقين) العدل والسلام لازمان، ويمكن للعدل أيضًا أن يُدعى سلامًا. فإن هذا هو السلام الحقيقي، الذي يختلف عن ذاك الذي يقوم بين الظالمين. القديس أغسطينوس * يقول النبي "جبالًا" و"تلالًا" عن رتب الملائكة، الذين منهم أوائل "الجبال" ومنهم من بعدهم "التلال". فإنهم لم يكونوا يترددون مع الشعب، ولكن بعد تجسد ربنا صاروا في أُلفةٍ مع شعب المؤمنين، وصار سلام للشعب. لأن دم حمل الله يسوع المسيح رفع الخطية الحاجزة بينهم وبين الناس، وضمّ السمائيِّين والأرضيين وصيَّرهم كنيسة واحدة. وأيضًا صار فرح عظيم للملائكة بتوبة الخطاة. هذا ويأمر الروح القدس المرتفعين بالفضيلة مثل موسى وسائر الأنبياء أن يصيروا في صُحبة الشعب، أعني مع الذين آمنوا من الأمم. بمعنى أن عابدي الأصنام كانوا يذبحون لآلهتهم على الجبال والتلال، وعلى كل أكَمة مرتفعة. فِعْلهم هذا كان يغضب الله، لأنهم تركوه، وهو الإله الحقيقي، وعبدوا المخلوقات. ولكن لما آمنوا بالمسيح الإله زالت معابد الأصنام، وبنيت هياكل لله. بهذا تحمل الجبال سلامًا للشعب، والآكام البرّ. الأب أنثيموس الأورشليمي يُخَلِّصُ بَنِي البَائِسِينَ وَيَسْحَقُ الظَالِمَ [4]. "ويسْحق الظالم" أو "ويذل الباغي"، إذ تمتع الكل - العبرانيون والأمم - بخلاص المسيح، تحطم عدو الخير الباغي أو الظالم، الذي سبق فملك على هؤلاء وأولئك ظلمًا، والذي لا يكف عن أن يشتكي ضد أولاد الله ويفتري عليهم بأكاذيب باطلة. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن مساكين الشعب هم العبرانيون، الذين كانوا يلازمون أسفار الشريعة بغير فهمٍ روحي الذي هو الغنى الحقيقي. وأن بني البائسين هم الأمم. صار الفريقان أبناءً للرسل بالإيمان، إذ نالوا الميلاد الروحي. بهذا انسحق الظالم، أي الشيطان! * "يقضي لمساكين الشعب، يخلِّص بني البائسين، ويسحق المفتري" (مز 72: 4). بحق يُدعى الشيطان "المفتري"، فقد افترى على الله، فبسبب الحسد اِدَّعى أن الله منع الأكل من شجرة (معرفة الخير والشر) ، وافترى على أيوب بأكاذيب، قائلًا: "هل حقًا مجانًا يتقي أيوب الله...؟ أبسط يدك الآن، ومس كل ما له، فإنه في وجهك يجدف" (أي 1: 9، 11). في المزمور الثامن أعطاه اسمين "عدو ومنتقم"، بينما يدعوه هنا (مز 72: 4) مفتريًا[6]. ثيؤدورت أسقف قورش يرى القديس أغسطينوس أن المساكين هنا وبني البائسين هم ذات الأشخاص، كأن نقول "صهيون" و"ابنة صهيون". لكن أن أردنا التمييز بينهما، فيمكن القول بأن المساكين هم الجبال، وبني البائسين هم الآكام. 2. مملكة بلا نهاية يَخْشُونَكَ مَا دَامَتِ الشَمْسُ، وَقُدَّامَ القَمَرِ إِلى دَوْرٍ فَدَوْرٍ [5]. القائد الروحي الحق يمجد الله وسط مرؤوسيه، يحمل مخافة الرب فيه. يخشونه كل أيام حياتهم، في النهار حيث تشرق الشمس، وبالليل حيث ينير القمر. يخشون الله في أفراحهم (الشمس)، كما في وسط ضيقاتهم (بالليل). يترجمها القديس أغسطينوس "يثْبتون مع الشمس". يظنونأن المسيحية لن تثبت إنما تظهر إلى زمنٍ معين ثم تزول. لكن المرتل يؤكد أنها تبقى إلى نهاية العالم، تحمل بهاء شمس البرّ، وتثبت الكنيسة (القمر) عبر كل الأجيال. يَنْزِلُ مِثْلَ المَطَرِ عَلَى الجُزَازِ، وَمِثْلَ الغُيُوثِ الذَارِفَةِ عَلَى الأَرْضِ [6]. يشير سليمان هنا إلى العلامة التي أُعطيت لجدعون، حيث طلب من الله أن يحدث طلّ على الجزَّة، وجفاف على الأرض كلها، وبعد ذلك طلب العكس أن يحدث جفاف على الجزَّة، ويكون طلّ على كل الأرض (قض 6: 37-40)، وقد حقق له الأمر. يرى كثير من الآباء مثل العلامة أوريجينوس[7]، والقديسان أمبروسيوس[8] وأغسطينوس[9] والأب قيصريوس أسقف آرل[10]، أن الجزَّة تشير إلى اليهود الذين قبلوا كلمة الله خلال خدمة موسى كالطلّ، وكل الأرض تشير إلى الأمم التي قبلت كلمة الله وآمنت بالسيد المسيح في العهد الجديد. فيما يلي مقتطفات مختصرة من تعليقاتهم على الجزَّة وكل الأرض. * إذ تعرّف داود على حضوره بالتأنس قال: "سينزل مثل المطر على جزاز الصوف ومثل الغيوث الذارفة على الأرض"، إذ دخل إلى رحم العذراء بلطفٍ في غير ضجيج[11]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أمبروسيوس تشير الجزة الجافة... إلى شعب إسرائيل القديم. فقد جاء المسيح مثل المطر على الجزة، بينما بقيت الأرض جافة. عن هذا قال: "لم أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 15: 27). هناك في إسرائيل اختار أمًا من خلالها أخذ صورة عبدٍ لكي يظهر للبشرية. وهناك أعطى هذا الأمر لتلاميذه قائلًا: "إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت 10: 5-6). بقوله اذهبوا أولًا إليهم أظهر أيضًا أنه بعد ذلك عندما تصير الأرض في طلّ، يذهبون إلى خراف أُخر، ليسوا من شعب إسرائيل السابق. عن هذا يقول: "ولي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا، فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد" (يو 10: 16). ولهذا السبب يقول الرسول أيضًا: "وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبت مواعيد الآباء" (رو 15: 8). هكذا نزل المطر على الجزاز بينما بقيت الأرض جافة. بخصوص ذلك أكمل الحديث: "وأما الأمم فمجَّدوا الله من أجل رحمته" (رو 15: 8). وعندما جاء الوقت ليتحقق ما قاله بالنبي: "شعب لم أعرفه يتعبد لي، من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 43-44). الآن نفهم أن أُمة اليهود بقيت جافة عن نعمة المسيح، بينما كل الأمم في كل العالم نزلت عليهم الأمطار من سُحب مملوءة بالنعمة المسيح[13]. القديس أغسطينوس "مثل المطر" لطبيعته السمائية، و"على الجزَّة" لناسوته. ولأن المطر ينزل على الجزاز بغير ضوضاء. لهذا فإن المجوس وهم لا يدركون سرّ الميلاد يتساءلون: أين هو المولود ملك اليهود؟ وإذ سمع هيرودس ذلك اضطرب، وأراد أن يعرف من هو هذا المولود فسأل: أين يولد المسيح؟![14] * لسنا نكرز بمجيء واحد للمسيح بل وبمجيء آخر فيه يكون ممجدًا جدًا أعظم من الأول. المجيء الأول أظهر صبره، والثاني فيحضر معه إكليل مملكته الإلهية. لأن تقريبًا كل شيءٍ في ربنا يسوع المسيح يحمل جانبين: فله نسب مزدوج، مولود من الله قبل كل الدهور، ومولود من العذراء في ملء الدهر. ونزوله مزدوج، واحد يأتي فيه مختفيًا، "مثل المطر على الجزاز" (مز 72: 6)، والآخر مجيء واحد مُنتظر. في مجيئه الأول كان ملفوفًا بقماطات في المذود، وفي ظهوره الثاني يظهر "اللابس النور كثوبٍ" (مز 104: 2). في مجيئه الأول "احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2)، وفي الثاني تحوطه جيوش الملائكة ممجدًا[15]. فنحن لا نستند على مجيئه الأول فحسب، وإنما ننتظر مجيئه الثاني أيضًا. وكما قلنا في مجيئه الأول: "مبارك الآتي باسم الرب" (مت 21: 9؛ 23: 39). سنردد أيضًا هذا في مجيئه الثاني. فإذ نتقابل مع سيدنا وملائكته، نتعبد له قائلين: "مبارك الآتي باسم الرب". سيأتي لا ليُحكم عليه، بل ليدين من حاكموه. ذاك الذي صمت أثناء محاكمته يقول للأشرار الذين فعلوا معه هذه الجسارة: "هذه الأشياء صنعتم وسكت" (مز 50: 21). إذن، قد جاء بتدبير إلهي معلمًا الناس بالإقناع، أما هذه المرة بالضرورة يقبلونه ملكًا حتى الذين لا يريدون![16] * إن الذين يتساقط عليهم ندى روح الحياة "ينزل مثل المطر على الجزاز، ومثل الغيوث الزارفة على الأرض (مز 72: 6) تنجذب قلوبهم بحبٍ إلهيٍ للمسيح يأسرهم ذلك الجمال والمجد إلى اشتهاءٍ دائمٍ نحو المسيح. القديس أبا مقاريوس الكبير القديس كيرلس الأورشليمي * وبينما كان الملاك منهمكًا في مثل هذه الأفكار قال له الرب: "لماذا أنت مضطرب وقلق يا جبرائيل؟! ألم تُرسل من قبل إلى زكريّا الكاهن؟! ألم تبعث إليه ببشائر مفرحة خاصة بميلاد يوحنا؟! ألم توقِّع على الكاهن المتشكك عقوبة الصمت؟! ألم تحمَل العاقر...؟ هل يوجد شيء غير مستطاع لديّ أنا خالق الكل؟! ألعلَّك أنت أيضًا تشك؟!"فبماذا أجابه الملاك؟ إنه يقول: "إن شفاء فساد الطبيعة، ونزع الآفات الشرّيرة، واستدعاء الأعضاء الميّتة لقوّة الحياة، ونزع العقر عن الأعضاء التي تعدّت حدود الزمن الطبيعي، وتغيير الشيوخ - العود اليابس ليكون حيًا نشيطًا - وإنتاج حنطة في أرض يابسة للحال... هذه جميعًا تستلزم قوّتك... وها هي سارة ومن بعدها رفقة وأيضًا حنّة، هؤلاء يشهدن بعد ذلك إذ رُبِطن بمرض العقر فوهبت لهن البرء منه. أما أن العذراء تلد من غير أن تعرف رجلًا، فهذا فوق حدود كل قوانين الطبيعة. ومع هذا فأنت تُعلن عن مجيئك لعبدة! السماء والأرض لا يسعانك فكيف تسعك أحشاء العذراء؟! يجيبه الرب: "نعم بالتأكيد لو أن النار التي كانت في البريّة أحرقت العلّيقة، لأمكن أن يكون مجيئي مضرًا لمريم". ولكن إن كانت تلك النار التي ترمز لمجيئي -نار اللاهوت السماوي- محيية للعلّيقة وليست حارقة لها، فماذا تقول عن الحق الذي ينزل، لا في لهيب نار، بل "ينزل مثل المطر" (مز 72: 6). لذلك قدّم الملاك نفسه لحمل الرسالة، وتوجه إلى العذراء، وخاطبها بصوتٍ جهوريٍ، قائلًا: "السلام لك يا ممتلئة نعمة، الرب معك. لا يعود بعد الشيطان يضايقك. لأنه إذ أصابك العدو بجرحٍ[18] منذ القديم، جاء الآن يعلن عن الطبيب لكي يخلّصك. فقد جاء قبلًا "الموت" (خلال حواء)، والآن يعلن عن "الحياة". بامرأة جاء فيض الشرور، وبامرأة فاضت علينا البركات". السلام لك... فإنكِ قد صرتٍ والدة الديّان والمخلّص في نفس الوقت. السلام لك أيتها الأم الطاهرة للعريس الذي يفتقر إليه العالم[19]. القديس غريغوريوس صانع العجائب * استعد أبناء إسرائيل وهيأوا أنفسهم، فحفظوا أنفسهم طاهرين لمدة ثلاثة أيام حسب وصية موسى (خر ١٩: ١٥-١٦)، حتى يتأهلوا لسماع صوت الله، وينظروا إعلانه. وإذ حلّ الوقت لم يستطيعوا استقبال رؤية نوره وعنف صوت رعوده. أما الآن حيث يسكب نعمته على العالم بمجيئه، ينزل لا في زلازلٍ، ولا في نارٍ، ولا صوتٍ مرعب قوي (١ مل ١٩: ١٢)، وإنما كالمطر على الجزاز، ومثل الغيوث الذارفة على الأرض. يتحدث معنا بطريقة رقيقة ومختلفة. هذا حدث كما في خزانة، فقد أخفى خلالها كما في حجاب جسده (عب ١٠: ٢٠)، وتحدث معنا في ذلك الجسد الذي أُعد في رحم العذراء مريم الثيؤتوكوس[20]. القديس مار اسحق السرياني الأب قيصريوس أسقف آرل إِلَى أَنْ يَضْمَحِلَّ القَمَرُ [7]. جاء في الترجمة السبعينية "يشرق في أيامه البرّ"، القائد الحامل برًّا، في إشراق هذا البرّ في حياة الشعب، بسلوكه العلمي يتلمذ الكثيرين، فيحملون برّ الله. بقوله: "إلى أن (حتى) يضمحل القمر، لا يعني أنه بعد اضمحلال القمر لا يشرق في أيامه الصدِّيق. يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "يضمحل" هنا جاءت "تُرفع" بمعنى صالح. وكأن البرّ والسلام يشرقان حتى تُرفع الكنيسة (القمر) خلال مجد القيامة لتملك مع مسيحها الذي سبقها إلى المجد، البكر من الأموات، ليجلس عن يمين الآب (مر 16: 19). في تفسيره إنجيل القديس متى دافع القديس يوحنا الذهبي الفم عن بتوليتها عند تفسيره العبارة: "لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر"، ذاكرًا بعض العبارات الكتابية جاءت فيها كلمة "حتى" بطريقة لا تعني المحدودية[22]، نذكر على سبيل المثال: "وأرسل الغراب فخرج مترددًا حتى نشفت المياه عن الأرض (تك 5: 7)، فإن كلمة "حتى" لا تعني أن الغراب عاد بعد أن نشفت المياه وجفت الأرض. وأيضًا: "قال الرب لربي اِجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لقدميك" (مز 11: 2)، لا يعني أن الجلوس عن يمين الآب ينتهي بوضع الأعداء موطئًا لقدميه، وأيضًا: "يشرق في أيامه الصدِّيق وكثرة السلام، حتى يضمحل القمر" (مز 72: 7) لا يعني عدم إشراق الصديق أو نزع السلام بعد اضمحلال القمر. كما دلل القديس على بتوليتها وعدم إنجابها أولادًا آخرين من تسليم السيد لها في أيدي القديس يوحنا الحبيب حين كان معلقًا على الصليب. فلو كان لها أولاد لما سلمها إليه. * لكي نقترب من النور الحقيقي، أعني المسيح، نسبحه في المزامير، قائلين: "أنر عينيَّ لئلا أنام نوم الموت". فإنه موت حقيقي هو موت النفس لا الجسد حين نسقط عن استقامة التعاليم الصادقة، ونختار الباطل عوض الحق. لذلك يلزم أن تكون أحقاؤنا ممنطقة وسرجنا موقدة كما قيل لنا هنا[23]. القديس كيرلس الكبير 3. مملكة بلا حدود وَيَمْلِكُ مِنَ البَحْرِ إِلَى البَحْرِ، وَمِنَ النَهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ [8]. هنا يشير إلى اتساع المملكة، فتضم الأرض كلها ببحارها وأنهارها، بدون حدود أو أسماء. فللرب الأرض وملؤها. جاء في سفر زكريا: "ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 10). * إن كان بحقٍ ويعني بتعبير القمر الكنيسة، فإنه يظهر في ديمومتها مدى اتساع الكنيسة حيث تنتشر في كل اتجاه... يقول إنه في أي حدود للأرض من أقاصيها إلى أقاصيها سيكون هو الرب، حيث يُكرز باسمه وسلطانه في كل العالم، ويغلب على الدوام. ولكي لا يوجد معنى آخر يُفهم من القول: "من البحر إلى البحر"، أضاف للحال: "ومن النهر إلى أقاصي الأرض"... لكن إذ يقول: "من النهر" يُعبر بوضوح أن المسيح أراد أن ينشر سلطانه من ذلك الموضع الذي فيه بدأ يختار تلاميذه، أي من نهر الأردن حيث نزل الروح القدس على الرب عند عماده، وجاء صوت من السماء: "هذا هو ابني الحبيب" (مت 3: 17). من هذا الموضع وَضع تعاليمه وسلطان خدمته السماوية، حتى تتسع وتبلغ إلى أقصى العالم، حيث يُكرز بإنجيل الملكوت في العالم كله، شهادة لكل الأمم، وعندئذ يأتي المنتهى (مت 24: 14). القديس أغسطينوس وَأَعْدَاؤُهُ يَلْحَسُونَ التُرَابَ [9]. "أهل البرية" تعبير خاص بالذين ليس لهم مسكن ولا وطن يعيشون فيه. هؤلاء الأحرار من العالم يخضعون له، أما الذين يقاومونه فليس لهم إلا أن يلحسوا التراب. يصيرون كالحية التي قيل لها: "ترابًا تأكلين كل أيام حياتك" (تك 3: 14). جاء في كتابات القديس أغسطينوس: "في حضرته يجثو الإثيوبيون"، إذ كانت إثيوبيا تُحسب مكانًا بعيدًا بالنسبة لإسرائيل في ذلك الحين. * إذ تُحب الأرض بالتأكيد تلحسها، وتصير عدوًا لذاك الذي يقول عنه المرتل: "وأعداؤه يلحسون التراب"[24]. القديس أغسطينوس الأب أنثيموس الأورشليمي مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّة [10]. ترشيش: هي بلاد جنوب آسيا، كانت بلادًا غنية. الجزائر: يُقصد بها جزائر البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجه. شبا: جنوب شرق الجزيرة العربية، وكانت غنية بتجارتها. * تترجم "ترشيش" مراقبة الفرح، لأن أهل الإيمان وعاملي الفضائل ينتظرون الفرح الدائم لقوله: "نَعمًا أيها العبد الصالح والأمين، أدخل إلى فرح ربك". * تقال "الجزائر" عن النفوس الثابتة والمستقرة في الرأي القويم، التي لا تزعزعها أمواج العالم وملاطمتها. * تترجم "سبأ" رجوع، أي توبة. فالذين ترقَّبوا الفرح، وكفوا عن شنائعهم، ورجعوا بالتوبة إلى الله، وصاروا ملوكًا "صالحين" وضابطين ذواتهم، هؤلاء خضعوا لملك الملوك ربنا يسوع المسيح، وقدموا لله ذواتهم وأجسادهم وأعمالهم الصالحة. * لاق هذا القول بالمسيح إلهنا الذي عند ميلاده حضر ملوك المشارق، وسجدوا له، وقربوا له هدايا. والذين كانوا سابقًا أعداء له من جهة عبادتهم للأصنام، والذين كانوا يلحسون التراب، أي المتمرغون والمولعون بالأرضيات قد خضعوا له ساجدين. الأب أنثيموس الأورشليمي وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ المُلُوكِ. كُلُّ الأمم تَتَعَبَّدُ لَهُ [11]. ينطبق هذا على الملك سليمان، فقد طلب ملوك الأرض سليمان، ليسمعوا حكمته، وكانوا يأتون إليه، ويقدمون له هدايا. وقد جاءت ملكة سبأ لتسمع حكمته. في هذا كان سليمان رمزًا لشخص السيد المسيح، ملك الملوك. * إن كان بعض منهم الآن اختلف (لم يؤمنوا به)، فإن يوم الدينونة قادم، حيث تنحني له كل ركبة ويعرفه الكل إلهًا وملكًا، كما حرر الرسول في الفصل الثاني من رسالته إلى أهل فيلبي، قائلًا: لكي باسم يسوع تجثو كل ركبة للسمائيين والأرضيين، وكل لسان يعترف أن يسوع المسيح رب لمجد الإله الآب. الأب أنثيموس الأورشليمي 4. مملكة حب لأَنَّهُ يُنَجِّي الفَقِيرَ المُسْتَغِيثَ، وَالمِسْكِينَ إِذْ لاَ مُعِينَ لَهُ [ع12]. سرّ سلطان القائد الحي، حتى تخضع له كل الأرض ليس إمكانياته المادية أو العسكرية أو مواهبه وقدراته، وإنما اهتمامه بالفقراء والمساكين الذين ليس لهم من يعينهم. فمن يهتم بالمساكين يهتم الله به ويكرَّمه. * الإنسان الفقير والمسكين هو الشعب الذي يؤمن به. يوجد في هذا الشعب ملوك يسجدون له. فإن هؤلاء لا يستنكفون من أن يكونوا فقراء ومساكين، أي متواضعين يعترفون بالخطايا ويحتاجون إلى مجد الله (رو 3: 23)، ونعمة الله، حتى يخلصهم هذا الملك، ابن الملك من القوي (إبليس). فإن هذا القوي نفسه المتعالي يدعى قتالًا، الذي يخضع الناس له، ويأسرهم في أسر خطايا البشر. القديس أغسطينوس الأب أنثيموس الأورشليمي وَيُخَلِّصُ أَنْفُسَ الفُقَرَاءِ [13]. إذ يريد الله أن يفتح مخازنه لنا، ويكرمنا يدعونا أن نفتح قلوبنا لإخوتنا المساكين والبائسين. "اقضوا للذليل واليتيم. اَنصفوا المسكين والبائس نجوا المسكين والفقير، من يد الأشرار اَنقذوا" (مز 82: 3-4). * ذاك الذي يغلب القتَّال (إبليس) ويدخل إلى بيت القوي يربطه ويسلب آنيته (مت 12: 29)، يخلص الفقير والمسكين. لأنه ليس بفضيلة أحد يتحقق هذا ولا بواسطة أي إنسان بار ولا بأي ملاك. فإنه حيث لا يوجد معين، يخلصهم هو بمجيئه. القديس أغسطينوس وَيُكْرَمُ دَمُهُمْ فِي عَيْنَيْهِ [14]. يحسب الله نفسه مدافعًا عن المظلومين والذين يُسفك دمهم ظلمًا. "لأنه مُطالب بالدماء. ذَكَرَهُمْ. لم ينسَ صراخ المساكين" (مز 9: 12). * "من الربا الفاحش والظلم يفدي أنفسهم" [14]. ما هو هذا الربا الفاحش إلا الخطايا، التي تُدعى أيضًا ديونًا (مت 6: 12)؟ إنها تدعى ربًا فاحشًا، إذ توجد شرورًا أكثر في العقوبات عما في ارتكاب الخطايا. على سبيل المثال، بينما القاتل يقتل جسم الإنسان فقط دون أن يقدر أن يؤذي نفسه، إذا به يحطم نفسه وجسده في جهنم. يُقال لمثل هؤلاء المستخفين بالوصية الحاضرة والساخرين بالعقوبة المقبلة: "عند مجيئي كنت آخذ الذي لي مع ربا" (مت 25: 27). مِن مثل هذا الربا تخلص نفوس المساكين، وذلك بالدم المسفوك لمغفرة الخطايا. * إن كان المسيحيون يبدون مُحتقرين في هذا العالم، فإن اسمهم مكرم في حضرته، الاسم الذي أعطاه لهم. القديس أغسطينوس 5. مملكة مباركة وَيَعِيشُ وَيُعْطِيهِ مِنْ ذَهَبِ شَبَا. وَيُصَلِّي لأَجْلِهِ دَائِمًا. اليَوْمَ كُلَّهُ يُبَارِكُهُ [15]. كلمة "يعيش" هنا تشير إلى التحية التي كانت توجَّه للملوك: "ليحيا الملك" (1 صم 10: 24؛ 2 صم 16: 16). "يُصلي لأجله دائمًا"، أي تُرفع عنه الصلوات، لكي يحفظه الرب وينجح طريقه. جاءت "شبا" في كتابات القديس أغسطينوس "العربية"، ويرى أنها تشير إلى الأمم، وأن الذهب يشير إلى الحكمة، هذه التي تسمو على كل التعاليم، كما يسمو بين المعادن. مكتوب: "خذوا التعقل كالفضة، والحكمة كالذهب المنقى" (راجع أم 8: 10)... لكن كيف يفهم "ويُصلي لأجله" إذ هذا أمر صعب، إن لم يفهم بأن الصلاة التي لأجل الكنيسة إنما هي صلاة لأجله، لأنها هي جسده. لأنه بخصوص المسيح والكنيسة فهذا السرّ عظيم، فإن الاثنين في جسد واحد (راجع أف 5: 32). والآن ما جاء بعد ذلك يوضح الأمر بما فيه الكفاية: "يوم كله يباركه". * تتطلع الأسفار المقدسة إلى الذهب بكونه يحمل "السلطة"[25]. العلامة ترتليان الأب أنثيموس الأورشليمي بأنَّ لك يُقدم ذهب من سبا (مز 72: 15). المزمور الذي تغني به قد تحقق الآن، فأمامك المر والذهب[26]. القديس مار أفرام السرياني تَتَمَايَلُ مِثْلَ لُبْنَانَ ثَمَرَتُهَا، وَيُزْهِرُونَ مِنَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ عُشْبِ الأَرْضِ [16]. يشير هنا إلى القمح، الذي يُصنع منه الخبز المكسور. اقتطفت الديداكية (تعليم الاثني عشر رسولًا) هذه العبارة للإشارة إلى سرّ الإفخارستيا، مصدر بركة الكنيسة. يرى القديس أغسطينوس أن رؤوس الجبال هم كتَّاب الأسفار الإلهية، أما ثمرة هذه الكتابات فهي المحبة. تُسمى هذه الثمار "عشب الأرض"، أي نباتات مثمرة. يَكُونُ اسْمُهُ إِلَى الدَهْرِ. قُدَّامَ الشَمْسِ يَمْتَدُّ اسْمُهُ. وَيَتَبَارَكُونَ بِهِ. كُلُّ أُمَمِ الأَرْضِ يُطَوِّبُونَهُ [17]. جاءت الكلمة المترجمة هنا "يمتد" في النسخ السبعينية والسريانية والترجوم "يثبت"، إذ يبقى اسم السيد المسيح ثابتًا إلى الأبد، وبه تتبارك كل أمم الأرض. * قال القديس أثناسيوس الجليل، إن أقوال هذا المزمور لم تكن موافقة لسليمان المولود من امرأة أوريا، لأنه لم يكن اسمه قبل الشمس، ولا يدوم مع القمر، ولا تعبدت له كل الأمم. فإذًا من هذا كله يتبين أن القول نبوة عن ربنا يسوع إله إسرائيل، أي الذين يبصرونه بالعقل، ويؤمنون به، ويعترفون بلاهوته، الذي تمجده كافة القبائل بألسنه مختلفة. الأب أنثيموس الأورشليمي القديس يوستين الشهيد 6. مملكة تسبيح مُبَارَكٌ الرَبُّ اللهُ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ، الصَانِعُ العَجَائِبَ وَحْدَهُ [18]. جاءت هذه الذكصولوجية [18-19] كختام للكتاب الثاني من سفر المزامير (مز 42 - مز 72). المؤمن الحقيقي يمجد الله في كل الظروف، ويحسب الله صانع العجائب وحده. "لأنك عظيم أنت وصانع عجائب. أنت الله وحدك" (مز 86: 10). "الصانع العجائب العظام وحده، لأن إلى الأبد رحمته" (مز 136: 4). "فاعل عظائم لا تُفحص، وعجائب لا تُعد" (أي 9: 10). * كيف يُقال هنا عن الابن إنه صانع العجائب وحده؟ نقول إن كلمة "وحده" هنا لم تُقل عن أقنوميته بل عن طبيعة اللاهوت المساوي فيها الآب والابن والروح القدس بغير اختلاف. الأب أنثيموس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم وَمُبَارَكٌ اسْمُ مَجْدِهِ إِلَى الدَهْرِ، وَلِتَمْتَلِئِ الأَرْضُ كُلُّهَا مِنْ مَجْدِهِ. آمِينَ ثُمَّ آمِينَ [19]. "أمين ثم أمين" هو دعاء استجابة الشعب المجتمع، يؤكد الاشتراك في تمجيد الله، مع اشتياق المؤمنين أن تشترك الأرض كلها في تمجيده. تَمَّتْ صَلَوَاتُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى الخاتمة الواردة في هنا لا تعني المزامير التي كتبها داود النبي كلها قد انتهت. إنما هي ختام للكتاب الثاني من سفر المزامير الذي ينقسم إلى خمسة كتب. من وحي مز 72 لتعلن مملكتك في أعماقي * نزلت يا ملك الملوك إلى أرضنا التي تنبت شوكًا وحسكًا. نفوسنا تئن من أجل الظلم الذي يسيطر على العالم. نزلت أيها القدوس وقبلت الظلم والألم، لتقيم مملكة البرّ في قلوبنا. تجعل من مؤمنيك ملوكًا يحملون برَّك. لا يخشون الظلم، ولا يرتبكون أمام الشر. أنت هو دستورهم، وقانون حياتهم. * لتعلن ملكوتك في أعماقي، فلا أحيد يمينًا ولا يسارًا عنك. لن يميل قلبي إلى مالٍ أو كرامةٍ أو سلطانٍ. أنت غناي ومجدي وقوتي وتسبحتي. * تهتم بشعبك المسكين بالروح. تغنيه بك أيها الحق الذي لن يتغير. تملأه بالبرّ السماوي. * تقيم من خدامك جبالًاً تفيض سلامًا على شعبك، ومن شعبك آكامًا مملوءة من برَّك. تخلص البائسين من كل الأمم والشعوب. * يظن الأشرار أنهم يبيدون اسمك، فلا يوجد للكنيسة موضع في العالم. يبقى اسمك مهوبًا إلى انقضاء، يشرق بنوره على الكثيرين الذين في الظلمة. وتتجلى في وسط كنيستك كل الأيام! * نعمتك تفيض بلا توقف، تحول البراري إلى جنات روحية مقدسة. عوض الشوك والحسك تأتي بثمر الروح الفائق. * قدر ما يذلون شعبك يتلألأ المؤمنون كالكواكب. وتمتد كنيستك من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها. تحول شاول المضطهد والمجدف إلى بولس الكارز. يطير المؤمنون كالحمام نحو السماء. ويسقط الأشرار على التراب يلحسونه. ينال المؤمنون سؤل قلوبهم: رؤية مجدك! وينال الأشرار مما اكتنزوه: تراب العالم! * سلطانك يكشف عن حبك وحنوك. تلتصق بالمتألمين والمظلومين ومن ليس لهم معين تكسر الفخاخ وتطلقهم في حرية مجد أولاد الله. دمهم المسفوك ظلمًا أمام عينيك، تكرمه! تملأ شعبك بالفرح، فلا يكف عن التسبيح لك. يشهدون لأعمال حبك المجيدة. لك المجد يا ملك الملوك القدوس وحده! |
||||
30 - 01 - 2014, 05:17 PM | رقم المشاركة : ( 75 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 73 - تفسير سفر المزامير الهيكل الجديدالقسم الأول من سفر المزامير [١-٤١] يمثل سفر التكوين، وما يشغل قلوب المرتلين هو خلاص كل إنسانٍ بالمسيَّا. وفي القسم الثاني [٤٢-٧٢] يمثل سفر الخروج وما يشغل قلوبهم هو خلاص الكنيسة بالمخلص. وهذا القسم الذي يمثل سفر اللاويين ما يشغلهم هو الهيكل الجديد ابتداءً من خرابه حتى إقامته وتكميل بنائه وبركته. في هذا القسم يُشار إلى الهيكل أو المَقدِسْ تقريبًا في كل مزمور. سرّ عظمة الهيكل هو أنه يمثل مسكن الرب الإله وسط شعبه على الأرض. إنه يود أن يتحدث معهم، ويعلن أحكامه وخلاصه لهم. إنه يظهر لشعبه ويحفظهم، وهم يقتربون إليه بالصلاة والتسبيح لله في هيكله. ما ورد هنا يحثنا على اللقاء مع رئيس كهنتنا الأعظم، ربنا يسوع المسيح، الذي يخدم الهيكل السماوي، يدخل بنا إلى مفهوم جديد للعبادة. تُنسب المزامير ٧٣-٨٣ لآساف، ومزامير ٨٤-٨٨ لقورح ماعدا مز ٨٦ لداود النبي؛ والمزمور ٨٩ لإيثان. [FONT=""]المَزْمُورُ الثَالِثُ وَالسَبْعُونَ[/FONT] [FONT=""]نجاح الأشرار[/FONT]كثيرًا ما نقف مع آساف في حيرة حين نرى الأشرار ناجحين وأغنياء، وفي ترفٍ وسعادة [٢-١٢]، بينما يعاني الأبرار من المتاعب والتجارب والضيقات [١٣-١٤]، فنتساءل: أين هي العدالة الإلهية؟ واجه المزموران ٣٧ و٤٩ نفس المشكلة، لكن هذا المزمور واجه هذه المصاعب بأكثر صراحةٍ. واجه أيوب وإرميا أيضًا ذات المشكلة. [FONT=""]مفتاح المزمور[/FONT] وردت كلمة "قلب" ست مرات في هذا المزمور؛ حالة القلب تكشف إن كان الشخص يعيش في الحق، له خبرة حياة مع برّ الله وصلاحه، أو إن كان بعيدًا عن الحق الإلهي. [FONT=""]أقسامه[/FONT] ١. لماذا ينجح الرب طريق الأشرار ١-٣. ٢. نجاح الأشرار ٤-١٤. ٣. حلّ المشكلة ١٥-٢٠. ٤. نصرة الإيمان ٢١-٢٦. من وحي مز 73 ملحق المزمور الثالث والسبعين ماذا يقول الآباء عن نقاوة القلب نقاوة القلب والقداسة نقاوة القلب والإيمان بما لا يُرى نقاوة القلب والحب نقاوة القلب والحياة السماوية نقاوة القلب وتنهداته نقاوة القلب والسلطان الحقيقي نقاوة القلب واتساعه [FONT=""]العنوان[/FONT] آساف: بحسب ما ورد في أخبار الأيام (٢٣: ٢-٥) قسّم داود اللاويين الثمانية وثلاثين ألفًا إلى أربعة أقسام (٢٤٠٠٠ + ٦٠٠٠ +٤٠٠٠ + ٤٠٠٠). القسم الأخير مكون من ٤٠٠٠ لاويًا، عُينوا للجانب الموسيقي للعبادة. من هذا القسم مجموعة مختارة من ٢٨٨ مغنيًا ينقسمون إلى ٢٤ فرقة تحت قيادة قادة للتسبيح من بينهم آساف وجرشون Gersho. كان آساف يضرب على الدفوف. نفهم من ١ أي ١٦: ٥ أنه كان إمام الموسيقى المقدسة؛ وبجانب كونه موسيقيًا كان واضعًا للمزامير ونبيًا. هذا ويرى بعض الآباء والدارسين أن المزامير المنسوبة لآساف أو غيره من الموسيقيين هي من وضع داود النبي، وأنه قدمها لهم لوضع اللحن الموسيقي لها. يرى القديس أغسطينوس أن كلمة "آساف" تعني "المجتمع"، وليس بالضرورة المجتمع اليهودي الذي قتل الرب يسوع. فمن المجتمع اليهودي تخرَّج أبناء الكباش، أي الرسل مثل بولس وبطرس ويعقوب ويوحنا وأندراوس وبرثلماوس وغيرهم من الرسل. هؤلاء كانت تعبر عليهم أحيانًا ما جاء في المزمور أفكار مرّة عن نجاح الأشرار. لكن سرعان ما يكتشفون الحق الإلهي. * يقول البعض أن المزامير كلها لداود، وهي من وضعه. وأما آساف وغيره من رؤساء المرتلين فتُعنون أسماؤهم على بعضٍ منها، لأن المذكورين أوقعوا نغماتها على الآلات الموسيقية. الأب أنثيموس الأورشليمي [FONT=""]١. لماذا ينجح الرب طريق الأشرار؟[/FONT] يقف المرنم في حيرة، فهو لا يشك في صلاح الله وبرّه وعدله [ع١]، لكنه عاجز عن تفسير مشكلة الشر، إذ يرى المتكبرين والمتشامخين في ترفٍ عظيمٍ. لعله كان يخشى لئلا تنحرف قدماه عن الحق، ويجتذبه نجاح الأشرار، أو يشك في عدالة الله ضابط الكل، أو أن عبادته لله وطاعته لوصاياه لا ينفعه في شيءٍ. * الآن فلنقترب من تلك الصلاة التي وجدناها في المزامير، وقد تحدث داود نفسه في عدة نصوص عن الأباطيل العالمية. يؤكد دومًا أن خيرات هذا العالم المزعومة باطلة، خاصة في المزمور الثامن والثلاثين الذي يقول فيه بالحقيقة كل الأشياء باطلة. كل إنسان حي يسير في صورة الله، إلا أنه باطلًا يضج (يقلق). يُذخر ذخائر ولا يدرى من يضمها! (مز 39: 5-7). وفي نص آخر يقول: "حتى متى الخطاة يا رب، حتى متى الخطاة يتمجدون؟" (راجع مز 94: 3)، لأن لهم هنا ظِل المجد، لكن حين يرحلون عن الحياة لا يحظون بمنفعة الفداء. ولا يزال داود نفسه يضم إلى المجموعة مزمور 72 الذي يعلن فيه، تحت عنوان آساف (مز 73: 1) أنه سقط في بادئ الأمر تقريبًا في هذا الأمر، تصارعه آلام غير قليلة، إذ رأى الأشرار أثرياء وأغنياء في هذا العالم، ينعمون بالرغد والوفرة، بينما هو، الذي يبرر قلبه (قابل مز 73: 13) [أو يزكىَّ قلبه]، كان تحت الآلام والضيقات! وها هو يستاء اِستياءً شديدًا في بادئ الأمر، لكنه يقوم فيما بعد ويستنير بضربات الرب، ويتعلم سيرة من يخضع خضوعًا حقيقيًا بموهبة معرفة الله[1]. * لا أجد في أي مكان أن آساف البار قد اِضطرب بأية ضيقة، بينما احتمل داود فعلًا العديد من المتاعب الشديدة المحفوفة كلها بالمخاطر. لأنه يتحدث عن أتعابه هو، وعلى هذا الأساس استمد المزمور عنوانه، لا كأنه عن "آساف البار"، بل "لأجل آساف البار". كما يظهر في النسخة المتاحة. وينكشف ذلك بالأكثر من المزامير المكتوبة باللغة اليونانية، حيث يظهر داود على أنه صاحب المزمور شخصيًا، الذي كُتب للمدعو آساف ولآخرين أيضًا لينشدوه. لكنه مكتوب أيضًا في نفس العنوان، إن مزامير داود انتهت (قابل مز 72: 20)، ومع هذا فكيف انتهت أو تمت؟! لأنه بعد استمرارنا في قراءة المزامير العشرة التالية، تظهر العناوين متضمنة "مزامير لداود" بل حتى النهاية![2] القديس أمبروسيوس إِنَّمَا صَالِحٌ اللهُ لإِسْرَائِيلَ، لأَنْقِيَاءِ القَلْبِ [1]. قبل أن يعلن المرتل مرارة نفسه التي يجتاز فيها أحيانًا حين يرى الأشرار المقاومين لله ولمؤمنيه يعيشون في رغدٍ، ويتمتعون بسلطانٍ، يؤكد أنه واثق في صلاح الله وبرِّه وعدله. لا يكف المؤمن الحقيقي عن التسبيح لله وتمجيده، حتى وإن بدت الأمور حوله فيها كثير من الارتباك. * "يا لصلاح إله إسرائيل"، ولكن لمن؟ "لأناسٍ مستقيمي القلوب" (راجع مز 73: 1)... هكذا يقول في مزمور آخر: "مع القديس تكون قدوسًا، مع الطاهر تكون طاهرًا، ومع الأعوج تكون ملتويًا" (مز 18: 25). لا يمكن أن يكون الله بأية طريقة ملتويًا. حاشا! فما هو عليه هو عليه! ولكن كما أن الشمس تبدو لطيفة لمن له عينان نقيتان سليمتان معافتان وقويتان، فهي بالنسبة للأعين الضعيفة تبدو كالسهام القاسية المندفعة ضدها. تنعش الأولى، وتضر الأخيرة، مع أنها هي نفسها لم تتغير، إنما الإنسان هو الذي يتغير. هكذا عندما تبتدئون في الاعوجاج مع الله، يبدو الله لكم ملتويًا. فما يكون لكم عقابًا يكون بالنسبة للإنسان الصالح فرحًا[3]. القديس أغسطينوس * "إنما صالحٌ الله لإسرائيل لأنقياء القلب" (مز 73: 1). يتضح النمو في الكمال الفضائلي (الأخلاقي) منذ بدايات المزمور. فلا يمكن حقًا لأي إنسان أن يقول إن الله صالح إلا الذي يعرف هذا الصلاح، لا من نجاحه الذاتي، ولا من ثرواته، بل من عمق الأسرار السماوية، وسمو مقاصد الله. لأنها تُقدر لا بمظاهر الأشياء الحاضرة، بل بمنافع الأشياء العتيدة (المستقبلة أو الآتية)، ومن ثم فالله صالح دائمًا للبار، سواء تعذب هذا البار بالآلام الجسدية، أو سادت عليه العقوبات المرة، فهو دائمًا يقول: "إن كنا قد قبلنا الخيرات من يد الرب، فلماذا لا نحتمل السيئات؟" (أي 2: 10 LXX ). فهو يتهلل، لأنه يتأدب (يعاقب) هنا، ليجد تعزية في المستقبل. إنه يدرك أن من نال الخيرات في هذه الحياة، قد نال جزاءه (مت 6: 2). والإنسان الذي لم يجاهد أو يُجرب في صراع متعدد الصعاب، لا يقدر أن يكون له رجاء في المجازاة العتيدة. لكن الذي يتألم ويصارع... يتهلل في هذا العالم، إما لأنه يدفع ثمن خطاياه هنا، أو لأنه يعرف أن ثمة نعمة وفيرة فائضة مع الرب، إن كان يتألم ظلمًا عن اسم المسيح، أو لأجل عمل صالح، فمكتوب: "لأنه أي مجد إن كنتم حين تُخطئون تُعاقبون وتحتملون (العقاب)، بل إن كنتم تصنعون خيرًا وتتألمون، فهذا فضل (نعمة) عند الله، لأنكم لهذا دُعيتم حقًا. فإن المسيح مات أيضًا لأجلنا تاركًا لنا مثالًا؛ لكي تتبعوا خطواته، الذي لم يفعل خطية ولا وُجد في فمه مكر. الذي إذ شُتم لم يكن يَشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد!" (1 بط 2: 20-23). هكذا البار، حتى وهو في عمق الضيقة يظل بارًا. لأنه يبرر الله ويتوب، معترفًا أن آلامه أقل من خطاياه، متعهدًا أن يبقى حكيمًا دائمًا. لأن الحكمة الحقيقية الكاملة لا تُسلب بعذابات الألم والضيق، ولا تفقد طبيعتها، لأنها تُلقي الخوف خارجًا بمقصدها الغيور المحب (قابل أي 4: 18). تمامًا كما يعرف الحكيم أن الآلام في هذا الجسد لا تقارن بالمجد العتيد، وأن جميع آلام الزمان الحاضر، لا يمكن أن تساوي المجازاة العتيدة (رو 8: 18). لهذا فإن الله بالنسبة له الذي يعرف زمان الحصاد، هو صالح دائمًا. وكمزارع صالح، يحرث حقله هنا بمحراث الامتناع الصارم عن (الشهوات) حقًا. ويُنقي أرضه هنا بمنجل الفضائل الذي يستأصل الرذائل إن جاز التعبير. وهو يُسمَّد هنا بتواضعه وانسحاق نفسه حتى الأرض، لأنه يعرف أن "الله يقيم المسكين من التراب، ويرفع البائس من المزبلة" (مز 113: 7). حقًا لو لم يُحسب بولس الرسول العالم كنفاية (dung) ما استطاع أن يربح المسيح نفسه (في 3: 8). ومثل هذا الإنسان يسهر على محصوله هنا، ليُخزِّنه فيما بعد هناك دون هَمٍ. ولهذا فالله بالنسبة له دائمًا صالح؛ لأنه يرجو دومًا الصالحات من الله. تأملوا نقطة أخرى، "إنما صالحُ الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" (مز 73: 1). فهل الله ليس صالحًا للجميع؟ حقًا هو صالح للكل، لأنه مخلص جميع البشر، خاصة للمؤمنين. لهذا أتى الرب يسوع ليخلص ما قد هلك (لو 19: 10). حقًا جاء ليحمل خطية العالم" (يو 1: 29)، وليشفي جراحتنا، لكن ليس الجميع يرغبون في العلاج! كثيرون يتجنبونه! لئلا يَحقن القُرح بالعقاقير، ويفقد سطوته. لهذا السبب يشفي الذين يريدون الشفاء ولا يرفضونه. لهذا من يرغبون في العلاج يستعيدون صحتهم، أما الذين يقاومون الطبيب ولا يطلبونه فلا يتمتعون بصلاحه، لأنهم لا يختبرونه! ومن نال الشفاء يستعيد صحته. لهذا فالطبيب صالح بالنسبة للذين أعاد إليهم عافيتهم. من ثَمّ الله صالح لأولئك الذين غفر خطاياهم، لكن إن كان لإنسان خطية لا علاج لها في روحه، فكيف يُقيِّم الطبيب على إنه صالح، بينما هو يتحاشاه؟ ولهذا كما قلت قبلًا، شرح الرسول بحق أن الله "الذي يريد أن الجميع يخلصون" (1 تي 2: 4)، هو صالح لكل الناس. أما نعمة صلاح الله الخاصة، فهي مكفولة بالأكثر لجميع المؤمنين الذين ينالون عونًا من إرادته الصالحة ونعمته. لكن حين يقول المرتل أيضًا: "إنما صالحُ الله لإسرائيل، لأنقياء القلب" فإنه ينقل مشاعر الذين لا يعرفون كيف يتمتعون بما يخص الله، عدا أنه صالح نحو كل شيء وهو في الكل[4]. القديس أمبروسيوس لعل المرتل هذا يقصد أن الله صالح لكنيسته (إسرائيل الجديد)، التي يليق بها أن يكون أعضاؤها أنقياء القلب. الله صالح ومحب لكل البشرية، خاصة الذين يتمتعون بنقاوة القلب. أَمَّا أَنَا فَكَادَتْ تَزِلُّ قَدَمَايَ. لَوْلاَ قَلِيلٌ لَزَلِقَتْ خَطَوَاتِي [2]. إن كان المرتل يُزكي نفسه، أنه يؤمن بصلاح الله، ويراه صالحًا، لكنه يبقى حذرًا من نفسه، لئلا تزل قدماه عن استقامة القلب ونقاوته، فيتشكك في صلاح الله. "من كان قائمًا فليحذر لئلا يسقط". * تقال الأقدام والخطوات عن الأفكار. هذه استعارة لطيفة، لأنه كما أن الأقدام والخطوات تنزلق في الطريق الشاقة، كذلك الأفكار إذ تتعلق في وقت الشدائد، تنزل إلى ما لا يليق. الأب أنثيموس الأورشليمي * متى تتحرك القدمان إلا عندما لا يكون القلب مستقيمًا... تتحرك القدمان لتسلكا في الضلال، وتزل الخطوات للسقوط، ليس بالكامل وإنما "كادت" أن تسقط. القديس أغسطينوس * فيما يلي حقًا يضع داود خبرته الشخصية حين يقول: "أما أنا فكادت تزل قدماي، كادت تزلق خطواتي، لأني غرت من الخطاة، إذ رأيت سلام الأشرار!" (مز 73: 2-3)، وهو بالتأكيد لا يتحدث عن أقدام جسدية، ولا عن خطوات جسدية، بل عن استقامة القلب التي يقول عنها في مزمور آخر: "لا تأتني رجل الكبرياء، ويد الأشرار لا تزحزحني" (مز 36: 11). لهذا يجب علينا دائمًا أن نسأل الرب، ليرشد خُطى أرواحنا، لئلا تقسط وتنزلق في نوعٍ ما من مستنقع الخطأ! فلا نقوى على الثبات. أيضًا سبب سقوط داود أنه غار من سلام الأشرار (الخطاة). لكننا ينبغي أن نغير في الحُسنى (في الصالحات)، لا بما هو ملآن خزيًا، كما يقول الرسول بولس أيضًا: "حسنة هي الغيرة في الحسنى كل حين" (غل 4: 18)[5]. القديس أمبروسيوس يرى القديس جيروم أن الحديث هنا بخصوص الهراطقة الذين وإن كرروا اسم المسيح، لكن الله لا يسكن في وسطهم، إذ يكرمون الله بشفاههم وقلوبهم بعيدة عنه. إنهم يتآمرون ضد الكنيسة[6]. * لنسرع بالعبور خلال فضيلة الصبر واحتمال الاضطهادات... لكننا إذ ننتهي من هذا العبور نكون قد بلغنا مرامنا، وعندئذ يليق بنا أيضًا أن نكون في يقظةٍ وحذرٍ لئلا خلال الإهمال الزائد في سيرتنا نتعثر: "أما أنا، فكادت تزل قدماي" [ع2]. كأن النبي يقول: يلزمنا ألاَّ نكون أقل حمية في الاحتفاظ بالفضائل عنه عندما كنا نبحث عنها[7]. العلامة أوريجينوس لأَنِّي غِرْتُ مِنَ المُتَكبِرِينَ، إِذْ رَأَيْتُ سَلاَمَةَ الأَشْرَارِ [3]. يقدم لنا المرتل السبب لخوفه من أن تزل قدماه وتنزلق خطواته، ألا وهو ما يتمتع به الأشرار المتكبرون من سلام. إنه سلام العالم وليس سلام المسيح الداخلي. * ألاحظ الخطاة وأراهم في سلامٍ. أي سلام؟ سلام وقتي، زائل، ساقطً، أرضي، ومع هذا فأنا أطلب هذا من الله. أرى الذين لا يخدمون الله ينالون ما أشتهي لكي ما أخدم الله[8]. القديس أغسطينوس * لا ترتبكوا لحقيقة أنه حسب السلام شرًا. فإنكم تجدون حقًا في الإنجيل أيضًا سلامًا يرفضه المسيح، كما يقول هو نفسه: "سلامي أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم، ليس كما يعطي العالم، أعطيكم أنا" (يو 14: 27) لأن هناك سلام لا يكون حجر عثرة، وسلامًا يكون! أما الذي لا يكون حجر عثرة فهو سلام الجسد، والذي يعثر هو سلام التظاهر (الرياء). لهذا أيضًا يقول النبي: "سلام سلام، وليس سلام" (حز 13: 10). فليهرب إذن من سلام الأشرار، لأنهم يتآمرون ضد البريء ويجتمعون على مضايقة البار (حك 2: 12)، ويقهرون الأرملة ويسحقون تواضعها![9] القديس أمبروسيوس [FONT=""]٢. نجاح الأشرار[/FONT] أمام هذه المشكلة الخطيرة رأى المرتل أن العلاج هو عرضها على الله نفسه في الهيكل المقدس. هذا ما فعله حزقيا الصالح حينما أرسل إليه أشور يهدده، فقد بسط الرسائل كلها أمام الرب (2 مل 19: 14). هكذا يمكن للمؤمن إذ يعرض مشاكله بصراحة وإيمان أمام الرب في هيكله المقدس، يجيبه الرب ويقدم له الحلول. عندما تطلع المرتل إلى مستقبل الأشرار غيَّر فكره [ع١٧-١٩]، وخجل من نفسه [ع٢١-٢٢]. لقد اِكتشف أن الأشرار سرعان ما يختفون، ويسقطون في شباك خداعهم. لأَنَّهُ لَيْسَتْ فِي مَوْتِهِمْ شَدَائِدُ، وَجِسْمُهُمْ سَمِينٌ [ع4]. لَيْسُوا فِي تَعَبِ النَاسِ، وَمَعَ البَشَرِ لاَ يُصَابُونَ [ع5]. لا يقف الأمر عند تمتع الأشرار المتكبرون بالسلام الزمني، وإنما كثيرًا ما لا تصيبهم كوارث عند موتهم، ولا يصابون بالأمراض، وكأنهم نوع خاص من البشر، لا يشاركون بقية البشرية متاعبهم ومصائبهم. يرى القديس أغسطينوس أنه لا يجوز لنا أن نحسد الأشرار فإن إبليس نفسه لا تصيبه كوارث ومصائب، لكن جهنم محفوظة له. * أليس الشيطان نفسه لا يتعرض لكوارث مع البشر، ومع هذا فقد أعد له عقاب أبدي؟[10] القديس أغسطينوس * إنهم لا يحرثون ولا يزرعون ولا يحصدون ولا يتعبون بعمل الأيدي، كما أمر الله بالعمل الذي صار جلدًا وتأديبًا للبشر على معصية آدم، كقول الله: "بعرق جبينك تأكل خبزك". الأب أنثيموس الأورشليمي * يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا أن الذين يدنسون أنفسهم بكل صنوف الخطايا والشر ومع ذلك لا توجد علامات منظورة لملكية الشيطان عليهم (أي أن تُجرب أجسادهم)، ولا تحل بهم أية تجربة تتناسب مع أفعالهم، ولا يتحملون أي عقاب، هؤلاء بؤساء وأشقياء. لأنه لا يوهب لهم علاج خفيف وسريع في هذا العالم، بل بسبب غلاظة قلوبهم يستحقون عقابًا أشد في تلك الحياة، إذ يذخرون لأنفسهم "غضبًا في يوم الغضب، واستعلان دينونة الله العادلة" (رو 2: 5)، حيث "دودهم لا يموت، ونارهم لا تُطفأ" (إش 66: 24). كأن النبي قد تحيّر إذ رأى القديسين يخضعون لخسائر متنوعة وتجارب، بينما رأى الأشرار ليس فقط يعبرون حياتهم في هذا العالم بغير أي تأديب مملوء ذلًا، بل يتمتعون بغنى عظيم وتنعمٍ وفيرٍ في كل شيء. فاشتعل النبي بغيظٍ غير مضبوط وغيرة، معلنًا: "أما أنا فكادت تزلُّ قدماي. لولا قليل لزلقت خطواتي. لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار. لأنهُ ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين. ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يُصابون" (مز 73: 2-5). إذ يعاقبون فيما بعد مع الشياطين، لأنه لم يوهب لهم في هذه الحياة أن يؤدبوا مع بني البشر في عِداد الأبناء[11]. الأنبا سيرينوس * رأينا أن الغني الذي كان يرتدي الأرجوان والبز والحرير (لو 16: 19-24) في عالمه قد اتكأ إلى مائدةٍ، وأقام وليمةً كبيرةً كل يوم. وحينما كان في عذاب الجحيم (الهاوية)، لم يستطع أن يستلقي ويستريح، لكن في صعوبةً بالغة رفع عينيه فقط إلى إبراهيم ، ولم يرفع جسده كله، وسأله أن يرسل لعازرَ ليغمس طرفَ إصبعه فقط في الماء ليبلل لسانه. لهذا "ليس في موتهِ راحة، ولا في ضيقته قوة" (مز 73: 4)، لأنه لا قيمةَ للضربات بعد الموت. لهذا وبينما كان داود في حياة الجسد، استعد للضرباتِ ليقبله الربُ كواحدٍ قد خضع للتأديب. فكروا مرةً أخرى، أرجوكم، في أيوب القديس الذي تغطَىَ جسدهُ كلهُ بالقروح، وعانت كلُ أطرفه من الضيقات، وامتلأ جسدهُ كلهُ ألمًا، حتى أذاب كتل أوراق الأرض بإفرازات جراحه الفاسدة، وإذ لم يقدر أن يستريح في هذا الجسد، وجد الموت راحة له! وإذ فكر في حاله قال: "الموت راحة للإنسان". لهذا لم يتوتر لآلامه وينزعج، ولا تقلقل في ترك حديثه. لأنه كما يشهد عنه الكتاب المقدس: "في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه" (أي 2: 10). بل بالحري وجد قوةً في معاناته وآلامه! بها تقوَّى في المسيح. لهذا فإن كلًا من أيوب وداود لأنهما ضُربا (تأدبًا) هنا، كانت لهما قوة في ضيقاتهما، لأن "الأبَ يؤدبُ الابنَ الذي يقبله" (أم 3: 12 LXX؛ عب 12: 6) . لكن الذين لا يُؤدَبون هنا، لا يُقبلون كبنين هناك! وهناك هم "ليسوا في تعبَ الناس، ومع البشر لا يصابون" (مز 73: 5)، لأنهم يُضَربون مع الشيطان إلى الأبد[12]. القديس أمبروسيوس * يسأل إرميا: "لماذا تُنجح طريق الأشرار؟" (إر 12: 1) لأنه مكتوب: "لأن الرب مكافئ طويل الأناة" (راجع 2 تس 1: 5). غالبًا ما يضع زمانًا طويلًا للذين سيدينهم أبديًا. لكن أحيانًا يضرب الله سريعًا، ليسرع بمساندة الأبرياء الخائفين. هكذا أحيانًا يسمح الله القدير للشرير بزمنٍ طويلٍ حتى يتطهر بالأكثر طريق الأبرار. وأحيانًا يقتل الأشرار بخراب سريع، حتى بهلاكهم يُقوي قلوب الأبرار[13]. البابا غريغوريوس (الكبير) لِذَلِكَ تَقَلَّدُوا الكِبْرِيَاءَ. لَبِسُوا كَثَوْبٍ ظُلْمَهُمْ [6]. إذ يتحدث المرتل عن مرارة نفسه من جهة الظالمين، غالبًا ما كان يتطلع إلى بعض العظماء وأصحاب المراكز العليا الذين يمارسون الظلم في عجرفة. وبروح الكبرياء يحسبون كأن ليس إله ليردعهم. إنه يتطلع إلى أطواق الذهب التي يقلدون بها رقابهم وثيابهم الثمينة، فيرى أن وراء هذه القلادات الذهبية توجد سلاسل تكبل نفوسهم، ووراء الثياب الزاهية الثمينة يوجد رداء الظلم تلتحف به أعماقهم. يزيِّنون أجسامهم بالذهب والثياب الفاخرة، لكن نفوسهم عارية بسبب الكبرياء والظلم. يرى القديس أغسطينوس في هؤلاء الأشرار الظالمين أنهم يزينون الخارج بالقلادات والثياب الفاخرة، فيحسبهم من يراهم أنهم في غاية السعادة. لكن هذا المظهر يخفي أعماقهم التي لا يراها الأشرار أنفسهم ولا الذين حولهم. من الخارج سعادة وقتية وصحة وغنى وسلطان، وفي الداخل قلق ومخاوف وضمير معذب ولا راحة! * "لذلك تقلدوا الكبرياء" [6]. لاحظوا هؤلاء الناس المتكبرين الذين بلا انضباط! لاحظوا الثور المُعد للذبح، فإنه يُسمح له أن يبقى في حرية، ويخِّرب ما يريد، وذلك حتى يحل يوم ذبحه... يشير الكتاب المقدس في موضع آخر أنهم كمن هم يُعدون للذبح، وتُركت لهم الحرية الشريرة (أم 7: 22)... إنهم يتغطون من كل الجوانب بشرورهم. يستحقون بحقٍ أن يكونوا بؤساء، إذ لا يرون ولا يُرون، لأنهم مرتدون ثيابًا، ولا يُنظر ما في داخلهم. لأنه من يستطيع أن يرى ما بداخل الأشرار، يدرك أنهم سعداء إلى حين، ويمكنه أن يرى ضمائرهم المعذبة، ونفوسهم مُغلفة بقلاقل مذهلة من جهة الشهوات والمخاوف، ويراهم بؤساء حتى وهم يُدعون أنهم سعداء[14]. القديس أغسطينوس * سيَطر عليهم كبرياؤهم، وتغطوا بآثامهم وشرهم (مز 73: 6). فالإثم يوفر غطاءً رديًا. إن أراد أحدٍ أن يكسونا به يجب علينا أن نخلعه، وإلا يأتي معنا إلى القضاء (الدينونة). وإن حاول أحد أن يخلع رداءنا الروحي الذي تسلمناه لا نقبل ذلك. اخلعوا ثوبَ الإثمِ، والبسوا غطاء الإيمان والصبر الذي بهما غطى داود نفسه في الصوم، لئلا يفقد ثوب الفضيلة. الصوم نفسه غطاء، فحقًا ما لم يغطِ الصوم المقدس القديس يوسف لعّرتَه الزانية الشهوانية (قابل تك 29: 12). لو أن آدم اختار أن يغطي نفسه بذلك الصوم لما تعرَّى! لكن لأنه تذوق من شجرة الخير والشر، معاندًا المنعَ السماوي، ومتعديًا على الصوم (كاسرًا لقانونه)، الذي فُرض عليه بتناوله طعام "الانصياع للشهوة الحسية"، فقد عرَفَ أنه عريان (قابل تك 3: 6-11). لو صام لحفظ ثوب الإيمان، وما رأى نفسه عاريًا. فلننأى نحن عن تغطية ذواتنا بالإثم والشر، لئلا يُقال عن أحدنا "لبس اللعنة كثوبٍ" (مز 109: 18). فقد كسا آدمُ نفسه بكساءٍ ردي، وراح يتلمس أغطية من أوراق الشجر! لهذا نال حُكم اللعنة. (تك 4: 11) ولبس اليهود لعنةً؛ إذ كُتِب عنهم: "حفظ إثمهم كما الشحم (الدهن)، جاوزوا تصوراتِ قلوبهم" (مز 73: 7)، لأنه من "الدهن" تشتق كلمة "سمين" أي "غني"[15]. القديس أمبروسيوس * عندما كان الإسرائيليون في محنة كانوا يزدادون بالأكثر في العدد، ولكن عندما تركهم لأنفسهم هلكوا جميعًا. ولماذا نتحدث عن أمثلة من القدماء؟ ففي وقتنا هذا، لننظر أليس الأمر هكذا، عندما يكون الغالبية في حال يُسرٍ، ينتفخون، ويعادون كل أحدٍ، وينفعلون بالغضب عندما تكون لهم سلطة... ولكن عندما تزول عنهم السلطة يصيرون لطفاء ومتواضعين، ويشعرون بحالهم الطبيعي. لهذا يقول الكتاب: "الكبرياء أمسك بهم إلى النهاية، انطلق الشر كما من السمنة" (راجع مز ٧٣: ٦ LXX)[16]. القديس يوحنا الذهبي الفم جَحَظَتْ عُيُونُهُمْ مِنَ الشَحْمِ. جَاوَزُوا تَصَوُّرَاتِ القَلْبِ [7]. إذ ينال الأشرار فوق ما كانوا يتوقعون صاروا كمن هن في سمنةٍ أفسدت شكلهم، وأضرَّت عيونهم التي صارت كما لو كانت بارزة، وليس في وضعها الطبيعي. هذا ما يحدث أحيانًا بالنسبة لأجسامهم المنظورة، فكم بالأكثر بالنسبة لنفوسهم وأعماقهم التي تفقد جمالها وبصيرتها الداخلية. بالنسبة لتصورات القلب، فربما تشير إلى ما كانوا يتوقعون نواله، أو ما كانوا يخططون له، أو يهدفون إليه. يرى القديس أغسطينوس في مَثل لعازر والغني توضيحًا لذلك. فلعازر الفقير كانت الكلاب تلحس قروحه، وإذ مات جاءت ملائكة تحمل نفسه بكرامة عظيمة. أما الغني فكان يلبس الثياب الفاخرة ويعيش حياة رغيدة، وإذ مات دفن، وربما اهتم كثيرون بالمشاركة في جنازته. الأول ربما لم يجد من يدفن جثته، لكن الملائكة كرّمته! * يقول القديس أثناسيوس: "إن نعومة وخصب معيشتهم زاد وفاض مثل شحمٍ ثمين خارجًا، فمن ذلك تمكن الخبث في قلوبهم، واعتادوا عليه حتى صار لهم عادة وإدمانًا". الأب أنثيموس الأورشليمي يَسْتَهْزِئُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ بِالشَرِّ ظُلْمًا. مِنَ العَلاَءِ يَتَكَلَّمُونَ [8]. حينما يسخر إنسان بآخر، غالبًا ما يلوم نفسه ولو خفية. أما الأشرار المتكبرون فيسخرون بإخوتهم في داخلهم، ولا يخجلون من التعبير عن سخريتهم بالحديث علانية وبروح متعالية. * يتكلم الناس بضغينة ولكن بخوف (داخلي)، أما هؤلاء فكيف؟ "بالشر من العلاء يتكلمون". ليس فقط يتكلمون بالشر، وإنما أيضًا علانية في مسمع الجميع، في تشامخٍ: "إنني سأفعل هذا"؛ أنا سأُعرفك ماذا أفعل بك!"، "ستعرف مع من أنت تتعامل"، "لن أتركك تعيش". يمكن أن تكون مثل هذه الأفكار فيك أيها المتكبر، لكن لا يليق أن تنطق بها[17]. القديس أغسطينوس * أعني أن أفكارهم وكلامهم كان شرًا، حتى تجاسروا أن يتكلموا على الله العلي بالتجديف، وينسبوا إليه ظلمًا، بقولهم إن الله لا يبالي بما يفعله الناس من الشرور. الأب أنثيموس الأورشليمي جَعَلُوا أَفْوَاهَهُمْ فِي السَمَاءِ، وَأَلسِنَتُهُمْ تَتَمَشَّى فِي الأَرْضِ [9]. إن كان التائبون يقولون مع الابن الأصغر: "أخطأت يا أبتاه إلى السماء وقدامك"، فإن الأشرار المتكبرين ينطقون ضد السماء. يظنون أنهم كائنات فائقة يمكنهم أن يقاوموا السماء والسمائيين، ويسلكوا في الأرض كما بألسنتهم، ما يقولونه يُنفذ تحت كل الظروف، يأمرون فيُطاعون. * "جعلوا أفواههم ضد السماء وألسنتهم تعبر فوق الأرض"... · إنه لا يفكر في أنه يمكن أن يموت فجأة وهو يتكلم، إنما يهدد كمن يعيش على الدوام. فكره يعبر فوق الضعف الأرضي، ولا يعرف ماهية نوعية الإناء الذي يلتحف به. إنه لا يعرف ما هو مكتوب في موضع آخر عن مثل هؤلاء البشر: "تخرج روحهم فيعودون إلى ترابهم، في ذلك اليوم تهلك كافة أفكارهم" (مز 146: 4). أما هؤلاء الناس إذ لا يفكرون في يومهم الأخير، يتكلمون في كبرياء، ويجعلون أفواههم في السماء، متجاوزين الأرض. لو أن لصًا لا يفكر في يومه الأخير، أي يوم محاكمته الأخيرة عندما يُرسل إلى السجن، لا يوجد من يكون رهيبًا أكثر منه، وكان يليق به أن يهرب[18]. القديس أغسطينوس * "جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى في الأرض" (مز 73: 9). نحن نعرف معنى جعلوا أفواههم في السماء (أو حرفيًا جهة السماء)، من الابن الأصغر أحد الابنين الذي عاد إلى أبيه، قائلًا: "أخطأتُ يا أبتاه إلى السماء وقدامك" (لو 15: 18). لكن الذين يظنون أن الحرية في الخطية، قد أُعطِيتْ لهم بواسطةِ حتمية المولد بشكل ما، إنما يجعلون أفواههم ضد السماء، ومثل هؤلاء لا يستبقون سماءً ولا أرضًا، إذ يعتقدون أن حياةَ الإنسانِ محكومةٌ بمسارِ النجوم، حسب ظنهم، فلا يتركون شيئًا للتدبير الإلهي[19]. القديس أمبروسيوس لِذَلِكَ يَرْجِعُ شَعْبُهُ إِلَى هُنَا، وَكَمِيَاهٍ مُرْوِيَةٍ يُمْتَصُّونَ مِنْهُمْ [10]. إذ يرجع شعب الله أو المؤمنون الحقيقيون إلى هذا التساؤل بخصوص نجاح الأشرار المتكبرين، يصيرون كمن يمسك بكأس مملوءة سمًا أو سكرًا، لا ليتذوقوه، بل يشربونه بالكامل. يدخلون في نوع من الارتباك، لا يعرفون كيف يفسرون ما يحدث مع الأشرار. لعله يقصد أنه إذ يسمح الله بتأديب شعبه بواسطة الأشرار، كما حدث عندما سمح بالسبي البابلي، فإنه إذ يرجع الشعب إلى الله يردهم إلى أرض الموعد، فيرتوون بخيرات الأرض. وَقَالُوا: كَيْفَ يَعْلَمُ اللهُ، وَهَلْ عِنْدَ العَلِيِّ مَعْرِفَة؟ [11]. هذه هي لغة الأشرار المتكبرين، فإن الحياة المترفة الرغيدة دون تقديس تقود إلى نوعٍ من الإلحاد العملي. في تشامخٍ يظنون أن الله في سماواته لا يبالي بالأرض، ولا ينشغل بمعرفة شئون البشر. * اُنظروا أي فكر يعبر بهم. اُنظروا الناس الظالمين هم سعداء، والله لا يبالي بالأمور البشرية. هل بالحقيقة يعرف ما نحن نفعله[20]. القديس أغسطينوس * لهذا فإن الذين كانوا في الخطية قالوا: "كيف يعلم الله، وهل عند العلي معرفة؟" (مز 73: 11)، فهم يفترضون أن المعرفة ليست في الله! لأن الخطاة يمكثون حقًا في الرغد العالمي[21]. القديس أمبروسيوس هُوَذَا هَؤُلاَءِ هُمُ الأَشْرَارُ، وَمُسْتَرِيحِينَ إِلَى الدَهْرِ، يُكْثِرُونَ ثَرْوَةً [12]. إذ ينشغل الأشرار بجمع المال ومحبته، يرون في الذهب أثمن من العدل. ولكي تستريح ضمائرهم يدَّعون أن الله لا يبالي بالبشرية، وليست لديه معرفة بأمورهم. * النفس الجسدانية التي تهتم بالأمور المنظورة الأرضية، تبيع عدلها (برّها)". أي نوع من العدالة يبقى من أجل اقتناء الذهب، إذ يبدو كأن الذهب أثمن من العدالة نفسها. أو كما لو أن إنسانًا ينكر ما أودعه آخر لديه، فإن الخسارة التي تلحق بمن ينكر الوديعة أعظم من تلك التي تلحق بمن فقد ما سلمه كوديعة، فإن الأخير يفقد ثوبًا (أودعه) والأول يفقد أمانته[22]. القديس أغسطينوس حَقًّا قَدْ زَكَّيْتُ قَلْبِي بَاطِلًا، وَغَسَلْتُ بِالنَقَاوَةِ يَدَيَّ [13]. بعد أن عبَّر المرتل عن أنات قلبه حين كان يرى الأشرار المتكبرين في حالة رغدٍ وأصحاب سلطانٍ وبصحةٍ، وقد جعلوا أفواههم ضد السماء وسكانها، والأرض والساكنين فيها، لا يبرر المرتل نفسه. إن انشغاله بسلام الأشرار الباطل لا يفيده شيئًا. يرجع المرتل إلى الله ليعلن أنه وإن زكىّ قلبه ودوافعه الداخلية من جهة عبادة الله، وإن حاول أن يغسل يديه أو سلوكه بالنقاوة، فباطلًا يفعل بدون نعمة الله. لعله يقول: وإن حلت بي الضيقات والمتاعب لا أتذمر فإنني لست أبرر نفسي، إنما أنت هو برِّي ومخلصي ومجدي! لا أعود انشغل بما أحسبه ظلمًا، إنما لأركز كل بصيرتي وكل طاقاتي نحوك يا مبرر المؤمنين بك. لن أطلب مكافأة في هذا العالم! * يقول المرنمِّ نفسه: "حقًا قد زكيّتُ قلبي باطلًا، وغسلت يّديَّ وسط الأبرياء (الأنقياء)" (مز 73: 13). هذا يعني أن الخطاة ينعمون بكثرة الخيرات، يرون أن كل الأشياء تسير سيرًا حسنًا ونافعًا لهم، بينما أُسحق أنا وأنضغط تحت وطأة ضيقات عديدة. باطلًا إذن سلمتُ نفسي للنقاوة، وكرَّستُ نفسي لسيرة حياة معتدلة مستقيمة. حقًا يقول: "غسلتُ يَديَّ وسط الأنقياء"، لكي لا يبدو كمن يزعم النقاوة لنفسه، بل كواحدٍ يسعى سعيًا دؤوبًا نحوها[23]. القديس أمبروسيوس * نحن نعلم أن القديسين يُصابون بأمراض ومآسٍ وعوزٍ، وربما يُجربون حتى يقولوا: "حقًا، قد زكيت قلبي باطلًا، وغسلت بالنقاوة يديَّ" (مز 73: 13)... إن ظننت أن عماك سببه الخطية، وأن المرض الذي غالبًا ما يستطيع الأطباء إبراءه هو شهادة على غضب الله، فإنك تحسب اسحق خاطئًا، لأنه صار غير مبصرٍ تمامًا، حتى خُدع عندما بارك إنسانًا لم تكن في نيته أن يباركه (تك 27). وستتهم يعقوب بالخطية، إذ صار بصره عاجزًا، حتى لم يستطع أن يرى أفرايم ومنسي (تك 48: 10)، مع أنه ببصيرته الداخلية وروح النبوة استطاع أن يرى مقدمًا الأحداث المقبلة، وإن المسيح يأتي من النسل الملوكي (تك 49: 10). هل من ملك أكثر قداسة من يوشيا؟ لقد ذُبح بسيف المصريين (2 مل 23: 29). هل يوجد قديسون أسمى من بطرس وبولس؟ مع هذا سُفك دمهما بسيف نيرون. لا نتكلم بعد عن بشرٍ، ألم يحتمل ابن الله عار الصليب؟[24] القديس جيروم وَكُنْتُ مُصَابًا اليَوْمَ كُلَّهُ، وَتَأَدَّبْتُ كُلَّ صَبَاحٍ [14]. يقول المرتل: ينجح الأشرار كما في كل أوجه الحياة، ويشعرون كأنهم في أمانٍ دائمٍ خالدٍ. أما أنا فأسعى من جانبي أن أتمم إرادتك، وأطيع وصيتك، وأتحاشى الخطية، وأطلب حبك، ومع هذا تلاحقني التأديبات مع كل صباح يومٍ جديد، وتحل بي الضيقات اليوم كله. يرى القديس أمبروسيوس أن المرتل مع كل صباحٍ جديدٍ حيث يشرق عليه شمس البرَّ فيمتلئ بنور الحق، يتأدب فلا ينشغل بما يدور حوله خاصة نجاح الأشرار الزمني، إنما تتهلل نفسه التي عبرّ بها الرب من ظلمة الليل إلى نور الصباح. * إنه يوجد عبور للنفس ذاتها في هذا الفكر، فإنه إذ تقذفها الزوابع تبلغ إلى الميناء... خلال الخطر يعبر (المرتل) إلى الصحة... التأديب هو تصحيح. من يؤدب يُصلح أمره. التصحيح بالنسبة للأشرار مؤجل، أما بالنسبة لي فغير مؤجل. الأول إصلاحه يأتي مؤخرًا وقد لا يأتي، أما إصلاحي فيتحقق في الصباح[25]. القديس أغسطينوس * في نفس الوقت يشهد أن حديثًا كهذا لم يصدر عنه، دون ما عقاب. لأنه يقر أنه تأدَّب اليوم كله، لأنه قال إنه قد زكَّى قلبه للرب عبثًا (قابل مز 73: 14). لكن بعد أن تقوَّم تمامًا بتلك الضربات. لأنه يقول في التو: "مُتَّهميَّ في الصباح"، أي علانية وعلي الملأ. لأنه نور الحق سطع عليه وأمسك به، ولم يدعه يحتفظ بالأقوال التي رددها. لهذا انسكب نور الحق علي روحي، وأثبت بطلاني ودحضني، لأنني بالخطأ تكلمت. "زكيت قلبي باطلًا" لأنني تفوهت بتلك الأشياء، كأنني جالس في ظلمة، ووقعتُ فريسة الندم عند تذكرها. لكن من قلب نادم، سطع نور الحب، لكي يصير في قلبي نار متقدة" (قابل إر 20: 9). الذي جعل في قلبي بداية اليوم بمفهومٍ روحيٍ، ومن ثم حينما أشرق النهار، وبزغ فجره لي، ووجدت نفسي وكأنني وسط الصباح، وأدركت أنني كنت خارج ظلمة جيل أولاد الله. اعتقدت في بادئ الأمر، أن خالق العالم في عنايته بأجيال البشر، قد جبل كل الأشياء لصالحنا حتى بتلك الأمور المحزنة أو التي تعطينا قليلًا من المسرة. ومع ذلك، فقد ارتبكت فيما بعد، بتلك الآراء الجامدة، وفقدت الاعتقاد الذي كان صالحًا![26] القديس أمبروسيوس [FONT=""]٣. حلّ المشكلة[/FONT] لَوْ قُلْتُ أُحَدِّثُ هَكَذَا لَغَدَرْتُ بِجِيلِ بَنِيكَ [ع15]. إذ نخطئ حين نفكر هكذا عن عدم العدالة والظلم الذي يلحق بنا، بينما ينجح الأشرار، فإن تحدثنا بهذه الأفكار نُعثر الضعفاء في الإيمان، ونحطم أبناءنا، الجيل الجديد. بمعنى آخر يليق بالمؤمنين في حكمة ألا ينطقوا بما تَعبر بهم من أفكار غبية مؤقتة، فإنهم قد يدركون خطأهم ويستردون سلامهم، لكن الذين تعثَّروا بسبب كلماتهم قد لا يرجعون إلى الرب، ولا تستريح نفوسهم. يرى القديس أمبروسيوس إن هذا التفكير من جهة نجاح الأشرار يدفع الشخص إلى تزكية قلبه باطلًا، مع أنه لو رجع إلى الكتاب المقدس لأدرك أن توزيع الأنصبة في العالم لا يقوم على استحقاقات الأشخاص، إنما لحكمة إلهية، من أجل التمتع بالخيرات الأبدية. * لهذا اتجهت إلى قلبي، وقلت لنفسي: "لو قلت هكذا إنني زكيت قلبي باطلًا" (مز 73: 15)، وأجابني صوت الله وقال: "هوذا جيل بنيك الذي قسمت نصيبه". وهذا يعني: هوذا تجد في الكتاب المقدس: يا ابن آدم إنني وزعت الأنصبة على بنيك حتى أن الثروة تمنح للأشرار من قَبيل الصدقة لا عن استحقاق. فلا المكافأة بالأموال كانت مجازاة للفضيلة، ولا كان الفقر الشديد من جهة أخرى عقابًا للخطية، لكن تحدث تلك الأمور دون ما تمييز، لأنها تمضي في الحياة كما يتدفق نهرٌ ما[27]. القديس أمبروسيوس فَلَمَّا قَصَدْتُ مَعْرِفَةَ هَذَا، إِذَا هُوَ تَعَبٌ فِي عَيْنَيَّ [16]. ليس من خليقة ما يمكنها أن تدرك عناية الله الفائقة وتدبيره الإلهي. فإن أحكام الله تعلو عن أحكامنا كما تعلو السماوات عن الأرض. محاولة تحليل ونقد ما يحدث حولنا فيه مضيعة للوقت، ويسبب مرارة للنفس. يظن الإنسان إنه قادر على إدراك الأمور، وأنه يحكم من واقع معرفته التي يعتز بها، وإن كانت أمور كثيرة مخفية عنه، لا يقدر أن يعرفها. مثل هذا الإنسان -كما يقول القديس أغسطينوس- تزل قدماه وتنزلق خطواته فيسقط عن الحق. * واعتبرتُ أن هذا الأمر حق، وفكرت أنني أعرف أنه كان حقًا (قابل مز 73: 16)، وفي اتساقٍ وانسجامٍ كاملٍ مع تدبير الله، لكنني ارتبكت دون داعٍ بهذه الأمور، التي ما كان ينبغي لي أن أشغل نفسي بها[28]. القديس أمبروسيوس حَتَّى دَخَلْتُ مَقَادِسَ اللهِ، وَانْتَبَهْتُ إِلَى آخِرَتِهِمْ [17]. ماذا يعني بقوله: دخلت إلى مقادس الله"؟ في السماء نرى مركبة الكاروبيم (الشاروبيم) الحاملة لله، وفي قدس الأقداس في الهيكل نرى كاروبين على تابوت العهد، حيث يمثلان عرش الله. يرى فيلون اليهودي أن كلمة "كاروب" معناها "معرفة". وقد تبعه في ذلك القديس إكليمنضس السكندري، ويرى القديس جيروم في الكاروب رمزًا لمخزن المعرفة التي تعمل في طبيعتنا لترفعها وتنطلق بها بين القوات السماوية. انطلاق المرتل إلى مقادس الله إنما يكشف عن اشتياق الله، لا أن نكون بلا معرفة، وإنما أن تتقدس عقولنا وقلوبنا وننعم بالمعرفة الصادقة، فتتكشف لنا أسرار عناية الله، وتدبيره للخلاص وحبه لكل البشرية، إذ يريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4) إذ يحق لنا بالمسيح يسوع أن ترتفع أعماقنا إلى قدس الأقداس السماوية، ونصير بالمعرفة الحقيقية أشبه بالكاروبيم الحاملين الله، ندرك مصير الأشرار الناجحين والمصرين على شرهم ومقاومتهم للسماوي، وظلمهم لإخوتهم بني البشر! * من ثم، فلأنني اعتقدت أنني اعتنقت المعتقد الصحيح، وأدركت المؤنة بتلك الأمور، قلت لنفسي: "إذا هو تعب في عينيّ، حتى دخلت مقادس الله، وانتبهت إلى آخرتهم" (مز 73: 16-17) وهذا يعني: التعب الوحيد الباقي لي، هو أنني ينبغي أن أذهب إلى مقدس الله حيث الشاروبيم" (قابل خر25: 17-22) أي - إلى عمق المعرفة - وألا أنشغل بالآراء الخاملة غير الأكيدة، لأن "حديث الأحمق مثل حملٍ في الطريق" (سيراخ 21: 16). فلندخل إذن إلى مقدس المعرفة المقدسة، وحجال الحق (الغرف الداخلية). فلا يكون لنا عمل آخر (سواه)؛ لأن الحكمة تجتذبنا بعيدًا عن فكر المشقة، فإن يعقوب لم يكدّ حقًا (قابل تك 27: 20)، حيث سبب المشقة جهله، لأن من لا يعرف أن الجعالة قد أُعدت للأبرار فوق، لا ينتعش ولا يبتهج بكدِّه، بل بالحري ينحني وينكسر بالعمل الذي ينشأ عن افتقاده للمعرفة، لهذا، فلندخل إلى مقدس الله، حيث الشاروبيم، الذين فيهم تذكر المعرفة المقدسة، والنور الأبدي والحقيقي[29]. القديس أمبروسيوس * إن لم أعبر بكل هذه عبور نهر الأردن، وأحطم الأمم الذين يعيشون في داخلي، لن أستطيع أن أدخل إلى قدس الأقداس وأستريح (مز 73: 17)، ولا أن أصير شريكًا في مجد الملك[30]. القديس مقاريوس الكبير * لا يموت القديس بطريقة، والخاطي بطريقة أخرى. الذين يبحرون على نفس البحر يتمتعون بذات الهدوء ويعانون نفس العاصفة. الموت العنيف بالنسبة للص لا يختلف في شيءٍ عنه بالنسبة للشهيد. الأطفال لا يولدون بطريقة بالنسبة للزنا والدعارة، وبطريقة أخرى بالنسبة للزواج الطاهر. بالتأكيد تعرَّض ربَّنا واللصان لذات عقوبة الصلب[31]. القديس جيروم حَقًّا فِي مَزَالِقَ جَعَلْتَهُمْ. أَسْقَطْتَهُمْ إِلَى البَوَارِ [18]. إذ يدخل المؤمن إلى المقادس الإلهية، ويتشبه بالكاروب مخزن المعرفة الصادقة، يكتشف أن النجاح والغنى والأمان، الأمور التي يظن الأشرار أنهم يتمتعون بها، إن لم تدفعهم إلى التوبة والرجوع إلى الله بالندامة مع الشكر تصير لهم مزالق، ويسمعون ما ورد في عظة موسى النبي الوداعية: "في وقتٍ تزل أقدامهم؛ إن يوم هلاكهم قريب، والمهيَّآت لهم مسرعة" (تث 32: 35). كما قيل: "ليكونوا مثل العصافة قدام الريح، وملاك الرب داحرهم" (مز 35: 5). "بالغداة كعشب يزول، بالغداة يزهر فيزول؛ عند المساء يجز فييبس" (مز 90: 6). "لأنه ما هو رجاء الفاجر عندما يقطعه، عندما يسلب الله نفسه" (أي 27: 8). * إنهم مخادعون، ومحتالون. وإذ هم مخادعون يعانون أيضًا من الخداعات. ما هذا إلا لأنهم محتالون يعانون هم من الاحتيال. يرغبون في القيام بدور الخداع على الجنس البشري في كل شرورهم، فإذا بهم هم أنفسهم يسقطون تحت الخداع، وذلك باختيارهم الخيرات الأرضية ونسيانهم الأبدية... "أسقطتهم إلى البوار"... لا يقول: "أنت أسقطتهم إلى أسفل"، لأنهم ارتفعوا (تشامخوا إلى فوق)، كما لو أنهم بعد أن ارتفعوا إلى أعلى ألقيتهم أنت إلى أسفل. ولكن فيما هم يرتفعون بذات التصرف سقطوا إلى أسفل. فإنه هكذا إن الارتفاع إلى أعلى هو سقوط إلى أسفل[32]. القديس أغسطينوس * عندما لا تتجاوب النفس البشرية بالشكر مع خيرات الله غير المتناهية التي هي مجازاة الأعمال الصالحة، تكون هذه النفس ملعونة بعدلٍ بنفس القدر الذي تنعمت فيه بالرحمة. لذلك أيضًا قال صاحب المزامير: "حقًا في مزالق جعلتهم، أسقطتهم إلى البوار" (مز 73: 18). هذا لأن الملعونين لم يعادلوا الخيرات الإلهية بأعمال صالحة، إذ لم يهتموا بأنفسهم وهم في هذه الأرض، وانغمسوا في ملذات كثيرة، ولم يَجْلِبْ عليهم تقدمهم في هذا العالم إلا هلاك النفس. لذلك قيل للرجل الغني الذي كان يتعذب في لهيب جهنم: "اُذكر أنك استوفيت خيراتك في حياتك" (لو 16: 25). ومع أنه كان شريرًا إلا أنه استوفى الخيرات هنا، حتى يستوفي أيضًا مقدارًا أكثر من البلايا هناك، بمقدار ما تشبث بطريقه ولم يغيرها بالرغم من الخيرات التي أخذها[33]. الأب غريغوريوس (الكبير)* هذا هو إذن أول افتراض للمعرفة، أن الأمور التي في العالم إنما تقع وليدة الصدفة. أما الأمر الثاني فهو أنه "حقًا في مزالق جعلتهم!" (مز 73: 18)، مثل النجاح الباهر والأرباح العالمية ووفرة الغنى. أو ربما تُجمع بطريق الأعذار، لئلا يُظن أن قلة ورعهم هي بسبب العوز أو بسبب ألم مُر أو حزن، مما يدفعهم إلى الاختلاس والسرقة والرغبة في السلب تحت وطأة أو شدة الفاقة، لأنهم اغتنوا بالثروة، وارتفعوا بالكرامات، لا طلبًا لما هو أشْرف في الحياة أو التمتع بالبهجة، بل لكي تتوقف الشكوى، فتتجمع وتتراكم الضيقة! من ثم، فإن أناسًا من هذا القبيل، يُطرحون وهم يرتفعون، فليس الأمر إحسانًا، بقدر ما هو مصيبة، حينما لا يُحتمل ولا يثبت الاستمرار في هبة طويلة الأمد، ويُزال العذر الناجم عن الفشل. لأنه أية شكوى تحمل ثقلًا أعظم من تلك الشكوى الإلهية، التي تجدونها في سفر النبي ميخا: "يا شعبي ماذا صنعت بك، أو هل أخزيتك أو هل أضجرتك؟ أجبني. ألم أُصعدك من أرض مصر، وخلصتك من بيت العبودية؟" (مي 6: 3-4 LXX). انظروا كيف ينطرح الأشرار وهم يرتفعون، وكيف تكف شكواهم ويتراكم عقابهم. وإذ تفيض عليهم الإنعامات السماوية، لا ينبغي أن يهجروا مُعطي الرخاء وطمأنينة الحياة بل بالحري يطيعونه. ولكن كما أن عدل الله عظيم، هكذا أيضًا انتقامه صارم. لأن الشرير دائم التمسك بشرِّه، وبخصوصه تجدون مكتوب أيضًا: "قد رأيت الشرير عاليًا عاتيًا فوق أرز لبنان، وعبرت ونظرت، فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (مز 37: 35-36). إن سرعة فنائيته تفوق الظن! فجأة ترى شريرًا قويًا في هذه الحياة، وإذ تعبر به، سرعان ما يختفي عن الوجود. كم يظهر الظل بعيدًا عن الأرض وكم يستمر لبُرهةٍ قصيرةٍ! انقلوا خُطاكم وسرعان ما يزول الظل، وإن كان ثمة اضطراب هنا، ارفعوا خطاكم إلي الأشياء العتيدة، وسوف تكتشفون أن الشرير الذي اعتقدتم أنه هنا لن يكون هناك، لأن من هو "لا شيء" هو غير موجود. حقًا و"الرب يعرف خاصته" (2 تي 2: 19)، لكنه لا يتعرف على الذين هم غير موجودين؛ لأنهم لم يعرفوا ذاك الذي هو كائن (قابل خر 3: 14)[34]. القديس أمبروسيوس كَيْفَ صَارُوا لِلْخَرَابِ بَغْتَةً! اضْمَحَلُّوا فَنُوا مِنَ الدَوَاهِي [19]. يقف المرتل في دهشة إذ رأى الخراب يحل بالأشرار فجأة، تحل بهم المصائب المرعبة، فيضمحلوا ويفنوا، وكأن لا وجود لهم، إذ حرموا أنفسهم بأنفسهم من العون الإلهي والرحمة والخلاص. وكما قيل في نبوة عن إسرائيل: "حينما تيبس أغصانها تتكسر، فتأتي نساء وتوقدها، لأنه ليس شعبًا ذا فهم، لذلك لا يرحمه صانعه، ولا يترأف عليه جابله" (إش 27: 11). كما قيل: "لا أشفق ولا أترأف ولا أرحم من إهلاكهم" (إر 13: 14). * حقًا إنهم كالدخان عندما يصعد إلى فوق يفنى، هكذا هم يفنون[35]. القديس أغسطينوس كَحُلْمٍ عِنْدَ التَيَقُّظِ يَا رَبُّ، عِنْدَ التَيَقُّظِ تَحْتَقِرُ خَيَالَهُمْ [20]. إذ يحل يوم الرب العظيم تستيقظ البشرية، وتقف أمام الديان كمن كانت حياتهم على الأرض حلمًا عبر. لقد عبر العالم كحلمٍ لا وجود له في الحقيقة. * إنه وهم للإنسان أن يرى في منامه أنه وجد كنوزًا. إنه إنسان غني، ولكن إلى لحظة استيقاظه... يذهب الفقير لينام، والغني صار غنيًا في نومه. إذ يقوم يجد نفسه قد فقد ما كان ينعم به أثناء نومه. يجد هؤلاء (الأشرار) البؤس الذي أعدوه لأنفسهم[36]. القديس أغسطينوس * مدينة الله هي أورشليم السمائية، فالذين لبسوا صورة السماوي وتشبهوا بتواضع المسيح ومسكنته باختيارهم، صورتهم مكرمة في مدينة الله. وأما الذين لبسوا صورة الأرض فتُرذل صورتهم، ويسمعون منه "لست أعرفكم، اذهبوا عني يا فعلة الإثم". الأب أنثيموس الأورشليمي * إن كنا في مدينتنا، أي في هذه الحياة، نحسب صورة الله كلا شيء، يلزمنا أن نخشى أن يُحط بصورتنا لتصير لا شيء في مدينته، أي في الحياة الأبدية[37]. الأب قيصريوس أسقف آرل * لهذا، فبالنسبة للأخير، يقول داود أيضًا، "كفوا عن الوجود، وفنوا بإثمهم، كحلمٍ من يتيقظ" (مز 73: 19-20). وهذا يعني: توقف الأشرار عن الوجود، واختفوا كحلمٍ يضمحل بمجرد استيقاظ الإنسان من النوم، لأنهم في ظلمةٍ، وفي الظلمة يمشون (مز 82: 5)، ولا يتبقى أثر من عملهم الصالح، بل يشبهون من يرى حلمًا. والمرء يحلم في الليل، والليل في الظلام، وبنو الظلمة محرومون من شمس البرً (مل 3: 20، 4: 2)، ومن ثناء الفضيلة، لأنهم ينامون دائمًا ولا يسهرون. قيل عنهم حقًا: "ناموا سنتهم (نومهم) ولم يجدوا شيئًا" (مز 76: 5)، لأنهم حقًا حينما تنفصل نفوسهم عن أجسادهم، ويتحررون حقًا من نوم الجسد، لا يجدون شيئًا، ولا يملكون شيئًا. يفقدون ما ظنوا أنهم يملكونه. لأنه حتى إن اكتظ الأحمق الغبي بالثروات، يتركها للغرباء، ولا يهبط مجد بيته معه إلى الهاوية (مز 49: 17)[38]. القديس أمبروسيوس * وتوضح أيضًا الأحداث المتعاقبة، كيف أنه لا توجد صورة مثل ذلك الإنسان بل يفني، طالما أن صورته لا توجد في مدينة الرب، أي أورشليم العليا (مز 73: 20). لأن الرب صوَّرنا (رسمنا) بحسب صورته ومثاله، كما يعلِّمنا قائلًا: "هأنذا يا أورشليم قد نقشتُ أسوارك" (إش 49: 16)، فإن سلكنا حسنًا، تستمر تلك الأيقونة السماوية فينا، وإن سلك أحد سلوكًا ردَّيًا، تفنى تلك الصورة فيه (أو تتشوه)، أي أيقونة ذاك الذي انحدر من السماء، وتبقى في هذا الإنسان صورة الإنسان الأرضي (فقط). علي هذا الأساس، يقول الرسول أيضًا: "وكما لبسنا صورة الترابي (الأرضي). فلنلبس أيضًا صورة الآخر السماوي" (1 كو 15: 49). لهذا تستمر صور الصالحين تشرق في مدينة الله. لكن إن اِنحرف أحد إلى الخطايا المميتة ولم يتُب، تتحطم أيقونته فيه أو بالأحرى ينطرح، كما انطرح آدم وطُرد من الفردوس (تك 2: 21-24) لكن من يسلك بأسلوبٍ مقدسٍ مكرمٍ، يدخل مدينة الله (رؤ 3: 12). ويأتي بصورته الشخصية، فيشرق في مدينة الله هذه. "في مدينتك يا رب تفنى صورهم إلى لا شيء" (مز 73: 20 LXX). لأن الذين كسوا أنفسهم بأعمال الظلمة، لا يمكنهم أن يشرقوا في النور. لنوضح بمثال من العالم، تأملوا كيف تستمر صور الحكام الصالحين في المدن، بينما تتحطم صور الطغاة[39]. القديس أمبروسيوس [FONT=""]٤. نصرة الإيمان[/FONT] لأَنَّهُ تَمَرْمَرَ قَلْبِي، وَانْتَخَسْتُ فِي كُلْيَتَيَّ [21]. الآن وقد أدرك المرتل أن الأشرار مع كل ما نالوه من غنى ونجاح، فقدوا صورة الله فيهم، فصار لا وجود لهم في مدينة الله، صاروا كما لو كانوا قد فنوا، لم يأخذ موقف الشماتة، بل دفعه هذا لمراجعة نفسه. دخل في ندامة وحزن داخلي على خطاياه. جاء في كتابات القديس أغسطينوس: "لأنه ابتهج قلبي، تغيرت في كليتاي". * يمكن أيضًا أن تفهم: "لأنه ابتهج قلبي" في الله، "تغيرت أيضًا كليتاي"، أي تغيرت شهواتي وصرت طاهرًا بالكلية[40]. القديس أغسطينوس وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ [22]. لا يدَّعي المرتل أنه قد أدرك بالتمام خطة الله، وعرف أسرار عنايته الإلهية، بل يعترف بأنه جاهل، يقف أمام الله كمن لا يفهم شيئًا. إنه لا يحكم على الأغنياء الأشرار كصاحب معرفة، فهو لا ييأس من خلاصهم. * يليق بنا ألا نيأس حتى من هؤلاء الذين نقول عنهم مثل هذه الأمور[41]. القديس أغسطينوس * صرت عندك لجهلي كالبهيمة، مع أني لم أفارقك، بل دائمًا معك بالقلب والنية. الأب أنثيموس الأورشليمي * لما سمع أنبا بيمين أنّ أنبا "نستير" موجود في المجمع (أي في الدير) اشتاق جدًا أن يراه، وأخبر أب الدير لكي يرسله ليزوره، لكنه رفض أن يرسله وحده. وبعد بضعة أيام شعر وكيل الدير ببعض أفكار تضايقه، فتوسل إلى أب الدير أن يرسله إلى أنبا نستير، فصرفه قائلًا: "خذ أبّا بيمين معك." ولما جاء وكيل الدير إلى أنبا نستير أخبره بأفكاره فشفاه منها. وبعد ذلك سأل أنبا نستير أنبا بيمين قائلًا: "من أين أتيت بمثل هذا التواضع أنه مهما حدث من اضطرابٍ في المجمع لا تتكلم ولا تتدخل لكي تضع حدًّا للنزاع؟" ولما ضغط الشيخ أنبا نستير على أنبا بيمين أجاب قائلًا: ”اغفر لي يا أبي، فعندما دخلتُ المجمع (في بدء رهبنتي) قلتُ لنفسي: أنا والحمار واحد، فكما يُضرَب الحمار ولا يتكلم ويُشتَم ولا يُجيب، هكذا أكون أنا، كما قال داود النبي الطوباوي: "صرتُ كبهيمٍ عندك" (مز 73: 22)". فردوس الآباء * بطرقٍ أخرى أيضًا ينتفع الذين يعيشون حياة الفقر، لأنهم بعدم تركيز قلوبهم على المذخَّر هنا على الأرض، يلتحفون بملكوت السماء، ويتمِّمون بوضوح تصريح المرتل داود النبي القائل: "صرتُ كبهيمٍ عندك" (مز 73: 22). لأنه كما أنّ الحيوانات الأليفة في أدائها لمهامها الخاصة تكتفي بالغذاء الذي يُبقي على حياتها فحسب؛ هكذا أيضًا الذين يعيشون الفقر يعتبرون أن استعمال الفضة أمرٌ تافه، ويؤدّون أعمالهم اليدوية لأجل غذائهم اليومي وحده. هؤلاء يمتلكون أساس الإيمان، ولأجلهم تكلّم الرب عن عدم اهتمامهم بالغد قائلًا: "اُنظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ... وأبوكم السماوي يقوتها" (مت 6: 26). وبهذا الكلام يتشجّعون (لأن الله هو الذي قاله)، وبثقةٍ يهتفون بكلام الكتاب: "آمنتُ لذلك تكلّمت" (مز 116: 10). القديسة الأم سنكليتيكي * "صرت كبهيمٍ عندك، ولكنني دائمًا معك". بمعنى إنني أتبعك كحيوان مطيع، فلا اضطرب بسبب طبيعة الطريق. لتقودني على الدوام سواء كان الطريق قصيرًا أو طويلًا أو صعبًا. إنه لن يجعلني مضطربًا سواء كان ضيقًا أو منحدرًا أو شديد الانحدار. فإنني أقول لنفسي، ما دمت صالحًا ستقودني حسنًا... لهذا لن أنفصل عن صحبتك، وإنما دائمًا أنا معك، أقتدي إثر خطواتك مطيعًا اللجام، وأسير أينما ذهبت بي سواء كان الطريق سهلًا أو وعرًا، واسعًا أو ضيقًا. فإنني أتشجع بحكمتك وأتكل على صلاحك. إنني أعرف أن ما تفعله صالح ونبيل[42]. ثيؤدورت أسقف قورش وَلَكِنِّي دَائِمًا مَعَكَ. أَمْسَكْتَ بِيَدِي اليُمْنَى [23]. إذ يسلم المرتل نفسه لله كي يقوده كما يشاء، فإنه يعترف أيضًا بأنه صار كبهيمٍ عندما انشغل بالأرضيات. * وإذ يلُتفت إلى تلك الأمور ويتأملها، كان النبي فرحًا متهللًا، بينما كان مضطربًا قليلًا. لهذا السبب يقول: "لأنه ابتهج قلبي، واسترخت حقواي، وصرت كلا شيٍء، ولا أعرف وصرتُ كبهيمٍ عندك، ولكني دائمًا معك" (مز 73: 21-23). وهو يقول ما معناه: "حينما علمتُ أن الله يعتني ويهتم بشئون البشر، استراحت حقواي". وهذا يعني: بعد طول التعب المضني الذي سَبّبَه جهله القديم، استراح خلال معرفة الخير السماوي ومعرفة النعمة. لأن هناك حقوي النفس، حقواه اللتان تضطربان فينا بسبب الضغط الذي يحدثه جهلنا، لكنهما تستريحان، إذ تجدان راحةً في معرفة التعليم السماوي، وتقويان بالاعتماد على نوع ما من السند الذي تجلبه الوصايا السماوية. ثم يقول: "لهذا أدركت أنني تعبت باطلًا لأنني لم أكن أعرف ما هو حق". "صرت كبهيم!" يضيف بحق قوله: "عندك" أو "أمامك"، أجل، فبالمقارنة مع ساكني السماء، فالإنسان ليس إلا بهيمًا؟ فالنجوم أيضًا، وإن كانت تشرق ساطعة، تنزوي وتختفي عند بزوغ الشمس. يقول موسى أيضًا: "لم أؤهل من أمس، من حين كلمت عبدك، بل أنا ضعيف وثقيل اللسان" (خر 4: 10 LXX). هكذا يبدو الإنسان بهيمًا أعجمَ بالمقارنة، لا أقول بالمسيح، بل حتى بالملائكة، لكن حتى إن كان الأمر كذلك، لا نيأس، لأن الربَ يحفظ البشرَ والبهائم كليهما معًا (مز 36: 6). ومن ثم فلأنني لم أتعلم من ذاتي بل منك، فإنني ألتصق بك دومًا حتى أكف عن أن أكون بهيمًا، وحينئذ تقول لي "وأما أنت فقفْ هنا معي" (تث 5: 31). فالإنسان الذي بجهله انحدر إلى الحماقة ونقص المعرفة، الذي يزن بميزان البهيمة، يبدأ من جديد فيصير إنسانًا، حينما تشمله نعمة الله. فهو حقًا إن اقتدر بالعقل والنعمة، لأثبت أنه إنسانًا بتلك الحقيقة عينها. ومن ثم يتهلل أنه انفصل عن الحيوانات العجماوات، ودخل في شركة البشر الذين يفتقدهم الله ويحميهم. لأنه من هو الإنسان إلا الذي يفكر الرب فيه ويفتقده؟ (قابل مز 8: 4)[43] القديس أمبروسيوس * بالحقيقة صرت كبهيمٍ، عندما اشتهيت الأرضيات من الله، لكنني لن أفارقك يا إلهي[44]. القديس أغسطينوس * كل البشر، ونحن أنفسنا، لسنا دومًا مع الله، بالمعنى الذي يتحدث الله نفسه بالمرتل قائلًا: "أنا مقيم دائمًا"، والذي يجيب عليه المرتل: "نعم، لتمسكني بيمينك" (مز 73: 23). الله ليس مع كل البشر بالمعنى السليم الذي به أنت وأنا يكون لنا حين نبارك شخصًا، فنقول: "الرب معك". ما أقصده هو هذا: أخطر بؤس للإنسان أن يكون بدون الله، بمعنى ألاَّ تكون له علاقة داخلية مع ذاك الذي هو الحياة والوجود ذاته. أضف إلى هذا ألاَّ يتذكر أنه في خطة الله الأصلية من نحو الإنسان، أن تحقيق مثل هذه العلاقة أمر ممكن. عندما لا يكون للإنسان علاقة مع الله بهذا المعنى الداخلي لا يتذكر الله. وبهذا لا يطلب أن يدرك الله، ويتعرف على طرقه، ولا يجد فيه لذة يومية. أقول إنه ليس مع الله، مع أن الله معه... لكي أوضِّح ما أقوله بطريقة أفضل، فلا تخطئ في هذه النقطة الهامة كأنها أمر تافه، أقدم لك مثالًا مما يحدث كل يومٍ في العالم. تصور أنك تقابل شخصًا لم تتعرف عليه قط، لكنه يقول لك: "نعم، إنك تعرفني". ولكي يذكرك بذلك يصف لك في شيءٍ من التفصيل أين قابلك ومتى وكيف حدث ذلك. لكن بعدما يخبرك بكل هذه الأمور، لا تزال تقول له: "آسف، فإنني لست أعرفك". فإن كان هذا صحيحًا، فإنه يعني أن أمورًا أخرى تشغل ذهنك، فنسيت هذا الشخص تمامًا، وقد زال كل أثر لمعرفتك السابقة له. لكن افترض أنك أخيرًا تذكرت الشخص، فإنك ترجع إلى فكرك السليم من نحوه. وبالتدريج إذ تقضي معه وقتًا تصير ذاكرتك من نحوه كاملة، تتذكر كل ما نسيته. ليس هذا فقط، وإنما تتعرف عليه أكثر فأكثر في أمور تفصيلية. الآن على نفس المثال الذي قدمته لتطبقه على روحك، كيف يمكنك أن تتذكر الله، وكيف تنمو في سيرك اليومي معه. يوجد رجال ونساء، مع إنهم في دار الإيمان، إلاَّ أنهم ليسوا مع الله. إنهم لا يدركون أنه حتى الأشياء التي تدعى صالحة ومبهجة على هذه الأرض بالحقيقة ضارة إن سببت لنا أن ننسى الله. عندما لا نثق فيه، عندما نتجاهله أو ننساه، فإننا نكون لسنا معه. هذا يسبب ضررًا لنفوسنا على الدوام[45]. القديس أغسطينوس بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي، وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي [24]. ما هو رأي الله أو مشورته التي تهدينا وتقودنا إلى المجد سوى كلمة الله. * لهذا السبب يقول داود، إذ قد افتقده (الرب): "أمسكت بيميني، وأصعدتني بمجدٍ" (مز 73: 23-24)، هذا هو النص الذي تسلمناه وهو يتفق مع النسخة اليونانية، لأن اليونانية تقول ekratesas tea cherios أي "أمسكتَ باليد" و tes dexias mou " يميني" [أي "أمسكت بيميني".] يتلقى الإنسان إرشادًا طيبًا حينما يمسك الله بيمينه، بيد الله نفسه. مثل هذا يمكنه القول: "الرب عن يميني، فلا أتزعزع" (مز 16: 8). لو أن آدم كان قد اختار أن يكون له الرب عن يمينه، ما خدعته الحيّة، لكن لأنه نسي وصية الله، وتمم إرادة الحية، أمسك الشيطان بيده، وجعلها تمتد لشجرة معرفة الخير والشر، ليقطف أشياءً حُرَّمت عليه! وفيه عبر الحكم إلى جميع الناس، وبدأ المعاند يقف عن يمين كل إنسان. من هنا أيضًا جاءت تلك اللعنة ضد يهوذا "ليقف شيطان عن يمينه" (مز 109: 6). وإن كانت تلك اللعنة قاسية، فإن تلك البركة التي بها تنحل رباطات اللعنة، هي بركة في غاية الأهمية جدًا. لهذا فإن الرب يسوع الذي أخذ قضية الإنسان وحالته، وضع الشيطان عن يمينه هو تمامًا كما نقرأ في سفر زكريا (زك 3: 1)، هكذا حيث يقف ميراث آدم فهناك وقف المسيح. وكرياضيٍ صالحٍ، سمح للشيطان أن يقف عن يمينه (أي يمين الرب)، لكي يطرحه وراءه، قائلًا: "اِذهب يا شيطان!" (مت 4: 10). وحينئذ طُرحَ المُعاند من موضعه ورحل. ولكي لا يقف الشيطان عن يمينك، يقول لك المسيح: "تعال، اتبعني" (مت 19: 21). لهذا تنبأ داود سلفًا بمجيء الرب الذي نزل من السماء ليحررنا من قوة الخصم المُعاند، إذ قال: "الرب عن يميني فلا أتزعزع". أما من كان الشيطان عن يمينه فيتزعزع. تبرر داود إذن فيما قاله: "أمسكت بيميني" أي، حتى لا أخطئ الآن، وحتى أتخذ موضعي في مكان الاتكال والثقة، إذ كنت قبلًا أترنح وخطواتي متقلقلة! كم كان قول الرسول حكيمًا حقًا! لأن الرب إذ رآه منزعجًا مضطربًا مدّ يمينه، ولم يدعه يسقط، بل تبعه ليمشي دون خوف (مت 14: 30-31). وعند تمتعه بخلاصه، ماذا قال بطرس إلا تلك السطور النبوية: "أمسكتني بيميني، وفي مشيئتك قدتني، وأصعدتني بمجدٍ"؟ وما هي اليد اليمني إلا قوة النفس العاملة (التي لا تكف عن الجهاد)؟ وإن قُيدتْ بمشيئة الرب، لا يعوزها شيء، ولا تفتقر إلى شيء. ولا تحتاج إلى أية مساعدة أو معونة من هذا العالم![46] القديس أمبروسيوس مَنْ لِي فِي السَمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ [25]. إن كان الله هو المعين والسند والحصن وواهب المعرفة الخ، فإنه شهوة النفس ونصيبها الأبدي؛ هو كل شيء بالنسبة لها. · هكذا كان (الله) هو كل شيء بالنسبة لهم، فلا تُحسب السماء ولا ملكوت السماوات شيئًا إن قورنت بهذا الذي يشتاقون إليه. * إنه يعني أنت هو كل شيء بالنسبة لي... ليس شيء ما في الأعالي أو أسفل أشتهيه، إنما أشتاق إليك وحدك[47]. القديس يوحنا الذهبي الفم * إني لم أشتهِ شيئًا مما في السماء، ولا على الأرض، إلا أن أكون معك. وأنت تعلم أن قلبي قد ذاب من هذا الاشتياق يا خالق قلبي وعارف ضميري. الأب أنثيموس الأورشليمي * أولًا عُدْ إلى نفسك مما هو خارج عنك، عندئذ قدم نفسك ثانية لذاك الذي خلقك. فهو مصدر كل سعادتنا وصلاحنا الكامل. * أن تعبد الله هو أن تحبه، وتشتهي أن تراه، وتترجى وتؤمن أنك ستراه. هذا هو الشوق إلى السعادة، أن تبلغ إليه، إذ هو السعادة عينها. اسأل نفسك: إلى أي مدى يزداد حبك؟ الإجابة هي أن قلبك هو معيار تقدمك. الآن نحن نراه بطريقة غامضة، إذ يتزايد حبنا، لكن عندئذ سنراه بوضوحٍ. أيها الأحباء، لا يأتينا هذا الحب من عندنا، بل بالروح القدس الذي أُعطي لنا... هناك لا توجد بعد خطية، ولا يوجد شيء باطل، بل نلتصق به بالحب، ذاك الذي نئن مشتاقين إليه. سنعيش إلى الأبد في تلك المدينة التي نورها الله، ونجد فيه تلك السعادة التي نجاهد الآن من أجلها. * لتدركوا أيها الأحباء أن فرح كل الأفراح يتحقق بالبهجة في الثالوث الذي خُلقنا على صورته. * أينما توجهت نفس الإنسان، فإنها إن لم تتجه نحوك تجمع لقلبها الأحزان، حتى إن اِلتصقت بما هو محبوب لديها. إن كان هذا المحبوب خارج الله، فإنها تلتصق بالحزن. لأن هذه الأمور الجميلة لا وجود لها بدونك... هب لي أن أسبحك من أجل هذه الأشياء، يا إلهي، خالق كل هذه الأشياء. لكن لا تدع محبة هذه الأشياء تلتصق بنفسي. لا يوجد في هذه الأمور موضعًا للراحة، لأنها أمور غير باقية، بل تعبر وتختفي من حواسنا[48]. القديس أغسطينوس * يقول القديس: "ماذا ينتظرني في السماء؟ ومعك لا أريد شيئًا في الأرض!" (راجع مز 73: 25). هذا يعني: إنك نصيبي، أنت وفرت لي كل الأشياء، لا أطلب شيئًا سوى أن أمتلكك نصيبًا لي! لم أخضع لأي مخلوق في السماوات، كما يفعل الأمم، وما رغبتُ شيئًا من ثروة وملذات الحياة الغاشة في هذا العالم. لستُ معتازًا، لأنك أنت أصعدتني... وإذ لا شيء لي، فإني أملك كل شيء (2 كو 6: 10)؛ لأني أملك المسيح، ذاك الآب الذي لم يشفق في السماء عليه، بل بذله لأجلنا أجمعين. كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيءٍ (رو 8: 32)؟ كما قال الرسول. لأن كل الأشياء هي في المسيح، الذي به كان كل شيءٍ، وفيه يقوم الكل مجتمعًا (كو 1: 16-17). لهذا إذ أملك كل شيءٍ فيه، لا أطلب مجازاة، لأنه مكافأة الجميع، لهذا قال المسيح لمن يصير كاملًا، "اَحمل صليبك واتبعني" (مر 8: 34؛ مت 16: 24؛ لو 9: 23؛ مت 10: 38). لأن من يتبعه لا يصير كاملًا بالمجازاة، بل بالكمال يصير كاملًا لأجل المجازاة. لأن المتمثلين بالمسيح ليسوا صالحين بسبب الرجاء، بل لحبهم للفضيلة، لأن المسيح صالح بالطبيعة. وليس رغبةً في نوال مكافأة! لهذا تألم لأنه سُر أن يصنع صلاحًا، لا لأنه أراد أن يكتسب نموًا في المجد من جرَّاء آلامه! لهذا من يريد أن يقتدي بالمسيح، لا يصنع ما لنفعه هو، بل ما هو لمنفعة الآخرين. ولهذا السبب عينه يضعف بالنسبة لنفسه، بينما يصير أقوى بالنسبة للآخرين، بازدياد الفضيلة[49]. القديس أمبروسيوس قَدْ فَنِيَ لَحْمِي وَقَلْبِي. صَخْرَةُ قَلْبِي وَنَصِيبِي اللهُ إِلَى الدَهْرِ [26]. أمام حب المؤمن الفائق نحو الله يضعف جدًا حتى يبدو كأن جسمه وقلبه قد فنيا، ليملأ الله كل كيانه الداخلي. * يقول المرنم حقًا: "قد فني لحمي وقلبي، صخرة قلبي الله" (مز 73: 26). حقًا إن الأمور الباقية (الخالدة)، لا تأتي إلا بعد زوال الأرض وفنائها. لهذا يفنى الجسد حينما تموت الجسديات. والذين يحملون في أجسادهم إماتة يسوع المسيح (2 كو 4: 10)، أيضًا يفنون، لأنه إذ يعمل المسيح فيهم (2 كو 4: 12)، تموت كل شهوة أو ميل نحو الخطية. من هذا يُشار إلى أن قلب الإنسان يفنى حينما تموت الأفكار الشريرة التي القلب مصدرها. لهذا قد يخفي النسيان كل الأرضيات، والذين بوركوا بالقلب الطاهر النقي، فاستحقوا أن يعاينوا الله، يأتيهم إله قلوبهم (مت 5: 8). ليقتربوا إليك ولا ينفصلوا عنك، لأن الله القريب لا يرد الذين يقتربون إليه فقط (يو 6: 37، يع 4: 8)، بل يريد أن يكون سبب خلاص للجميع، لا أن يموتوا. حقًا إنه لا يرفض أحدًا إلا الذي قرر أن يفصل نفسه من أمام وجهه[50]. القديس أمبروسيوس * المسيح هو الكل، فمن يترك الكل لأجل المسيح، يجد ذاك في محل الكل، ويقدر أن يعلن بحرية: "نصيبي هو الرب"[51]. * إن كانت الكلمة اليونانية "إكليروس Kleros" معناها "نصيب"، فإن رجال الكهنوت دُعوا هكذا، إما لأنهم ينتمون إلى نصيب الرب، أو أن الرب نفسه هو نصيب الكهنة. الإنسان الذي يقتني الرب ويقول مع النبي: "الرب هو نصيبي" لا يمكن أن يقبل شيئًا بجانبه[52]. * المسيح هو القداسة التي بدونها لا يقدر أحد أن يعاين وجه الله. المسيح هو خلاصنا، إذ هو المخلص والفدية في نفس الوقت. المسيح هو كل شيء بالنسبة لنا، فمن يترك شيئًا من أجله، يجده مقابل ما قد تركه، فيستطيع في حرية أن يقول: "نصيبي هو الرب"[53]. القديس چيروم * المسيح علة كل الخيرات، منه تنبع كل المواهب للمحتاجين. هو الغنى (أف 2: 4) الحقيقي، وليس غنى خارجًا عنه. هو الأمان العظيم، صالح بدم صليبه ما في السماء وما على الأرض (كو 1: 20). منه المحبة، ومن يحب أخاه يتعلم منه كيف يحب... كل من يحب أخاه يسكن المسيح فيه، لأنه الحب الحقيقي الذي نقض سياج العداوة (أف 2: 14) الذي شيدته الحية بين آدم والله. (الرسالة الثالثة) القديس مار يعقوب السروجي لأَنَّهُ هُوَذَا البُعَدَاءُ عَنْكَ يَبِيدُونَ. تُهْلِكُ كُلَّ مَنْ يَزْنِي عَنْكَ [27]. إذ يقبل الله النفس البشرية كعروس سماوية، فإن تعلقت بشهوات زمنية، وأحبت العالم تصير كمن زنت وراءه. * الآن تحب النفس عريسها، فماذا تطلب منه، من عريسها الذي تحبه...؟ (المؤمن الحقيقي) يحبه وحده، يحبه لا لنوال شيء ما، إنما يجد فيه كل الأشياء، إذ به كان كل شيء (يو 1: 3). القديس أغسطينوس * لكي يُظهر أنه ليس فقط لا يُسلمنا بل ولا حتى يتركنا ما لم نرد نحن ذلك، اسمعوه يقول: "أليست آثامكم صارت فاصلة بيني وبينكم" (إش 2: 59 LXX )، وأيضًا: "هوذا البعداء عنك يبيدون" [٢٧][54]. القديس يوحنا الذهبي الفم * إذ نرنم "البعداء عنك يبيدون"، يليق بنا أن نسعى لتجنب كل الشهوات الشريرة. الأب قيصريوس أسقف آرل * قد فنيَ قلبي من اشتياقي أن أكون معك دائمًا، لأن الذين يتباعدون منك بقبائحهم يهلكون، والذين يتركونك يا عريس النفوس الحقيقي والملتصقون بالشياطين هم زناة، فتستأصلهم وتبيدهم. الأب أنثيموس الأورشليمي أمَّا أَنَا فَالاِقْتِرَابُ إِلَى اللهِ حَسَنٌ لِي. جَعَلْتُ بِالسَيِّدِ الرَبِّ مَلْجَإِي، لأُخْبِرَ بِكُلِّ صَنَائِعِكَ [28]. الاقتراب إلى الله هنا يضاد الابتعاد عنه والزنا وراءه [ع27]. إذ يدرك المؤمن اقتراب الله منه، يجد مسرته في اقترابه هو من الله. يجد في الله ملجأ له، وفرصة لمناجاته والحديث معه وعنه. * يا إخوة، ماذا تنالون أكثر. فإنه ليس شيء أفضل من الاقتراب إلى الله، حين نراه وجهًا لوجهٍ (1 كو 13: 12) [55]. القديس أغسطينوس * ليس القديس بولس وحده الذي يقول إنه يجب أن نتحد مع الله، فلا ندع شيئًا يفصلنا عنه. ألم يعبّر النبي على هذا الأمر بقدرٍ مساوٍ وبإيجازٍ شديدٍ للغاية، عندما يقول: "الاقتراب إلى الله حسن لي"[56]. · مثل هذا الالتصاق يَشهد به ذاك الذي يقول عنه الرسول: "المحبة فلتكن بلا رياء، كونوا كارهين للشر، ملتصقين بالخير" (رو ١٢: ٩)[57]. · في السماء لا تكون لنا خبرة الاحتياج، ولهذا سنكون سعداء. إذ نكون مكتفين، ويتحقق هذا بإلهنا. وسيكون هذا لنا بالنسبة لكل الأشياء التي نتطلع إليها هنا أنها عظيمة القيمة. هنا تطلبون الطعام كأمرٍ ضروري، هناك يكون الله طعامكم. هنا تطلبون الأحضان الجسدية، "الاقتراب إلى الله حسن لي" [ع٢٨]. هنا تطلبون الغنى، فكيف تحتاجون إلى كل هذه الأمور هناك، حيث تقتنون ذاك الذي خلق كل الأشياء؟ أخيرًا لكي يقيمكم في أمان يقول الرسول الكلمات الخاصة بتلك الحياة: "يكون الله الكل في الكل" (١ كو ١٥: ٢٨)[58]. القديس أغسطينوس * هل التصقت بالله؟ لقد أنهيت رحلتك، وستبقى في مدينتك الحقيقية[59]. * الآن إن كنتم تحبون ما قد صنعه، فكم بالأكثر يلزم أن نحب ذاك الذي خلقها. إن كان العالم جميلًا، فكم يكون مبدع العالم؟ لهذا مزقوا قلوبكم وأبعدوها عن محبة المخلوقات لكي ما تلتصقوا بالخالق. عندئذ القول بما هو مكتوب في المزمور: "الاقتراب إلى إلهي حسن لي"[60]. * النفس التي تهجر خالقها لتحب المخلوق زانية. ليس شيء أكثر طهارة أو أكثر بهجة من محبته. فإن تركتموه واحتضنتم غيره تصيرون دنسين. أيتها النفس، إن أردت أن تتأهلي لحضنه، اتركي الأمور الأخرى هذه، والتصقي به دون توقع لمكافأة. لهذا يقول المرتل: "الاقتراب إلى الله حسن لي". في العبارة السابقة: "هوذا البعداء عنك يبيدون". بعد ذلك كأنه يرغب أن يظهر ما هو الزنا، لذا أضاف: "الاقتراب إلى الله حسن لي"، لست أطلب شيئًا سواه. الالتصاق به هو صلاحي، صلاحي الذي بلا أي رجاء للعودة عنه[61]. * عندما تبلغون إلى هذه الحالة السعيدة للكمال، ستحسبون كل ملذات هذا العالم نفاية، وتستطيعون القول مع النبي: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي"[62]. * بالتأكيد الشيطان هو موجه الاتهام ضد القدِّيسين. إنه لا يقدر في حضرة ديان كهذا أن ينسب اتهامًا خاطئًا باطلًا ضدنا... فهو يعرف مع من يتكلم. لهذا يلجأ إلى القول بشيءٍ صادق. فإن خصمنا الذي يحسدنا على وجودنا في ملكوت السماوات، ولا يريدنا أن نكون هناك حيث طُرد هو منه، يقول: "هل مجانًا يَعبد أيوب الله؟" (أي 1: 9). يتهم خصمنا أيوب دون أن ينظر إلى قلبه. يليق بنا أن نحرص على حبنا لله، ليس من أجل مكافأة. فإنه أيّ نوع من المكافأة هذه التي يعطيك الله إياها؟ مهما أعطاك فهو أقل من ذاته. لا تعبد الله تلقائيًا لكي ما تقبل منه شيئًا. اعبده دون أن ترجو مقابل، وعندئذ تتقبله هو، فإن الله يحفظ نفسه لك لتتمتع به. إن كنت تحب ما خلقه، فكم يكون خالق العالم؟ لذلك انزع من قلبك محبة المخلوقات لكي ما تلتصق بالخالق، وعندئذ تقول ما جاء في المزمور: "خير لي أن اَلتصق بإلهي" (مز 72: 28)[63]. الأب قيصريوس أسقف آرل * يُقال أن ابنة صهيون هي أورشليم، لكونها تحت جبل صهيون. وأيضًا الكنيسة المسيحية وأبوابها هي هياكل في العالم كله. وأيضًا أبوابها التي تدخل إلى كنيسة المسيح هي العهدان القديم والجديد ومعلموها وأحبارها. الأب أنثيموس الأورشليمي * يمكن تقسيم الأشخاص الذين وصلوا إلى المرحلة التي تلي مرحلة الطفولة إلى نوعين: ينمو البعض بواسطة الدراسة والتفكير، بينما البعض الآخر ينمون باِتحادهم مع كلمة الله، وارتباطهم بالحب العميق (مثل هذه النفوس تشبه داود وبولس). فيقولون: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي" (مز 73: 28). وأيضًا من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ لا الموت أو الحياة، ولا الأمور الحاضرة ولا الآتية، ولا أي شيء آخر يمكن أن يفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا (رو 8: 35، 38-39). على الجانب الآخر يوجد أشخاص آخرون، هؤلاء يهربون من خطيئة الزنا لخوفهم من العقاب، فيبقون غير فاسدين وطاهرين، لكنهم يرفضون الشر من خلال الخوف لا الرغبة. لكن يوجد من هم أكمل، الذين يتحدون في عدم فساد مع طهارة الله، ويسمى هؤلاء "بالملكات" لاتصالهم بالملك. يُسمى الأشخاص الذين يزرعون الفضيلة نتيجة للخوف "بالسراري". فالسراري... لا يشاركن في عظمة الله ونبله. إذ كيف يمكن أن يفصل الشخص، الذي ينقصه العقل المدبر بالفضيلة، نفسه من الشر بخنوع العبيد؟ تُشير كلمة "ملكات" إلى الأشخاص الذين اِستحقوا الوقوف إلى جانب اليمين من الملك. وهو يقول لهم: "تعالوا يا مباركي أبى رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم" (مت 25: 34). ويقول لهؤلاء الذين هم أقل في المستوى: "خافوا من الذي بعد ما يقتل له سلطان أن يلقي في جهنم" (لو 12: 5)[64]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص * حواس النفس الخمس المدركة إن نالت النعمة من فوق وتقديس الروح، كانت هي حقًا الخمس عذارى اللواتي نلن حكمة النعمة من فوق. وأما إن بقيت على طبيعتها كانت جاهلة، فتنكشف أنها من مواليد العالم، لكونها لم تَنبذ عنها روح العالم، مع أنها في غرورها، تزعم أنها عرائس العريس حقًا بلطف منطوقها ورزانة منظرها، لأنه كما أن النفوس التي تلتصق بالرب بكليتها فيه، تفتكر وتصلي وتسعى وتتلهف إلى محبة الرب (مز 72: 28)، كذلك النفوس المربوطة بحب العالم تشتهي أن يكون تصرفها على الأرض، فهناك تسعى، وهناك تشغل أفكارها، وهناك يسكن عقلها تمامًا. القديس مقاريوس الكبير من وحي مز 73 تسبحك نفسي وسط الآلام * في ضعفي أصرخ: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ يعيشون في رغدٍ، كأنهم أسعد الكائنات البشرية. لا يعانون من أمراض خطيرة، ولا تلحق بهم كوارث. يموتون وهم كمن في سلامٍ! يظنون أنه ليس إله! يقيمون من أنفسهم أنصاف آلهة. ويئن الأبرار والصدِّيقون من ظلمهم! * أتطلع إليك فأدرك صلاحك! ترتفع عينا قلبي عن الأحداث، فأرى برَّك وحبك وحنانك. أراك لا تحابي كائنًا ما في السماء أو على الأرض. يمتلئ قلبي فرحًا، وتنطلق نفسي بتسبيحك! * هب لي استقامة قلب ونقاوته، فأعاين جلالك، وأتعرف على أسرار صلاحك! تسكب صلاحك فيَّ، فاستعذب صلاحك غير المدرك. احفظني في برَّك، فلا تزل قدماي ولا تنزلق خطواتي، ولا يتسلل الشك إلى أعماقي من جهة صلاحك. * في أعماقي كنت أشتهي السلام الزمني. تحرمني منه إلى حين، لتملئ أعماقي بسلامك الأبدي. تهبه للأشرار المتكبرين، فيمتلئ كأس شرهم ما لم يرجعوا إليك. * ينتحر الأشرار العظماء بزينة أجسادهم. يرتدون القلادات الذهبية حول أعناقهم، بينما تئن نفوسهم من ثقل سلاسل الخطية. يسيرون في أُبهة وعظمة بثيابهم الثمينة. ولم يدركوا أنهم مع حواء وآدم يختفون وراء شجرة التين عراة. يا لهم من بؤساء. إنهم كالثور الذي يتركه صاحبه يفعل ما يشاء، فإذا به يُعد للذبح! * في تشامخ يجعل الأشرار أفواههم في السماء. ويمشون كما بألسنتهم إلى الأرض. يظنون أن ما تنطق به شفاههم يُطاع تحت كل الظروف! * لأقترب إليك يا إلهي، فإنك تقترب أنت إليّ. أنشغل بك وتستريح نفسي فيك. أتعرف على أحكامك، وأُدهش لسموّ حكمتك الفائقة. لك المجد يا كلي الحب والحكمة! ملحق المزمور الثالث والسبعين ماذا يقول الآباء عن نقاوة القلب (مز 73: 1)؟ [FONT=""]نقاوة القلب[/FONT] والقداسة * "طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8)... كونوا بسطاء وأبرياء، حينئذ تصيرون كالأطفال الذين لا يعرفون الشر الذي يحطم حياة البشر. في بداية الأمر لا تتكلم على أحدٍ بالسوء، ولا تعطيٍ أذنًا لمن يغتاب آخر ويتكلم عنه بسوءٍ. فإنك أن أصغيت وصدقت ما تسمعه من تشويه للسمعة تُحسب شريكًا مع المتكلم بالشر في الخطية. عندما تصدق الكلام، هذا يدفعك أن تضيف من عندك شيئًا ضد أخيك. فتصير مُدانًا باقتراف الخطية عينها التي قذف بها الآخر. تشويه السمعة شر، بل هو شيطان متحرك. أنه لا يهب سلامًا بل صراعًا. تحَّفظ منه، فتعيش في سلام ٍمع كل أحدٍ. لتلبس القداسة التي لا تشاكل الشر، بل تهب ثباتًا وفرحًا. مارس الصلاح، أعطِ ببساطةٍ من ثمار تعبك جميع المحتاجين، لأن إرادة الله هي أن توزع هباته على الجميع... فمن يعطي يكون بلا لوم. فكما استلم من يد الله هكذا يكمل خدمته بأمانة ولا يتذبذب في العطاء، ولا يرتبك بين إعطائه فريق وامتناعه عن العطاء لفريق آخر. إذا ما تمت هذه الخدمة ببساطةٍ، تُحسب مجيدة في عيني الله. من يخدم بتواضعٍ يدخل في عشرة مع الله. احفظ هذه الوصايا كما قدمتها لك، فتصير توبتك وتوبة أهل بيتك بسيطة، ويصير قلبك نقيًا وبلا عيب![65] الأب هرماس * إعداد القلب هو عدم تعلم ترك المناقشات الشريرة. إنها تشبه لوحًا من الشمع ناعمًا مهيئًا للكتابة عليه. القديس باسيليوس الكبير * إذ تطهرت تستطيع أن تدرك ما هو غير منظور بالنسبة لغير الطاهرين. إذ تنزع الكلمة التي تسببها الأشراك المادية من عيني نفسك، فتشاهد الرؤية الطوباوية متألقة في السماء الطاهرة التي لقلبك. القديس غريغوريوس النيسي * لا تجعل فمك مستعدًا بل قلبك... إذ نقبله نعرف ما نفكر فيه. نقبل فقط القليل وننتعش في القلب. ما يقوتنا ليس ما نراه بل ما نؤمن به. لهذا فنحن لا نطلب ما يمس حواسنا الخارجية، ولا نقول: "ليؤمن الذين يرون بأعينهم ويلمسون بأيديهم الرب نفسه بعد قيامته إن كان ما يُقال هو حق إننا لم نلمسه، فلماذا نؤمن؟"[66] القديس أغسطينوس [FONT=""]نقاوة القلب والحب[/FONT]* غيرّ القلب فتتغيّر الأعمال! اقتلع الشهوات واغرس المحبّة، فكما أن الشهوة (محبّة المال) أصل كل الشرور (1 تي 6: 10) هكذا المحبّة أصل الصلاح[67]. القديس أغسطينوس [FONT=""]نقاوة القلب والحياة السماوية[/FONT]* إن كان القلب على الأرض، أي إن كان الإنسان في سلوكه يرغب في نفع أرضي، فكيف يمكنه أن يتنقّى، مادام يتمرّغ في الأرض؟ أمّا إذا كان القلب في السماء فسيكون نقيًا، لأن كل ما في السماء فهو نقي. فالأشياء تتلوّث بامتزاجها بالفضّة النقيّة، وفكرنا يتلوّث باشتهائه الأمور الأرضيّة رغم نقاوة الأرض وجمال تنسيقها في ذاته[68]. القديس أغسطينوس [FONT=""]نقاوة القلب وتنهداته[/FONT]* ماذا يعني هذا؟ إن الاتّجاه السليم للنفس نحو الحق لهو أثمن في عينيّ الله من العبادات، فإن الله يسمع تنهُّدات القلب التي لا يُنطق بها[69]. القدّيس غريغوريوس النيسي [FONT=""]نقاوة القلب والسلطان الحقيقي[/FONT]* كن متسلّطًا على قلبك مثل ملك، لتجلس في عمق التواضع، تأمر الضحك أن يذهب فيذهب، وتدعو البكاء الحلو أن يأتي فيأتي، والجسد العبد العاصي أن يفعل هذا فيفعل[70]. القديس يوحنا الدرجي * ليُعدّ طريق الرب في قلوبنا، فإن قلب الإنسان هو عظيم ومتّسع، كما لو كان هو العالم. انظر إلى عظمته لا في كمّ جسداني، بل في قوّة الذهن التي تعطيه إمكانيّة أن يحتضن معرفة عظيمة جدًا للحق. إذن فليُعد طريق الرب في قلوبكم خلال حياة لائقة وبأعمال صالحة وكاملة، فيحفظ هذا الطريق حياتكم باستقامة، وتدخل كلمات الرب إليكم بلا عائق[71]. العلامة أوريجينوس * "قلبًا نقيًا أخلقه فيَّ يا الله" (مز 51: 10). إنه يطلب مثل هذه الخلقة، ليس كمن ليس له قلب، وإنما إذ أفسده يشتهي أن يرجع ويكون نقيًا[72]. القديس ديديموس الضرير * هوذا السماء داخلك إن كنت طاهرًا والملائكة فيها تنظرهم مشرقين. القديس يوحنا سابا |
||||
08 - 02 - 2014, 04:33 PM | رقم المشاركة : ( 76 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 74 - تفسير سفر المزامير هل ترفضنا تماما؟عاش آساف في أيام داود النبي، حوالي سنة ١٠٠٠ ق.م. كتب هذا نبوة عما سيحدث حين يحاصر نبوخذنصر مدينة أورشليم (٢ مل ٢٥: ١-١٧). يمثل هذا المزمور مرثاة جماعية، أو صلاة بسبب خراب أورشليم والهيكل، ولم يكن هناك رجاء في أي علاج سريع. اعتاد اليهود أن يذكروا خراب أورشليم وتدنيسه في ٩ آب. هذه المرثاة تمثل صلاة كنسية، يليق بالمؤمنين ألا يكفوا عن الصلاة بها من كل القلب بسبب الضيق الذي يحل دائمًا عليها. واضع المزمور[1] 1. يرجح الكثيرون أنه من وضع آساف الرائي، أو ومن وضع داود النبي وقد سلمها لآساف كي يلحِّنها ويترنم بها مع فرقته الموسيقية. بهذا فإن المزمور نبوي، وقد كُتب في صيغة الماضي ليُظهر أن ما يتنبأ به سيكون حقيقة أكيدة. جاء في النسخة السريانية، أن واضع المزمور هو آساف، بخصوص ما حدث مع داود حين ظهر له الملاك القادم لهلاك الشعب، فبكى، وسأل أن يحل التأديب به لأنه هو الذي أخطأ وقام بتعداد الشعب، ولا يحل التأديب بالشعب، القطيع البريء. يرى البعض أن المزمور هو نبوة عما سيحل باليهود حوالي عام 70 م. حيث قام تيطس بتدمير أورشليم وذبح ربوات من اليهود وتم خراب الهيكل. 2. يرى Patrick أن آساف هنا يقصد به "حارس فردوس الملك" في أيام نحميا (نح 2: 8). 3. يرى آخرون أن آساف هنا يشير إلى أحد سلالة آساف المعاصر لداود النبي. 4. قلة حسبوا أن الكاتب هو إرميا النبي، لكن كثيرين رفضوا هذا الرأي. [FONT=""]أقسامه[/FONT] ١. صرخة الأبرار ١-٣. ٢. شرح للأحداث المفجعة ٤-٩. ٣. إلى متى يا الله؟ ١٠-١١. ٤. العمل الإلهي ١٢-١٧. ٥. صلاة من أجل المساعدة ١٨-٢١ المسيح يحب الفقر ٦. خاتمة ٢٢-٢٣. من وحي مز 74 [FONT=""]قَصِيدَةٌ لآسَافَ[/FONT] [FONT=""]١. صرخة الأبرار[/FONT]لِمَاذَا رَفَضْتَنَا يَا اللهُ إِلَى الأَبَدِ؟ لِمَاذَا يُدَخِّنُ غَضَبُكَ عَلَى غَنَمِ مَرْعَاكَ؟ [1]. يفتتح المرثاة بقوله: "لماذا؟"، وقد استخدمت في كثير من مزامير المراثي، مثل ١٠: ١؛ ٢٢: ١؛ ٤٤: ٢٤؛ ٧٩: ١٠ الخ. هنا التساؤل ليس علامة الشك، وإنما بالأكثر علامة الإيمان. ما حلّ بالشعب سواء من الكلدانيين أو من أنطيخوس إبيفانوس (أيام المكابيين) أو من تيطس جاء كتأديب إلهي. كان أشبه بالدخان الذي يخرج من الحيوانات الضخمة المفترسة مقابل الغنم الضعيف العاجز عن الدفاع عن نفسه. إذ تحل بالمؤمنين ضيقة، خاصة من قبل الأشرار، يرفعون أعينهم إلى الله بالتوبة، حاسبين أن ما حلّ بهم هو تأديب منه. ليس للأشرار سلطان عليهم لو لم يسمح لهم الله بذلك. قيل بعاموس النبي: "هل تحدث بلية في مدينةٍ، والرب لم يصنعها" (عا 3: 6)؟ * إنه لا ينتقد (يلوم) ما حدث، إنما يتساءل: "لماذا"، لأي هدف فعلت هذا بنا؟ ماذا تفعل؟ "رفضتنا يا الله إلى النهاية". ماذا يعني "إلى النهاية"؟ ربما إلى نهاية العالم. هل رفضتنا حتى مجيء المسيح الذي هو النهاية لكل مؤمنٍ (رو 10: 4)؟ [2] القديس أغسطينوس ليست خطية أن ندخل مع الله في حوارٍ نعاتبه فيه، أو نستفسر منه عن سبب ما حلّ بنا. هذا ما فعله أيوب البار حين حلت به التجارب. اذْكُرْ جَمَاعَتَكَ التِي اقْتَنَيْتَهَا مُنْذُ القِدَمِ، وَفَدَيْتَهَا، سِبْطَ مِيرَاثِكَ جَبَلَ صِهْيَوْنَ، هَذَا الذِي سَكَنْتَ فِيهِ [2]. ليس للمرتل ما يقدمه في صلاته سوى مراحم الله نفسها. فهو الذي اقتنى شعبه أو اشتراه منذ القديم، يوم أخرجهم من أرض مصر بيدٍ قويةٍ وذراعٍ رفيعة. وهو الذي بحنوه تجلى معلنًا ذاته لهم على جبل صهيون. يرى القديس أغسطينوس أن رعاية الله لشعبه ترجع إلى ما قبل الخروج من مصر، إلى عصر الآباء. فتعامل الله مع هذه الشخصيات إبراهيم وإسحق ويعقوب، وأيضًا يوسف وغيرها لحساب الشعب القادم من الأسباط الاثني عشرة. ارْفَعْ خَطَوَاتِكَ إِلَى الخِرَبِ الأَبَدِيَّةِ. الكُلَّ قَدْ حَطَّمَ العَدُوُّ فِي المَقْدِسِ [3]. عندما يقال "رفع صوته" (تك 39: 18)، وعندما يقال: "رفع يده" (إش 26: 11) يعني يضرب ويؤدب. هنا "يرفع قدميه أو خطواته" معناه "يأتي"، أو يُسرع في قدومه. إنه يدعو الله أن يأتي وينظر بنفسه ما حلّ بمقدسه، فقد صار خِربًا أبدية. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يصلي إلى الرب أن يرفع يديه على الصليب في الأماكن التي تدنست وصارت خرابًا. بالصليب يجتذب ملوك الأرض وكل الأمم لكي تتعبد له وتخدمه (مز 72: 11). هذا هو طريق إصلاح الخِرب الأبدية، وأن تتحول الأمم من عبادة الأوثان إلى عبادة الله الحقيقي. [FONT=""]٢. شرح للأحداث المفجعة[/FONT] قَدْ زَمْجَرَ مُقَاوِمُوكَ فِي وَسَطِ مَعْهَدِكَ، جَعَلُوا آيَاتِهِمْ آيَاتٍ [ع4]. يصوّر المرتل الأعداء وقد اقتحموا شعب الله، بأسود تزمجر على الفريسة. كما يصور الموقف بأن الأعداء دخلوا في معركة مع الشعب، فاقتحموا المقدسات، ووضعوا راياتهم في الموقع علامة السيطرة الكاملة عليه. * لاحظوا عبيد الشياطين، خدام الأوثان، إذ كان الأمم في ذلك الحين هكذا، وقد هدموا الهيكل ومدينة الله "وافتخروا" في وسط عيدك. تذكروا ما قلته إن أورشليم خربت في نفس الوقت الذي كان فيه احتفال بالعيد. اجتمعوا معًا باحتداد، اجتمعوا معًا ودمروا. لقد "وضعوا علامات، علاماتهم، ولم يعرفوا". كان لهم علامات، راياتهم، نسورهم، تنانينهم العلامات الرومانية. بل ووضعوا تماثيلهم أولًا في الهيكل. ولعل علاماتهم هي الأشياء التي سمعوها من أنبياء شياطينهم. "ولم يعرفوا". ما هو الذي لم يعرفوه؟ أنه "لم يكن لك عليّ سلطان البتة لو لم تكن قد أُعطيت من فوق" (يو 19: 11)... أي صلاح عظيم منحه الله لنا من خلال شر يهوذا الخائن! بذات وحشية اليهود كيف مُنح خير عظيم بقبول الأمم الإيمان! لقد ذُبح المسيح على الصليب، لكي ما يتطلع إليه ذاك الذي عضَّتهُ الحية[3]. القديس أغسطينوس * عبَّر الشيطان عن حمو غضبه (هياجه)، ليدوسَ الذين يؤمنون بمجيء الرب، فأصابهم بضيقاتٍ متنوعة وبلايا. لهذا يصلي داود لكي يُحفِّزَ الربُ... بشكوى ذات صبغةٍ نبوية، ليحثُّه على الإسراع، ويسأله أَن يأتي بعونه (ولا يؤجل). نجد تماثلًا لتلك الصلاة في نصٍ لاحق أيضًا، إذ يقول المرتل بنفس الأسلوب: "لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد؟" (مز 74 :1)، في هذا النص ناح بدموع، وأعلن جهارًا أنَ اللهَ قد نسيَ شعبه، وطرح عنه صولجان ميراثه، وأعلن أن الأعداء قاموا ضد شعب الله (قابل مز 73 (74): 2-3). وعن تلك يقول: "قد زمجر كارهوك في وسط جلالك (مقدسك)" (مز 74 :4). وربما يشير هذا النص القصيرُ إلى الآشوريين، الذين انتصروا على الشعب اليهودي، وإلا ما كان أردف قائلًا: "أقاموا شاراتهم راياتٍ، ولم أعرفهم!" توجد دائمًا راياتٌ في الحرب، وهي دائمًا ما تسبق الذاهبين إلى المعركة، وتقف على رأس الحشد العسكري. وكل فريقٍ أو لواءٍ يتبع رايته الخاصة. وإذا ما تفرقوا في ساحةِ الوغى، يتجمعون ثانيةً، حيث تقف رايتهم[4]. القديس أمبروسيوس يبَانُ كَأَنَّهُ رَافِعُ فُؤُوسٍ عَلَى الأَشْجَارِ المُشْتَبِكَةِ [5]. إذ يهجم الغزاة على الهيكل المقدس، يبرز واحد منهم كبطلٍ يحمل فأسًا ليقود الباقين لتحطيم النقوش الخشبية (1 مل 6: 18)، كمن يضرب أشجارًا كثيفة متشابكة؟ يرى القديس أغسطينوس أن الغزاة إذ قاموا بتخريب الهيكل أمسكوا بالفؤوس ليحطموا الأبواب والأثاثات الخشبية الجميلة بوحشية وغباوة كمن يضرب أشجار غابة متشابكة. وَالآنَ مَنْقُوشَاتِهِ مَعًا، بِالفُؤُوسِ وَالمَعَاوِلِ يَكْسِرُونَ [6]. جاء وصف تدمير الهيكل في (2 مل 25: 8-17؛ إر 52" 12-23). "جاء نبوزردان رئيس الشرط عبد ملك بابل إلى أورشليم، وأحرق بيت الرب وبيت الملك وكل بيوت أورشليم وكل بيوت العظماء احرقها بالنار... وأعمدة النحاس التي في بيت الرب والقواعد وبحر النحاس الذي في بيت الرب كسَّرها الكلدانيون وحملوا نحاسها إلى بابل..." (2 مل 25: 8 الخ). * بهذه الطريقة، إذ لا يجد الشيطان الحق في جانبه يهاجم، ويقوم بتكسير أبواب الذين يسمحون له بالدخول، وذلك بالفؤوس والمعاول. أما مخلصنا فلطيف، يعلمنا هكذا: إن أراد أحد أن يتبعه ويكون له تلميذًا، يأتي إليه ولا يلزمه، بل يسأله: "أختي وعروسي". فإن فتح له يدخل، وإن تأخر ولم يريد أن يفتح، يفارقه[5]. البابا أثناسيوس الرسولي أَطْلَقُوا النَارَ فِي مَقْدِسِكَ. دَنَّسُوا لِلأَرْضِ مَسْكَنَ اسْمِكَ [7]. يتناسب القول هنا مع تدنيس المدينة المقدسة بواسطة الكلدانيين وأنطيخوس إبيفانوس والرومان. لم يحرق أنطيخوس الهيكل، لكنه أحرق أبوابه ودنس المذبح بتقديم خنزير عليه. أما الغزاة الآخرون فقاموا بحرقه وتدميره. لقد هدم الكلدانيون الهيكل حتى أتوا به إلى الأرض. أما تيطس الروماني فلم يترك حجرًا على حجرٍ إلا ونقضه. قَالُوا فِي قُلُوبِهِمْ: لِنُفْنِيهُمْ مَعًا. أَحْرَقُوا كُلَّ مَعَاهِدِ اللهِ فِي الأَرْضِ [8]. لم يقف الأمر عند هدم الهيكل وأورشليم، وإنما وضع الغزاة في قلوبهم أن يبيدوا كل موضع للعبادة. ربما يقصد بمعاهد الله هنا المجامع اليهودية حيث كانت تُقام فيها العبادة وتُقرأ الشريعة. كان الشعب ملتزمًا أن يظهر في أورشليم في الهيكل ثلاث مرات في السنة (تث 12: 5-6). ولم يكن يسمح للأسباط تقديم أية ذبيحة خارج أورشليم، إنما تقدم على المذبح النحاس في الهيكل. يرى البعض أنه لم يكن يُسمح للأسباط بتقديم ذبائح خارج الهيكل، لكن كان يسمح بذلك في ظروف معينة للأفراد أو العائلات، مقدمين الدليل على ذلك بإقامة إيليا النبي مذبحًا وتقديم ذبيحة خارج الهيكل (1 مل 18: 30-38). آيَاتِنَا لاَ نَرَى. لاَ نَبِيَّ بَعْدُ. وَلاَ بَيْنَنَا مَنْ يَعْرِفُ حَتَّى مَتَى [9]. يرى القديس أغسطينوس أن الحديث هنا يمثل حال اليهود بعد السبي. لقد فقدوا كل شيء، لم يعودوا يرون آيات تكشف عن حضور الله في وسطهم ولم يعد يوجد أنبياء إلا قلة قليلة جدًا، وصاروا كما في ظلمة لا يعرفون متى يتحررون من هذا السبي. هذا هو وحالهم كما ورد في (1 مك 4: 46؛ 9: 27؛ 14: 41). ينطبق أيضًا هذا على حال اليهود منذ أيام ملاخي النبي حتى مجيء القديس يوحنا المعمدان، ومن أيام تيطس إلى يومنا الحاضر[6]. جاء في حزقيال: "ستأتي مصيبة على مصيبةٍ، ويكون خبر على خبرٍ، فيطلبون رؤيا من النبي، والشريعة تُباد عن الكاهن، والمشورة عن الشيوخ" (حز 7: 26). وفي مراثي إرميا: "لا شريعة، أنبياؤها أيضًا لا يجدون رؤيا من قبل الرب" (مرا 2: 9). ويقول عاموس النبي: "هوذا أيام تأتي يقول السيد الرب أرسل جوعًا في الأرض، لا جوعًا للخبز، ولا عطشًا للماء، بل لاستماع كلمة الرب" (عا 8: 11). ويقول ميخا النبي: "لذلك تكون لكم ليلة بلا رؤيا، ظلام لكم بدون عرافة، وتغيب الشمس عن الأنبياء، ويظلم عليهم النهار" (مي 3: 6). [FONT=""]٣. إلى متى يا الله؟[/FONT] حَتَّى مَتَى يَا اللهُ يُعَيِّرُ المُقَاوِمُ، وَيُهِينُ العَدُوُّ اسْمَكَ إِلَى الغَايَةِ؟ [10]. يقف المرتل في دهشة أمام طول أناة الله على الأشرار، فإنهم يعيرونه ويجدفون على اسمه بلا توقف، وهو في صمت يطيل أناته عليهم لعلهم يتوبون ويرجعون إليه فيغفر لهم ويحتضنهم. لِمَاذَا تَرُدُّ يَدَكَ وَيَمِينَكَ؟ أَخْرِجْهَا مِنْ وَسَطِ حِضْنِكَ. أَفْنِ [11]. إذ يئن المرتل من طول أناة الله على الأشرار حتى صاروا يجدفون على اسمه حتى النهاية، الآن يصرخ إلى الله أن يمد يده وينقذ شعبه ويعاقب الأشرار. وكأنه يقول له: لا تقف صامتًا كمن لا يبالي بضيقة شعبه. يقصد بيمين الله قوته القادرة أن تخلص، كما تشير إلى كلمة الله الأزلي، والخالق، إذ كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يو 1: 3). فالمرتل يطلب سرعة تجسده ومجيئه ليخلص العالم من إبليس عدو البشرية ومن الخطية. يرى القديس أغسطينوس أن كاتب السفر عاد بذاكرته إلى ما حدث مع موسى: "قال له الرب أيضًا اَدخل يدك في عبَّك، فأدخل يده في عبِّه، ثم أخرجها وإذا يده برصاء مثل الثلج. ثم قال له: رُدّ يدك إلى عبك، فردّ يده إلى عبِّه، ثم أخرجها من عبِّه، وإذا هي قد عادت مثل جسده" (خر 4: 6-7). في خروج اليد للمرة الأولى كانت برصاء كالثلج إشارة إلى مجيء السيد المسيح الأول، حيث حمل خطايانا في جسده على الصليب لكي يخلصنا، فالدعوة هنا أن يأتي السيد المسيح ليجدنا في مجيئه الأخير قد تقدسنا وتبررنا، وتأهلنا للعرس السماوي. يأتي مسيحنا ليجد كنيسته قد تهيأت للعرس، ولا يعود يختلط الأشرار بالأبرار، بل يفصل الرب هؤلاء عن أولئك. في مقالاته ضد الأريوسية يشير البابا أثناسيوس السكندريإلى هذه العبارة حيث يطلب من الآب أن يبسط يده اليمنى ويخرجها من حضنه. ما هي هذه اليد اليمنى سوى الابن الأزلي في حضن الآب، وبتأنسه يقول: "من عند الآب خرجت" (يو 16: 27). وكأن هذه العبارة تشير إلى تأنس كلمة الله. * الابن هو الكلمة، والحياة الذي مع الآب. ماذا قيل في يوحنا نفسه: "الابن الوحيد الذي في حضن الآب"، مظهرًا أن الابن كان منذ الأزل. فمن يدعوه يوحنا الابن يشير إليه داود في المزمور أنه يد الله، قائلًا: "لماذا لا تبسط يمينك، أخرجها من حضنك" [١١ LXX][7]. البابا أثناسيوس الرسولي [FONT=""]٤. العمل الإلهي[/FONT] وَاللهُ مَلِكِي مُنْذُ القِدَمِ، فَاعِلُ الخَلاَصِ فِي وَسَطِ الأَرْضِ [12]. إذ يسأله المرتل عن سرعة مجيئه الأخير ليتمتع المؤمنون الحقيقيون بملكوت الله، يرى كل مؤمنٍ أن مخلصه هو ملكه، يملك على الكل، لكن له معزّة خاصة عنده، وموضع خاص في حضنه الإلهي. قدم الخلاص للبشرية كلها كما في وسط الأرض، وقدمه بصفة خاصة لكل مؤمنٍ كما لو كان الوحيد موضع اهتمام الملك المخلص. يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح هو مخلص الأرض كلها، لكن يشعر المرتل في وسط الضيق كمن قد نسيه المخلص، فيصرخ إليه! * من جهة، نحن نصرخ: "لا نبي بعد، ولا بيننا من يعرف حتى متى" [ع9]، ومن الجانب الآخر. إلهنا، ملكنا هو قبل العالم. إذ هو نفسه الكلمة الذي في البدء (يو 1: 1)، به خلق العالم، "فاعل الخلاص في وسط الأرض" [ع12]... ومع هذا أصرخ كمن هو منسي... الآن قد استيقظت الأمم ونحن نغط في النوم، كمن قد نسانا الله، إننا كمن نهذي في الأحلام[8]. القديس أغسطينوس * لقد بسط يديه على الصليب حتى يعانق العالم أجمع، إذ الجلجثة هي مركز العالم. هذا ليس من عندي، بل يقول النبي: "فاعل الخلاص في وسط الأرض" (مز 74: 12). بسط يديه البشريتين هذا الذي بيديه الروحيتين أوجد السماء. وسُمرتا بالمسامير، حاملًا آثام البشر، حتى إذ سُمر على خشبة مات، فيموت الإثم لنقوم في برّ. "لأنه بإنسانٍ واحدٍ دخل الموت، وهكذا بإنسانٍ واحدٍ تكون الحياة" (رو 5: 12، 17)، بإنسانٍ واحد - المخلص - مات بإرادته. لعلك تذكر ما قاله: "لي سلطان أن أضع نفسي، ولي سلطان أن آخذها" (يو 10: 18)[9]. القديس كيرلس الأورشليميأَنْتَ شَقَقْتَ البَحْرَ بِقُوَّتِكَ. كَسَرْتَ رُؤُوسَ التَنَانِينِ عَلَى المِيَاهِ [13]. يتكرر ذكر "التنين" في سفر الرؤيا ثلاث عشرة مرة، يظهر فيها أنه يعني "إبليس". كالقول: "فطُرح التنين العظيم، الحية القديمة المدعو إبليس والشيطان، الذي يُضل العالم كله" (رؤ 12: 9). كما قيل: "فقبض على التنين، الحية القديمة الذي هو إبليس والشيطان، وقيَّده ألف سنة" (رؤ 20: 2). دُعي "التنين الأحمر العظيم" (رؤ 12: 3)، لأنه سافك الدماء. في رسالته لأوشينوس Oceanus كتب القديس جيروم عن بركات المعمودية التي تُحطم قوى إبليس، وعن بركات المياه، جاء فيها: [كان روح الله يرف عاليًا، كسائق مركبة، فوق وجه المياه (تك 1: 2)، وأخرج منها (الأرض الخاوية والخالية) عالمًا طفلًا the infant world ، رمزًا للطفل المسيحي الخارج من جرن المعمودية. تكوَّن الجلد بين السماء والأرض، وخصص له اسم "سماء"، وفي العبرية شمايم أو "الخارجة من المياه" وانفصلت المياه التي فوق السماوات عن غيرها لمدح الله. لذلك أيضًا في رؤيا النبي حزقيال نرى فوق الشاروبيم منظر البلور منتشرًا (حز 1: 32)، وهو عبارة عن مياه مضغوطة وكثيفة. والكائنات الأولى خرجت من المياه. والمؤمنون يحلقون خارجين من الجرن بأجنحة ترتفع إلى السماء. خُلق الإنسان من الطين (تك 2: 7)، وأمسك الله بالمياه السرية في جوف يده. في عدن غُرست جنة، وينبوع في وسطها له أربعة رؤوس (تك 2: 8، 10). هذا هو ذات الينبوع الذي وصفه عن الهيكل، ويفيض نحو شروق الشمس حتى يشفي المياه المرّة، ويحيي الموتى (حز 47: 1، 8). عندما سقط العالم في الخطية، لم يكن سوى طوفان المياه القادر أن يغسله مرة أخرى... إذ أُكره فرعون وجيشه على ترك شعب الله أن يخرج من مصر، غرقوا في البحر الأحمر كرمز لمعموديتنا[10].] * لم يعتمد (السيد المسيح) لأنه كان في حاجة إلى تطهير، إنما اعتمد لكي يجعل تطهيري تطهيره؛ كي يحطم رؤوس التنانين في المياه (مز 74: 13)، يغسل الخطية ويدفن كل ما لآدم القديم، معلنًا سرّ الثالوث، ويصير لنا نموذجًا ومثالًا لقبول المعمودية[11]. الأب يوحنا الدمشقي * التنين الذي هو عظيم وأحمر وماكر ومتشعب الجوانب وله سبعة رؤوس وقرون، ويجر ثلث النجوم إلى أسفل، ويقف مستعدًا ليلتهم طفل المرأة التي تلد (رؤ 12)، هو الشيطان الذي يتربص ليُحطم ذهن المعمَّدين الذين يقبلون المسيح، وصورة الكلمة وملامحه الواضحة التي تتجلي فيهم. لكنه يفشل في اقتناص فريسته التي تتجدد وتصعد إلى عرش الله[12]. الأب ميثوديوس * ليتنا لا نخجل من الاعتراف بالمصلوب. لنرسم علامة الصليب ختمنا بشجاعة، بأصابعنا على جباهنا وعلى كل شيءٍ: على الخبز الذي نأكله، وعلى الكأس التي نشربها، في دخولنا وفي خروجنا، قبل النوم وعندما نركض وعندما نستيقظ، في الطريق وحيثما حللنا. عظيم هو هذا الفعّال. هو مجانًا من أجل الفقراء، يتم بغير عناء من أجل المرضى. إنه علامة المؤمنين، ورعب الشياطين، إذ غلبهم ظافرا بهم جهارًا (كو 2: 15). لأنهم إذ يرون الصليب يتذكرون المصلوب، فيرتعبون من ذاك الذي كسر رؤوس التنانين (مز 74: 13)[13]. القديس كيرلس الأورشليمي* جاء في أيوب أنه كان في المياه الوحش الذي "اندفق الأردن في فمه" (أي 40: 23)، وكان يلزم تحطيم رؤوسه (مز 74: 14)، لهذا نزل (السيد) وربط القوي في المياه، حتى نال قوة فيها، إذ يكون لنا سلطان أن ندوس على الحيات والعقارب (لو 10: 19). كان الوحش عظيمًا ومرعبًا، لا يقدر أي قارب صيد أن يقاوم ضربة واحدة من ذيله[14]، ثائرًا على كل من يلتقي به. لقد نزل "الحياة" إليه ليلتقي معه، فيسد فم الموت هناك، عندئذ إذ نخلص نقول: "أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا قبر؟!" (راجع 1 كو 10: 55) لقد نُزعت شوكة الموت بالعماد[15]. القديس كيرلس الأورشليمي* رأت الذئاب السحب, والمطر والإعصار. نادت بعضها بعض، وهجموا كالضواري، تهيجوا. مُحدقين بهم تمامًا، كانوا جميعهم مملوئين غيظًا. وأحاطوا بالقطيع المبارك. لكن الصولجان الذي أبهجهم انكسر، وقادهم للندم. قصبه مرضوضة كانت هي دعامة اليد اليسرى (إش 36: 6). فارتدوا إلى كهوفهم, المظلمة والعتيقة (البدائية). خافوا أن يكونوا قد تعرُّوا، فلبسوا مرة أخرى من عرائهم. والخليقة التي كانت مكتئبة، أشرقت وتهللت، لكن المتمردين قد ديسوا. ورؤوس الحوت الضخم قد دُمرت في وسط البحر (مز 74: 13-14)، وتفتت ذيله الزاحف في وسط الأرض الجافة[16]. القديس مار أفرام السرياني أَنْتَ رَضَضْتَ رُؤُوسَ لَوِيَاثَانَ. جَعَلْتَهُ طَعَامًا لِلشَعْبِ لأَهْلِ البَرِّيَّةِ [14]. يوضح الأب ثيؤدور كيف يتحرر المعمدون من سلطان إبليس ليدخلوا في ميثاق مع الله كأولاد له، متمتعين بالحرية. وتحدث القديس كيرلس الأورشليمي عن عطية المعمودية كتحريرٍ من سلطان إبليس، الوحش الساكن في أعماق المياه، قائلًا: [جاء في أيوب أنه كان في المياه الوحش الذي "اندفق الأردن في فمه" (أي 40: 23)، وكان يجب تحطيم رؤوسه (مز 74: 14). لهذا نزل (السيد) وربط القوي في المياه حتى ننال فيها القوة، إذ يكون لنا السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب (لو 10: 19). كان الوحش عظيمًا ومرعبًا، "لا يقدر إناء سميك أن يحتمل حرشفة واحدة من ذيله" (أي 41: 7 LXX )، ثائرًا ضد كل من يلتقي به. لقد نزل "الحياة" إليه ليلتقي معه فيسد هناك فم الموت، وعندئذ نخلص نحن، قائلين: أين شوكتك يا موت؟! أين غلبتك يا قبر؟! (1 كو 10: 55). لقد نزعت شوكة الموت بالمعمودية! ها أنتم تدخلون المياه حاملين خطاياكم، وبابتهال النعمة إذ نختم نفوسكم، لا يعود يبتلعكم الوحش المرعب[17].] يرى العلامة أوريجينوس[18] أن الشعب اليهودي تمتع بثلاثة أنواع من الطعام: الأول عند خروجهم من مصر حيث أخذوا المعاجن وبها العجين في ثيابهم، وذلك للأكل لفترة قصيرة (خر 12: 34). والثاني أمطر عليهم المن اليومي في البرية (مز 74: 14). والثالث حين توقف إنزال المن وبدأوا يأكلون من ثمار أرض الموعد (يش 5: 11-12). الطعام الأول هو التعليم البسيط الذي نتقبله عند خروجنا من عدم الإيمان، وهو طعام مؤقت. والثاني هو دخولنا إلى أعماق الناموس الإلهي، كالمن النازل من السماء. أما الثالث فهو طعامنا حين نرى مسيحنا وجهًا لوجه في الأبدية. هناك نتمتع بما لم تره عين، ولم تسمع به إذن، وما لم يخطر على بال إنسانٍ ما أعده الله للذين يحبونه (1 كو 2: 9). * كان الإنسان يميل إلى أسفل، لا يتغذى إلا بالخطية، وهكذا يصف الروح القدس الخطاة ويتكلم عن غذائهم، وذلك حينما يشير إلى الشيطان قائلًا عنه: "جعلته طعامًا.." (مز 74: 14) فالشيطان هو طعام الخطاة! وإذ ربنا ومخلصنا هو الخبز السماوي، لهذا فهو غذاء القديسين، لهذا قال: "إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي.." (يو 6: 53). بينما الشيطان هو غذاء الدنسين، الذين لا يصنعون أعمال النور، بل أعمال الظلمة. ولكي يجذبهم الله، ويردهم عن شرورهم، يوصيهم أن يقتاتوا بالفضيلة، خاصة تواضع العقل، والمسكنة، واحتمال الإهانات، والشكر لله[19]. البابا أثناسيوس الرسولي * تأمرنا الوصية أن نشترك في (الحمل) في بيتٍ واحدٍ فقط، لئلا نظن أن الحمل يُمكن أن يُقدم خارج الكنيسة. واضح من هذا أن اليهود والهراطقة وكل الاجتماعات الخاصة بالتعاليم المنحرفة، إذ لا يأكلون الحمل في الكنيسة، لا يأكلون لحم الحمل، بل لحم التنين[20]. القديس جيروم * نحن نعلم أنك تدبر العالم بسياسة ملوكية يا الله. قبل الدهور وقديمًا صنعت لنا خلاصًا في وسط الأرض، أعني جهارًا وعلانية بين الناس كلها. ذلك عندما يبست البحر الأحمر، وأجزت شعبك، وسحقت رؤوس وقواد المصريين المتمردين مثل تنانين في مياه البحر. وفرعون التنين الكبير رضضت رأسه، أي مُلكه... نقول أن ابن الله هو إله وملك قبل كل الدهور، مساوٍ للآب والروح القدس في الأزلية والجوهر، لما تجسد في ملء الزمان صنع الخلاص لجميع العالم بأورشليم التي يقال أنها وسط الأرض. أيضًا تدعى حياة البشر بحرًا لكون أمورها كثيرة التموج والاضطراب. وقد سكَّن الله أمواجها وملاطمتها بقوة. أما التنانين فهي الأرواح الشريرة والقوات المضادة، ورؤوسها هي رؤساؤهم، أو تكون من رؤوسها السحر والعرافة والعيافة وعبادة الأصنام وما شاكلها. هذه التنانين كانت تقلق وتحرك بحر العالم برؤوسها المذكورة. وقد رضضها ربنا يسوع المسيح بالمياه، أعني عندما اعتمد في الأردن، ومنحنا موهبة الاصطباغ بالمياه. وأما التنين الكبير الذي دبّ ودخل في الفردوس وخدع أجدادنا، فذاك أيضًا رضض رأسه وأماته... الذين بعدما آمنوا اصطبغوا بمياه المعمودية نالوا سلطانًا وقوة أن ينزعوا لحم التنين القديم أي شره، ويرضوا رأسه يبيدوه. الأب أنثيموس الأورشليمي أَنْتَ فَجَّرْتَ عَيْنًا وَسَيْلًا. أَنْتَ يَبَّسْتَ أنهارًا دَائِمَةَ الجَرَيَانِ [15]. إن كان السيد المسيح قد كسَّر بعماده رؤوس التنانين على المياه [13]، ففي سلطانه أن يجفف الأنهار، كما فعل حين شقّ طريقًا لشعبه في بحر سوف وأيضًا في نهر الأردن. وفي سلطانه أن يفجرّ ينابيع مياه من الصخور كما حدث بعصا موسى التي دُعيت أيضًا عصا الله. يرى القديس أغسطينوس أن الله يخرج من الأمم غير المؤمنين، الذين كانوا كالحجارة ينابيع مياه الحكمة والغنى الروحي. * "أنت فجرت عيونًا (ينابيع) وسيولًا" [ع15]، لكي ما يفيض بمجرى الحكمة، وغنى الإيمان، وتتحول ملوحة مياه الأمم غير المؤمنين إلى عذوبة الإيمان بمياههم... تصير كلمة الله في بعض الناس بئر مياه ينبع إلى حياة أبدية (يو 4: 14). وآخرون إذ يسمعون الكلمة ولا يحفظونها بالحياة الصالحة، وفي نفس الوقت لا يبكمون ألسنتهم يصيرون سيولًا. يليق بهم أن يُدعوا سيولًا لأنهم غير دائمين... الينابيع تفيض دومًا، والسيول تجري (وتنتهي) [21]. القديس أغسطينوس يرى القديس أغسطينوس أن إبليس وقد جعل من المياه مسكنًا له، فإن السيد المسيح ييبس الأنهار التي يسكنها العدو ليحطمه في بيته، أو كما يقول السيد نفسه: "أم كيف يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته، إن لم يربط القوي أولًا" (مت 12: 29). كما يقول: إن السيد يجفف أنهار الأمم الوثنية أي تعاليمهم الخاطئة حتى تفيض عقولهم بإنجيل الحق. يقدم لنا الأب أنثيموس الأورشليمي الآراء التالية: 1. تشير العيون والأودية إلى المياه التي انفجرت من الصخرة في البرية، وارتوى منها شعب إسرائيل، وأنهار إيثام (كما جاءت في الترجمة السبعينية) هي أنهار تصب في نهر الأردن. 2. إيثام تشير إلى غابات كثيفة بأشجارها وغزيرة بمياهها، كان يذهب سليمان الملك ليتصيد، ويرى يوسيفوس المؤرخ أنه إذ غضب الله على اليهود يبست المياه هناك. 3. إيثام معناها دم، فقد أزال الله دم ذبائح الأصنام عن شعبه. 4. المعنى الرمزي للعبارة]إن أقوال الأنبياء كانت ينابيع وأودية جارية تشفي قلوب اليهود وترطبها، لكن لأجل نفاقهم يبَّسها ومنعها عنهم. ومثل أنهار إيثام نزع منافعةا عنهم. أما الأمم الذين كانوا قبلًا برية قفرة عديمة الماء فقد فجَّر منهم مياه مواهبه الإلهية كأنهار جارية[. إذ نلجأ إلى الله يحول حياتنا إلى أودية تفيض فيها ينابيع مواهب الروح القدس، فنجمل ثماره، ونصير جنه مقدسة للرب، لا تقدر أنهار ضلالة إبليس أن متسلل إلينا. لَكَ النَهَارُ وَلَكَ أَيْضًا اللَيْلُ. أَنْتَ هَيَّأْتَ النُورَ وَالشَمْسَ [16]. يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح يشتاق إلى خلاص الجميع؛ يعمل في الذين استناروا به، ويطلب أن يعمل حتى في أبناء الليل ليحوِّل ظلمتهم إلى نور. * "لك النهار". من هم هؤلاء؟ أنهم الروحيون. "ولك الليل". من هم هؤلاء أنهم الجسدانيون. "أنت كمّلت الشمس والقمر"؛ الشمس هم الروحيون، والقمر هم الجسدانيون. إنه لا ينسى الجسداني، بل يريد أن يجعله كاملًا. الشمس كما لو كانت الإنسان الحكيم، هذا الذي أنت لا تنساه. مكتوب: "الإنسان الحكيم يثبت مثل الشمس، والغبي مثل القمر يتغير" (سي 27: 11)... يقول الرسول: "إني مديون للحكماء والجهلاء" (رو 1: 14) [22]. القديس أغسطينوس * بعد أن عدد النبي أنواع إحسانات الله إلى اليهود، يورد إحساناته إلى جميع الخلائق. الأب أنثيموس الأورشليمي * سأل أخٌ أحد الآباء قائلًا: "إذا حدث أن غلبني النوم وفاتني وقت الصلاة ثم انتبهتُ، وبسبب حزني لم تنبسط نفسي للصلاة، فماذا أفعل؟" فقال له الشيخ: "حتى لو غلبك النوم إلى الصباح، فقُمْ وأغلق بابك، وتمِّم قانونك، فالنبي داود يقول مخاطبًا الله: "لك النهار ولك أيضًا الليل" (مز 74: 16). إنّ إلهنا لكثرة جوده ورحمته في أي وقت دُعيَ استجاب". فردوس الآباء أَنْتَ نَصَبْتَ كُلَّ تُخُومِ الأَرْضِ. الصَيْفَ وَالشِتَاءَ أَنْتَ خَلَقْتَهُمَا [17]. الله يعرف حجم الأرض بكل دقة وشكلها، وحجم اليابس ومياه المحيطات والبحار والأنهار، وحدود كل دولة وأمة، فهو القدير المهتم بكل دقائق الأرض وسكانها. حتى الأزمنة كالصيف والشتاء في يديه. هو خالق كل الطبيعة وأب كل الأمم. "حين قسَّم العلي للأمم حين فرَّق بني آدم نصب تخومًا لشعوب حسب عدَّد بني إسرائيل" (تث 32: 8). "للرب الأرض وملؤها. المسكونة وكل الساكنين فيها. لأنه على البحار أسسها، وعلى الأنهار ثبتها" (مز 24: 1-2). "وصنع من دمٍ واحدٍ كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض، وحتم بالأوقات المعينة وبحدود مسكنهم" (أع 17: 26). * ما أجمل أن يصف خالق الربيع حُسن هذا الفصل. يقول داود: "أنت نصبت كل تُخُوم الأرض، الصيف والشتاء أنت خلقتهما" (مز 74: 17). هو الذي أزاح كآبة الشتاء، وأعلن أن الأمطار التي أرهقتنا قد مضت. ثم أشار إلى أن الحقول قد أينعت وازدانت بالزهور. وأن الزهور تفتحت وجاهزة لمن يقطفها ليعمل منها مجموعات للزينة أو لتجهيزها لاستخلاص العطور. إن صدى الصوت يجعل الفصل ممتعًا، ويتردد غناء الطيور في بساتين الفاكهة، ويصل صدى صوت اليمامة الشجي إلى آذاننا. ويتكلم العريس أيضًا عن شجرة التين والكرم التي يُنبئ مظهرها الحاضر بالفرح بما ستنتجه في المستقبل القريب. فيظهر التين الصغير وغيره على الفروع الملساء وكلاهما يمتع حاسة شمنا بالرائحة الزكية. وهكذا يُظهر الكتاب المقدس مقدار الفرح في وصفه لصورة الربيع الغنية. أنه يضع الكآبة جانبًا، فنتمتع بجمال الوصف. إنني اعتقد أنه بالإضافة إلى ذلك، يلزم لنا ألاَّ نتوقف عن وصف هذه الأشياء التي تُدخل السرور إلى النفس. وبالأحرى يجب أن تقودنا هذه إلى الأسرار التي تتضح من خلال هذه الكلمات حتى نكشف ما تخفيه من كنوز[23]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص [FONT=""]٥. صلاة من أجل المساعدة[/FONT] اُذْكُرْ هَذَا: أَنَّ العَدُوَّ قَدْ عَيَّرَ الرَبَّ، وَشَعْبًا جَاهِلًا قَدْ أَهَانَ اسْمَكَ [18]. مع هذه الرعاية الفائقة لضابط الكل المعتني حتى بالأرض وكل ما عليها وما تحتها وفصول السنة والأزمنة من أجل سلام الإنسان، إلا أنه يوجد أشرار يعيرون الرب، وجهال يجدفون على اسمه. لقد عيَّر الأشرار كلمة الله المتجسد نفسه وادعوا أنه خاطئ وسامري بل وبعلزبول رئيس الشياطين. * يحزن آساف على العمى القديم في الفهم "العدو قد عيّر الرب" لقد قيل للمسيح وهو في أُمَّته: "نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ" (يو 9: 24). "نحن نعلم أن موسى كلَّمة الله؛ وأما هذا فما نعلم من أين هو" (يو 9: 29). إنه سامري (يو 8: 48)... "وشعبًا جاهلًا قد أهان اسمك" [18]، فهل كل أولئك؟ حاشا... فإنه حتى الرسول بولس الذي انكسر بسبب عدم الإيمان قد أُصلح بالإيمان في جذوره[24]. القديس أغسطينوس لاَ تُسَلِّمْ لِلْوَحْشِ نَفْسَ يَمَامَتِكَ. قَطِيعَ بَائِسِيكَ لاَ تَنْسَ إِلَى الأَبَدِ [19]. تُدعى الكنيسة هنا بيمامة الله العاجزة عن الدفاع عن نفسها، لا تحب الخصام، ولا تقدر أن تمارسه، وديعة وهادئة تهرب من الضجيج، لا سلاح لها، ومحبوبة من الله الذي يحبها ويرعاها. يرى القديس أثناسيوس أن هذا القول النبوي يخص اليهود الذين تابوا وآمنوا بالمسيح، فإنه لا يهملهم إلى الانقضاء. * إذا كان الله لم يشفق على شعبه المختار، فكم بالأكثر لا يشفق علينا نحن أيضًا. إننا إذا لم ننفذ وصية الله وكلام الإنجيل سوف يقول من جديد: هلم اجمعوا كل حيوان الحقل إيتوا بها للأكل"، لكننا نتجرأ لنقول في صلواتنا: "لا تُسَلِم للوحش نفس يمامتك" (مز 74: 19)، أو "لا تسلم للوحوش المفترسة النفس التي تعترف لك بخطاياها". فلنعترف إذًا بخطايانا تائبين عنها، فلا نُسلِّم نفوسنا للوحوش، وإنما للملائكة القديسين الذين سيكونون بمثابة مرضعين لنا، يحملوننا على صدورهم، ويساعدوننا على العبور من هذا العالم إلى العالم الآتي في يسوع المسيح، الذي له القوة والمجد إلى الأبد آمين[25]. * الحيوانات الروحية الشريرة هي التي يسميها الرسول "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 2). عن هذه الحيوانات يقول الكتاب: "الحية كانت أمكر من جميع الوحوش التي على الأرض" (تك 3: 1).. كما قيل: "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9). إن أردت أن تعرف حيوانات أخرى رديئة يعلمك إشعياء النبي إذ دعاها في رؤى أنها الدابة في البرية، قائلًا: "في أرض شدَّةٍ وضيقةٍ منها اللبوة والأسد، الأفعى والثعبان السام الطيَّار، يحملون على أكتاف الحمير ثروتهم، وعلى أسنمة الجمال كنوزهم إلى شعبٍ لا ينفع" (إش 30: 6). هل يتم هذا مع حيوانات البرية المادية؟! كيف يمكن للبوة والأسد والأفعى والثعبان السام أن يحملوا ثروتهم على ظهر حمار أو جمل؟! واضح إذن أن النبي المملوء بالروح القدس يعدد القوة العدوانية التي لأفظع الشياطين. يود أن يقول بأن الشياطين تضع ثروتها التي هي خداعها للنفوس، وذلك خلال الحماقة (الحمار) والدنس (الجمل)، ولكي لا نُسلم لهذه الوحوش يلزم للنفس التي تخاف الله أن تقول: "لا تسلم للوحش نفس يمامتك" (مز 74: 19)[26]. العلامة أوريجينوس * "وكان مع الوحوش، وصارت الملائكة تخدمه" (مر 1: 13). كان يسوع مع الوحوش، ولهذا جاءت الملائكة تخدمه. يقول الكتاب:"لا تسلم للوحوش نفس المعترف لك" (مز 74: 19). هذه هي الوحوش التي وطأ عليها الرب بقدم الإنجيل: الأسد والتنين (مز 91: 13)[27]. * يليق بنا أن نلتزم في سلوكنا بطريقة بحيث لا نُطرد قط من هذا البيت، ونُطرح فريسة للوحوش. كما يصرخ النبي في رعبٍ: "لا تسلم للوحوش نفس من يتكل عليك" (مز 74: 19)[28]. القديس جيروم * نقرأ: "أبيد الوحوش الرديئة من مدينتكم" (راجع لا 26: 6). هذه الوحوش المادية ليست شريرة تمامًا ولا صالحة بالكامل، بل بالحري هي في الوسط، لأنها حيوانات عجماوات. على أي الأحوال، تلك الوحوش الأخرى هي الشرور الروحية، يدعوها الرسول: "أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12). هذا هو الوحش الشرير الذي يقول عنه الكتاب المقدس: "كانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية" (تك 3: 1). هذا هو الوحش الشرير الذي يَعد الله أن يبيده من أرضنا إن حفظنا وصاياه. أتريدون أيضًا أن تروا وحشًا شريرًا آخر؟ أصغِ إلى الرسول بطرس: "إبليس خصمكم كأسدٍ زائرٍ يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان" (1 بط 5: 8-9)... لكي لا يُسلم (الشخص) لتلك الوحوش النفس التي تخاف الله إلى الرب: "لا تسلم للوحش (النسر) نفس يمامتك" (مز 74: 19)[29]. الأب قيصريوس أسقف آرل انْظُرْ إِلَى العَهْدِ. لأَنَّ مُظْلِمَاتِ الأَرْضِ امْتَلأَتْ مِنْ مَسَاكِنِ الظُلْمِ [ع20]. هذه التي دعاها يمامته الوديعة التي لا سلاح لها سوى الله نفسه، يدعوها العروس السماوية التي دخل معها الرب في عهدٍ مقدسٍ. أنها محتاجة إلى رعايته لأنها لا تزال تعيش على الأرض التي صارت مظلمة بسبب الظلم الذي يسودها. لقد مارس الكثيرون العنف سواء في الطرق كقطاع الطرق، أو في المغاير وشقوق الأرض والغابات وحتى وسط المدن. العالم امتلأ بالعنف في كل موضع، والكنيسة تصرخ إلى الله ليتعهدها ويحفظها من الأشرار المقاومين للحق. * اُنظر إلى عهدك لا العهد القديم. لست من أجل أرض كنعان اسأل. ولا من أجل الخضوع المؤقت للأعداء، ومن أجل الأثمار الجسماني للأبناء، ولا من أجل الثروات الأرضية، ولا الغنى الأرضي، ولا لأجل السعادة المؤقتة، إنما "اُنظر إلى عهدك"، الذي به وعدت بملكوت السماوات[30]. القديس أغسطينوس * اُذكر ما قد عاهدت به آباءنا، واُنظر إلى الأرضيين المولعين بالأرضيات، والمظلمين بسواد عبادتهم للأوثان، فقد امتلأت بيوتهم من المال الذي ينهبوه منا ظلمًا. المظلمون هم أيضًا الشياطين التي اغتنمت نفوس البشر قبل مجيء المسيح. فيقول النبي: اُذكر يا رب ما قد عاهدت به وقلت به بأنبيائك إنك تخلصهم من الجحيم، مساكن الأثمة. الأب أنثيموس الأورشليمي لاَ يَرْجِعَنَّ المُنْسَحِقُ خَازِيًا. الفَقِيرُ وَالبَائِسُ لِيُسَبِّحَا اسْمَكَ [21]. يتحدث هنا عن الفقر أو المسكنة بالروح الذي به يتكئ المؤمن على الله ليصير الله نفسه كنزه وغناه، فتتهلل نفسه على الدوام، ولا تتوقف أعماقه عن التسبيح. [FONT=""]المسيح يحب الفقر[/FONT] * تواضع لأجلنا إراديًا، وجاء إلى أقصى حد الفقر حتى قال: للثعالب أوجرة وللطير مظلَّة، وليس لابن الإنسان موضع حيث يسند رأسه. أحِب الفقر بكل هذه (القوة) بحيث لا يريد أن يقتني مَن يحبه شيئًا. من لم يرد أن يقتني شيئًا في العالم، هذا عرفه وهذا أحبه من كل قلبه. النفس التي أبغضت زينة العالم وشهواته هي بيته ومنزله وفيها يسكن. الفِلسان الموجودان في بيت الأرملة لم يحلّ عندها إلى أن أخرجتهما وأعطتهما. سمعان كان يقتني شبكة صغيرة، حالما ألقاها تبع ابنَ الله. الرسل لم يقتنوا سوى شِراك السمك على الأرض وتركوها، وها أنهم أغنياء في الملكوت. زكا العشار الذي كان بيته مملوءًا غنى عندما دخل المسيح ليأكل فيه وزعه حالًا. زكا لم يترك شيئًا في بيته دون أن يوزعه، لأنه رأى بأن ربه يحب الفقر. لا يدخل إلى بيت يجد فيه الذهب، لأنه خطف مكانه منه وهو لا يلزم. قام الذهب وصار سيدًا حيثما وُجد، ولو دخل إليه سيد آخر احتقره ورذله. لا تقدر أن تخدم بكل قوتك ربَين اثنين: الله والمال. واحد يُكرم وآخر يُحتقر، لأنك لا تقدر أن تُكرم الاثنين بالتساوي. أمر أن تحب الرب ربك من كل قلبك، فلو اقتنيت معه الذهب فإنك لا تحبه. الذهب يسلب كل قلبك ويجعله مُلكه، ويظَل الله بدون محبتك من كل قلبك[31]. القديس مار يعقوب السروجي * يجدر بالذهن أن يلتصق بهذه العبارة على الدوام، فيتقوى باستخدامها الدائم، والتأمل المستمر فيها، بهذا يطرد عنه كل الأفكار الأخرى الغبية مستهينًا بها... مكتفيًا بفقر هذه العبارة الوحيدة. وهكذا يبلغ بأقصى سرعة إلى التطويب الوارد في الإنجيل، محتلًا مكان الصدارة بين التطويبات، إذ يقول: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 3). وإذ يصير الإنسان مسكينًا للغاية بفقرٍ كهذا، يتحقق فيه قول النبي: "الفقير والبائس ليسبحا اسمك" (مز 74: 21). حقًا أيّ فقر أشد من أن يعرف إنسان عن نفسه أنه بلا قوة ليدافع بها عن نفسه، طالبًا العون اليومي من جود غيره. وهكذا يعلم أن كل لحظة من لحظات حياته تعتمد على العناية الإلهية... فيصرخ إلى الرب يوميًا: "أما أنا فمسكين وبائس، الرب يهتمُّ بي" (مز 40: 17). هكذا يصعد بواسطة الاستنارة الروحية إلى معرفة الله من جوانب متعددة، ويتقوّت بأسرار عالية مقدسة، كقول النبي: "الجبال العالية للوعول، الصخور ملجأ للوبار (للقنفذ)" (مز 104: 18). هذا ينطبق تمامًا على المعنى الذي نقدمه، لأن من يسلك في بساطة وبراءة لا يؤذي أحدًا، مكتفيًا بالجهاد لحماية نفسه من أذية أعدائه. ويكون مثل قنفذ روحي يتدرع دائمًا متحصنًا في صخرة الإنجيل، أي محتميًا بتذكر آلام الرب... ولقد جاء في سفر الأمثال عن هذا القنفذ الروحي "الوبار (القنفذ) طائفة ضعيفة، ولكنها تضع بيوتها في الصخر" (أم 30: 26)..[32] الأب إسحق * تحدث الكتاب المقدس عن الغنى والممتلكات بطرق ثلاث: ما هو صالح، وما هو رديء، وما هو ليس بصالحٍ ولا رديء. فالممتلكات الرديئة تلك التي قيل عنها:" (الأغنياء) الأشبال احتاجت وجاعت" (مز 34: 1). "ويل لكم أيها الأغنياء، لأنكم قد نلتم عزاءكم" (لو 6: 24). الزهد في هذا الغنى فيه سمو في الكمال، إذ يقول الرب عن الفقراء: "طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (مت 5: 3)، وجاء في المزمور: "هذا المسكين صرخ، والرب سمعه" (مز 34: 6) وأيضًا: "الفقير والبائس يسبحان اسمك" (مز 74: 21). الغني الصالح هو ما يمتلكه من يسعى إلى عمل الفضيلة العظيمة عن استحقاق، صانع البرّ الذي يمدحه داود، قائلًا: "نسله يكون قويًا في الأرض، جيل المستقيمين يُبارَك، رغد وغنى في بيته وبرّه قائم إلى الأبد" (مز 112: 2-3). وقيل أيضًا: "فدية نفس رجل غناه" (أم 13: 8). وعن هذه الثروات كُتب في سفر الرؤيا عن ذاك المفتقر والمُعدم من هذا الغنى... "أنا مزمع أن أتقيأك من فمي، لأنك تقول أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء، ولست تعلم أنك أنت الشقي والبائس وأعمي وعريان، أشير عليك أن تشتري مني ذهبًا مُصفى بالنار لكي تستغني، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك" (رؤ 3: 16- 18). يوجد أيضًا الغنى الذي ليس بصالحٍ ولا رديء، فيُمكن أن يكون صالحًا أو رديئًا حسب رغبة مستخدمه وشخصيته. في ذلك يقول الرسول الطوباوي: "أوصِ الأغنياء في الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينية الغنى، بل على الله الحيَ الذي يمنحنا كل شيءٍ بغنى للتمتع، وأن يصنعوا صلاحًا، وأن يكونوا أغنياء في أعمال صالحة، وأن يكونوا أسخياء في العطاء، وكرماء في التوزيع، مدَّخرين لأنفسهم أساسًا حسنًا للمستقبل، لكي يمسكوا بالحياة الأبدية" (1 تي 6: 17-19). هذا الغني احتفظ به الغني المذكور في الإنجيل ولم يقبل أن يعطي الفقراء، بينما كان لعازر المسكين ملقى عند بابه يرغب أن يقتات بالفتات الساقط من مائدته، لذلك حُكم عليه بالنيران غير المحتملة ولهيب جهنم الأبدية (لو 14: 19 الخ)[33]. الأب بفنوتيوس * يقدم كل واحدٍ للهيكل حسب قدرته. فالبعض يقدمون ثيابًا ثمينة برفيربة، والبعض ثيابًا مواشاة، والبعض ثيابًا حريرية، أما أنا فإنني أسر إن أمكنني أن أُقدم لهيكل الرب جلود الماعز. فالذين قد ارتفعوا إلى كمال تام قليقدموا لله فضائلهم السامية وتأملاتهم الرفيعة، وأما أنا فيكفيني أن أقدم له ذلي ودناءتي باعترافي أنني إنسان خاطئ مملوء من الزلات والنقائص، وخالٍ من كل خيرٍ مطلقًا. القديس جيروم [FONT=""]٦. خاتمة[/FONT] قُمْ يَا اللهُ. أَقِمْ دَعْوَاكَ. اذْكُرْ تَعْيِيرَ الجَاهِلِ إِيَّاكَ اليَوْمَ كُلَّهُ [ع22]. دعوى قديسيه هي دعوى الله نفسه. كل أهانه أو اضطهاد موجه ضدهم يُحسب كأنه ضده هو شخصيًا. هذا ما أعلنه السيد المسيح نفسه حين قال لشاول الطرسوسي: "لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4) * بقوله "قضاؤك" و"تعييرك" يخبر بأن ما يحل عليهم (من أهوال) يعود إلى الله (أبيهم). الأب أنثيموس الأورشليمي لاَ تَنْسَ صَوْتَ أَضْدَادِكَ ضَجِيجَ مُقَاوِمِيكَ الصَاعِدَ دَائِمًا [ع23]. إذ يطلب المرتل تدخُّل الله، متوسلًا أن ينقذ شعبه من الأعداء المقاومين، يسأله ألا ينسى اللهجة التي يستخدمها الأشرار، والعنف والضجيج ضد اليمامة الوديعة الهادئة. فإنه لا رجاء لها إلا في الله ليقف سندًا لها ضد الجماهير المسلحة والثائرة بلا سبب! من وحي مز 74 إلى متى يا رب تنسانا! * هوذا إبليس المفترس يصب كل طاقاته ضدنا! لن ييأس ولن يهدأ، مترجيًا أن يقتنينا له! أنت مخلص العالم كله. من قبل أن نوجد خططت لخلاصنا. أعمالك منذ القدم تشهد لحنوك نحونا. * أنت نصيبنا ونحن نصيب ميراثك! نعتز بك لأنك متَّ وخلصتنا، وأنت تعتز بنا لأنك الحب كله! جعلتنا مقدسًا لك. لكن العدو مصمم أن يقتحم مقدسك. يود أن يُلحق الخراب بنا كما لحق به. إنه يزمجر ليقاومك في أشخاصنا! * يضرب العدو كما بفؤوس ومعاولٍ، ليحطم كل ما صنعته يدك فينا! يطلق نيران شره علينا. لقد نزلت إلينا كيد الآب القوية. بسطت يديك على الصليب واقتنيتنا. وهبتنا البنوة لأبيك، فننعم بشركة الأمجاد الأبدية. * هوذا التنين - في المياه - يود أن يفترسنا. نزلت إليه في المياه وشققت البحر وجففت الأنهار. كسرت رؤوس إبليس من أجلنا. جعلته أضحوكة، يسخر به الأطفال الصغار. لم يعد للوحش سلطان على اليمامة البسيطة. أطلقتنا كيمامةٍ تطير كما في السماء. لم يعد للعدو أن يلحق بنا، وليس له سلطان علينا. ليخزَ العدو، ولتنكسر كل شباكه، وتبطل كل حيله. لك المجد يا منقذ المساكين ومنسحقي القلوب. لك كل تسبيح يا مخلص البؤساء الضعفاء. أنت هو قوتنا وتسبحتنا وتهليل نفوسنا الدائم! |
||||
08 - 02 - 2014, 04:37 PM | رقم المشاركة : ( 77 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 75 - تفسير سفر المزامير الديان الحقيقي يرفع ويذلإن كان المرتل في المزمور السابق يصرخ من الضيق الشديد الذي يحل على كنيسة الله من الأشرار المتعجرفين، ويبدو كأن الله لا يسمع لصرخاتها، الآن يقدم المرتل تسبحة حمد وشكر لله الذي يتدخل في الوقت المناسب. جاء هذا المزمور مشابهًا لتسبحة الشكر التي قدمتها حنة أم صموئيل (1 صم 2 الخ.)، غير أن هذا المزمور يمثل تسبحة ليتورجية تبدأ بالحمد أو الشهادة التي تقدمها الجماعة المقدسة من أجل تدخل الله. يتدخل الله كديان وقاضٍ عادل لا يقبل الظلم [2، 6، 8، 10]. بهذا يرفع من نفسية الأبرار الذين تحطمت نفوسهم بسبب سخرية الأشرار المستمرة. [FONT=""]أقسامه:[/FONT] ١. الحمد لله ١ ٢. استجابة الله ٢-٣ ٣. تحذير من الأشرار ٤-٨ ٤. تمجيد الأبرار ٩-١٠ من وحي المزمور ٧٥ [FONT=""]العنوان[/FONT] لإِمَامِ المُغَنِّينَ. عَلَى لاَ تُهْلِكْ. مَزْمُورٌ لآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ جاء العنوان في الترجمة السبعينية: "للنهاية (للتمام). لا تهلك، مَزْمُورٌ تَسْبِحَةٌ لآسَافَ". "لا تهلك": يرى البعض أن هذا المزمور عبارة عن تسبحة، يقدمها داود النبي لله الذي منع يديه عن أن يقتل شاول. وأن هذا المزمور وضعه داود وقام آساف إمام المغنيين بتلحينه والتسبيح به. * الكلمة "تهلك (تفسد) corrupts" لها ظلال معانٍ كثيرة. استخدمها داود عند حديثه مع البعض بخصوص أصدقائه: "لا تهلك"، أي "لا تقتل" (١ مل ٢٦: ٩)، أي شاول. المعنى هنا واضح. في موضع آخر (١ مل ٢٦: ١١، ٢٣-٢٤؛ ٢٥: ٣٢-٣٤؛ ٢٤: ١١، ١٣)، نتعلم أن داود يبارك الرب لأن يديه قد أُمسكتا عن قتل شاول[1]. القديس چيروم * "للتمام. لا تفسد": يتضمن هذا المزمور خبر عدم الفساد العتيد أن يكون للقديسين في التمام، أي عند انقضاء الدهر. كما كتب السليح "بولس" في الفصل 15 من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: "ثم الانقضاء"، رفع الملكوت إلى الإله والآب، ومتى أبطل كل رياسة وكل سلطان واقتدار، فحينئذ يصير الذين قضوا الجهاد الحسن في عدم الفساد. نقول أيضًا أن هذا الرسول في الفصل 6 إلى أهل أفسس يدعو الفضيلة "عدم الفساد" بقوله: "النعمة مع كافة الذين يحبون ربنا يسوع المسيح بغير فسادٍ آمين". بمعنى أن المزمور يقول إنك إن ابتدأت بعملٍ صالحٍ لا تفسد، أي لا تزل حتى تبلغ النهاية، وحينئذ تصير في عدم فسادٍ. دُعي "مزمور تسبحة": أما مزمور فلأنه يخبر بما كان مزمعًا وقوعه. وأما تسبحة، فلأنه اعتراف بنعمة الله، وشكر له من قبل الصديقين من أجل إحسانه. الأب أنثيموس الأورشليمي [FONT=""]١. الحمد لله[/FONT] نَحْمَدُكَ يَا اللهُ. نَحْمَدُكَ وَاسْمُكَ قَرِيبٌ. يُحَدِّثُونَ بِعَجَائِبِكَ [1]. نحن هنا أمام مشهد عبادة ليتورجية (جماعية كنسية) تقدم أمام الله بجوار الهيكل أو المقدس. وقد تطلعت الجماعة إلى الله القادم ليدين الأشرار المقاومين لها، وكأنها تردد: "هوذا اسم الرب يأتي من بعيد، غضبه مشتعل، والحريق عظيم. شفتاه ممتلئتان سخطًا، ولسانه كنارٍ آكلة" (إش 30: 27) وأيضًا: "يقوم الله؛ يتبدد أعداؤه، ويهرب مبغضوه من أمام وجهه" (مز 68: 1). صارت الجماعة قادرة أن تسمع صوت الديان القادم للدفاع عنها، وترى أعماله الخلاصية العجيبة. تحركت كل مشاعرهم بالحمد والتسبيح لعظمة الله المدافع عن المساكين والضعفاء المظلومين. * تكرار "نعترف لك" يشير إلى تزايد اشتياقه إلى شكر الله ورغبته فيه وأيضًا الاعتراف لله يجب أن يكون بالنطق بالتسابيح واجتناب المعاصي، مع فعل الأعمال المرضية له. أيضًا يشير إلى أن الاعتراف صنفان: اعتراف بما أذنبنا به، واعتراف بالشكر على ما أحسن الله به إلينا. ويشير إلى ملازمة الشكر... "ندعو باسمك" الذي يُعيِّره الأعداء، كما نُدعى نحن مسيحيين، أي نُدعى باسم ربنا يسوع المسيح. الأب أنثيموس الأورشليمي * لا تدعوا اسمه قبل أن تعترفوا (تحمدوا)؛ اعترفوا ثم ادعوه... متى دُعي بواسطتكم، بمعنى إن دُعي إليكم إلى من يقترب؟ إنه لا يقترب إلى الإنسان المتكبر. عالٍ هو بالحقيقة، ولا يقدر أن يقترب إليه من يرتفع (متشامخًا). فلكي يمكننا الاقتراب من الأمور العلوية نرتفع، فإن لم نستطع بلوغها نتطلع إلى أدوات تساعدنا أو قادة حتى نرتفع ونبلغ إلى الاقتراب من الأمور العلوية. على العكس فإن الله عالٍ والمتواضعون هم الذين يقتربون إليه. مكتوب: "قريب هو الرب من المنكسري القلوب" (مز 34: 18). انكسار القلب هو التقوى والتواضع. من ينسحق يغضب على نفسه. ليغضب (الإنسان) على نفسه ليجعل الله رحيمًا عليه. ليكن ديانًا لنفسه، فيجعل من (الرب) مدافعًا عنه. عندئذ يأتي الرب عندما يُستدعى. إلى من يأتي الرب. لا يأتي إلى المتشامخ... لهذا اعترف وعندئذ أدعو الله. بالاعتراف يتطهر الهيكل الذي إليه يأتي الرب عندما تدعوه. اعترفوا وادعوه. ليته يصرف وجهه عن خطاياكم، ولا يصرفه عنكم. يصرف وجهه عما تفعلوه، ولا يصرف وجهه عما عمله هو، فإنك أنت كإنسانٍ هو خلقك، أما خطاياك فهي من عملك أنت[2]. القديس أغسطينوس هكذا إذ نعترف لله سواء عن خطايانا أو عن مراحمه ورعايته، نتمتع بروح التواضع، فيقترب إلينا، ونقترب نحن إليه، ونشعر بحضوره في وسطنا كما في داخلنا. وبحضوره نختبر عجائبه فينا، ونشهد لها بكل وسيلة "يحدثون بعجائبك". * "ونحمد اسمك" [١]. اسم الله هو "الآب". هذا الاسم لم يكن معروفًا في الأزمنة الماضية، إذ يقول الرب: "أيها الآب...أنا أظهرت اسمك للناس" (يو ١٧: ٥-٦). كل ابنٍ يحمل بالحق اسم أبيه[3]. القديس چيروم [FONT=""]٢. استجابة الله [/FONT] لأَنِّي أُعَيِّنُ مِيعَادًا. أَنَا بِالمُسْتَقِيمَاتِ أَقْضِي [2]. إذ يسحب المرتل قلوبنا لنمارس الاعتراف والحمد لله، ونلمس حضوره في وسطنا، ونختبر عجائبه في أعماقنا وفيما يدور حولنا، نتساءل: "متى يتحقق هذا؟" نتلهف إلى هذه العطية الإلهية. هنا تأتي الإجابة: يأتي الرب في أعماقنا في ملء الزمان (أف 1: 10؛ غل 4: 4)، إذ لكل شيء زمان معين (جا 3: 1). يقول الرب: "إني أُعين ميعادًا". هذا التعبير "أُعين ميعادًا" له أهميته في العهد القديم بخصوص تدبير الله للعالم، ووضع فصول معينة للسنة بسماتٍ معينة (تك ١: ١٤)؛ وتحديد الأعياد (لا ٢٣: ٢)، حيث يُحدد نوعًا معينًا من العبادة في كل عيدٍ، كما كان يوجد وقت معين للمجيء الأول للسيد المسيح من أجل خلاصنا، وأخيرًا وجود ميعاد معين تسبقه علامات وردت في الأناجيل المقدسة وفي سفر الرؤيا لمجيئه الأخير[4]. يرى القديس چيروم أن الحديث هنا عن الدينونة الأخيرة [العالم الحاضر ليس وقتًا للدينونة بل للصراع[5].] ويرى القديس أغسطينوس أن الآن وقت للكرازة للتمتع بالخلاص، ولم يحن بعد موعد الدينونة. فمن مراحم الله وطول أناته أن يتركنا للتمتع بالخلاص حتى متى جاء موعد الدينونة نتبرر أمامه. يرى القديس غريغوريوس النزينزي أنه يليق أن يكون لكل شيء الميعاد اللائق به، ضاربًا المثل حتى بالدخول مع المتكلمين في حوارٍ، هذا له وقته اللائق به. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن المرتل في العبارة السابقة يتحدث في صيغة الجمع، وهنا في صيغة الفرد. فالجماعة المقدسة كلها تشترك في الحمد لله، بل وكل الخليقة، وفي نفس الوقت يشعر كل مؤمن بالعلاقة الشخصية مع الله، ومعاملات الله معه فيتحدث عن عجائب الله معه. يرى القديس أثناسيوس أن الذي يتحدث بعجائب الرب بصيغة المفرد هم في الحقيقة الحرس الذين يتحدثون باسم الأمم أو كنيسة الأمم التي رأت عجبًا في محبة الله دون محاباة. * ما هو الوقت المناسب لهذه المناقشة؟ إنه الوقت الذي نتحرر فيه من الوحل والضوضاء في الخارج، ولا تتشتت ملكاتنا الحاكمة (عقولنا) بصورٍ وهميةٍ وشاردة، وتؤدي بنا إلى عدم التمييز بين الكتابة الجميلة والقبيحة أو بين الرائحة الجميلة والعفنة. إننا نحتاج إلى أن نلزم السكون (مز 45: 10) لنعرف الله. وعندما تُتاح لنا الفرصة نحكم بالصلاح في اللاهوت كما يقول المزمور: "أنا بالمستقيمات أقضي" (مز 75: 2)[6]. القديس غريغوريوس النزينزيذَابَتِ الأَرْضُ وَكُلُّ سُكَّانِهَا. أَنَا وَزَنْتُ أَعْمِدَتَهَا. سِلاَهْ [3]. كأن الله يوبخنا على تسرعنا في الحكم على الأشرار، أو في إنقاذنا منهم، فيقول: "لماذا تتعجلون الأمر، فإن الأرض التي تعيشون عليها أنتم والأشرار هي من عملي، فإن نزعت عنها عنايتي أو قوتي ذابت كالشمع. فليس لشيءٍ ما أو ولكائنٍ ما على الأرض أن يحيا أو يستقر بدوني. لا تضطربوا حتى من الذين يقاومونني. ويقاومون كنيستي وشعبي. أنا حامل أعمدة الأرض، وواهبها توازنها، أنا أعرف بدقة وزنها. سيأتي الزمن المحدد لتنحل الأرض وتزول وتتحقق العدالة الإلهية، ويتمتع المظلومون بالمكافأة! يرى القديس أغسطينوسفي الأرض وكل سكانها الإنسان المحب للأرضيات بكل طاقاته، فبمحبته للخطايا والعالم ينحل وتذوب كل طاقاته. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن الأرض التي ذابت هي أورشليم، وسكانها هم اليهود الذين رفضوا الإيمان بالسيد المسيح، واضطهدوا كنيسته، أما الأعمدة التي أوجدها الله لتزن الأرض فهم جماعة الرسل الأطهار الذين شددهم الله وأيَّدهم وأعطاهم قوة للكرازة بالإنجيل المقدس. يرى أيضًا أن الأرض وكل الساكنين فيها هم المنهمكون في الأرضيات فكثر شحمهم وسمنوا، فيذيب الرب الأرض بالنار ليذيب ذلك الشحم الذميم. * إن كانت الأرض تنحل، ما الذي يحلها سوى الخطايا؟ لذلك دعيت (الخطايا) أيضًا جنوح عن القانون. والجنوح هو أشبه بانزلاق من الثبات في الفضيلة والبرّ وانحدار في ميوعة. فإنه باشتهاء السفليات يخطئ الإنسان، وإذ يتقوى بمحبة العلويات هكذا يسقط ويصير كمن قد ذاب بمحبة السفليات. "أنا قوَّيت أعمدتها" ما هي الأعمدة التي قوَّاها الرب؟ إنه يدعو الرسل أعمدة. لذلك يقول الرسول بولس عن زملائه الرسل: "المعتبرون أنهم أعمدة" (غلا 2: 9). وماذا لهذه الأعمدة إلا أن تتقوى به؟ فإنه في حالة وقوع ما يشبه الزلازل حتى هذه الأعمدة اهتزت؛ عند آلام الرب يئس الرسل. فاهتزت الأعمدة عند آلام الرب، وبالقيامة تقوَّت[7]. القديس أغسطينوس [FONT=""]٣. تحذير من الأشرار[/FONT] قُلْتُ لِلمُفْتَخِرِينَ: لاَ تَفْتَخِرُوا، وَلِلأَشْرَارِ: لاَ تَرْفَعُوا قَرْنًا [4]. في نوع من الجنون يفتخر الأشرار بشرورهم، ويرفعون قرنًا كالحيوانات المتوحشة التي تنطح بقرونها بعنفٍ وفي غير وعيٍ. كان من عادات الأمم القديمة خاصة في الشرق، ولا زالت في بعض القرى، بل وحتى بين الأطفال حينما يعبرون عن فرحهم بالنصرة، يرتدون على رؤوسهم أشبه بقرن مخروطي ويناطحون به كأبطالٍ غالبين. يطلب المرتل بروح الله ألا يفتخر الأشرار في كبرياء بشرورهم، فإنهم وإن ظهروا كأبطالٍ غالبين إنما إلى حين، فستنحل الأرض التي يقفون عليها. لعل القديس أغسطينوس يرى الأشرار وقد أمسكوا بالقرن الذي يستخدم لتضخيم الصوت كبوقٍ، فيطلب منهم أن يكفوا عن هذا ليسمعوا بوق الإنجيل واهب التوبة والخلاص والمجد الحقيقي. * قرنكم من الإثم، وقرن المسيح من الجلالة (العظمة الحقيقية)[8]. القديس أغسطينوس يرى القديس كيرلس السكندريأن المرتل يتحدث عن الهراطقة والرسل الكذبة والأنبياء الكذبة الذين في تشامخهم وكبريائهم يقدمون اختراعات واهية، ويعتمدون على فلسفات زمنية، فيُحرفون كلمة الله[9]. اُختتم المزمور السابق بالصراخ: "قم يا الله، أقم دعواك" (مز ٧٤: ٢٢). لقد تحققت الصلاة هنا، فقد تطلع المرتل إلى السيد المسيح ربنا الذي قام من الأموات وأعلن قوة الصليب المجيد، وظهر السيد بكونه الملك المخلص الذي يملك على قلوب مؤمنيه. * ماذا يعني "القرن" على الأرض؟ القوة، والمجد، والشهرة، حيث يُستخدم كرمزٍ من الحيوانات الوحشية. لقد غرس الله فيها القرن فقط كطريقٍ للمجد، وكسلاحٍ للدفاع عن نفسها، فإن فقدته تفقد أكثر قوتها. كالجندي الذي بلا سلاح هكذا الثور بدون قرنين يمكن السيطرة عليه بسهولة[10]. القديس يوحنا الذهبي الفم لاَ تَرْفَعُوا إِلَى العُلَى قَرْنَكُمْ. لاَ تَتَكَلَّمُوا بِعُنُقٍ مُتَصَلِّبٍ [5]. يحذر المرتل الأشرار الذين يتشامخون على الله، ويتكلمون بعنقٍ صلبٍ وعنيفٍ. يليق بهم أن يتشبهوا بحنة أم صموئيل، فعوض رفع القرن ضد العليّ يقولون معها: "ارتفعَ قرني بالرب... لا تكثروا الكلام العالي المستعلي، ولتبرح وقاحة من أفواهكم (1 صم 2: 1، 3). يقول المرتل: "لتُبكم شفاه الكذب المتكلمة على الصديق بوقاحة بكبرياء واستهانة" (مز 31: 18). "يبقون يتكلمون بوقاحةٍ، كل فاعلي الإثم يفتخرون" (مز 94: 4). * كثيرون ينطقون بهذا الإثم، لكنهم لا يتجاسرون على ممارسته علنًا، لئلا يمقتهم الأتقياء كمجدفين... قيل في مزمور آخر: "قال الجاهل في قلبه: لا إله" (مز 14: 1). يقول الجاهل، لكنه يخشى الناس، فلا يقول هذا حيث يسمعه بشر، إنما يقوله حيث يسمعه ذاك الذي ينطق عنه هكذا (الله)[11]. القديس أغسطينوس لأَنَّهُ لاَ مِنَ المَشْرِقِ وَلاَ مِنَ المَغْرِبِ، وَلاَ مِنْ بَرِّيَّةِ الجِبَالِ [6]. إذ يطلب من الأشرار أن يكفوا عن التكلم بكبرياء وتشامخ ضد الله يلزمهم ألا يكفوا عن هذا خوفًا من الناس سواء القادمين من المشرق أو المغرب، من برية أو جبال، إنما من الله نفسه. إنه لا يطلب الكف عن الشر خوفًا من الناس، لئلا يمارسوا هذا خفية في قلوبهم. يُحذر الله الأشرار المتكبرين والذين يقاومون الحق الإلهي، فإنه إذ يدينهم لا يجدون موضعًا في المشارق أو المغارب يهربون فيه من وجه الديان. وَلَكِنَّ اللهَ هُوَ القَاضِي. هَذَا يَضَعُهُ وَهَذَا يَرْفَعُهُ [7]. الله الذي لا يحده مكان، حاضر أينما وُجد الشرير، وهو يسمع ما ينطق به قلبه وفكره. هو العالم بالخفيات، وفي نفس الوقت هو الديان القدير. إنه يقيم أممًا ويزيلهم (دا 4: 17، 32، 35). * الله هو ديان آثامكم. إن كان هو القاضي فهو حاضر في كل مكان. أين يمكنك أن تهرب من عينيّ الله حتى تنطق في زاوية لا يسمعك فيها...؟ اِحذر أن تتكلم بالإثم ضد الله... إنك تنسحب إلى قلبك (لتنطق فيه بالإثم)، إنه أكثر عمقًا من قلبك. أينما هربتَ تجده هناك... هل تهرب منه؟ اهرب إليه[12]. القديس أغسطينوس * يضع الله الظالم ويهينه، ويرفع المظلوم، وذلك بأحكام لا يمكننا نحن البشر أن ندركها، كما حفر للأشوريين بسبب ظلمهم، ورفع الإسرائيليين لتواضع قلوبهم. وكذلك وضع أهل الختان لاستكبارهم وعدم إيمانهم، ورفع الوثنيين لأنهم تواضعوا وآمنوا، كما يقيم الفقير من الأرض والمزبلة، ويجلسه على الكرسي، أما الجالسون على الكراسي فيطرحهم على الأرض، لأنه هو الديان العادل الذي بقدرته الفعّالة ينصب ملوكًا ويعزلهم. الأب أنثيموس الأورشليمي لأَنَّ فِي يَدِ الرَبِّ كَأْسًا، وَخَمْرُهَا مُخْتَمِرَةٌ. مَلآنَةٌ شَرَابًا مَمْزُوجًا. وَهُوَ يَسْكُبُ مِنْهَا. لَكِنْ عَكَرُهَا يَمَصُّهُ يَشْرَبُهُ كُلُّ أَشْرَارِ الأَرْضِ [8]. كانت العادة هي تقديم كأس الخمر في كل المناسبات، المفرحة كما في الأحزان الشريرة، بل وكان شرب الكأس يُعبِّر عن الدينونة والقصاص. "يمطر على الأشرار فخاخًا ونارًا وكبريتًا وريح السموم تصيب كأسهم" (مز 11: 6). "اِنهضي، اِنهضي، قومي يا أورشليم التي شربت من يد الرب كأس غضبه، ثقل كأس الترنح، شربت مصصت" (إش 51: 17). "لأنه هكذا قال لي الرب إله إسرائيل: خذ كأس خمر هذا السخط من يدي، واسقِ جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها، فيشربوا ويترنحوا ويتجننوا من أجل السيف الذي أرسله أنا بينهم" (إر 25: 15-16). "في طريق أختك سلكتِ، فأرفع كأسها ليدكِ، هكذا قال السيد الرب. إنك تشربين كأس أختك العميقة الكبيرة. وتكونين للضحك وللاستهزاء، تسع كثيرًا. تمتلئين سكرًا وحزنًا، كأس التحير والخراب، كأس أختكِ السامرة" (حز 23: 31-33). يرى القديس أغسطينوس أن الأبرار يشربون من يد الرب الخمر النقي، الذي يسكرهم بالحب النقي الذي يسكرهم بالحب الإلهي. أما الأشرار فيشربون الحثالة أو التفل الذي في أسفل قاع الكأس، لا ليهلكهم الرب، بل ليردهم بالتوبة إلى برِّه. لذلك قيل عن الخمر إنها نقية بالنسبة للأبرار، وإنها ممزوجة بالنسبة للخطاة. [FONT=""]٤. تمجيد الأبرار[/FONT] أمَّا أَنَا فَأُخْبِرُ إِلَى الدَهْرِ. أُرَنِّمُ لإِلَهِ يَعْقُوبَ [9]. ابتدأ المزمور بالحمد والشكر وانتهى بالترنم لله الذي وإن أطال أناته جدًا لكنه يترقب خلاص الكل، فلا يتعجل في كسر قرون الأشرار لعلهم يتوبون. وَكُلَّ قُرُونِ الأَشْرَارِ أَعْضِبُ. قُرُونُ الصِدِّيقِ تَنْتَصِبُ [10]. * سأكسر قرون الخطاة، وهناك ترتفع قرون الأبرار. هذا هو الذي يضعه والآخر يرفعه... قرون الأشرار هي كرامات المتكبرين. قرون الأبرار هي عطايا المسيح. فإنه يُفهم بالقرون المَباهج. أنت تكره على الأرض المباهج الأرضية لكي ما تقتني السماوية. أنت تحب الأرضية، لن يهبك السماوية[13]. القديس أغسطينوس من وحي المزمور ٧٥ أنت أب ورؤوف وديان عادل! * عرفتك أيها الآب القدوس؛ فقد أرسلتَ ابنك الوحيد يكشف لي عن أبوتك. اسمك قريب إليّ، فأنت أبي وخالقي وصانع العجائب لحسابي! من لي أقرب منك؟ من لي أحكم منك يا كلي الحب والحكمة والقدرة. * لن أأتمن يدًا لي سوى يدك. أنت عجيب في حبك وتدبيرك ومعرفتك. تحدد لكل شيء ميعادًا، تقيس السماوات بشبرك، وتزن الأرض بميزانك! * إني أدهش لمن في كبريائهم يرفعون قرنًا عليك. يتشامخون وبعنقٍ متصلبة يهاجمونك. أنت القدير: ترفع من تشاء، وتضع من تشاء. تسقي هذا خمر الفرح السماوي، وذاك عكارة الخمر المرة. * لأهرب، لا منك، بل إليك! أنت ملجأي وحصن حياتي! أنت بهجتي وغناي ومجدي! |
||||
08 - 02 - 2014, 04:42 PM | رقم المشاركة : ( 78 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 76 - تفسير سفر المزامير الله مهوب لملوك الأرض الطغاة يرتبط هذا المزمور بالمزمور السابق، إذ نرى الرب يملك خلال صليبه، كملكٍ كاهنٍ، وقد صار الكل خاضعًا له. إن كانت الخطية قد أفسدت العالم، فانتقل الإنسان من جنة عدن بكل إمكانياتها ومباهجها وسلامها إلى عالم صار أشبه بأرض معركة لا تتوقف، يطلب الإنسان السلام فلا يجده، ويشتهي الراحة الحقيقية وكأنها صارت من وحي الخيال. لكن الله الكلي الصلاح يحول هذه المعركة لبنيان الإنسان وسلامه وسعادته. حين يدخل الرب نفسه المعركة، خاصة على الصليب، يمزق صك الدين المكتوب ضدنا، ويحطم سلطان إبليس ويشهّر به، ويملك الرب على القلوب، معلنًا بهاءه وجلاله فينا. جاء هذا المزمور متطابقًا مع المزامير ٤٦-٤٨ التي لقورح. أقسامه ١. اسم الملك الكاهن ١-٣. ٢. عمل الملك الكاهن ٤-٦. ٣. حكم الملك الكاهن ٧-٩. ٤. العبادة للملك الكاهن ١٠-١٢. من وحي مزمور ٧٦ العنوان لإِمَامِ المُغَنِّينَ عَلَى ذَوَاتِ الأَوْتَارِ. مَزْمُورٌ لآسَافَ. تَسْبِيحَةٌ. مزمور نصرة عسكرية تحققت خلال حضرة الله في هيكله بأورشليم، محطمًا أذرع الطغاة، ومُنصفًا المحطمين والمظلومين. يمكن أن يكون قد كُتب في إحدى المناسبات التالية: تجليس ملكٍ جديدٍ، أو الاحتفال بتجليسه، أو تقديم خدمة شكر لله على نصرةٍ تحققت، أو كتذكارٍ سنويٍ للنصرة، أو الاحتفالٍ بأي عيدٍ في أورشليم. ويعتقد البعض أن النصرة الواردة هنا تشير إلى تلك التي تحققت بواسطة داود على الفلسطينيين في وادي رفاييم. وآخرون يرون في المزمور نبوة عن نصرة تتحقق فيما بعد لشعب الله. جاء في الترجمة السبعينية كما في كتابات الكثير من الدارسين الحديثين أن هذا المزمور وُضع بمناسبة غزو الأشوريين في أيام الملك سنحاريب. ١. اسم الملك الكاهن اَللهُ مَعْرُوفٌ فِي يَهُوذَا. اسْمُهُ عَظِيمٌ فِي إِسْرَائِيلَ [1]. عظيم هو الله، ومجده في داخله، ولا يحتاج إلى من يَّعظمه أو يمجده. معرفتنا له ولمجده ولأسراره لا تضيف إلى مجده شيئًا. إنما تجعل منه عظيمًا فينا، وممجدًا في حياتنا. يشير سبط يهوذا إلى إسرائيل ككل بكونه السبط الملوكي صاحب السلطان على كل الشعب وكما جاء في المزمور 114: 2 "كان يهوذا مقدسه، وإسرائيل محل سلطانه". حقا لا يستطيع أحد أن يتعرف عليه ما لم يكن منتسبًا ليهوذا، ولا ينعم أحد بالتلامس مع عظمة اسمه ما لم يصر إسرائيليًا. لكن ليس بالمفهوم الحرفي لسبط يهوذا وشعب إسرائيل القديم. ينطبق هذا القول على من كان بالحق ينتسب ليهوذا روحيًا، ويصير عضوًا حيًا في إسرائيل الجديد روحيًا. صار اسم الله معروفًا في يهوذا، إذ هو ابن داود، الأسد الخارج من سبط يهوذا، يهب مؤمنيه حياة النصرة. جاء السيد المسيح ملك الملوك ورئيس الكهنة السماوي ليملك على إسرائيل الجديد (الكنيسة)، ويعلن عن سكناه في صهيون. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن اسم الله صار عظيمًا في الأمم مثل مصر وبقية أقطار المسكونة، حيث صارت يهوذا الجديد وإسرائيل الروحي الجديد. * قبل أن يجلب الصليب النور للعالم، قبل أن يُرى الرب على الأرض كان الله معروفًا في يهوذا؛ في إسرائيل كان بالأكثر اسمه عظيمًا. ولكن لما جاء المخلص دوَّى صوته في الأرض كلها وبلغت رسالته إلى أقاصي العالم[1]. * قبل قيامة المسيح كان الله معروفًا في اليهودية فقط، واسمه عظيم في إسرائيل وحدها[2]. القديس چيروم * انظروا فإننا نحن أيضًا نقول هذا، إن لم يكن الشخص في يهوذا لا يمكن أن يكون الله معروفًا له. ولكن ماذا يقول الرسول؟ اليهودي في الخفاء، الذي هو هكذا في ختان القلب، لا بالحرف بل بالروح. يوجد يهود في ختان الجسد، ويوجد يهود في ختان القلب. كثير من آبائنا القديسين (في العهد القديم) لهم ختان الجسد كختم للإيمان، ولهم ختان القلب من أجل الإيمان نفسه. من هؤلاء الآباء جاء أناس لهم مجد الاسم (كيهود) ولكنهم فقدوا العمل، بقوا يهودًا في الجسد، ولكنهم وثنيون في القلب... من يهوذا جاء داود، ومن داود الرب يسوع المسيح . إننا إذ نؤمن بالمسيح نُنتسب ليهوذا، ونعرف المسيح... ماذا يُقال عن إسرائيل؟ "الذي يرى الله". كيف رأوا الله الذي سار بينهم في الجسد، وقد حسبوه إنسانًا وقتلوه...؟ "اسمه عظيم في إسرائيل". أتريدون أن تكونوا إسرائيل؟ لاحظوا ذاك الإنسان الذي قال عنه الرب: "هوذا إسرائيلي حقًا لا غش فيه" (يو1: 47). إن كان الإسرائيلي حقًا لا غش فيه ، فإن من كان فيه غش أو كذب لا يكون إسرائيليًا بالحق[3]. * إننا نطلب هذه الطلبة لا لكون اسمه غير مقدس، بل لكي نراه مقدسًا، أي نطلب ألا نرى شيئًا أكثر قداسة منه، خائفين من معارضته. فقد قيل: "الله معروف في يهوذا، اسمه عظيم في إسرائيل" (مز 76: 1). فلا يُفهم هذا كما لو كان اسمه عظيمًا في مكانٍ أكثر من آخر، بل يكون عظيمًا حيثما دعوناه عظيمًا. هكذا يُقال إن اسمه قدوس حيثما دعي بوقارٍ وخُشي من معارضته. وهذا ما نسعى لتحقيقه بالتبشير بالإنجيل، ليُدعى اسم الله الواحد بواسطة تدبير ابنه[4]. القديس أغسطينوس * كان الله معروفًا في اليهودية وحدها (مز 76: 1)، واسمه كان يُدعى في إسرائيل، أما الآن فقد خرجت أصواتهم إلى كل الأرض، وبلغت كلماتهم إلى أقصى العالم (مز 19: 4)، فإن خدام إسحق (كرمز للمسيح) ذهبوا إلى كل العالم يحفرون الآبار (تك 26: 22) ويُظهرون المياه الحية للكل، معمِّدين الأمم باسم الآب والابن والروح القدس (مت 28: 19)، لأن "للرب الأرض ومملؤها" (مز 24: 1)[5]. العلامة أوريجينوس * قبل مجيئه كان اسم المسيح بين شعب إسرائيل محصورًا في أذهان اليهود كما في نوع من الأوعية. لأن "الله معروف في يهوذا، اسمه عظيم في إسرائيل". بمعنى أن الاسم الذي كان في أوعية اليهود كان محصورًا في حدودهم الضيقة... لكن بعد ذلك، ذاك الذي بمجيئه أشرق على العالم كله، نشر اسمه الإلهي في مناطق متسعة على كل الخليقة...إذ ملأ الفراغ صار اسمه عجيبًا في كل العالم. سكب اسمه يعني نوعًا من الغزارة الفائضة للنعم ووفرة الخيرات السماوية. لأن ما يُسكب إنما يفيض بوفرةٍ كثيرةٍ[6]. القديس أمبروسيوس * قبل مجيء المسيح كان الله معروفًا في يهوذا وحدها. لكن بعد مجيئه ملأت نعمته العالم كله، حتى دوَّى صوت الرسل خلال الأرض كلها، وبلغت رسالتهم إلى أقاصي العالم[7]. * يقول الرب نفسه في الإنجيل: "إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمُت، فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت، تأتي بثمرٍ كثيرٍ" (يو 12: 24). بعد أن ماتت حبة الحنطة الثمينة ودفنت خلال الآلام، من هذه الحبة الواحدة جاء حصاد الكنيسة الذي انطلق في العالم. لم يعد الله مشهورًا في اليهودية وحدها كما كان سابقًا، ولا اسمه صار معبودًا في إسرائيل وحدها، وإنما صار من مشرق الشمس إلى مغربها (مز 76: 1)[8]. الأب قيصريوس أسقف آرل * حيث أن إسرائيل تعني "من يرى الله"، فمن الضروري أن كل شخص يستنير بالنعمة - يهوديًا كان أو يونانيًا - يتحرر من عبودية مصر، حتى وإن كان فرعون -أي الشيطان- يضغط عليه بنيرٍ ثقيلٍ[9]. الشماس قودفيلتيدس من هو إسرائيل الذي اسمه عظيم؟ كل مؤمنٍ يتمتع باستنارة النعمة الإلهية. كَانَتْ فِي سَالِيمَ مَظَلَّتُهُ، وَمَسْكَنُهُ فِي صِهْيَوْنَ [2]. من لا يشتهي أن يقيم السيد المسيح مظلته في قلبه، ويعلن سكناه في أعماقه؟ لتصر قلوبنا أورشليم الجديدة، حيث السلام الداخلي، أي تصير ساليم الجديدة التي يملك عليها ملكي صادق السماوي، كما ملك ملكي صادق قديمًا على ساليم. حقًا توجد خيمته في ساليم (اختصار كلمة أورشليم)، أي تتأسس كنيسته على السيد المسيح الذي على رتبة ملكي صادق (مز 110: 4، عب 5: 6، 10، 20)، ملك ساليم (تك 14: 18، عب 7: 1، 21)، ملك السلام والبرّ، خلال ذبيحته وكهنوته، فتتحطم أسلحة العدو إبليس [٣]. مسكن المسيح هو صهيون الجديدة، أي كنيسته. أما كلمة "صهيون" فمعناها حصن أو برج رقابة، لذلك حيث توجد معرفة الكتاب المقدس حصننا في النفس وتعاليمه فهي مسكن الله. * يلزمنا أن نفعل الصلاح إن أردنا أن نترك الشر. يلزمنا أن نطلب السلام إن أردنا تجنب الحرب. ولا يكفي مجرد طلبه، وإنما حينما نجده، وعندما يهرب من أمامنا، يلزمنا أن نقتني أثره بكل طاقاتنا. فإنه "يفوق كل فهمٍ" (في 4: 7). (السلام) هو مسكن الله. وكما يقول المرتل: "في سلام مسكنه" (مز 76: 2 LXX)[10]. * "في ساليم": ها أنتم ترون المعنى الحرفي هو أورشليم - أي ساليم - هذه التي كانت تُدعى أولًا ساليم، ومؤخرًا "يبوس Jebus"، وأخيرًا أورشليم. هذه هي ساليم التي كان ملكي صادق هو ملكها (عب 7: 1). ونحن نقرأ: ما هو معنى: "أنت كاهن على رتبة ملكي صادق"؟ واضح أنه يشير إلى المسيح. قدَّم هرون ذبائح، وسكب دم ذبائح حيوانية. لم يفعل ملكي صادق شيئًا من هذا، إنما قدم خبزًا وخمرًا. ولهذا السبب قيل: "على رتبة ملكي صادق". لا توجد خيمة للرب إلاَّ حيث يوجد سلام. لكن حيث يوجد صراع وخلاف لا يكون الله هناك كحامٍ للموضع. لنقبل تفسير الترجمة السبعينية مسكن الله يكون فقط في النفس المملوءة سلامًا. لذا لتعرف النفس التي بلا سلام أنها ليست مسكنًا لله. "سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم" (يو ١٤: ٢٧). السلام هو ميراثنا من المخلص[11]. القديس چيروم * كانت صهيون مدينة اليهود. صهيون الحقيقية هي كنيسة المسيحيين. لكن تفسير الأسماء العبرية بلغ إلينا. "يهوذا" معناه "اعتراف"، و"إسرائيل" معناه "من يرى الله". بعد يهوذا يأتي إسرائيل. أتريد أن ترى الله؟ أولًا اعترف، وعندئذ يصير مسكن الله فيك، إذ "في سلام مسكنه". ما دمت لا تعترف بخطاياك، فأنت في نزاع مع الله[12]. القديس أغسطينوس هُنَاكَ سَحَقَ القِسِيَّ البَارِقَةَ. المِجَنَّ وَالسَيْفَ والقِتَالَ. سِلاَهْ [3]. حاصر الأشوريون أورشليم، ولكنهم التزموا برفع الحصار بطريقة معجزية من قبل الله، إذ قيل: "وكان في تلك الليلة أن ملاك الرب خرج وضرب من جيش أشور مئة ألف وخمسة وثمانين ألفًا، ولما بكروا صباحًا إذ هم جميعًا جثث ميتة، فانصرف سنحاريب ملك أشور، وذهب راجعًا وأقام في نينوى" (2 مل 19: 35-36). ما حدث هنا يحدث بصورة أو أخرى، علانية أو خفية، في حياة الكنيسة في كل جيل، كما في حياة أولاد الله كأعضاء في كنيسته. يرى القديس أغسطينوس أن الذين لا يعترفون بخطاياهم، وفي تشامخ يدخلون كما في معركة ضد الله، تنكسر كل أسلحتهم التي يعتمدون عليها. * إذن أين مسكن الله؟ في أورشليم وفي صهيون. في أورشليم حيث يقوم السلام، وفي صهيون حيث برج المراقبة. ليت النفس البشرية التي بها سلام الله والتأمل، وثانيًا تكون في الكنيسة وبالتأكيد مرتبطة بالأسفار المقدسة. بالتأكيد فيها يكون السلام ومسكن الله وعاصمته هناك يحطم سهام القسيّ البارقة، السهام التي يصوِّبها الشيطان. يحطم الرب دومًا الدرع والسيف وأسلحة الحرب[13]. القديس چيروم ٢. عمل الملك الكاهن أَبْهَى أَنْتَ، أَمْجَدُ مِنْ جِبَالِ السَلَبِ [4]. تشير الجبال أيضًا إلى الممالك، فجبال السلب تشير إلى الممالك التي تقوم خلال النهب والسلب، والتي تظن أنه ليس من إله يمكن أن يردعها. قيل عن هذه الممالك: "أين مأوى الأسود ومرعى أشبال الأسود، حيث يمشي الأسد واللبوة وشبل الأسد ليس من يخوف. الأسد المفترس لحاجة جرائه والخانق لأجل لبواته حتى ملأ مغاراته فرائس ومآويه مفترسات" (نا 2: 11- 12)، "ويل لمدينة الدماء؛ كلها ملآنة كذبًا وخطفًا. لا يزول الافتراس" (نا 3: 1). يقول المرتل إن الله أعظم وأقوى وأبهى من كل الممالك الأرضية مهما بلغ سلطانها ورعبها على وجه الأرض. فإن سلطان هذه الممالك إلى حين، أما سلطان الله فأبدي لا يزول. عظمتهم تزول في لحظات، أما مجد الرب وعظمته فلا يزولان. جاء في الترجمة السبعينية: "أنت تضيء بالعجب من الجبال الأبدية" (75: 3 LXX). تطلع القديس يوحنا الحبيب إلى الكنائس فوجدها سبع منارات، والسيد المسيح شمس البرّ حال في وسطها، هو يضيء كما من جباله المقدسة، مشرقًا بأعماله العجيبة خلالها. يقول المرتل: "أرسل نورك وحقك هما يهديانني، ويأتيان بي إلى جبل قدسك، وإلى مساكنك" (مز 43: 3). * نفسر الجبال بطريقتين: في العهد القديم هي الأنبياء؛ وفي الجديد الرسل. يقول الكتاب عن هذه الجبال: "رفعت عينيَّ إلى الجبال من حيث يأتي عوني" (مز ١٢١: ١). على هذه الجبال أيضًا استراحت مدينة الله. أيَّة مدينة موضوعة على جبل لا يمكن أن تُخفى. كنا نحن جميعًا جالسين في الظلمة، في ظلال الموت، والرب أشرق علينا من جباله الأبدية، أي من الأنبياء والرسل. القديس چيروم * ما هي الجبال الأبدية؟ أولئك الذين يجعلهم خالدين، الجبال العظيمة، الكارزون بالحق... تتقبل الجبال العظيمة أولًا نورك، ومن النور الذي تتقبله الجبال تكتسي الأرض به أيضًا[14]. القديس أغسطينوس * الجبال الأبدية هي السماوات التي منها أرسل موهبة الروح القدس، وأنار الرسل، وبهم استنار العالم قاطبة بحالٍ لا يدركه عقل بشري. وأيضًا جبال الأبدية هي القوات الملائكية التي بواسطتها يثير نفوس المستحقين للاستنارة. وأيضًا الرجال القديسون مثل موسى وبقية الأنبياء الذين كانوا قبل حضور ربنا جبالًا أبدية. والذين بعد حضوره مثل الرسل والمعلمين الذين بهم أضاء الله نفوس المؤمنين. بحالٍ عجيبٍ، أي برؤى واستعلانات. وأيضًا جبال أبدية هي معتقدات الإيمان الحقيقي التي منها ينير الله كل نفسٍ آتية إلى الإيمان. الأب أنثيموس الأورشليمي سُلِبَ أَشِدَّاءُ القَلْبِ. نَامُوا سِنَتَهُمْ. كُلُّ رِجَالِ البَأْسِ لَمْ يَجِدُوا أَيْدِيَهُمْ [5]. يترجمها البعض: "يضطرب جميع أغبياء القلب، ناموا نومهم؛ كل رجال البأس (الغنى) لم يجدوا شيئًا في أيديهم". إذ حاول الأشوريون وغيرهم غزو بعض البلاد من أجل الغنيمة، عوض استيلائهم على غنائم، اضطروا إلى ترك كنوزهم وما في أياديهم وهربوا، فصار ما لهم غنيمة. لقد ناموا ولم يقوموا إذ صاروا جثثًا ميتة (2 مل 19: 35- 36). اُستخدم تعبير النوم عن الموت في العهد القديم (مز 13: 3؛ إر 51: 39، 57؛ نا 3: 18). "لم يجدوا أيديهم" إذ صارت عاجزة عن حمل السلاح، سواء للغزو أو للدفاع عن أنفسهم. إنه تعبير عن العجز التام عن العمل. تشير هذه العبارة أيضًا إلى الذين وضعوا كل رجائهم في الأمور الزمنية، لكن سرعان ما تعبر حياتهم كحلمٍ رأوه وهم نيام، فاستيقظوا ليجدوا أنفسهم لم يقتنوا شيئًا. * إنهم يحبون الأمور الحاضرة، ويذهبون ليناموا وسط هذه الأمور الحاضرة عينها، فتصير لهم مبهجة، كمن يجد كنزًا في حلمٍ، فيبقى غنيًا مادام لم يستيقظ بعد. الحلم يجعله غنيًا، والاستيقاظ يجعله فقيرًا[15]. القديس أغسطينوس * يدعو النبي الأشوريين سفهاء القلوب وجهلة، لأنهم توهموا أنهم يقووا على إله إسرائيل، وناموا حول أورشليم بنية أن يهدموا المدينة، وكان أملهم أن يغتنوا من السلب والغنائم، فأصبحوا مائتين، وصارت أياديهم فارغة مما كانوا يأملون فيه. وصار نومهم موصولًا بموتهم. الأب أنثيموس الأورشليمي * حقًا، هذه الحياة هي حلم، حلم خاص بالغنى. فعندما يبدو أنه صار في أيدينا للحال ينفد. يعبر إشعياء عن ذات الفكرة: "مثل إنسان ظمآن يشرب، وإذ يستيقظ في وهنٍ وجفافٍ" (إش ٢٩: ٨)، هكذا بالحقيقة هي ثروات هذا العالم، ما أن نبلغها حتى تتركنا. القديس چيروم * ليت نوم الإهمال ونُعاس الثروة لا يبتلعاننا... فبالحقيقة يوجد فرسان ينامون، هؤلاء قيل عنهم: "ينعس الذين ركبوا خيلًا (راجع مز 76: 6). هل يجرح الطمع قلبك؟ هل الشهوة ملتهبة فيك؟ إنك فارس نائم... كان يهوذا نعسان، لهذا لم يسمع كلمات المسيح. نعم كان يهوذا نعسان بنوم الثروة، إذ طلب أجرة خيانته (مت 26: 15). رآه إبليس نائمًا، نعم كان مدفونًا في نُعاس عميق للطمع. لقد دخل قلب يهوذا (لو 22: 3)، وجُرح الفَرس، وطرح الفارس الذي عزله عن المسيح[16]. القديس أمبروسيوس * قال أبونا القديس أنطونيوس: [حدث أنني ذهبتُ إلى الإسكندرية لكي أحصل على بركة العمود المضيء، الحصن والقاعدة الراسخة للإيمان الرسولي، مسكن الروح القدس الباركليت، الذي صار قلبه عرشًا مقدسًا للضابط الكل، هذا الذي كان ثابتًا في الإيمان بالثالوث الواحد المتساوي في الجوهر، والمحبوب من ربنا يسوع المسيح، أثناسيوس العظيمابن الرسل، الذي صار شهيدًا عدة مرات بأمر الملوك بسبب الإيمان المستقيم الأرثوذكسي. ومكثتُ يومين بجواره، وتكلَّم معي في أمور الكتاب المقدس، ولأجل حلاوة كلامه العذب المحيي كنتُ أنام قليلًا، ولما كان يوقظني كان يقول لي: "يا أبّا أنطونيوس، أترك النوم الذي من هذا النوع، لأن الروح القدس قال: "إنهم يرقدون في نعاسهم ولا ينتفعون شيئًا" (مز 75: 5 حسب السبعينية)، فالذي يسهر باعتدالٍ هو الذي يفرح ويمتلئ ببهجة الحياة الأبدية، لأنّ فرح هذه الحياة ليس هو يقينًا الفرح الحقيقي، وحلاوة هذا العالم ليست هي الحلاوة الحقيقية.] ولما قال لي هذا الكلام جثوتُ وسجدتُ أمامه، ورجعتُ إلى مكاني مسبِّحًا الله. * إذا جاءك النوم فلا تستسلم له، لأنه مكتوبٌ في الإنجيل المقدس: "اسهروا وصلُّوا" (مت 26: 41)، ومكتوبٌ أيضًا: "كانوا نائمين ولم يكسبوا شيئًا" (مز 75: 5 حسب الترجمة السبعينية). بستان الرهبان مِنِ انْتِهَارِكَ يَا إِلَهَ يَعْقُوبَ، يُسَبَّخُ فَارِسٌ وَخَيْلٌ [6]. يترجمها البعض: "من انتهارك يا إله يعقوب، يغطس رُكاب الخيل في النوم". لا يحتاج الأشرار المقاومين للحق الإلهي إلا إلى كلمة انتهار من الرب، فتسقط مركبتهم وخيلهم كما في الموت الدائم. لقد تحول ضجيج العدو وتشامخه وصرخات القوة والعنف إلى شبه جنازة حيث يموت الخيل، فيفقد قادة المركبات إمكانياتهم للحركة أو يموت القادة أنفسهم، فتصير الخيول التي تجر المركبات في حكم الموت وعدم الوجود، ليس من يحركهم ويوجههم! * من هم الذين يمتطون الخيل؟ أولئك الذين لا يريدون أن يكونوا متواضعين. امتطاء الخيل ليس فيه خطية، إنما الخطية أن يرفع الإنسان عنق السلطة على الله، ويظن في نفسه أنه متميز (عن غيره)[17]. القديس أغسطينوس * من غضب الله صار موت فرسانهم مثل النعاس. كذلك كانوا يدفعون عمرهم للتهاون والكسل ويتباهون بقوتهم وغناهم. والذين يولعون بالشهوات الجسدية عندما ينتهرهم ربنا يسوع المسيح يوم الدينونة، تخيب كافة أمالهم، ويرتجفون من غضبه، ولا يكون في أياديهم شيء مما اقتنوا في حياتهم الدنيوية. الأب أنثيموس الأورشليمي * كما توجد جبال بهية وجبال مظلمة، توجد خيول صالحة وخيول رديئة. عندما جاء الفرسان إلى إليشع للقبض عليه، وخرج خادمه ورأى جيش الأشوريين حول المدينة، قال إليشع: "لا تخف، لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم" (2 مل 6: 16)، ورأى مركبات وخيول. لم يكن يوجد أناس في المركبات وعلى الخيول، إنما رأى فقط مركبات وخيول، بمعنى جماهير من الملائكة. كانوا "مركباتك هي خلاص". هذا يُقال لله، إن كنا نحن فقط خيول الله، وقد تعين أن يقودنا الله! أما الخيول الأخرى فينامون نومهم الطويل، ومعهم الذين يقودونهم. القديس چيروم ٣. حكم الملك الكاهن أنْتَ مَهُوبٌ، أَنْتَ. فَمَنْ يَقِفُ قُدَّامَكَ، حَالَ غَضَبِكَ؟ [7]. بتكرار كلمة "أنت" مرتين يعني المرتل: "أنت وحدك مهوب، وليس آخر مثلك". في العبارة السابقة يقول المرتل إن المقاومين يسقطون في نوم الموت الدائم، والآن يقول: "فمن يقف قدامك؟"، بمعنى أنه حان وقت الدينونة، ولم تعد هناك فرصة للقيام أمام الرب سواء للمقاومة أو التوبة! يرى القديس أغسطينوس في هؤلاء المتكبرين المعتمدين على قدراتهم وإمكانياتهم، مقاومين الله، يغطون في النوم، فلا يدركون أن الله ينتهرهم. بهذا يحل يوم الرب العظيم، فيقفوا أمام الرب المهوب حال غضبه. مِنَ السَمَاءِ أَسْمَعْتَ حُكْمًا. الأَرْضُ فَزِعَتْ وَسَكَتَتْ [8]. إذ أدان الله الأشرار، وأصدر عليهم حكمًا، سمعت السماء حكمه، وكأنها كانت تترقب في دهشة أمام طول أناة الله على الأشرار. أما الأرض ففزعت وصمتت أمام هذا الحكم، لأنه ليس من يقدر أن يدافع عنهم وقد امتلأ كأس شرهم. عندما دفع الرب الفلسطينيين ليد شعبه قيل: "وكان ارتعاد في المحلة في الحقل وفي جميع الشعب. الصف والمخربون ارتعدوا هم أيضًا، ورجعت الأرض، فكان ارتعاد عظيم" (1 صم 14: 15). إن كانت السماء تشير إلى أبناء الله القديسين المضطهدين، فإن الأرض تشير إلى الأشرار المقاومين لهم. ففي وسط الضيق الشديد تنصت نفوس الأبرار إلى حكم الله ورعايته لهم، بينما يحل الفزع بالأشرار الذين يفتخرون بقوتهم وقدرتهم وسلطانهم. * بمعنى أن انكسار الآشوريين وإبادتهم صارت مسموعة للكل كالرعد من السماء، ومن ذلك فزعت الأرض وسكنت هادئة. الأب أنثيموس الأورشليمي عِنْدَ قِيَامِ اللهِ لِلْقَضَاءِ، لِتَخْلِيصِ كُلِّ وُدَعَاءِ الأَرْضِ. سِلاَهْ [9]. يرى الأشرار كأن الله لا يبالي بالبشرية؛ ليس من أحدٍ يقدر أن يخلص الأتقياء من أيديهم. أما المؤمنون الأتقياء الودعاء والمساكين بالروح فيتمسكون بالوعود الإلهية، ويتهللون بالله منقذهم ومخلصهم، قبل أن يتحقق خلاصهم من أيدي الأشرار. * من هم ودعاء القلب؟ أولئك الذين لا يمتطون الخيل وهي تصدر صهيلها، إنما في تواضع يعترفون بخطاياهم[18]. القديس أغسطينوس * عندما يتحقق الشعب أن الله هو ديان، عندئذ يكفون عن أن يخطئوا[19]. القديس ديديموس الضرير ٤. العبادة للملك الكاهن لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ يَحْمَدُكَ. بَقِيَّةُ الغَضَبِ تَتَمَنْطَقُ بِهَا [10]. يحول الله الكلي الصلاح حتى غضب الإنسان وشره للخير، كما حول تصرفات إخوة يوسف لمجد اسمه، وقسوة قلب فرعون لخلاص شعبه، وخيانة يهوذا لتحقيق الخلاص الخ. إنه ضابط الكل صانع الخيرات! جاء في الترجمة السبعينية: "لأن فكر الإنسان يعترف لك. وبقية الفكر يُعيد لك". يليق بنا إذ نعترف بخطايانا كبداية الفكر، وإذ نذكر عمل المخلص في حياتنا، نقدم تسابيح الفرح والتهليل لعمله معنا. هكذا يميز القديس أغسطينوس بين فكر الإنسان وبقية الفكر، قائلًا: [الأول الفكر، وبعد ذلك بقية الفكر. ما هو الفكر الأول؟ الفكر الصالح الذي نبدأ به هو الاعتراف. فالاعتراف يوحدنا مع المسيح. الآن الاعتراف نفسه الذي هو الفكر الأول، ينتج بقية الفكر، وهذه البقية للفكر تُعيد له. ما هو الفكر الذي يعترف؟ ذاك الذي يدين الحياة القديمة، تلك التي لا تسر... هو رحيل من الحياة القديمة... ولكن إن نسيتم خطاياكم التي تتحررون منها، فإنكم لا تردون الشكر لمخلصكم ولا تعيدون لله[20].] * لقد أوقفنا كل فكرنا للاعتراف بإنعامك علينا، فإننا لا نشغله بشيءٍ آخر، ولا لدقيقةٍ إلا لتمجيدك. الأب أنثيموس الأورشليمي اُنْذُرُوا وَاوْفُوا لِلرَبِّ إِلَهِكُمْ يَا جَمِيعَ الَّذِينَ حَوْلَهُ. لِيُقَدِّمُوا هَدِيَّةً لِلْمَهُوبِ [11]. يدعونا الله أن ننذر ونفي بالنذر. هنا يميز كثير من الآباء بين النذر العام لكل المؤمنين والنذر الخاص. النذر العام هو تكريس القلب وكل الطاقات لله. فإن كان السيد المسيح القدوس يقول: "من أجلهم أقدس ذاتي"، إنما لكي به نردد: "من أجلك يا رب نتقدس بك ولك يا أيها القدوس". أما النذر الخاص فهو ليس للجميع، بل حسبما يعلن المؤمن عن محبته لله وشوقه للسمو والكمال. وقد ضرب القديس أغسطينوس مثالًا لذلك. فكل مسيحي متزوج ملتزم بالنذر ألا يعرف امرأة أخرى، أو تعرف هي رجلًا آخر، مادام الطرف الثاني على قيد الحياة. هذا نذر إلزامي. أما إذا انتقل الطرف الآخر ونذر الطرف الأول أن يعيش أرملًا، فهذا نذر اختياري. ويوجد من ينذر أن يعيش بتولًا فلا يتزوج قط لأجل التفرغ للعبادة أو الخدمة الخ. * لا تتلكأوا في النذر، فإنكم ستوفون النذور ليس بقوتكم. إنكم ستفشلون إن كنتم تعتمدون على أنفسكم. أما إن اعتمدتم على ذاك الذي تنذرون له فإنكم تصيرون في أمان وتوفون النذور. "أنذروا واوفوا للرب إلهكم". ما الذي يلزمنا أن ننذره نحن جميعًا؟ أن نؤمن به، ونترجى منه الحياة الأبدية، ونحيا بالتقوى حسب القياس اللائق بكل البشر[21]. * "يا جميع الذين حوله". من هم المحيطون به... ما هو عام للكل يكون في الوسط. لماذا يُقال في الوسط؟ لأنه على نفس المسافة من الكل، وعلى نفس القرب من الجميع. ما لا يكون في الوسط يكون كما لو كان خاصًا (بمجموعةٍ ما). ما هو عام يوجد في الوسط، حتى يكون لكل من يأتي أن يستخدمه ويستنير. لا يقل أحد هذا لي، لئلا يعجز عن أن يستخدم نصيبه مما هو في الوسط للجميع... الذين يعرفون إن الحق هو عام للجميع هم متواضعون[22]. القديس أغسطينوس * ماذا ننذر ونوفي يا إخوة؟ آمنوا به، ترجوا منه الحياة الأبدية، والحياة الصالحة حسب المستوى العام. يوجد مستوى عام لكل البشر. "لا تزنِ" هي وصية للمتزوجين كما لغير المتزوجين... لذلك يلزمنا نحن جميعًا أن ننذر ما هو يخص الإيمان والعدل والعفة أو الرحمة، وبمعونة ذاك الذي ننذر له ذلك نوفي... ينذر البعض ألاَّ يسمحوا أو يرغبوا في ألاَّ يعرفوا أحدًا في المستقبل، حتى وإن كانوا حاليًا غير متزوجين. هؤلاء نذرهم أعظم من السابقين. آخرون ينذرون هذه البتولية منذ بدء حياتهم، فلا يمارسون قط مثل أولئك الذين حاولوا لكنهم فيما بعد تركوا ذلك؛ هؤلاء أعظم الكل[23]. الأب قيصريوس أسقف آرل يَقْطِفُ رُوحَ الرُؤَسَاءِ. هُوَ مَهُوبٌ لِمُلُوكِ الأَرْضِ [12]. يتحدث هنا عن الرؤساء أو القادة، سواء الدينيين أو المدنيين أو العسكريين الذين يضادون الإيمان ويضطهدون المؤمنين، الذين دستورهم العنف والظلم والاستبداد، مثل فرعون في أيام موسى، وأدوني بازق، وشاول الملك وبيلشصر وسنحاريب، وأيضًا ابني عالي الكاهن وقورح وجماعته. في تفسير هذه العبارة يشعر القديس چيروم بالرعب، إذ يخشى أن يعتمد على كونه راهبًا أو كاهنًا أو رئيسًا لدير ويسلك بروح الكبرياء، فيقف ضده الله نفسه. * "من يصد روح الرؤساء" [١٢]. يمكننا أن نفهم الروح هنا بطريقتين: إما النفس أو روح الكبرياء. لنحسب القديسين رؤساء. سليمان كمثال كان رئيسًا، والقديسون الآخرون كانوا رؤساء، حتى يهوذا كان رئيسًا، وإذ أخطأوا صد الله روحهم. ليته لا يقل أحد: أنا أسقف، أنا كاهن، أو شماس أو راهب. أنا رئيس في هذا العالم. الله مهوب بما فيه الكفاية ليحطم روح الرؤساء. مرة أخرى يلزمكم أن تتأكدوا أن الله تنحَّى عن روح الكبرياء. تذكروا كيف فارق روح الله الصالح شاول، وأقلقه روح شرير. يقول الكتاب المقدس إن روحًا شريرًا من الله أقلقه... انسحب الله من شاول حتى يقلقه روح شرير. أخيرًا، إذ يعرف داود القديس أن الله يقدر أن يسحب روح الرؤساء توسل إليه: "روحك القدوس لا تنزعه عني". "هو مهوب لملوك الأرض" [١٢]. قد يسمح الله لنا أيضًا أن نكون ملوك الأرض، حتى نسيطر على جسدنا. في هذا يقول الرسول: "كذلك لا تدعوا الخطية تملك على جسدكم المائت". مكتوب في الكتاب المقدس في موضعٍ آخر: "قلب الملك في يد الله". الملوك إذن هم القديسون، وقلوبهم في يد الرب. نحن نتوسل إلى الله أن يجعلنا ملوكًا حتى نسيطر على أجسادنا فتخضع لنا. كلمات الرسول التالية تناسب الموقف هنا: "أُخضع جسدي واستعبده، لئلا بعد ما كرزت للآخرين، أصير أنا نفسي مرفوضًا". لتُؤمر نفوسنا ولتُخضع أجسادنا، عندئذ يأتي المسيح ويجعل له مسكنًا فينا. في كل يومٍ يقف المسيح على باب قلوبنا، مشتاقًا أن يدخل. لنفتح له قلوبنا باِتساع، عندئذ يدخل ويُستضاف، ويسكن فينا ويتعشى معنا. القديس چيروم من وحي مزمور ٧٦ لتملك في أعماقي يا قائد المعركة * أشعل العدو المعركة ضدي، أراد أن يحول العالم الذي خلقته من أجلي جحيمًا! لكنك لم تتركني وحدي، أخفيتني فيك، لكي تهبني بك النصرة. * تنازلت يا كلمة الله، وتجسدت في أحشاء ابنة داود. صرت معروفًا في يهوذا، فإنك أنت الأسد الخارج من يهوذا. وصار اسمك عظيمًا في إسرائيل الجديد، كنيستك المقدسة. أتيت رئيس كهنة على رتبة ملكي صادق، ملك ساليم. أينما حللت أقمت من الموضع مركزًا للسلام (ساليم)، وحولته إلى صهيون (حصن أو برج مراقبة) جديدة. لتسكن في أعماقي، فتصير نفسي مصدر سلام لكثيرين، وتنفتح بصيرتي الداخلية، وتصير كبرج مراقبة يرى أسرارك العلوية! * يحاول العدو أن يرعبني بسهامه النارية الملتهبة لكنك أنت وحدك تسحق قوسه وسهامه، درعه وسيفه. تقيم من مؤمنيك جبالًا مقدسة، تتجلى أنت عليها. تحوِّطهم بمركباتٍ وخيولٍ ناريةٍ. فيُسبحونك مع إليشع النبي، قائلين: الذين معنا أكثر من الذين علينا. * أنت قائد المعركة، إله مهوب، من يقدر أن يقف أمامك؟ ظن إبليس مع كل قوات الظلمة أنهم يبتلعوننا. ليس من إمكانية بشرية تقف أمامهم. لكنك تقوم يا أيها السماوي لتخلص كل ودعاء الأرض. أنت إله المظلومين، تقيمهم من المزبلة، وتجعل منهم ملوكًا وعظماء! * اِقبل نذري لك يا ملك الملوك. اِقبل هديتي المتواضعة. ماذا أقدم لك سوى الشكر الدائم والتسبيح المستمر! * هب لي يا رب روح الحب والتواضع. أراك محبًا لكل البشرية. أراك النور القائم في وسط الجميع. تريد أن الكل يخلصون، ويستنيرون بك. تود أن يلتصق الكل بك بلا محاباة! لتهب الكل نور معرفتك الإلهية. لينعم الكل بخلاصك. فتتهلل نفسي بعملك مع الجميع! |
||||
11 - 02 - 2014, 04:59 PM | رقم المشاركة : ( 79 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 77 - تفسير سفر المزامير تذكر أعمال الله الخلاصية وُضع هذا المزمور بمناسبة شدَّة عظيمة لحقت بالمرتل. إنه يعترف بأنه صار في اِرتباكٍ شديدٍ، إذ لم يقدر أن يدرك خطة الله، وأنه ليس من حلّ في مواجهة هذه الضيقة سوى الإيمان بالله ملجأ النفس! فإن كانت الضيقة مرة للغاية، لكن تذكر معاملات الله معنا، وارتفاع القلب إلى السماء يهب أعماقنا عربون الراحة السماوية، أو الاِحتفال بسبتٍ سماوي بهيج. مفتاح السفر وردت كلمة "يتذكر" أو "يفكر" ٤ مرات (ع ٣، ٥، ٦، ١١). فيليق به وسط الضيق والاِرتباك أن يفكر في الله، ويتذكر معاملاته مع شعبه ومعه. أقسامه ١. أسئلة محيرة ١-١٠. ٢. راحة المرتل ١١-١٥. ٣. طريق الله في البحر ١٦-٢٠. من وحي مزمور ٧٧ العنوان لإِمَامِ المُغَنِّينَ عَلَى يَدُوثُونَ. لآسَافَ. مَزْمُورٌ جاء العنوان في الترجمة السبعينية: "إلى النهاية (التمام)، لأجل يدوثون. مزمور لآساف". ويعلق القديس أغسطينوس على هذا العنوان قائلًا بأن "يدوثون "معناها "يثب"، وآساف معناها "جماعة "، فهو يتحدث عن الجماعة التي تثب لتبلغ إلى النهاية الذي هو يسوع المسيح[1]. "على يدوثون": ورد هذا العنوان في المزمورين ٣٩ و٦٢، ومعناه: "مقدم تسبحة". فإن كانت مناسبته هي حلول ضيقة شديدة، فإنها لن تحرم المؤمن من تقديم تسبحة، فيها يتغنَّى بكل صراحة. في وسط ارتباكه الشديد يتهلل مسبحًا الله ملجأه وسرّ راحته وتعزيته. يرى البابا أثناسيوس أن يدوثون هو أحد رؤساء المرتلين، عندما سمع ما كان مزمعًا أن يجرى على الشعب صار يئن ويتوجع جدًا، راثيًا لهم لبعدهم عن الله[2]. ويرى يوسابيوس أن داود ولآساف قد وضعا مزامير كثيرة لتعزية يدوثون، لكي يزيلوا عن قلبه الحزن والوهم، ولقوله إن الله لا يهتم بهذا العالم[3]. ١. أسئلة محيِّرة يبدأ المرتل بصرخة يوجهها إلى الله، مظهرًا يقينه في الله السامع لصراخه وسط الضيق، وأنه يجيب على ما يجول في فكره من أسئلة محيِّرة. يسمع الله لصرخات القلب الصامتة، ويستجيب لنا، ليس من أجل الصراخ ذاته، وإنما من أجل إيماننا به وثقتنا فيه. قيل عن الرب نفسه إنه صلى بصرخات عالية ودموع، وسُمع له من أجل مخافته التقوية (عب ٥: ٧). صارت أجفان عينيّ المرتل لا يمكن إغلاقها، إذ كان يتطلع إلى ما في أعماقه خلال ليالٍ لا تغمض له فيها جفن، وكانت النتيجة أنه تأثر جدًا ولم يجد كلامًا يعبر به عما في داخله، فالتزم الصمت. عاد إلى مشاعره في الماضي، وسجل ما سبق أن كان يترنم به. لعله بهذا تهدأ نفسه، وتستريح خلال ثقتها في الرب أنه لن ينساه. وإن كانت هذه الذكريات قد أثارت في نفسه تساؤلات عبّر عنها في هذا المزمور [٧-١٠]. هذه التساؤلات لها إجابات، لأن الله أمين في كلمته، ووعوده وعهوده لن تخيب. صَوْتِي إِلَى اللهِ، فَأَصْرُخُ. صَوْتِي إِلَى اللهِ، فَأَصْغَى إِلَيَّ [1]. إذ صرخ المرتل إلى الله بكل قلبه، بغيرة وفي إخلاص تحرك الله - إن صح التعبير - ليصغي إليه. الصرخات التي تحرك القلب تحرك الله نفسه الذي يسكن في القلب ويقيم منه هيكلًا . المؤمن الذي يصرخ بقلبه لا يحرك شفتيه فحسب، إنما يتحرك كل كيانه الجسدي والنفسي والروحي. إن كانت الخطية تجعل الإنسان بعيدًا عن الله، لذا يصرخ كمن يتحدث مع من هو بعيد عنه، لكنها ليست صرخات مسموعة بالأذنين، إنما صرخات قلب يطلب أن يتقدس، فيشعر أنه في حضن الله، أو يسترد وضعه في الأحضان الإلهية بالنقاوة والقداسة خلال غنى نعمة الله وعمل روحه القدوس. يرى القديس چيروم أن الحوار مع الله يتحقق بالعمل، فصراخ المرتل هنا لله هو خلال العمل الصالح حسب وصية الله، واستجابة الله أيضًا بالعمل. * "بصوتي إلى الرب أصرخ... فيصغي إليّ، في يوم ضيقي التمست الرب". اُنظروا كيف كان مضطربًا، فإنه يصرخ عاليًا ملتمسًا الله... الصرخة العالية ضرورية للغاية عندما يكون القلب المضطرب بعيدًا. هذا هو ما يقوله: هذا هو ما أقوله: "بسبب خطاياي صرت بعيدًا عنك، لهذا وجب عليّ أن أصرخ إليك لكي ما تحتملني في رحمتك المتحننة[4]. * عندما نكون في اضطراب نُرفض ولا نفكر في شيء إلاَّ في تعبنا، ولكن أفضل ما نعمله في وقت الضيق هو الصلاة بغيرة... إن وَجَدت الله، ففيه استرد كل شيء[5]. * لاحظوا أن أعمالنا الصالحة تصرخ إلى الرب، حتى ونحن صامتون. ولهذا السبب جاء في الكتاب المقدس: "كانت كلمة الرب عن يد حجِّي النبي" (حج ١: ١، ٣). لم تأت كلمة الله بالكلام، وإنما باليد - بالعمل. بنفس الروح يقول إرميا: "ليته لا تكون راحة لعينيّ". اُنظروا فإنه حتى حدقة عيننا ليست صامتة. بالحقيقة نصرخ لله بأيادينا في دفعات كثيرة، كما نصرخ إليه بدموعنا[6]. القديس چيروم * في أوقات شدتي صرخت متضرعًا إليه، وطالبًا منه الفرج. وبما أن صراخي كان مستحقًا الإجابة، استجاب لي، ونجاني من أحزاني. فإذًا اعلم يا يدوثون أن الله سميع وقريب لمن يسأله بما يليق. الأب أنثيموس الأورشليمي يرى القديس أغسطينوسأن المؤمن يصرخ إلى الرب وقت ضيقه، لا لكي يتخلص من الضيق، وإنما لكي يثب (يدوثون) فوق كل العالم وكل متاعبه، يقفز ليكون في حضن الرب، طالبًا الرب نفسه. فالضيقة بالنسبة له لا تخص أمرًا معينًا بذاته، بل الحياة كلها بكل متاعبها، لتستقر النفس في موطنها السماوي. كثيرًا ما أطال القديس أغسطينوس أحاديثه في ضرورة الوثب أو القفز فوق كل المتاعب لأجل اقتناء الرب نفسه والتمتع بأحضانه الإلهية. * كثيرون يصرخون إلى الرب من أجل مثل هذه الأمور (الزمنية)، لكن نادرًا ما يصرخ أحد من أجل الرب نفسه. من السهل على الإنسان أن يطلب من الرب شيئًا، ولا يطلب الرب نفسه. كما لو كان بالحقيقة أن ما يهبه الرب أكثر عذوبة من أن يعطي الرب ذاته. لذلك من يصرخ إلى الرب لأجل شيء ما ليس بالشخص الذي يثب... إنه بالحق يسمع لك في الوقت الذي تطلبه هو، وليس من خلاله تطلب شيئًا ما. يقال عن قبل هذا : "يصرخون ولا مخلص. إلى الرب فلا يستجيب لهم" (مز 18: 41)[7]. * عندما تكون في ضيق ماذا تطلب؟ إن كان السجن هو سبب الضيق، تطلب أن تخرج منه. إن كانت الحمى هي سبب الضيق، تطلب الصحة. إن كان الجوع هو علة الضيق، تطلب الشبع. إن كانت الخسارة هي سبب الضيق، تطلب الربح... أتريد أن تكون إنسانًا يثب؟ في وقت ضيقك أطلب الله، ولا تطلب شيئًا خلال الله، فإنه لهذه الغاية ينزع الله عنك الضيق حتى ما تلتصق بالله دون قلق[8]. القديس أغسطينوس في يَوْمِ ضِيقِي التَمَسْتُ الرَبَّ. يَدِي فِي اللَيْلِ انْبَسَطَتْ، وَلَمْ تَخْدَرْ. أَبَتْ نَفْسِي التَعْزِيَةَ [2]. في يوم الضيق لم يطلب المرتل مجرد إنقاذه من المتاعب، إنما يتلمس الله نفسه، إذ هو سرّ تعزيته وفرحه وتهليل نفسه. في وسط ليل هذا العالم يبسط يديه كمن يود أن يحتضن محبوبه، ومقدسه. بهذا لا يقدر عدو الخير أن يخدعه، ولا أن يفقده التعزيات الإلهية. * جاء في مزمور آخر: "في ساعات الليل ارفعوا أياديكم نحو المقدس، وباركوا الرب". في ليل هذا العالم، وفي ظلمته، بينما يسرع الآخرون نحو رذائلهم، أقدم أعمالي إليك وحدك. "ولم أنخدع". لأنني هكذا أنا صرخت بأعمالي، فلم أنخدع. يوجد تفسيران هنا: إما أن صلاتي قد اُستجيبت، أو أنني لم أُخدع قط بالشباك التي يحاول الشيطان أن ينصبها لي. جاء النص العبري: "بالليل أبسط يدي بدون تردد"، يدي مبسوطة دائمة للأعمال الفاضلة، لن ترد إلى الخطايا. * "أبت نفسي التعزية". لقد انغمست نفسي في الخطية، فلا أستطيع أن أُعزي نفسي بأي رجاء. "عندما أتذكر الله، ترتفع نفسي". نفسي انغمست عميقًا في الخطية، لا أستطيع أن أجد أيَّة تعزية، لكنني أحوِّل أفكاري نحو الله، وينشغل قلبي مرة أخرى في حنو مراحمه... جاء في العبرية: "عندما أتأمل فيُغشى على روحي" [٣]، إما باليأس أو بالاِشتياق إلى الله[9]. القديس چيروم * كمثال، افترض أن شخصًا ما بيننا يفقد ابنه. أي شيء لا نفعله لكي نجده؟ أي أرض لا نجول فيها، أي بحر لا نعبره؟ أما نستخف بالمال والبيوت، ونحسب كل شيء ثانويًا لكي نجده. وإذ نجده نلتصق به، ونمسك به، ولا ندعه يتركنا. عندما نذهب للبحث عن شيءٍ ما، فإننا نستخدم كل وسيلةٍ لنجد ما نبحث عنه. كم بالأكثر يليق بنا أن نعمل من أجل الله، إذ نبحث عن من لا غنى لنا عنه؛ لا، ليس بنفس الطريقة، بل وما هو أعظم! لكن إذ نحن ضعفاء، فعلى الأقل تطلبون الله كما تطلبون أموالكم أو أولادكم. ألم تترك بيتك قط من أجل المال؟ ألم تنشغل به بكل وسيلة؟ وإذ تجده، أما تصير مملوءًا ثقة بالنفس؟[10] القديس يوحنا الذهبي الفم * "في يوم ضيقي اِلتمست الرب" [٢]. لم أطلب الذهب ولا فضة العالم، بل الله وحده. لا يريد أحد أن يعاني من الضيق، ولهذا فعند حلول الضيق بالإنسان يلزم اِلتماس الله كأمر حسن... يرسل الله الضيقة ليس في غضبٍ بل بالحري في حنوٍ. الله لا يترك الإنسان، بل يطلب منه أن يلتمسه. القديس أغسطينوس * هكذا لأن الله ملجأ؛ علاوة على هذا إذ هو في السماء وفوق السماوات، بالتأكيد يلزمنا أن نهرب من هنا إلى هناك، حيث يوجد سلام وراحة من الأتعاب، وحيث يمكننا أن نعيِّد في السبت العظيم، كما يقول موسى: "وسبت الأرض هو طعام لكم". إنه وليمة، حيث يمتلئ الشخص بالبهجة والسكون، ليستريح في الله، ويتطلع إلى مسرته. نلجأ إلى الله، فهل نرجع إلى العالم؟ لقد متنا عن الخطية، فهل نعود نطلب الخطية؟ لقد جحدنا العالم، فهل نعود فنلتصق بوحله؟[11] القديس أمبروسيوس * كنت دائمًا أرفع يدي إليه، لا بالنهار فقط، بل وبالليل أيضًا. وصرت امتنع عن النوم جائزًا الليل كله في الصلاة في يوم حزني، ولم أضل، أي أصبت مطلوبي، ولم يخب أملي. بقوله "يدي" معناه إني لست باللسان فقط كنت أطلب المعونة، بل بالعمل الصالح أيضًا، لأن شدتي قد جعلت نفسي بائسة. الأب أنثيموس الأورشليمي أذْكُرُ اللهَ فَأَئِنُّ. أُنَاجِي نَفْسِي، فَيُغْشَى عَلَى رُوحِي. سِلاَهْ [3]. جاءت الترجمة السبعينية: "تذكرت الله فابتهجت، سكبت شكواي فصغرت نفسي". وكأن المرتل إذ يتطلع إلى الله ويذكر معاملاته معه تتهلل أعماقه وتبتهج، لكن إذ ينشغل بمتاعبه وشكواه تذوب نفسه فيه ويدخل في صغر نفس. * كل ساعة صلاة تقدم ذكرى خاصة ببركات الله علينا. يلزمنا أن نصلي في الصباح الباكر لكي تكون بدء ميول النفس والعقل مكرسة لله، وأننا لن نلمس شيئًا ما لم نبتهج أولًا بالتأمل في الله، كما يقول الكتاب: "تذكرت الرب فاِبتهجت" (مز 76: 3 LXX). ولن نبدأ أيّ عمل ما لم نتمم ما هو مكتوب: "إليك أصلى يا رب. بالغداة تسمع صوتي. في الصباح المبكر أوجه صلاتي إليك وأنتظر" (مز 5: 2-3). القديس باسيليوس الكبير * مجرد تذكر الله يريح النفس، كما قيل في المزمور: "تذكرت الله فصرت سعيدًا"[12]. الأب دوروثيؤس من غزة * ما كان يقدر شيء ما أن يعزيني سوى ذكر الله، وتفطنت أنه قادر أن يحول الأحزان إلى أفراح. وأما عندما كنت أتداول بفكري المصائب التي حلت عليَّ فكانت نفسي تنزعج وتتضايق. الأب أنثيموس الأورشليمي * لم تعمل يدي باطلًا، فقد وجدتا معزيًا عظيمًا. فإذ لم أكن متراخيًا كنت منشغلًا بالله فابتهجت[13]. القديس أغسطينوس أمْسَكْتَ أَجْفَانَ عَيْنَيَّ. اِنْزَعَجْتُ، فَلَمْ أَتَكَلَّمْ [4]. في وسط متاعبه هذه بسبب إصرار الأعداء المستمر نهارًا وليلًا على مقاومته، يصير الإنسان كمن لا قوة له، حتى يعجز عن فتح شفتيه لينطق بكلمة، فيكتم في داخله تأوهات قلبه وتنهداته وشكواه. * عندما فكرت متأملًا خطاياي، لم أجسر أن أرفع عينيَّ إلى السماء، لأن الله يقول للشرير: "ما لك تُحدث بفرائضي؟" (مز ٥٠: ١٦). لهذا صرت مفلوجًا، إنني خائف، لا أستطيع أن أنطق بكلمة[14]. القديس چيروم * قبلما ينتبه حراس الليل إلى نوبتهم كنت أنا أسبقهم، وكانت عيناي مفتوحتين، ولا يأخذني نوم من كثرة الأفكار الشديدة التي كانت تقلقني، لكن لم أكن أبرزها من فمي. الأب أنثيموس الأورشليمي جاءت الترجمة السبعينية: "وضع جميع أعدائي حراسًا ضدي، قلقت ولم أتكلم" إذ وضع الأعداء حراسًا ضد المرتل لم يستطع أن ينم طوال الليل، فكانت عيناه مفتوحتين بسبب كثرة الأفكار التي كانت تزعجه، هذه التي لم يستطع أن ينطق بها. * "وضع جميع أعدائي حراسًا ضدي". لقد تفوقوا في وضع حراسة ضدي، أسرعوا ووضعوا حراسة مسبِّقة ضدي. أي موضع لم يضعوا فيه مصائد ضدي؟ ألم يسبق ويضع أعدائي حراسًا؟ من هم هؤلاء الأعداء إلا الذين يقول عنهم الرسول: "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ" (أف 4: 12)... إننا نحمل عداوة ضد إبليس وملائكته. يدعوهم "ولاة العالم"، لأنهم يحكمون الذين هم محبين للعالم. أنهم لا يحكمون العالم كما لو كانوا ولاة السماء والأرض، بل خطاة العالم... لا يوجد انسجام بيننا وبين إبليس وملائكته. إنهم يحقدون علينا من أجل ملكوت السماء. لا يمكن أن يرضوا علينا، لأن "جميع أعدائي يسبقون فيضعون حراسًا ضدي". إنهم يراقبونني لكي يخدعوني أكثر من حراستي أنا لنفسي[15]. القديس أغسطينوس أمام هذا الموقف الخطير يقف في قلقٍ، ولا يعرف المرتل بماذا ينطق. تَفَكَّرْتُ فِي أَيَّامِ القِدَمِ، السِنِينَ الدَهْرِيَّةِ [5]. إذ يتطلع المرتل إلى مقاومة الأعداء له حتى في الليل، حيث يقيموا حراسًا ضده، تضطرب نفسه. لكن إذ يفكر في معاملات الله معه في الماضي، وخطته الأزلية لخلاصه تترنم نفسه وتتهلل. سبق فكشف المرتل عن حاله، فقد كبت في داخله المرارة، وعجز لسانه عن الكلام، لكن تحول بتنهدات قلبه إلى صرخات داخلية إلى ذاك الذي يسمع لغة القلب، وانطلق فكره إلى معاملات الله السابقة، فتحول قلبه من المرارة المكبوتة وإلى بهجة لا يُعبر عنها، وتهليل لا يستطيع اللسان أن ينطق به. يرىالقديس أغسطينوس أن المرتل صار كمن قد ضُرب خارج الأبواب، فالتجأ إلى أعماقه الداخلية لقلبه، ليهرب من المصائد التي نصبها له الأعداء في الخارج، وذلك بتفكير في أيام القدم. لقد صمت ولم يقدر أن ينطق بكلمة أمام هول مقاومة الأعداء، فالتجأ إلى التفكير في هدوء داخل قلبه. [لقد وثب إلى تلك السنوات (القديمة)، لا بثرثرة الكلام في الخارج، بل بالسكون في الفكر[16].] ما هي أيام الأزل الأولى التي في ذهن المرتل، يفكر فيها على الدوام؟ يجيب العلامة أوريجينوس إنه الإنجيل الأزلي أو خطة الله الأزلية لخلاصنا. فالله مشغول بخلاصنا منذ الأزل. هذه هي البشارة الأزلية (رؤ 14: 6) التي يبشر بها ملاك الساكنين على الأرض. [هذا الإنجيل سيُعلن عندما يُبتلع الموت وتُرد الأبدية. يبدو أن هذه السنوات السرمدية التي تحدَّث عنها النبي تخص هذا الإنجيل الأبدي. "تفكرت في السنوات السرمدية" (مز 77: 5)[17].] يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن المرتل يتذكر معاملات الله مع شعبه في الماضي، مثل خروج الشعب من مصر، ورعايته لهم في البرية، واهتمامه بهم في أرض الموعد. فإذ نذكر معاملاته نمتلئ رجاءً في رحمته ورأفته ورعايته. أَذْكُرُ تَرَنُّمِي فِي اللَيْلِ. مَعَ قَلْبِي أُنَاجِي وَرُوحِي تَبْحَثُ [6]. ليس من وجه للمقارنة بين مقاومة الأعداء له ليلًا ونهارًا وبين رعاية الله له واهتمامه به. فإن المرتل يتفرغ في فحص أعماقه والبحث عن عناية الله به. تحولت أحزان المرتل ومراثيه إلى أغانٍ داخليةٍ وفرحٍ مجيدٍ، فقد أدرك لماذا سمح الله له بالضيق، واختبر حنو الله وسط الآلام، وامتلأت نفسه بالرجاء في خلاص الله المجيد. يرى القديس چيروم أن المرتل لا ينشغل بأحدٍ أو بشيء ما في الليل سوى بالله ومعاملاته معه. * لقد بدأ يثرثر في داخله وهو في أمان، حيث يوجد وحده في السرّ، إنه يفكر في السنوات الأزلية[18]. القديس أغسطينوس * إنني لست أنشغل بغضبي على عدوي، فإن كل مسرتي هي في الله. الليل عادة هو وقت للراحة أو للشهوة، أما بالنسبة لي فهو وقت التأمل بعمقٍ على الفضيلة... إنني مثل من يحفر حقلًا ليغرس بذار تعاليم الرب[19]. القديس چيروم * تصدر الأفكار من ذواتنا، إذ بطبيعتنا نتذكر ما نفعله أو فعلناه أو سمعناه. ويقول عن ذلك الطوباوي داود: "تفكرت في أيام القدم السنين الدهرية. أذكرُ ترنميْ في الليل. مع قلبي أناجي وروحي تبحث" (مز 77: 5-6). مرة أخرى يقول: "الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة" (مز 94: 11)، "أفكار الصدّيقين عدل..." (أم 12: 5). وفي الإنجيل يقول الرب للفريسيين: "لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم؟!" (مت 9: 4) [20] الأب موسى هَلْ إِلَى الدُهُورِ يَرْفُضُ الرَبُّ، وَلاَ يَعُودُ لِلرِضَا بَعْدُ؟ [7] يظن الإنسان في وسط متاعبه كأن الله رفضه ولا يُسر به، لكن هل يبقى الله الكلي الحب والرحمة رافضًا إياه، ولا يعود يُسر به؟ مستحيل! فإنه ينتظره ليحتضنه، ويدخل به إلى الأمجاد السماوية. * إذ ضاقت به هذه الحياة جدًا، فكر بالأكثر في حياة أخرى حيث لا توجد فيها محنة. متى يمكنه أن يبلغ إليها؟ لا يمكن بلوغها ما لم ندرك أن متاعبنا هنا هي من غضب الله. هذا ما يتحدث عنه بإشعياء: "لأني لا أخاصم إلى الأبد، ولا أغضب إلى الدهر" (إش 57: 16)... هل غضب الله يدوم هذا ما اكتشفه (المرتل) في صمته... "هل انقطعت رحمته إلى دورٍ فدور؟" (8 LXX)[21] القديس أغسطينوس هَلِ انْتَهَتْ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتُهُ؟ هَلِ انْقَطَعَتْ كَلِمَتُهُ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ؟ [8]. يليق بنا ألا يغطي اليأس أعيننا، فإن مراحم الله لانهائية، ووعوده تبقى من دور إلى دور، فهو أمين بالرغم من عدم أمانتنا. هَلْ نَسِيَ اللهُ رَأْفَةً، أَوْ قَفَصَ بِرِجْزِهِ مَرَاحِمَهُ؟ سِلاَهْ [9]. عدم أمانتنا لا تُنسي الله رأفته، فإنه وإن غضب بسبب خطايانا لن ينزع مراحمه عنه، فهو رحوم ومحب للبشر. للقديس أمبروسيوستعليق رائع عن طبيعة الله المملوءة رحمة وحبًا، الأمر الذي يكشفه قوله: " فكل من يعترف بي قدام الناس... ولكن من ينكرني قدام الناس..." ، فبقوله "كل" للذين يمجدهم أبديًا وعدم ذكر هذه الكلمة في حديثه عن الذين يحرمون أنفسهم من المجد الأبدي، يكشف عن اشتياق الرب إلى تمجيد البشرية وحزنه على الساقطين منهم. * إن كان حديثنا السابق يكشف عن ميل ربنا يسوع إلى الرحمة، فلنتركه أيضًا يحدِّثنا بنفسه، فإنَّه عندما قال: "فَكُلُّ مَنْ يَعْتَرِفُ بِي قدَّام الناس أعترفُ أَنَا أيضًا بِهِ قدَّام أَبِي الذي فِي السماوات" (مت ١٠: ٣٢-٣٣). عندما تكلَّم عن المعترفين به قال: "كل من"، أمَّا عن حديثه عن حالة الإنكار فلم يذكر كلمة "كل"... ففي حالة المكافأة المفيدة وعد به جميع المعترفين به، أمَّا عند العقاب فلم يهدَّد الكل... هذا لم يكتبه إنجيل الرب يسوع المسيح الذي سجَّله متَّى فقط، بل وما سجَّله لوقا أيضًا (١٢: ٨-٩) حتى نتأكَّد أن ما كتب لم يكن بمحض الصدفة. لنتأمَّل الآن معنى قوله: "كل من يعترف بي قدَّام الناس". إنه يقصد من يعترف به أيَّا كان عمره، وأيًا كان حاله، دون أي استثناء. أمَّا في الإنكار فلم تذكر عبارة مشابهة. يقول داود النبي: "هل إلى الدهور يرفض الرب؟! هل انتهت إلى الأبد رحمته؟! هل نسى الله رأفة أو قَفَصَ بِرِجْزِهِ مَرَاحِمَهُ؟!" (مز ٧٧: ٧-٩). هذا هو ما يعلنه لنا النبي بينما يصر أولئك على إنكار مراحم الله؟! القديس أمبروسيوس فَقُلْتُ: هَذَا مَا يُعِلنِّي: تَغَيُّرُ يَمِينِ العَلِيِّ [10]. جاءت الترجمة السبعينية: "فقلت الآن ابتدأت. هذا هو تغير يمين العلي". بعد أن أدرك المرتل أن الله كلى الرحمة، وإن لم يُسر بالإنسان بسبب خطيته، لكنه لا ينسى وعوده الإلهية بالخلاص ورحمته اللانهائية ورأفته، لذا يترنم المرتل: "فقلت الآن ابتدأت". قد صار كمن له بداية جديدة، إذ أدرك أن كلمة الله أو يمين العلي يصير إنسانًا لأجله. ذاك الذي هو غير المتغير يتأنس ويأخذ شكل العبد ليخلصه. لم يتغير كلمة الله من جهة لاهوته، لكنه نزل إلينا لكي يجدد طبيعتنا، ويقيمنا من فسادنا إلى عدم الفساد، ومن الهوان إلى الأمجاد الفائقة. * "فقلت الآن ابتدأت. هذا هو تغيير يمين العلي" (الترجمة السبعينية وأيضًا القبطية). الآن يمين العلي بدأت تغيرني. الآن بدأت شيئًا فيه أكون في أمان. الآن أدخل قصر الأفراح الذي فيه لا يصير خوف من عدو. الآن ابتدأت أن أكون في تلك المنطقة التي لا يضع فيها جميع أعدائي حراسًا ضدي![22] القديس أغسطينوس * "تغيَّر يمين العليّ" [ع١٠]. ما لم تتغير يمين العليّ، أي الابن، ويأخذ ناسوت الإنسان، لا نستطيع أن نتقبل رحمته[23]. القديس چيروم * يعلن النبي: "هذا هو تغيُّر يمين العليّ" (مز ٧٧: ١٠LXX )، مشيرًا إلى أنه بالرغم من أن الطبيعة الإلهية يمكن التأمل في عدم تغيرها، فإنه بتنازله إلى ضعف الطبيعة البشرية تغيرت إلى شكلنا. عندما امتدت يد واهب الناموس من حضنه تغير إلى تغيير غير طبيعي؛ وعندما أعادها إلى حضنه عادت إلى جمال طبيعته الطبيعي. مرة أخرى فإن ابن الله الوحيد الذي في حضن الآب هو يمين العلي[24]. القديس غريغوريوس النيسي * يمين الله هذه غيرت الأمم أيضًا، ونقلتهم من الضلالة الخبيثة إلى ما هو أفضل. فلأجل هذا إذا رأينا تحويل الشأن من الشر إلى الخير. نقول هذا تغيير يمين العلي. الأب أنثيموس الأورشليمي ٢. راحة المرتل يتطلع المرتل إلى ماضيه، فماذا يعني التاريخ بالنسبة له؟ إنه قصة رأفات الله وأمانته وقدرته وأبوته له. الله قدوس، يسكن في نورٍ لا يُدنى منه. مُرهب لمن يدخل معه في عداوة، وعجيب في حنوّه مع من يدخل معه في صداقة. علاقته مع الشعب أعظم من أن تكون علاقة صداقة، إنه شعبه، يدخل معه في عهدٍ، ويحسبهم أقرباء له أو أسرته. اُذْكُرُ أَعْمَالَ الرَبِّ، إِذْ أَتَذَكَّرُ عَجَائِبَكَ مُنْذُ القِدَم [11]. يكمن عزاء المؤمنين وسط متاعبهم الكثيرة في تذكر أعمال الله عبر التاريخ وعجائبه منذ خلق الإنسان وتبقى إلى اللقاء معه على السحاب. سرّ عزائهم أعماله العجيبة ووعوده الفائقة. * لنسمع الآن تلك الأعمال عينها ونتهلل. بل لنثب فوق ميولنا ولا نفرح بالأمور الزمنية... لماذا لا نفرح بأعمال الله؟ لنسمع مثل هذا النوع، ولنبتهج بذاك المتكلم (الله)، حتى متى رحلنا من هنا نمارس ما اعتدنا على ممارسته عندما كان يتكلم، وذلك فقط إن بدأنا هذا مع ذاك الذي يتكلم... أن تبتهج بأعمال الله هو أن تنسى حتى نفسك، مادمت تبتهج به وحده. فإنه أي شيء أفضل منه؟[25] القديس أغسطينوس * "اُذكر أعمال الرب": أعماله العجيبة مع موسى، الأعمال التي صنعها ما قديسيه... فإنه بالتأمل في حنو لطفك الذي تظهره لقديسيك لا أعود بعد بلا رجاء[26]. القديس چيروم * تذكر النبي هنا قد الله أعمالًا وعجائب وصنائع. فالأعمال هي خلائقه التي اخترعها من العدم إلى الوجود. وأما عجائبه منها عامة ومنها خاصة. فالعامة مثل عمله الإنسان من التراب حيوانًا ناطقًا، والأعجب من هذا أنه صنعه على صورته ومثاله، أعنى أن يكون رئيسًا على ما دونه وما أ شبه ذلك. وأما خاصته فهي العجائب التي صنعها في مصر وفي برية سيناء وما شاكلها. وأما صنائعه من الأنواع التي دبرها لأجل إصلاح الإنسان وخلاصه. وهي التأديبات التي أتى بها ليرجعه إلى التوبة باشتراعه عليه نواميس. الأب أنثيموس الأورشليمي وَأَلهَجُ بِجَمِيعِ أَفْعَالِكَ، وَبِصَنَائِعِكَ أُنَاجِي [12]. اَللهُمَّ فِي الْقُدْسِ طَرِيقُكَ. أَيُّ إِلَهٍ عَظِيمٌ مِثْلُ اللهِ! [13]. بعد أن لهج المرتل المتألم في مراحم الله الأزلية ورأفته التي لن تفرغ، انشغل بأعماله العجيبة مع الإنسان منذ خلقته، والآن يدخل إلى أعماق نفسه ليرى غاية هذا كله، وهو أن يقيم من أعماقه هيكلًا مقدسًَا له. تصير نفسه مقدسًا للرب، وطريقًا يعبر من الأرض إلى السماء. هذه هي أعظم أعجوبة، أن يقيم الله من قلوبنا سماءً أو ملكوتًا لله، ويشكلنا لنصير على شبه الملائكة. هذا ما تغنى به القديس يوحنا الذهبي الفم مرات ومرات، وكأنه ليس ما يشغله شيء في كل حياته سوى أن يرى بالمسيح يسوع تحولت الأرض إلى شبه سماء، والبشر إلى شبه ملائكة. * ما هو طريق الله؟ "أنا هو الطريق والحق والحياة" إنه المخلص القائل بهذا. لهذا فإن الطريق هو ابن الله. طريق الله يوجد فقط في الإنسان المقدس. إن أردنا أن يسكن المسيح فينا، فلنكن قديسين، لأن طريق الله هو القداسة[27]. القديس چيروم * قوله : "في القدس طريقك"، أي شريعتك التي أعطيتها لنا في قدسك، الذي هو جبل سيناء، وهناك عرفنا طريقك. أي الاستنارة بسننك وبما صنعته من العجائب. الأب أنثيموس الأورشليمي أَنْتَ الإِلَهُ الصَانِعُ العَجَائِبَ. عَرَّفْتَ بَيْنَ الشُعُوبِ قُوَّتَكَ [14]. هذا العمل العجيب لا يخص شعبًا معينًا بل: "عرفت بين الشعوب قوتك " لقد دُعي كل الأمم لتتمتع بالعضوية الكنسية واختبار قوة خلاصه وعمل صليبه الفائق. * يوجد آلهة بالنعمة، أما أنت فالله بالطبيعة. أنت هو الله الصانع العجائب. لم يقل المرتل: "الذي صنع"، بل "الصانع". ففي كل يوم يصنع الله عجائب...[28] القديس چيروم * عرف المصريون قوتك. لم يقل: "عرف الشعب قوتك" بل "الشعوب"، لأن عجائب الله في ذلك الحين قد عرفت قوة الله للمصريين والإسرائيليين. إن قوة كانت تخرج منه، وتشفي جميعهم، وذاق الموت عن الكل، وسكب دمه الكريم ليفدي كافة الشعوب من تصرفهم الباطل الذي تقلدوه من آبائهم كما كتب بطرس الرسول. الأب أنثيموس الأورشليمي * بالحق أنت هو الله العظيم، الصانع عجائب في الجسد وفي النفس، أنت وحدك الصانع هذه. الصم يسمعون والعميان يبصرون، والضعفاء يشفون، والأموات يقومون، والشُل يتقوون. لكن هذه العجائب كانت في ذلك الوقت تتم في الأجساد. هلم ننظر تلك التي تتم في النفس. صار الذين منذ قليل سكارى عقلاء. والذين كانوا منذ قليل عبدة أوثان صاروا مؤمنين. والذين كانوا قبلًا يسلبون الآخرين صاروا يعطون الفقراء[29] القديس أغسطينوس فَكَكْتَ بِذِرَاعِكَ شَعْبَكَ، بَنِي يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ. سِلاَهْ [15]. يرى بعض الآباء أن يعقوب هنا يشير إلى اليهود أو إسرائيل القديم، ويوسف يشير إلى الأمم، فقد وُهب ذراع الرب أو كلمة الله المتجسد الحرية أو الحل من رباطات الخطية، ليصير الكل في حرية مجد أولاد الله . يرى القديس أغسطينوس أن بذراع الله أي بقوته تحرر اليهود والأمم، والتحم الاثنان معًا بواسطة حجر الزاوية (أف 2: 20) حيث ارتبط الحائطان معًا. * أعتقت بقدرتك شعبك من عبودية مصر، أعنى بهم الذين ولدوا من سلالة يعقوب، وارتفع شأنهم من يوسف. وأيضًا نقول إن ابن الله الوحيد كما يدعى يمين الله كذلك يدعى ذراعه، وأما يوسف فمعناه "إضافة الله". فإذًا يكون قول النبي: "بذراعك" يا الله، أي بابنك أنقذت شعبك المتآلف من بني يعقوب، أي من أهل الختان، ومن بني يوسف، أي من الأمم الذين هم إضافة الله لشعب إسرائيل. الأب أنثيموس الأورشليمي ٣. طريق الله في البحر الله القدير، خالق الطبيعة والمعتني بها، ضابط الكل، وطريقه في البحر. أَبْصَرَتْكَ المِيَاهُ يَا اللهُ، أَبْصَرَتْكَ المِيَاهُ فَفَزِعَتْ. ارْتَعَدَتْ أَيْضًا اللُجَجُ [16]. إن كانت مياه بحر سوف وأيضًا مياه الأردن قد ارتعبت وفزعت أمام الله مخلص شعبه، فاستطاع الشعب قديمًا أن يعبر إلى برية سيناء ثم إلى كنعان، ففي العهد الجديد ترتعد مياه المعمودية أمام عمل السيد المسيح الذي يعبر بالبشرية من العبودية لإبليس إلى حرية مجد الله. يرى القديس أغسطينوس أن المياه تشير إلى الشعوب كما جاء في سفر الرؤيا 17: 15، وإن إلى اللجج إلى ضمير الإنسان، الذي يرتعد حين يعترف الشخص. * عندما عبر الشعب البحر الأحمر، ونهر الأردن، تعرفت المياه على خالقها، أما الشعب فلم يعرف... "أبصرتك المياه يا الله" أيَّة مياه؟ العقول النقية والقلوب الطاهرة. "أبصرتك المياه ففزعت". لقد خافت، لا عن كراهية، بل خلال الإيمان. "اللجج (الأعماق عينها) ارتعدت"[30]. القديس چيروم * مياه البحر الأحمر حين خروج بني إسرائيل من مصر، ومياه الأردن حين عبورهم إلى أرض الموعد وقت جريانها، لأنها بقدرة الله امتنعت وقد صورها النبي كأنها ذات حساسية، شعرت بالله لأنه كان مقدم جيوشهم، فقال: أبصرت المياه الله ففزعت. وكأنها جمدت من خوفها، واضطربت أيضًا لججها عندما هبّ ريح عاصف. الأب أنثيموس الأورشليمي سَكَبَتِ الغُيُومُ مِيَاهًا. أَعْطَتِ السُحُبُ صَوْتًا. أَيْضًا سِهَامُكَ طَارَتْ [17]. يرى الأب أنثيموس الأورشليمي أن السحب (الغيوم) هنا تشير إلى الرسل القديسين الذين أعطوا صوت مناداتهم بالإنجيل المقدس حتى خرج منطقهم في كل الأرض. * كل هؤلاء الملائكة الذين يرافقوننا طوال حياتنا على الأرض، إما أنهم يفرحون لنا، أو ينوحون عندما نخطئ. يقول إرميا إن الأرض تنوح بسبب الساكنين فيها: ويقصد بكلمة "أرض" أي الملاك الساكن فيها، فإنه أيضًا قيل: "أما الخشب المصنوع صنمًا فملعون هو وصانعه" (حك 14: 8)، ليس أن اللعنة تقع على الشيء الجامد نفسه، وإنما يقصد بكلمة "صنمًا" أي الشيطان الساكن فيه، والذي يتخذ من "الصنم" اسمًا له. وبنفس الطريقة أستطيع أن أقول إن "الأرض" يقصد بها الملاك المسئول عن الأرض، و"الماء" الملاك المسئول عن الماء، والذي كتب عنه: "أبصَرَتَك المياه يا الله، أبصرتك المياه ففزعت. ارتعدت أيضًا اللجج. سكبت الغيوم مياهًا، أعطت السحب صوتًا. أيضًا سهامك طارت" (مز 77: 16-17)[31]. العلامة أوريجينوس * "أعطت السحب صوتها". السحب أو الأنبياء الذين كانوا صامتين بالنسبة لليهود صاروا متحدثين معنا. "أعطت السحب صوتها، أيضًا سهامك طارت". انتشرت الكرازة بكلمة المسيح في كل العالم. "صوت رعدك في الزوبعة (العجلة)". الصوت ملوكي، لأن التعليم سامي. لنتحدث الآن على وجه الخصوص عن الإنسان الداخلي. فإن العجلة كما تعرفون تستقر على الأرض بأساس بسيط للغاية، فهي تدور دومًا ولا تستقر. لا تقف إنما تلمس الأرض وتعبر. من يسرع إلى الأمور العلوية يحمل في نفسه كلمتك. القديس چيروم صَوْتُ رَعْدِكَ فِي الزَوْبَعَةِ. البُرُوقُ أَضَاءَتِ المَسْكُونَةَ. ارْتَعَدَتْ وَرَجَفَتِ الأَرْضُ [18]. يرى المؤرخ اليهودي يوسيفوس أنه ما أن دخل جيش فرعون بحر سوف حتى اندفعت المياه عليهم، وانهارت سيول أمطار من السماء، وحدثت بروق ورعود، وحلت الظلمة عليهم. صورة خطيرة أن يصير الموضع الذي للخلاص العجيب للمؤمنين هو بعينه موضع الدمار الرهيب للأشرار. تحمل هذه الصورة رمزًا لما يحدث في المعمودية، حيث تتهلل الطغمات السمائية بالمعمدين حديثًا لتمتعهم بالبنوة لله، وتترضض رؤوس إبليس التنين، ويفقد سلطانه عليهم. يرى القديس أغسطينوس أن صوت الرعد في الزوبعة يشير إلى صوت الوصية الإلهية التي ترعد في ضمير الإنسان، وأما البروق فهي تضيء كالبرق في أعماقنا. فِي الْبَحْرِ طَرِيقُكَ، وَسُبُلُكَ فِي الْمِيَاهِ الكَثِيرَةِ، وَآثَارُكَ لَمْ تُعْرَفْ [19]. قاد الله شعبه في وسط البحر وسط المياه على الجانبين وفي طريق لم تعبر عليه قدم إنسان من قبل. خلاص الله على الدوام فريد وفائق لا يقدر الفكر أن يحصره أو يدركه. يرى القديس أغسطينوس أن الأمم جميعًا تشبه البحر، مياهه مالحة ومرة، وعواصفه وتياراته لا تنقطع. طريق الله الذي في قدسه [13] هو في البحر، إذ نزل المسيا القدوس إلى العالم وبشرّ الأمم وصار طريقه وسط الشعوب، ومع هذا فإن اليهود لم يؤمنوا به، وكأنهم لم يعرفوا آثاره. يقولون إن المسيا لم يأتِ بعد، لأنهم لم يعرفوا أنه يمشي على البحر. * كما لا يستطيع المرء أن يرى أثرًا على المياه لإنسانٍ أو لمركبٍ ولأولئك الذين يسبحون فيها، هكذا لا يستطيع أن يفهم المرء الطرق الإلهية فائقة الوصف[32]. القديس كيرلس الكبير * من كان قادرًا أن يسير على البحر لو لم يكن خالق المسكونة؟ إنه بالحق تحدث عنه الروح القدس منذ زمن طويل خلال الطوباوي أيوب: "الباسط السماوات وحده، والماشي على أعالي البحار" (أي 9: 8). وتحدث عنه سليمان في شخص الحكمة: "سكنت في الأماكن العالية، وعرشه كان على عمود السحاب، وأسير في الجو السماوي وحدي، وأمشي على أمواج البحر" (سي 24: 4-5) بالمثل أعلن داود في مزموره: "في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة يا الله" (مز 77: 19 LXX)[33]. الأب خروماتوس هَدَيْتَ شَعْبَكَ كَالْغَنَمِ بِيَدِ مُوسَى وَهَارُونَ [20]. في رعاية الغنم - خاصة في الشرق - يتقدم الراعي الغنم، حتى تسير وراءه في طمأنينة من أي ذئب أو وحش مفترس. هو القائد الحقيقي الخفي، الذي لن يحرم الإنسان من التمتع بروح القيادة والرعاية، فقد وهب موسى وهارون أن يعملا وسط شعبه بقوته الخفية. يرى القديس أغسطينوس أن الرب الذي أرسل موسى وهارون لرعاية اليهود وشق لهم البحر ليسيروا على اليابسة وسط البحر لم يؤمنوا بعد أنه جاء وجعل طريقه وسط الأمم الشعوب الكثيرة. من وحي مزمور ٧٧ دخول في ضيق أم تمتع براحة السماء! * إذ تحل بي ضيقة شديدة للغاية، تُغلق كل الأبواب أمام وجهي. أحسب كأنه ليس من أحد في ضيقٍ مثلي، أحسبك بعيدًا عني، تصب غضبك عليّ. لكنني أعود فأذكر معاملاتك معي في الماضي، فأتساءل: هل إلى الدهر ترفضني؟ هل انتهت إلى الأبد رحمتك؟ هل انقطعت كلمات حبك ووعودك إلى دهر الدهور؟ هل نسيتني كل النسيان؟ * سمحتَ لي بالضيق لأتعلم الصراخ إليك. أصرخ إليك بكل كياني: لساني وفمي وحنجرتي لا يكفُّون عن التعبير عما في داخلي. أصرخ إليك بيدي حين تمارسان عملك الصالح. أصرخ إليك بعينيَّ حيث تتكلمان بلغة الدموع. أصرخ إليك بقلبي، فأنت وحدك تسمعه وتستجيب له! * تسبحك نفسي في وسط الضيق. لقد أبت أن تتعزى بأحدٍ سواك. وسط الضيق يضيق العالم كله في عيني، وينسحب قلبي إلى سماواتك ليلتقي بك، يا ملجأ البائسين! هناك أشترك في بهجة السبت السماوي. هناك أتمتع بوليمة علوية. هناك أتعرف على قداستك. أشتهي ألا أرجع بعد إلى العالم! مع الرسول بطرس أتوسل: "جيد يا رب أن نكون ههنا!" لن يكون للعالم بعد سلطان لإغرائي. ولا للخطية قدرة أن تنصب الشباك لي في طريقي! لأنك أنت أيها القدوس هو الطريق! * أراك يا ابن الله الوحيد يمين الآب كأنك قد تغيرت، مع أنك أنت هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد. صرت من أجلي بالحقيقة إنسانًا، لكنك تبقى واحدًا مساويًا مع أبيك! تجسُّدك رفعني إليك، فانعم بالشركة معك بروحك القدوس. واتحد مع الآب أبيك، واستقر في أحضانه! * أقف في عجبٍ أمام أعمالك الفائقة يا صانع العجائب. كنت قائدًا لشعبك لينعموا بالحياة المقدسة. وها قد أتيت إلينا الطريق والحق والحياة، صرتَ لنا برًا وفداءً وقداسةً! * عبرت بشعبك البحر الأحمر ونهر الأردن. رأتك المياه ففزعت، واللجج فارتعدت. الآن ارتعدت أمامك كل الشعوب وآمنت بك يا مخلص العالم. في القديم أعطت السحب صوتًا، والآن يسمع العالم أصوات السحب، أنبيائك! هوذا صوت الكرازة بإنجيلك يرعد في كل المسكونة! * إنجيلك فرَّح القلوب، وحوّل العالم من وادٍ للدموع إلى رحلة سماوية مبهجة. أعمالك حولت حياتنا إلى عربون السماء! لم يعد للضيق أن يحطم نفوسنا، إنما هو هبة رائعة خلالها نلتقي بك يا مخلص النفوس! |
||||
11 - 02 - 2014, 05:18 PM | رقم المشاركة : ( 80 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 78 - تفسير سفر المزامير قصة تاريخيةهذا هو المزمور السابع الذي يحمل اسم آساف؛ وهو المزمور الأول من المزامير التاريخية (78، 105؛ 106؛ 135). يُعتبر أطول مزمور بعد المزمور 119 LXX). المزمور 78 يحول التاريخ إلى عظة عملية. يحث على تعليم شريعة الله والكرازة بها، لكي نتمتع بالقدوس ساكنًا فينا، كما يقدم درسًا في تمتع المؤمنين بالبركات، وسقوط العصاة تحت التأديب. والمزمور 105 يحول التاريخ إلى تسبحة ودعوة للفرح. وفي المزمور 106 يشير التاريخ إلى جحود الإنسان. ويحث المزمور 107 على رفض العبادة الوثنية وتمجيد الله. غايته 1. إن كان المزمور 119 قد أسهب في الحديث عن عمل كلمة الله في حياة المؤمنين، فإن هذا المزمور قد أسهب في الكشف عن الالتزام بتقديس النفس مسكنًا لكلمة الله حتى لا تُنتزع منها الحضرة الإلهية، كما حُرمت شيلوه من تابوت العهد، ونُقل منها إلى مدينة صهيون. 2. حث الشعب على أن يكون أمينًا لله، مقدمًا له من أحداث التاريخ دروسًا نافعة. فقد سرد المرتل تاريخ الشعب منذ كان في مصر حتى مجيء داود ملكًا. تكشف هذه الأحداث عن سلسلة من إحسانات الله التي تكشف عن شخصه، يقابلها الشعب بالجحود والعصيان، الأمر الذي يستوجب سقوطه تحت التأديب ليغفر الله له، ويقدم له إحسانات جديدة. 3. يكشف المزمور عن طبيعة الإنسان الجاحدة عبر كل العصور وتحت كل الظروف، فقد ملكت الخطية بالموت. لكن الله مخلصه لا يتركه، فاختار داود ملكًا ورمزًا لابن داود المخلص، هذا الذي يملك بالبرّ؛ لذا يختم المزمور بالقول: "فرعاهم حسب كمال قلْبه، وبمهارة يديْه هداهُمْ". واضع المزمور 1. يرى البعض أن الكاتب كان معاصرًا لداود النبي أو بعد نياحته مباشرة، لأنه توقف في سرد الأحداث التاريخية عند عصر داود النبي، كما أشار إلى نقل تابوت العهد من شيلوه [60]، إلى مدينة صهيون حيث "بنى مثل مرتفعات مقدسة" [69]. 2. ظن بعض الدارسين، مثل [1] Clarke، أن هذا المزمور قد وُضع بعد انقسام المملكة، بعد رحبعام الذي من سبط أفرايم وقبل السبي البابلي، معتمدين في ذلك على توجيه اللوم إلى أفرايم [9-11] الذي تزعم حركة التمرد والانقسام. لكن يعلل البعض ذكر أفرايم هنا كرمز لكل الأسباط بكونه أكثر الأسباط عددًا وأعظمه قوة، ولأن تابوت العهد كان محفوظًا في شيلوه، في حدود ذلك السبط في أيام القضاة. المناسبة يربط البعض بين هذا المزمور ونقل الخيمة من شيلوه التي في أرض أفرايم إلى صهيون في أرض يهوذا. فيحثنا على الحياة الإيمانية العملية حتى لا نُحرم من الحضرة الإلهية كما حدث مع شيلوه، بل نتقبل حضرته فينا، كأننا صهيون الروحية. لا نقف عند الشكليات، فنقول بغير توبة مع شيوخ إسرائيل: "لماذا كسرنا الرب أمام الفلسطينيين اليوم؟! لنأخذ لأنفسنا من شيلوه تابوت عهد الرب، فيدخل التابوت في وسطنا، ويخلصنا من أيدي أعدائنا (1 صم 3:4). لذلك يقول رب الجنود: "أصلحوا طريقكم وأعمالكم، فأسكنكم في هذا الموضع؛ لا تتكلوا على كلام الكذب، قائلين: هيكل الرب، هيكل الرب، هيكل الرب هو" (إر 3:7-4). "لكن اذهبوا إلى موضعي الذي في شيلوه، الذي أسكنت فيه اسمي أولًا، وانظروا ما صنعت به من أجل شر شعبي إسرائيل" (إر 12:7). المزمور 78 والعهد الجديد * اقتبس السيد المسيح عدد 2 من المزمور (مت 35:13)، مقدمًا معنى جديدًا له خلال أسرار الكلمة. * في 1 يو 1:1-4 يقدم لنا القديس يوحنا ما ورد في عدد 3، مذكرًا إيانا بضرورة التلاقي مع الكلمة الإلهي الذي نتلامس معه، فيصنع في حياتنا عجائب. * في 1 كو8:10 يشير إلى عدد 18، حيث يؤكد أنه لا يليق بنا أن نجرب الرب. * اقتبس القديس بطرس عدد 37 عندما وبخ سيمون الساحر الذي أراد أن يقتني مواهب الروح بالمال (أع 21:8). * يظهر عدد 44 في رؤيا 4:16 كملاكٍ رابع يسكب جام الغضب الثالث على الأرض. بروح المزمور نلاحظ أن لحظات الغضب يتبعها إعلان السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤ 1:21)[2]. أقسام المزمور يقدم لنا هذا المزمور قصيدة تعليمية عن تهيئة القلب لسكنى كلمة الله، ليصير مقدسًا له، مركزًا على معاملات الله عبر التاريخ. 1. الاستماع إلى الكلمة عبر الأجيال 1 - 8. 2. اختبارات البرية 9 -32. 3. تذمر الإنسان وتأديبه 33-37. 4. الرحمة وسط السخط 38-41. 5. خلاص من فرعون 42-51. 6. الدخول إلى أرض الموعد 52-55. 7. تدهور في عصر القضاة 56-58. 8. رفضه شيلوه 59-64. 9. قيام مملكة داود 65-72. من وحي مز 78 العنوان "قصيدة لآساف": سبق لنا الحديث عن آساف رئيس المسبحين أو المغنين. ربما وضع داود النبي كلمات المزمور، وقام آساف كرئيس المغنيين بتلحينه، فنُسب إليه. 1. الاستماع إلى الكلمة عبر الأجيال يبدأ المرتل حديثه بدعوة إلى الاستماع لصوت الرب على فمه، قائلًا: اِصْغَ يَا شَعْبِي إِلَى شَرِيعَتِي. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ إِلَى كَلاَمِ فَمِي [1]. يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا هو الله، الذي يدعو الشعب شعبه، الشريعة شريعته. غير أن الكثير من الآباء والدارسين يرون أن المتحدث هنا هو المرتل نفسه. فبروح الحب يشعر ليس فقط الملوك (أو الرؤساء) والأنبياء والرسل أن شعب الله هو شعبهم، إنما كل مؤمنٍ يدعو المؤمنين "شعبي"، ناسبًا إياهم إليه، ونفسه إليهم. فمن حق الرأس أن تنسب كل عضو إليها، كما من حق كل عضو - مهما كان موضعه - أن يدعو بقية الأعضاء أعضاءه. لهذا حُسبت راعوث "مؤمنة" بقولها لحماتها نُعمى: "شعبك شعبي"، وفي حديث يفتاحمع رجال أفرايم، قال: "صاحب خصام شديد كنت أنا وشعبي مع بني عمون، وناديتكم فلم تخلصوني من يدهم" (قض 2:12). وحينما تحدث داود النبي عن اشتياقه نحو بناء بيت الرب قال: "اسمعوني يا إخوتي وشعبي" (1 أي 2:28). حسب المرتل شريعة الله شريعته، ينسبها إلى نفسه، بكونها رسالة شخصية مقدمة من الله للمؤمن، لهذا يقول الرسول: "إنجيلي" (رو 16:2؛ 25:16؛ 2 تي 8:2). إن كان الكاتب هو داود النبي، فإنه إذ يدعو شريعة الله "شريعتي" يعلن عن حبه الشديد للوصية الإلهية، يعتز بها وينسبها إلى نفسه. إنها ليست أمرًا مفروضًا عليه، بل هبة مقدمة من الله لتصير من خصوصياته التي يقتنيها لنفسه، ويعيشها بكامل إرادته. ولعله بقوله: "شريعتي" يؤكد أنه كنبي وملك يخضع للشريعة مثله مثل كل عضو في الجماعة المقدسة، أي أنه ليس فوق القانون الإلهي، بل خاضع له. يطلب من شعبه أن يميلوا بآذانهم، لا إلى بعض كلمات فمه، بل "إلى كلام فمي"، حاسبًا كل ما يصدر من فمه، إنما يطابق ناموس الرب. هكذا يتحول المؤمن بأفكاره وكلماته وأعماله إلى رسالة المسيح المكتوبة لا بحبرٍ بل بروح الله (2 كو 3:3). يمكن القول إن المتحدث هنا هو السيد المسيح ابن داود، فيوجه حديثه إلى شعبه الذي دعاه من الأمم، كما قيل في هوشع النبي: "سأدعو الذي ليس شعبي شعبي، والتي ليست محبوبة محبوبة" (رو 25:9). يقدم لشعبه شريعته وكلام فمه، يتحدث معهم فمًا لفمٍ. كان مسيحنا يتحدث مع الجماهير بأمثالٍ وألغازٍ (مت 3:13؛ مر 23:3)، مفسرًا إياها لتلاميذه على انفراد، قائلًا لهم: "لكم قد أُعطي أن تعرفوا أسرار ملكوت الله، وأما للباقين فبأمثال..." (لو 10:8). "أميلوا آذانكم إلى كلام فمي" [1]. جاء نفس هذا الفكر في عبارة إنجيلية: "من له أذنان للسمع فليسمع" (لو 8:8). * المخاطب هنا هو ربنا يسوع المسيح، لأنه أعطى الناموس. والمخاطبون هم الأمميون، ويدعوهم شعبه كما جاء في الأصحاح الثاني من نبوة زكريا النبي: "ترنمي وافرحي يا بنت صهيون، لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب. فيتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم، ويكونون لي شعبًا" (زك 2: 10- 11). وفي نبوة هوشع قال الله أدعو من ليس شعبي شعبي. الأب أنثيموس الأورشليمي هم علمونا رسالته - نحن أبناءهم - ونحن نعلمها لأبنائنا[3]. القديس جيروم * يحوي هذا المزمور أشياء قيل إنها تمت مع الشعب القديم، وتحمل نصيحة للشعب الجديد المتأخر كي يحذر من الجحود لبركات الله، ويحذر من غضبه، حتى يتقبلوا نعمته[4]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم أُذِيعُ أَلْغَازًا مُنْذُ الْقِدَمِ [2]. كلمة "مثل" في الأصل تعني "التحكم" أو "التسلط"، لأن الحديث بالأمثال له تأثيره وسلطانه على الفكر والنفس. أما الألغاز فتعني أن الحديث عميق للغاية وغامض، لا يدركه إلا من يحبه ويبحث فيه ويتلذذ به، كما قيل: "يسمعها الحكيم فيزداد علمًا، والفهيم يكتسب تدبيرًا، لفهم المثل واللغز أقوال الحكماء وغوامضهم" (أم 5:1-6). أما كلمة "أذيع" فتعني هنا "أفيض"، وكأن المرتل يمثل نهرًا يفيض بالأسرار الإلهية على النفوس التي تشتاق إلى المعرفة. يتحدث السيد المسيح بأمثال كما بألغاز أي بأسرارٍ إلهية فائقة وخفية، حتى من يطلبها يبحث فيها فيجد سؤل قلبه. يقولالقديس جيرومربما يسأل أحد: لماذا طبقَّ ما ورد عنها على شخص السيد المسيح؟ فيجيب بأنه يجب علينا كمسيحيين أن نصدق الإنجيليين، لأنهم طبقوه عليه. * "سأنطق بأسرارٍ منذ القدم"، لأن كلمة "أسرار" في النص العبري هي "الغاز". كل شيء قيل في لغزٍ، فلم يكذب في الكلمات نفسها بل (لم يفهموا) معانيها[6]. * ها أنتم ترون أن متى الإنجيلي قبل هذا العدد باسم المسيح (مت 34:13-35). عندما قدم الرب أنه يتكلم بأمثال تفوق إدراك الشعب، يقول إن هذا حدث ليتم الكتاب: "سأفتح بمثالٍ فمي، انطق بمكتوماتٍ منذ تأسيس العالم"[7]. القديس جيروم القديس إكليمنضس السكندري القديس أغسطينوس وَآبَاؤُنَا أَخْبَرُونَا [3]. لا يقدم المرتل أوهامًا ولا اختراعات بشرية، إنما خبرة حياة عاشها هو وآباؤه من قبله كحياةٍ معاشةٍ مُسلمة خلال التاريخ والتقليد الحيّ. أعمال الله العجيبة التي اخبرنا بها آباؤنا هي الخليقة التي أبدعها الله لأجلنا. هذا عن الأمور الملموسة، لكن ما يهتم به هنا المرتل -في رأي القديس أغسطينوس- أن ما حدثنا عنه آباؤنا في العهد القديم قد تحقق في العهد الجديد. تحققت الوعود الإلهية. بمجيء السيد المسيح المخلص. * البداية (منذ القدم) هو العهد القديم، والنهاية هي العهد الجديد. يسود الخوف في الناموس (مز 111: 10). وغاية (نهاية) الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن (مز 10: 4). هذا الذي يهب المحبة المنسكبة في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا (رو 5: 5). القديس أغسطينوس مُخْبِرِينَ بِتَسَابِيحِ الرَّبِّ وَقُوَّتِهِ وَعَجَائِبِهِ الَّتِي صَنَعَ [4]. ماذا قدم المرتل لشعبه؟ إنهم يخبرون بتسابيح الرب وقوته وعجائبه. غالبًا ما ينشغل الإنسان بالعجائب التي يُبهر بها، ثم بقوة الرب، وأخيرًا بتسابيحه، لكن المرتل يضع التسابيح أولًا ثم قوة الرب، فعجائبه. فإن أهم ما يقدمه المؤمنون لأبنائهم هو روح التسبيح والفرح، لتنعم الأجيال الجديدة بخبرة الحياة السماوية المتهللة، عندئذ تدرك قوة الله، وتؤمن بعجائبه الفائقة. يرى المرتل أن أول ما يقدمه الشعب للأجيال المقبلة هو التسبيح والفرح بالرب. هذا هو التسليم الكنسي الحيّ، إذ ينقل الجيل الحاضر أيقونة السماء لجيل المقبل. لا يقف الأمر عند الحديث عن أعمال الرب خاصة التي تمس خلاص البشرية، وإنما أن يتمتع الجيل الجديد بعربون السماء والشركة مع السمائيين في تسابيحهم. ما قدمه آباؤنا لنا كتقليدٍ حيَّ، أي كإيمانٍ مترجم في أفكارنا ومشاعرنا وكلماتنا وأعمالنا يلزم تسليمه لأولادنا بذات الروح الحيَّ. هذه هي شهادتنا للأجيال، لا بوجود خيمة الشهادة في وسطنا، حيث نقلها داود إلى مدينته، بل بإعلان سكنى الله في قلوبنا وحلوله وسط شعبه. هذا هو التقليد الذي نسلمه. * إن آباءنا - حسب ما أمرهم الرب الإله - لم يخفوا شيئًا عن أولادهم الذين أتوا بعدهم بجيلٍ آخر، لكنهم أخبروهم بجميع ما صنع الرب مما يوجب له السبح والحمد دائمًا. أنثيموس أسقف أورشليم القديس يوحنا الذهبي الفم وَوَضَعَ شَرِيعَته فِي إِسْرَائِيلَ، الَّتِي أَوْصَى آبَاءَنَا أَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ [5]. هذا هو عمل كنيسة الله (يعقوب الجديد أو إسرائيل)، ألا وهو الشهادة للحق الإلهي، شهادة أمام العالم لخلاصه، شهادة عبر الأجيال. يقول أنثيموس أسقف أورشليم إن الله قدم شريعته والخيمة وتابوت العهد كشهادة ليحفظوا ميثاقه، لكن إذ كسروا العهد، قدم جسد ابنه الوحيد ودمه شهادة حية في كنيسته. المؤمن الحقيقي يشبه شمعة تشهد للنور الإلهي بالنور المتقد فيها حتى النهاية، لكنها لكي تحتفظ به، يليق بها أن تشعل شموعًا حولها، وهكذا يبقى النور الإلهي عاملًا في شموعٍ كثيرة، فلا ينطفئ قط. من يحتفظ بالنور دون تسليمه لشمعة أخرى ينتهي حتمًا ويفقد النور. خلال الإيمان الحي والميلاد الروحي والإفخارستيا صار لنا شهادة حيَّة عن عمل الله المملوء حبًا نحو البشرية كلها، أما غاية هذه الشهادة فهي بعث روح الرجاء فيهم، فيعتمدون على الله مخلصهم، لا على الأذرع البشرية. يقول القديس أغسطينوس إن المرتل كعادته يكرر. هنا يعلن أن الله أقام شريعته في يعقوب، ثم يكرر بأنها "في إسرائيل. استخدم "يعقوب" أولًا الذي تعقب أخاه عيسو واحتل مكانه (كبكرٍ)، واستخدم "إسرائيل"، لأنه تمتع برؤية الله. وكأنه يليق بنا كإسرائيل الجديد أن نجاهد مع يعقوب لننعم بالعضوية في كنيسة الأبكار، وإن نصير بالحق إسرائيل الجديد نتمتع برؤية الله. هذا هو هدف شريعة الله: العضوية الكنسية السماوية ورؤية الله. يقول أيضًا إن الله أقام شهادة العهد القديم (النبوات والرموز) مغطاة، ولم يقدمها مكشوفة بدون حجاب، لكن إذ نعبر إلى المسيح يُرفع الحجاب كقول الرسول (2 كو 3: 16). فإن مواعيد الله فيها الآمين (2 كو 1: 20). * من يلتصق بالمسيح له كل الخيرات حتى التي لا يدركها خلال حرف الناموس، أما من يتغرب عن المسيح فلا يدرك كما لا ينعم بالشريعة التي في إسرائيل؟ القديس أغسطينوس بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ، وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءَهُمْ [6]. هذه هي رسالة المؤمنين أن يسلم كل جيل الجيل الجديد كلمات الحب الإلهي ووعوده وأعماله. وكما قال الرب لأبينا إبراهيم: "لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب" (تك 18: 19). كما قيل "روحي الذي عليك، وكلامي الذي وضعته في فمك، لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك، ولا من فم نسل نسلك، قال الرب من الآن وإلى الأبد" (إش 59: 21). هذا هو التسليم أو التقليد الحي الذي تلتزم به كنيسة المسيح، وكل أسرة، كما كل مؤمن حقيقيٍ. يتطلع رئيس الأساقفة القديس يوحنا الذهبي الفم إلى دور الآباء في تربية أطفالهم أنه عمل مقدس، يمارسه الآباء ليقدموا لله ذبائح شكر موضع سروره وبهجته. يؤكد أنه لا يطلب أن يمارس كل طفلٍ الحياة الرهبانية أو أن يُعد لها، إنما يعلم الآباء أبناءهم أن "يكونوا وقورين من شبابهم المبكر. * هذا الالتزام يخص الآباء كما الأمهات أيضًا. يوجد آباء يضحون بكل شيء لكي يؤَّمنون لأطفالهم معلمين للتمتع بالملذات ويجعلون منهم ورثة أغنياء. أما أن يصير الأولاد مسيحيين ويمارسون التقوى، فلا يبالون كثيرًا بهذا. يا للعمى الذي يُحسب جريمة! إنه إهمال سخيف مسئول عن الارتباك الذي يجعل المجتمع في مرارةٍ. لنفترض أنك تُعد لهم ممتلكات عظيمة. فإنهم إن كانوا يجهلون كيف يسلكون في حياتهم، فحتمًا لن تدوم هذه الممتلكات معهم. إنها ستتبدد، وتهلك مع أصحابها، ويصير ميراثًا غاية في الخطورة![10] القديس يوحنا الذهبي الفم فَيَجْعَلُونَ عَلَى اللّهِ اعْتِمَادَهُم، وَلاَ يَنْسُونَ أَعْمَالَ اللهِ، بَلْ يَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ [7]. إنه ليس تسليمًا شكليًا، ولا يصدر عن تعصبٍ، وإنما غايته أن يمتلئ الجيل الجديد بروح الرجاء في الرب، ويثقون فيه، ولا ينسون معاملاته مع آبائهم، ويحفظون وصاياه. بهذا يصير الإيمان خبرة عملية مع الله تعيشها الأجيال لحساب مجد الله، وانتشار ملكوته. وَلاَ يَكُونُونَ مِثْلَ آبَائِهِمْ جِيلًا زَائِغًا وَمَارِدًا، جِيلًا لَمْ يُثَبِّتْ قَلْبَهُ، وَلَمْ تَكُنْ رُوحُهُ أَمِينَةً لله [8]. يشتاق المرتل أن يرى في العهد الجديد أولئك الذين يدركون ما وراء النبوات والأمثال والألغاز، فيتمتعون بما لم يتمتع به جيل العهد القديم، وذلك بعمل السيد المسيح الخلاصي، وعمل الروح القدس وقيادته لهم. غاية الشهادة هي الرجاء في الرب بكل القلب في أمانةٍ وطاعةٍ دون عصيان أو تذمر، متذكرين أعمال الله، وحافظين وصاياه. بهذا لا يفعلون ما فعله الشعب في البرية حيث ارتكبوا أربع خطايا رئيسية: * كان جيلًا زائغًا، أي مرتدًا عن الإيمان (حيث عبدوا العجل الذهبي)، انحرفوا عن إيمان أبيهم إبراهيم الذي دخل مع الله في عهدٍ. * كان جيلًا مَارِدًا، أي متذمرًا. * لم يثبت قلبه، إذ يحمل روح الخيانة، ففكروا في قتل موسى وهرون، لذا عجز عن أن يطلب الله. * لم تكن روحه أمينة لله، إذ كانوا يسلكون برياءٍ، فكانوا كمن هم في مهب الريح أو من تقصفه العواصف، وتحركه الأمواج بلا هدف. يرى القديس جيروم أن الجيل الذي خرج من مصر حمل أربع سمات وهي: ضياع الهدف، والتجديف على الخالق، والمقاومة أو التمرد، ثم رفض عمل الله، إذ لم يتقبل عمل روح الله فيه. * لماذا يقول النبي "زائغًا"؟ لأن ذاك الجيل صار قوسًا يصوب هدفًا باطلًا، لأن القوس لا يُصوب قط ضد من يضرب السهم، بل ضد الأعداء. فمع أن هذا الجيل قد خلقه الله صالحًا، وأمسك به في يده كقوسٍ يضرب أسهمه، لكنه أُسيء توجيهه مثل قوسٍ غادرٍ (مز 57:78)، إذ يجدف على خالقه. "جيل لم يثبت قلبه"، فإلى هذا اليوم إسرائيل مقاوم. "لم تكن روحه أمينة لله"، لأن إسرائيل لم يقبل هذا الابن؛ إسرائيل لم يقبل الروح القدس[11]. القديس جيروم * الرب غير مقتنع بالإيمان الداخلي وحده، إنما يسألنا الاعتراف الظاهر، حاثًا إيَّانا علي الثقة والحب العظيم. ولما كان هذا نافعًا للجميع قال: "كل من اعترف بي..."[13] * من يؤمن يحتمل الكثير، فإن إيمان الإنسان يظهر خلال أعماله. لهذا بحق يُقال أن الإيمان ليس أمرًا مجردًا، وإنما يعلن خلال أعمالكم وثباتكم وغيرتكم[14]. * مادامت عطيّة الله تفوق الإدراك تمامًا فمن المنطق أننا نحتاج إلى الإيمان... عدم الإيمان هوّة سحيقة، أمّا الإيمان فحصن حصين... إننا نستضيف برقةٍ أم كل البركات، وهو الإيمان، لكي نكون كمن هم يسيرون في ميناء هادئ مستقر تمامًا، محافظين على إيماننا الأرثوذكسي، فنقود سفينتنا باستقامة، ونحظى بالبركات بالنعمة ومحبة البشر التي لربنا يسوع المسيح[15]. * الإيمان سراج، وكما ينير السراج البيت هكذا ينير الإيمان النفس.. الإيمان هو نور النفس، طريق الحياة، أساس الخلاص الأبدي[16]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس 2. اختبارات البرية بَنُو أَفْرَايِمَ النَّازِعُونَ فِي الْقَوْسِ، الرَّامُونَ انْقَلَبُوا فِي يَوْمِ الْحَرْبِ [9]. إذ دعاهم المرتل للاستماع، قدم لهم خبرات آبائهم عبر التاريخ، فبدأ بمعاملات الله معهم خلال البرية، في طريق جهادهم بعد الخروج من مصر، منطلقين نحو أرض الموعد. تحدث عن موقف أفرايم المتسم بكثرة العدد مع القوة، كيف انهزم في الحرب لعدم حفظه عهد الله، وعدم سلوكه في الوصية الإلهية مع نسيانه عمل الله وعجائبه. يرى القديس أثناسيوسأن النبي يقصد بأفرايم كل الإسرائيليين، وهكذا يرى أغلب الشرَّاح. ربما يشير هنا إلى الهزيمة التي لحقت بهم في أيام عالي الكاهن (1 صم 10:4-11). * كان بنو أفرايم أشد قوة من غيرهم وكانت حذاقتهم وشهامتهم في الحروب زائدة. لكنهم لعدم شكرهم لله الذي قواهم ودبرَّهم ارتخوا وانهزموا في يوم الحرب. هؤلاء قبل غيرهم سباهم أهل بابل (أشور) من بلاد السامرة. لأنه قد كثر فيهم من يعبد الأصنام، وصاروا سبب هلاك وكفر للإسرائيليين. الأب أنثيموس الأورشليمي * إذ كانوا يسعون في أثر ناموس البرّ لم يدركوا ناموس البرّ (رو 9: 31). لماذا؟ لأنهم لم يكونوا في الإيمان. لأنهم كانوا جيلًا روحه لا يثق في الله. إنما يمكن القول إنهم كانوا جيل أعمال (الناموس). فإنهم إذ انحنوا وصوَّبوا القسي التي هي الأعمال الخارجية، كأعمال الناموس، لم يقودوا قلوبهم أيضًا، الأمر الذي يحياه البار بالإيمان العامل بالمحبة. الذي به يلتصق البشر بالله لكي يريدوا ويعملوا حسب المسرة (رو 1: 17؛ غل 5: 6؛ في 2: 13). القديس أغسطينوس نظم بنو أفرايم درجات من رجال القوس... لكنهم انهزموا في يوم المعركة. إنهم لا يعرفون ذاك القائل: "سلامًا أترك لكم، سلامي أنا أعطيكم” (يو 27:14)، بل لا يعرفون كيف يتكلمون ببلاغةٍ. ينطقون بالكلمات بإسهاب، لكن فليحذروا من هذه الكلمات: "شتت الشعوب الذين يسرون بالقتال" (مز31:67)[18]. القديس جيروم وَأَبُوا السُّلُوكَ فِي شَرِيعَتِه [10]. أخرجهم الرب من أرض العبودية ليقيم معهم عهدًا، ويدخل بهم إلى أرض الموعد، كرمزٍ للدخول إلى كنعان السماوية، لكنهم كسروا العهد، وعجزوا عن تقديم شهادة حية عنه. بالرغم من تعهدهم: "كل ما تكلم به الرب نفعل". استسلموا للعبادة الوثنية ورجاساتها، وتمردوا على شريعة الرب، وعصوا وصيته. شهد الأنبياء أنفسهم كيف عاش إسرائيل عبر التاريخ كاسرًا للعهد الإلهي. يرى القديس أغسطينوسأن قول المرتل: "انقلبوا في الحرب" [9] قد فُسر هنا بالقول: "لم يحفظوا عهد الله، وأبوا السلوك في شريعته" [10]. انقلابهم في الحرب الروحية هو عصيانهم للرب وعدم حفظهم للعهد المبرم معه. من يثق في الله يحفظ العهد بأمانة. الله مستقيم ومن يلتصق به يسلك باستقامة، ويكون قلبه مستقيمًا، أما من يعصاه فيسلك بالتواء وانحراف. وَنَسُوا أَفْعَالَهُ وَعَجَائِبَهُ الَّتِي أَرَاهُمْ [11]. أساس النكث بالعهد وعصيان الوصية الإلهية هو نسيان إحسانات الله وعجائبه معهم ومع آبائهم. لذلك كثيرًا ما يحذرنا الكتاب من النسيان. "إنما احترز وأحفظ نفسك جدًا لئلا تنسى الأمور التي أبصرت عيناك ولئلا تزول من قلبك كل أيام حياتك وعلمها أولادك وأولاد أولادك" (تث 4: 9). "فاحترز لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية" (تث 6: 12). "احترز من إن تنسى الرب إلهك ولا تحفظ وصاياه وأحكامه وفرائضه التي انأ أوصيك بها اليوم" (تث 8: 11). "يرتفع قلبك وتنسى الرب إلهك الذي أخرجك من ارض مصر من بيت العبودية" (تث 8: 14). "فمتى أراحك الرب إلهك من جميع أعدائك حولك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا لكي تمتلكها تمحو ذكر عماليق من تحت السماء، لا تنسى" (تث 25: 19). "هل تنسى عذراء زينتها أو عروس مناطقها؟ أما شعبي فقد نسيني أيامًا بلا عدد" (إر 2: 32). * ينسى الهراطقة أباهم وأعماله العجيبة في أرض مصر، في ظلمة هذا العالم، قد نسوا كيف بخلاصه وُلدوا من جديد في الكنيسة. وبعد ولادتهم الجديدة لم تشبعهم الكنيسة[19].القديس جيروم يرى البعض أن صوعن كانت مدينة رئيسية في مصر، أقام فيها فرعون بلاطه الملكي. تعددت أسماؤها في عصور مختلفة. أشهر أسمائها أطلقه عليها الإغريق "تانيس". تقع على الفرع الشرقي للنيل في الدلتا، تبعد حوالي ثمانية عشر ميلًا جنوب شرقي دمياط. لا تزال أثارها في قرية صا الحجر. دعا المرتل موسى وهرون وشيوخ إسرائيل "آباءهم". لقد صنع الله أعجوبة في تانيس عاصمة مصر، حين أخرج شعبه بيدٍ قويةٍ وذراعٍ رفيعة. هذه الأعجوبة كانت رمزًا لعملٍ أعظم ألا وهو نزول كلمة الله ليهبنا البنوة للآب، فنجد لنا أبًا سماويًا، خلال هذه البنوة نعبر إلى السماء عينها. يقول السيد: "لا تدعوا لكم أبًا على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات" (مت 23: 9). خلال هذه الأبوة السماوية، نسمع أيضًا رسوله يقول: "لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل" (ذ كو 4: 14). هذه البنوة الروحية في الرب تحمل سمة سماوية، وتمس خلاص المؤمنين خلال المسيح مخلص العالم! إنها ليست بديلًا عن البنوة للآب، ولا عائقًا عن التمتع بها، لكنها ثمرة روحية لها. شَقَّ الْبَحْرَ فَعَبَّرَهُمْ، وَنَصَبَ الْمِيَاهَ كَنَدٍّ [13]. تراجعت مياه البحر الأحمر ومياه الأردن وانفتح للإسرائيليين طريق يابس وسط البحر والنهر، بينما وقفت المياه أشبه بكومةٍ جامدةٍ مثل جبلٍ. قيل: "بريح أنفك تراكمت المياه؛ انتصبت المجاري كرابية. تجمدت اللجج في قلب البحر" (خر 15: 8). كما قيل: "إن مياه الأردن، المياه المنحدرة من فوق تنفلق وتقف ندًا واحدًا" (يش 3: 13). سار الرب على البحر، وهدَّأ الأمواج وعبَّرنا. إلى هذا اليوم أيها المؤمن الأمين عندما تُقاد من مصر يُشق البحر وتعبر. يرى القديس أغسطينوس أن الله أوقف المياه وأغلق عليها إشارة إلى وقف الشهوات الجسدية وإبطال عملها الفاسد في حياتنا، حتى يعبر المؤمنون في سلام خلال المعمودية. * بذراعه الإلهية الرفيعة شق البحر وصنع أسورًا بلورية من كل جانب حتى لا تنزل قطرة ماء عليهم حتى يعبروا[20]. القديس جيروم وَاللَّيْلَ كُلَّهُ بِنُورِ نَارٍ [14]. يرى البعض أن الله كان يظهر كعمود في وسط السحاب يرتفع نحو السماء علامة حضوره في وسطهم، واهتمامه ورعايته لهم. كما كان كعمود نور بالليل. يبدو أن هذا العمود الذي انتقل بالليل إلى ورائهم ليحجز بينهم وبين عسكر المصريين، كان ينير للإسرائيليين بينما حلت الظلمة بالعسكر (خر 14: 19- 20). يسلك المؤمن في هذا العالم كما قي نهارٍ منيرٍ بعمل شمس البرّ في حياته، هذا الذي يظلله كسحابةٍ، فلا تحرقه التجارب، ويأتي يوم الرب العظيم ليُعلَن بهاؤه ولا يحترق مع الأشرار. يا له من قولٍ رائعٍ "نهارًا"، لأن السحابة لم تكن قط في ظلمة، بل كانت نورًا. هكذا كان الله بالنسبة لشعبه سحابة في النهار تحميهم من ضربات شمس التجارب، لكنها لا تدخل بهم إلى الظلمة، ونور نارٍ بالليل يكشف لهم الطريق ويقودهم إلى نوره الأبدي، ويكون سور نارٍ يحميهم (زك 5:2) من سهام العدو النارية. * الرب راكب على سحابة خفيفة في طريقه إلى مصر (إش 1:19). يلزمنا أن نفكر في هذه السحابة الخفيفة التي تناسب جسد المخلص، لأن جسده كان خفيفًا، لم يتثقل بأية خطية، أو بالتأكيد القديسة مريم التي حملت طفلًا بغير زرع بشرٍ. هوذا الرب يدخل مصر هذا العالم على سحابة خفيفة، أي البتول[21]. * هوذا الرب يدخل مصر هذا العالم على سحابةٍ خفيفةٍ، العذراء. "هداهم بالسحاب نهارًا" (مز 78: 14). في إبداع قال "نهارًا"، لأن السحابة لم تكن قط مظلمة، بل دومًا منيرة. "والليل كله بنور نارٍ" (مز 78: 14). بالنسبة لك الظلمة ذاتها ليست مظلمة، والليل يشرق كالنهار (مز 139: 12). "الليل كله بنور نارٍ". الرب إلهنا نار آكلة... لم يقل المرتل ما إذا كانت النار آكلة، تاركًا ذلك لذكائنا[22]. * الرب إلهكم نار آكلة (تث 24:4؛ عب 29:12)... الذين يبنون خشبًا وقشًا وعشبًا على أساس المسيح (1 كو 12:3) يكون الرب بالنسبة لهم نارًا آكله. للنار طبيعة مزدوجة: تعطى نورًا وتحرق. إن كنا خطاة تحرق، إن كنا أبرارًا تضيء لنا[23]. القديس جيروم وَسَقَاهُمْ كَأَنَّهُ مِنْ لُجَجٍ عَظِيمَةٍ [15]. هنا لم يقل "الصخرة" بكونها رمز السيد المسيح، بل "صخورًا"، لعله يعني بها المؤمنين الذين كانت قلوبهم قبلًا قد تحجرت وجفت، تفجرت فيها ينابيع حياة خلال الصليب، لا لترتوي فقط، وإنما لكي تفيض على الآخرين. أَخْرَجَ مَجَارِيَ مِنْ صَخْرَةٍ، وَأَجْرَى مِيَاهًا كَالأَنْهَارِ [16]. قيل بإشعياء النبي: "أفتح على الهضاب أنهارًا، وفي وسط البقاع ينابيع. أجعل القفر أجمة ماء، والأرض اليابسة مفاجر مياه" (إش 41: 18). "أجعل في البرية طريقًا، في القفر أنهارًا" (إش 43: 19) بالسيد المسيح الصخرة التي ضربت بالصليب، تمتعنا بمجاري روح الله القدوس واهب الحياة. * ضُربت الصخرة في البرية من أجلنا. ضُربت الصخرة وتفجر ماء، تلك الصخرة التي تقول: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب" (يو 37:7-38). وفي داخله تجري أنهار... في البرية حيث لا يوجد ماء فاض لنا ماء بغزارةٍ[24]. القديس جيروم لِعِصْيَانِ الْعَلِيِّ فِي الأَرْضِ النَّاشِفَةِ [17]. يشير هنا إلى ما حدث في رفيديم، حيث لم يكن ماء ليشرب الشعب. "فخاصم الشعب موسى، وقالوا: أعطونا ماء لنشرب. فقال لهم موسى: لماذا تخاصمونني؟ لماذا تجربون الرب؟" (خر 17: 2) كلمة "عادوا" تشير إلى تكرار العصيان. والعجيب أنه قدر ما اهتم الله بهم، وقدم لهم فوق احتياجاتهم، صانعًا عجائب أذهلت الأمم المحيطة بهم إلى أجيال طويلة، كانوا يخطئون إليه ويعصونه. لقد دخل بهم إلى "الأرض الناشفة"، أي إلى البرية، حيث لا توجد أية إمكانيات للحياة في ذلك الحين، فيلجأوا إليه. لم يتركهم معتازين شيئًا، وبقدر ما أفاض عليهم من العطايا، أفاضوا هم من قلوبهم شرورًا ومقاومة للحق. وهبهم الله مجاري مياه كالأنهار لكي ترتوي بطونهم العطشى، أما قلوبهم وأفكارهم فرفضت مياه الروح، وبقيت جافة كأرضٍ ناشفة بلا ثمر. وَجَرَّبُوا اللهَ فِي قُلُوبِهِمْ، بِسُؤَالِهِمْ طَعَامًا لِشَهْوَتِهِمْ [18]. شتان بين أن يطلب الإنسان طعامًا وهو جائع، وبين أن يقف كمن في تحدٍ مع الله، يود أن يقدم الله دليلًا على حضوره وقوته ورعايته. إنه يُسر أن نطلب منه حتى احتياجاتنا المادية، لكن دون أن نجربه في قلوبنا، أي أن نطلب الطعام لا لنتقوت ونتنفس ونعمل، وإنما لأجل إشباع اللذة والشهوة. قيل: "فعاد بنو إسرائيل أيضًا وبكوا وقالوا: من يُطعمنا لحمًا. قد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانًا والقثاء والبطيخ والكرات والبصل والثوم. والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن" (عد 11: 4- 6). ليس من حق الخليقة أن تجرب خالقها، لكن الله في حبه للإنسان قدم له الحرية، فأساء استخدامها. لقد جرَّب خالقه! * السؤال بإيمان شيء، والسؤال ليجرب (الله) شيء آخر... إنهم لم يطلبوا طعامًا لأنفسهم بإيمانٍ. لم يفعل يعقوب الرسول هكذا حين أمر بطلب طعام للعقل، إنما نصح أن يُطلب هذا بواسطة مؤمنين وليس لتجربة الله والافتراء عليه. "إن كان أحدكم تعوزه حكمة، فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير، فسيُعطى له، ولكن ليطلب بإيمان غير مرتاب البتة" (يع 1: 5-6). لم يكن لهذا الجيل هذا الإيمان ليوجه قلوبهم وأرواحهم التي لم تثق في الله. القديس أغسطينوس الأب أنثيموس الأورشليمي هَلْ يَقْدِرُ اللهُ أَنْ يُرَتِّبَ مَائِدَةً فِي الْبَرِّيَّةِ؟ [19] هُوَذَا ضَرَبَ الصَّخْرَةَ فَجَرَتِ الْمِيَاهُ وَفَاضَتِ الأَوْدِيَةُ. هَلْ يَقْدِرُ أَيْضًا أَنْ يُعْطِيَ خُبْزًا، أَوْ يُهَيِّئَ لَحْمًا لِشَعْبِهِ؟ [20] أعطاهم الله مياهًا بفيض، فصاروا يجربونه في قلوبهم إن كان يقدر أن يقدم لهم مائدة من اللحم عوض المن النازل من السماء. عوض أن يشكروه ويسبحوه على المن اليومي والصخرة التي كانت تتبعهم لتفيض عليهم ينبوع مياه جارية متجددة، جربوا الرب، فطلبوا لحمًا كشهوة للذة عوض المن النافع واللذيذ. إنه لم يتركهم جائعين، لكنهم طلبوا ما يشبع شهواتهم، وفي عدم إيمان، ظنوا أن الذي قدم لهم المن والماء لا يقدر أن يقدم لهم مائدة حسب رغباتهم الغبية. لقد أهانوا قدرة الله، وأساءوا إلى عنايته الإلهية. لم ينكروا ما يصنعه معهم من عجائب ترافقهم، لكن عدم الإيمان سيطر على قلوبهم وأفكارهم. لِذَلِكَ سَمِعَ الرَّبُّ فَغَضِبَ، وَاشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي يَعْقُوبَ، وَسَخَطٌ أَيْضًا صَعِدَ عَلَى إِسْرَائِيلَ [21]. "سمع الرب فغضب"، وكأن غضبه لا يقوم بلا سبب، إنما هو فاحص الخفيات وعارف ما يدور في القلوب والأخطار والكلى، له معرفة كاملة عن أخطائهم. كثيرًا ما تشير النار إلى الغضب الإلهي في العهدين: القديم والجديد. إذ قيل: "يمطر على الأشرار فخاخًا نارًا وكبريتًا" (مز 11: 6). وأيضًا: "كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا تُقطع وتُلقى في النار" (مت 3: 10). يبدو أن البعض قالوا أن أمر إخراج الماء من الصخرة سهل، لأن الماء في باطن الأرض، لكن من أين يأتي بالطعام ليُعد مائدة لشعبه الجائع. إذ طلبوا من الله طعامًا، ليس في إيمان بعمله ومحبته، وإنما في استخفافٍ به ولتجربته، التهبت فيهم نيران الغضب الإلهي، وحلّ عليهم سخطه كثمرة طبيعية لعملهم، وليس كراهية منه. فكما رأينا في كتاب "الحب الأخوي" أن الله ليس فيه انفعالات غضب أو سخط، إنما نطلق هذا على من يعتزل الله ويرفض حب الله، فيلقي نفسه بنفسه في فساد الخطية، ويُحسب كمن حلّ عليه الغضب. لأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، وَلَمْ يَتَّكِلُوا عَلَى خَلاَصِهِ [22]. خطية العالم العظمى في كل العصور هي عدم الإيمان بقدرة الله وصلاحه وعنايته. بدون إيمان لا يُمكن إرضاؤه أو التمتع بالمسرة بالله. من لا يؤمن لا يثق في الله، ولا يمكن أن يسره. إذ كان الله حالًا في وسطهم يرعاهم كأبٍ قديرٍ وحكيمٍ يهتم بأبنائه حسب كلمات قلوبهم هذه إهانة وتجديف موجه ضده، لهذا غضب واشتعلت نيران غضبه وسخطه لا للانتقام، وإنما لفقدانهم الإيمان وعدم تمتعهم بخلاصه المجاني. خطيتهم هي "عدم الإيمان"، مع أنه كان ملموسًا بأعمال حبه وعجائبه معهم، وعدم رجائهم (اتكالهم) في خلاصه. يقول القديس أغسطينوس: عندما سُئل المرتل لماذا حلت بهم نيران الغضب والسخط، كانت الإجابة: لعدم الإيمان والرجاء في الله! فَأَمَرَ السَّحَابَ مِنْ فَوْقُ، وَفَتَحَ مَصَارِيعَ السَّمَاوَاتِ [23]. إن كانوا قد أغلقوا على أنفسهم بعدم إيمانهم وفقدانهم الرجاء في الله، فإن الله من جانبه في طول أناته ومحبته أمر السحاب للعمل لحسابهم، وفتح مصاريع السماوات ليقدم لهم احتياجاتهم. يبقى الله أمينًا بالرغم من عدم أمانتنا. وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ مَنًّا لِلأَكْلِ، وَبُرَّ[25] السَّمَاءِ أَعْطَاهُمْ [24]. أَكَلَ الإِنْسَانُ خُبْزَ الْمَلاَئِكَةِ. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ زَادًا لِلشِّبَعِ [25]. يرى العلامة أوريجينوس أن المؤمن ينطلق في الطريق الملوكي وسط رحلة البرية - كما فعل موسى وشعبه - ساكنًا في خيامٍ مقدسة، لا يعرف الراحة الجسدية ولا التهاون، فينال منًا سماويًا أو خبز الملائكة كهبة للنفوس المؤمنة الحكيمة. * إن كنت قد أدركت أي سلام يجلبه طريق الحكمة، أية نعمة أو وداعة تنالها، فاطرح كل تهاونٍ وكسلٍ، وادخل هذا الطريق، ولا تتراجع أمام عزلة البرية (مز 78: 55)، فإنك إذ تمكث في هذه الخيام تحصل على المن السماوي، وتأكل خبز الملائكة[26]. ليتقدم البار إلى متاهات البرية المرعبة، فيجد طعامًا له من السماء[27]. العلامة أوريجينوس * يُقال عن المن: خبز السماء" "وخبز الملائكة"، لأنه نزل من فوق بواسطة ملائكة بخدمتهم كأمر الله. قال أثناسيوس الجليل: معنى قول النبي وهو أن الله لم يقت أجسادهم فقط بالطعام الحسن، بل وقات نفوسهم بطعامٍ روحي، كما قال الرسول إنهم أكلوا طعامًا روحيًا، وهذا يُدعى خبز الملائكة. الأب أنثيموس الأورشليمي * من هم الذين سقطوا في الصحراء أثناء ترحال شعب الله إلى أرض الموعد؟ (عب 3: 17) أليس هؤلاء الذين طلبوا أكل اللحم؟ (عد 11: 33). هؤلاء البشر لم يكتفوا بالمنِّ ولا بالماء الذي خرج من الصخرة، وكانوا بالأمس قد انتصروا على المصريين وعبروا البحر الأحمر. لكن بسبب أنهم اشتهوا اللحم المطبوخ في الأواني (خر 16: 3)، تقهقروا إلى الخلف، ولم يرَ أحد منهم أرض الموعد. هل لا تخاف من تكرار هذا النموذج؟ هل لا ترتعب من حقيقة أن الانسياق وراء الأكل ربما يحرمك من الخيرات المنتظرة؟ أستطيع أن أقول لك إنه ولا الحكيم دانيال النبي كان سيرى رؤى إن لم يكن قد تطهّر أولًا بالصوم. لا أخفي عليك أن الأكل الدسم ينبعث منه أدخنة تعتّم أنوار العقل التي تأتي من الروح القدس. يوجد غذاء ملائكي كما يقول النبي: "أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز 78: 25). غذاء الملائكة مختلف عن بقية الأطعمة، فهو ليس لحمًا ولا خمرًا ولا طعامًا يهتم به عبيد البطن[28]. القديس باسيليوس الكبير * إذ يتغذى الملائكة أيضًا على حكمة الله، ويتلقون القوة على إنجاز مهامهم عن طريق تأملهم في الحق والحكمة، نجد مكتوبًا في المزمور أن الملائكة تتناول هي أيضًا غذاءً، تشارك فيه رجال الله -العبرانيين- فيصبحون معهم بذلك (رفقاء مائدة). ففيما يختص بما ذكر في تلك الفقرة: "أكل الإنسان خبز الملائكة" (مز 25:78)، يجب أن لا يذهب ذهننا في ضحالة إلى درجة الظن أن الملائكة يشتركون ويتغذون إلى الأبد على نوعٍ بعينه من الزاد المادي، مثل ذلك الذي نزل - كما قيل - على أولئك الذين خرجوا من مصر (خر 15:16؛ مز 25:78). إنه الخبز نفسه الذي شارك فيه العبرانيون الملائكة "الأرواح الخادمة لله" (عب 14:1)[29].* كما اعتادت الشياطين الكامنة إلى جوار مذابح الأمم أن تقتات على روائح الذبائح المقدمة، كذلك الملائكة وقد اجتذبتهم دماء الضحايا التي قدمها بنو إسرائيل، كرموز روحية ودخان البخور، يسكنون بجانب المذابح يتغذون على ذلك النوع من الغذاء[30]. * إن كان يوجد البعض يأتون من مصر، ويتبعون عمود النار والسحاب، ويدخلون البرية، عندئذ ينزل إليهم من السماء، ويقدم لهم طعامًا صغيرًا ورقيقًا، يشبه طعام الملائكة، فقد قيل: "يأكل الإنسان خبز الملائكة" (مز 78: 25)[31]. العلامة أوريجينوس وَسَاقَ بِقُوَّتِهِ جَنُوبِيَّةً [26]. وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ لَحْمًا مِثْلَ التُّرَابِ وَكَرَمْلِ الْبَحْرِ، طُيُورًا ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ [27]. وَأَسْقَطَهَا فِي وَسَطِ مَحَلَّتِهِمْ حَوَالَيْ مَسَاكِنِهِمْ [28]. إن كان عدو الخير قد دُعي "رئيس سلطان الهواء"، فإن الله صاحب السلطان على الهواء والعواصف والأنواء. فقد حرك الرياح نحو الشرق والجنوب لتسوق الطيور في الاتجاه المطلوب، نحو المحلة. كثيرًا ما نصف الرياح أنها متقلبة، لكنها في يد ضابط الكل الذي تشغله رياح نفوسنا الداخلية. هو وحده قادر أن يوجهها لبنياننا، ويهدئها في الوقت المناسب. لم يمطر الله عليهم نارًا بسبب عدم إيمانهم، لكنه في طول أناته أمطر عليهم لحمًا، أرسل لهم طيور سلوى بلا عدد مثل التراب ورمل البحار. قدم لهم شهوة قلوبهم لعلهم يتوبون ويندمون على أفكار قلوبهم الجاحدة وغير المؤمنة. فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جِدًّا، وَأَتَاهُمْ بِشَهْوَتِهِمْ [29]. عوض الندامة أكلوا وشبعوا جدًا؛ أكلوا بشراهة حتى التخمة. رفضوا الأكل الصحي "المن"، وأكلوا بشراهة اللحم الذي كان لضررهم صحيًا. لم يقدم لهم الطيور ليأكلوا لحمًا حسب طلبهم، وإنما أيضًا أسقطها في وسط معسكرهم حول خيامهم حتى لا يتعبوا في جمعها. أطال الله أناته عليهم، وقدم لهم ما ظنوا أن الله عاجز عن تقديمه، ليس استعراضًا لقوته وقدرته، وإنما ليقدم لهم فرصة للتوبة وعدم العثرة فيه. أما هم فعوض التوبة "أكلوا وشبعوا جدًا، وأتاهم بشهوتهم". لم يكن الخطأ في الأكل ذاته، وإنما في الانشغال بالشهوة، وعدم مراجعتهم لأنفسهم، إذ استخفوا بالله، وفقدوا رجاءهم فيه. لَمْ يَزُوغُوا عَنْ شَهْوَتِهِمْ. طَعَامُهُمْ بَعْدُ فِي أَفْوَاهِهِمْ [30]. فَصَعِدَ عَلَيْهِمْ غَضَبُ اللهِ، وَقَتَلَ مِنْ أَسْمَنِهِمْ. وَصَرَعَ مُخْتَارِي إِسْرَائِيلَ [31]. بينما تنزل مراحم الله على المتواضعين، يصعد غضب الله على المتكبرين المتشامخين. لقد أمطر عليهم الطيور وأنزلها إليهم ليأكلوا، لكنهم إذ لم يشكروا شبعوا وتشامخوا، فصعد إليهم غضب الرب لجحودهم. * ماذا يُفهم من "أسمنهم"، إلا البشر القديرين في التشامخ، والذين قيل عنهم: "إثمهم يأتي كما من الشحم" (راجع مز 73: 7). القديس أغسطينوس فِي هَذَا كُلِّهِ أَخْطَأُوا بَعْدُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِعَجَائِبِهِ [32]. اشتهوا، والشهوة حبلت وولدت خطية النهم مع الجحود، وجاء الثمر موت جسدي وروحي. تحولت الوليمة إلى جنازة شبه جماعية، فقد مات السمان والمختارون، ربما لأنهم كانوا أكثر شراهة في الأكل، أو لأنهم تزعموا حركة التمرد والتذمر على الله. لم يقتلوا بحد السيف، إنما قتلهم نهمهم واشتعال شهواتهم الرديئة. لقد أخطأوا ولم يتعظوا، رأوا القتلى بالشهوات الرديئة مع هذا لم يرجعوا إلى إلههم صانع العجائب. 3. تذمر الإنسان وتأديبه فَأَفْنَى أَيَّامَهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَسِنِيهِمْ بِالرُّعْبِ [33]. لقد قضوا أربعين سنة في رحلتهم من مصر إلى كنعان، هذه الرحلة التي لم تكن تحتاج إلا إلى عدة أيام، فأفنى الله أيامهم بالباطل وسنيهم بالرعب. هذا هو ثمر عدم الإيمان والجحود والتذمر: حياة باطلة مملوءة فراغًا، بلا ثمر. أما إذا رجع الإنسان إلى إلهه بالتوبة، فيتمتع بالوعد الإلهي: "وأعوض لكم عن السنين التي أكلها الجراد الغوغاء والطيار والقمص، جيشي العظيم الذي أرسلته عليكم" (يوئيل 25:2). إذ رفضوا الإيمان، ففي عدم إيمانهم ارتبطوا بالباطل، الذي أفنى أيامهم كأنهم عاشوا بلا هدف. وكما أن عدم الإيمان حوَّل رحلتهم في البرية إلى تيه، فلم يستطيعوا البلوغ إلى أرض الموعد، هكذا دفع بهم إلى الرعب والموت [33]. تحولت البرية إلى مكانٍ رهيبٍ، ومقبرةٍ تضم أعدادًا بل حصر، بل تلقفت كل الجيل الخارج من مصر ماعدا يشوع بن نون وكالب بن يفنة. يقول الله "أفنى أيامهم بالباطل". إنه لا يشاء موتهم، لكنهم بكامل حرية اختيارهم سلكوا طريق عدم الإيمان، فصاروا باطلًا وفنيت حياتهم. إذ حلّ بهم التأديب، رأوا الموت يحصد السمان منهم والمختارين، تذكروا أن الله صخرتهم، فيه يحتمون، والعلي وليَّهم المهتم بهم، فجاءوا إليه كأتقياء من الخارج، أما قلوبهم فلم تثبت معه. سقطوا في خطايا الخداع والكذب والرياء. هذا هو قانون الطبيعة البشرية بعد فسادها، حين يقدم لها هبات مجانية بسخاءٍ تتذمر وتجحد، وحين يؤدب كمن يقتل، ترجع وتطلب الله وليَّها خوفًا من التأديب، وليس شوقًا إليه، تطلبه ليس بكل القلب، لذا يعاتبها: "وقد أذلت عظمة إسرائيل في وجهه، وهم لا يرجعون إلى الرب إلههم، ولا يطلبونه مع كل هذا" (هو 10:7). هذا ما يكشفه تاريخ إسرائيل الطويل مع الله. إنهم يدخلون معه في عهدٍ، لكنهم لا يهتمون بالحفاظ عليه، إنما يكسرونه بلا سبب. رجعوا إليه بعد التأديب، يعلنون توبتهم بالكلام لا العمل، فصاروا مخادعين وكذبة. * كل حياة الناس الهالكين مسرعة، وتلك التي تبدو طويلة ليست إلا بخارًا لن يدوم. القديس أغسطينوس وَرَجَعُوا وَبَكَّرُوا إِلَى اللهِ [34]. يعاتبهم الله في سفر إشعياء قائلًا: "حينما تأتون لتظهروا أمامي، من طلب هذا من أيديكم أن تدوسوا دُوري... فحين تبسطون أيديكم أستر عينيَّ عنكم، وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع" (إش 12:1، 15). إنه يطلب الرجوع من كل القلب، حتى يقبل عبادتهم رائحة بخور طيبة. * مع هذا "إذ قتلهم طلبوه"، لا لأجل الحياة الأبدية، وإنما خوفًا من أن ينتهي البخار سريعًا جدًا. لقد طلبه إذن الذين قتل منهم أناسًا، طلبوه ليس بالحق، وإنما خشية أن يُقتلوا مثل الذين قُتلوا (أمامهم). القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنثيموس الأورشليمي وَاللهَ الْعَلِيَّ وَلِيُّهُمْ [35]. فَخَادَعُوهُ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَكَذَبُوا عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ [36]. مع إدراكهم أن الله هو صخرتهم القادرة على حمايتهم، ووليهم القادر أن يعولهم رجعوا إليه بأفواههم لا بقلوبهم، لأنهم أحبوا العالم لا الله. رجعوا خشية فقدان الخيرات الزمنية أو السقوط تحت ضيقات في العالم، وليس حبًا في الله. * لننظر إلى هذا أن تأديبات الله لا تكون عبثًا ولا جزافًا، بل ينتج عنها الرجوع عن المعصية وتركها، وطلب الله، وتذكر إحساناته، ومعرفة قدرته، والتماس معونته، فعندما ضرب الله الإسرائيليين التزموا بالالتجاء إلى إليه متعبدين له كي ينقذهم. الأب أنثيموس الأورشليمي وَلَمْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي عَهْدِهِ [37]. * ما على ألسنتهم يختلف عما يوجد في قلوبهم، التي فيها أمور البشر عارية. يرى الله دون أي عائق ما تحبه قلوبهم. يكون القلب مستقيمًا مع الله عندما يُطلب الله من أجل الله. * لنحذر من الصلاة للمسيح بأفواهنا مع بقائنا صامتين بحياتنا. من الذي يصلي للمسيح؟ الشخص الذي يرفض الملذات العالمية. الشخص الذي يقول بسلوكه لا بالكلمات: "قد صُلب العالم بي، وأنا للعالم" (غل 14:6). الشخص الذي يعطي الفقير بسخاء (مز9:112)[33]. * على أي الأحوال لا تسأل ولا تطلب ولا تقرع بصوتك فقط، وإنما بحياتك أيضًا. مارس الأعمال التي بدونها لا تكون لك حياتك[34]. القديس أغسطينوس 4. الرحمة وسط السخط أمَّا هُوَ فَرؤوفٌ، يَغْفِرُ الإِثْمَ وَلاَ يُهْلِكُ، وَكَثِيرًا مَا رَدَّ غَضَبَهُ، وَلَمْ يُشْعِلْ كُلَّ سَخَطِهِ [38]. بالرغم من كذبهم وريائهم، لكنه إله رؤوف طويل الأناة، يشتهي خلاص البشرية لا هلاكها، لذلك كثيرًا ما يرد غضبه، مقدمًا فرصًا للتوبة. حقًا لولا مراحم الله علينا من يقدر أن يخلص؟ يرى الربيّون[35] أن العبارة 38 هي مركز السفر كله، إذ تأتي في المنتصف تمامًا، وهي تعلن عن عمل الله الخلاصي العظيم في التاريخ كمركز للصلاة والعبادة. كانت هذه العبارة التي تتحدث عن حنو الله الغافر للخطايا، والذي يرد غضبه عن الإنسان مع العبارتين التاليتين وتُردد عندما يؤدب إنسان بأربعين جلدة إلا واحدة: "إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس المكتوبة في هذا سفر لتهاب هذا الاسم الجليل المرهوب الرب إلهك؛ يجعل الرب ضرباتك وضربات نسلك عجيبة ضربات عظيمة راسخة وأمراضًا ردية ثابتة" (تث 58:28-59)[36]. جاءت العبارتان [38-39] تتحدثان عن توبة بلا معنى، تحمل خداعًا، فيُقال لهؤلاء الحاملين مظهر التوبة: "ماذا أصنع بك يا أفرايم؟! ماذا أصنع بك يا يهوذا؟! فإن إحسانكم كسحاب الصبح، وكالندى الماضي باكرًا" (هو 4:6). * يعاملهم الله لا بجحودهم بل برأفته، ولم يهلكهم حسب استحقاقهم. الأب أنثيموس الأورشليمي رِيحٌ تَذْهَبُ وَلاَ تَعُودُ [39]. في محبته الفائقة يذكر الله ضعف الإنسان، إنه كالريح يذهب ولا يعود، أشبه بنفخة، لذا يستحق إظهار الحب الإلهي والحنو عليه حتى يتقوى ويثبت. * ذكر أنهم جسديون، أي يميلون نحو إرادة الجسد. وأن روحهم بعد خروجها من الجسد لا تعود إلى هذا العالم، بمعنى أن روحهم تذهب إلى شهوات الجسد ولا ترجع بالتوبة. الأب أنثيموس الأورشليمي وَأَحْزَنُوهُ فِي الْقَفْرِ! [40] لقد خرج بهم إلى البرية ليعلن لهم عن رعايته الفائقة لهم، ولكي يجدوا أنه الملجأ الوحيد لهم، ومع ذلك تمردوا عليه مرارًا كثيرة، فحزن عليهم بسبب خطاياهم عوض التمتع بمسيرة الله معهم ليحول لهم البرية إلى فردوسٍ. جعلوا من البرية موضع حزن لله عليهم. رَجَعُوا وَجَرَّبُوا اللهَ، وَعَنُّوا قُدُّوسَ إِسْرَائِيلَ [41]. رجعوا بقلوبهم لا إلى الله، بل إلى قدور اللحم التي في مصر، إلى حياة العبودية، ولم يكفوا عن أن يجربوه، "وعنَّوا قدوس إسرائيل"، أي قاوموا قدرته الإلهية أو شكوا فيه. لهذا يعاتبهم قائلًا: "جربوني الآن عشر مرات، ولم يسمعوا لقولي" (عد 22:14). 5. خلاص من فرعون لكي نثبت في الإيمان ونمارس الحب، يلزمنا أن نمتلئ رجاءً في الرب، بتذكرنا معاملاته السابقة معنا، لذا يقول: لَمْ يَذْكُرُوا يَدَهُ يَوْمَ فَدَاهُمْ مِنَ الْعَدُوِّ [42]. مع أنه لم يكن من السهل نسيان أعماله، لكن الخطية أتلفت ذاكرتهم من جهة إحسانات الله وبركاته عليهم. وقد جاءت الوصية: إنما احترز واحفظ نفسك جدًا لئلا تنسى الأمور التي أبصرت عيناك، ولئلا تزول من قلبك كل أيام حياتك" (تث 9:4). لهذا يقول الرسول بولس الذي لم يفارق الصليب قلبه ولا ذاكرته: "أنتم الذين أمام عيونكم قد رُسم يسوع المسيح بينكم مصلوبًا" (غل 1:3). حَيْثُ جَعَلَ فِي مِصْرَ آيَاتِهِ، وَعَجَائِبَهُ فِي بِلاَدِ صُوعَنَ [43]. يذكرهم بالضربات التي حلت بفرعون وشعبه بسببهم داعيًا إياها آيات وعجائب. إذْ حَوَّلَ خُلْجَانَهُمْ إِلَى دَمٍ، وَمَجَارِيَهُمْ لِكَيْ لاَ يَشْرَبُوا [44]. تحول نهر النيل بقنواته (مجاريه) من عطية إلهية لحياة المصريينإلى دمٍ يعلن عن غضب الله، ويبث بين المصريين روح الرعب والهلاك. كان المصريون يعبدون نهر النيل كإله واهب الحياة، فصار مصدر نجاسة (الدم)، ومصدر موت! أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ بَعُوضًا فَأَكَلَهُمْ، وَضَفَادِعَ فَأَفْسَدَتْهُمْ [45]. هاجمتهم أسراب البعوض لتحول حياتهم إلى عذابٍ، لم تخف هذه الأسراب جيش فرعون ولا أسلحته، ولا ارتبكت أمام سلطانه وجلاله. عوض اصطياد السمك من نهر النيل فاض بالضفادع التي هاجمت كل موضع، تدخل إلى حجرات النوم كما إلى موائد الأكل. حتى الضفادع التي قتلوها إذ جُمعت في أكوامٍ أنتنت، وتفشى المرض بسببها. أَسْلَمَ لِلْجَرْدَمِ غَلَّتَهُمْ، وَتَعَبَهُمْ لِلْجَرَادِ [46]. هاجمت الحشرات نباتاتهم، وما فضل عن حشرة التهمته غيرها. هكذا ذهب تعبهم هباءً، صارت محصولاتهم مأكلًا للجراد وغيره من الحشرات. أَهْلَكَ بِالْبَرَدِ كُرُومَهُمْ، وَجُمَّيْزَهُمْ بِالصَّقِيعِ [47]. كانت الكروم شراب الأغنياء والجميز طعام الفقراء، وكأن هذه الضربة قد أصابت الأغنياء والفقراء معًا في أكلهم وشربهم. نزول البرد والصقيع ليس بظاهرة مألوفة في مصر، لكن الله يغير نواميس الطبيعة لتأديب الأشرار. وَدَفَعَ إِلَى الْبَرَدِ بَهَائِمَهُمْ، وَمَوَاشِيَهُمْ لِلْبُرُوقِ [48]. ماتت المواشي بسبب غضب الطبيعة على الإنسان في شره، التي هاجت لتصيب البهائم بالبرد والبروق. أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حُمُوَّ غَضَبِهِ سَخَطًا وَرِجْزًا وَضِيقًا، جَيْشَ مَلاَئِكَةٍ أَشْرَارٍ [49]. أرسل الله الملاك المهلك لقتل أبكار المصريين، إذ قتل فرعون ورجاله الأطفال الذكور للعبرانيين. * يرى النبي حزقيال (حز 1:10) رؤية: ملك العظمة جالسًا على عرشه العالي العظيم، وموضع العرش فوق النجوم، ويشبه عرش الأعلى مقامًا. لصانع الفخار سلطان على الطين، فيصنع من كتلة واحدة إناءً للاستعمال الرفيع، وآخر للاستعمال الوضيع. فماذا إذًا إن كان الله وقد شاء أن يُظهر غضبه ويعلن قدرته، قد احتمل بكل صبرٍ آنية غضب معدة للهلاك وذلك بقصد أن يعلن غنى مجده في آنية الرحمة التي سبق فأعدها للمجد (رو 21:9-23). وبالإضافة إلى ذلك، يرسل الله ملائكة إلى قديسيه، لتملأهم بالحياة الطيبة والسلام، بينما يرسل إلى العصاة القساة حميم غضبه، وسخطه وغيظه، ويطلق عليهم ملائكة الهلاك (مز 49:78). لا داعي أن نتكلم بإسهاب على كيف يقف الشيطان ضد الخير والسلام[37]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص * لن يوقع الله عقابه وجزاءه على بابل من خلال خدامه، بل هو بنفسه يؤدي لها جزاءها. أريد أن أضيف شيئًا على ذلك، وهو أن الله لا يعاقب الجميع بنفسه، لكنه أحيانًا يرسل وسطاء، سواء لتنفيذ العقاب، أو لمنح الشفاء من خلال الألم، كما نرى في المزامير: "أرسل عليهم حمو غضبه سخطًا ورجزًا وضيقًا" (عن طريق) جيش ملائكة أشرار" (مز 78: 49). بالنسبة لهؤلاء، لم يؤدِ لهم الله جزاءهم بنفسه، لكنه استعان بملائكة أشرار ليقوموا بتنفيذ مهمة العقاب. قد يستعين الرب كذلك بملائكة أطهار لمعاقبة بعض الناس. لكن يحدث في بعض الأحيان أن الرب يرفض الاستعانة بهؤلاء الوسطاء، ويوقع العقوبات بنفسه، كما هو الحال بالنسبة لبابل. عندما تكون الجروح طفيفة وقابلة للشفاء السريع، يكتفي الطبيب بإرسال تلميذه أو مساعده، وعن طريقه يعالج المريض. قد يحدث أحيانًا أن يكون المريض محتاجًا لبتر أحد أعضائه ولاستخدام المشرط، مع ذلك أيضًا لا يذهب إليه الطبيب بنفسه، بل يختار واحدًا من مساعديه قادرًا على القيام بهذا العمل، فيرسله ليعالج المريض. لكن حينما تكون الجروح غير قابلة للشفاء، يكون المرض قد انتشر في جميع أجزاء الجسم، بحيث يصل المريض إلى درجة كبيرة من الخطورة، هنا لا يتطلب الأمر يديّ التلميذ أو المساعد، إنما يحتاج إلى يدي المعلم نفسه، فيقوم الطبيب بالتصدي لهذا الجرح المميت بنفسه. بالمثل حينما تكون الخطايا صغيرة، لا يوقع الله على الخطاة عقابهم بنفسه، لكنه يستخدم الوسطاء، أما إذا كانت الخطية خطيرة جدًا كما هو الحال هنا بالنسبة لمدينة بابل، يسرع الرب بتوقيع الجزاء عليها بنفسه[38]. العلامة أوريجينوس لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْمَوْتِ أَنْفُسَهُمْ بَلْ دَفَعَ حَيَاتَهُمْ لِلْوَبَإِ [50]. * إن الملائكة الذين جلبوا موت أبكار المصريين دعاهم أشرارًا، ولكن ليس بمعنى أنهم أشرار طبعًا، بل لأنهم أتوا بغضب الله على الأشرار، كما أن يوم الدينونة دعاه هذا النبي ذاته يومًا شريرًا، لأنه يأتي بعقوبات الله على غير التائبين، لذلك ترجم سيماخوس هذه الكلمة: "ملائكة مؤذين". الأب أنثيموس الأورشليمي وَضَرَبَ كُلَّ بِكْرٍ فِي مِصْرَ. أَوَائِلَ الْقُدْرَةِ فِي خِيَامِ حَامٍ [51]. لقد حلّ الغضب بهم على درجات لعلهم يتوبون. حرمهم تارة من ماء الشرب، وأخرى أزعجهم بالضفادع، وثالثة ضرب مواشيهم ومحاصيلهم، وأخيرًا أخذ أبكارهم دون استثناء، فدخل الحزن إلى كل بيتٍ، من قصر فرعون إلى الأسير في داخل السجن. * يعامل الله الذين يؤدبهم بلطفٍ ورحمةٍ كثيرة، لأنه يبتدئ بالضربات عن ذنوبهم... لذلك أمات بهائم المصريين، ولما رآهم لم ينصلحوا ضرب أبكارهم. لو أنهم تابوا بالضربة الأولى لما ضربهم بالثانية. * بقوله: "في مساكن حام"، يخبر بأن مصر هي من قسم حام بن نوح، ونصيب له. الأب أنثيموس الأورشليمي 6. الدخول إلى أرض الموعد وَسَاقَ مِثْلَ الْغَنَمِ شَعْبَهُ، وَقَادَهُمْ مِثْلَ قَطِيعٍ فِي الْبَرِّيَّةِ [52]. إذ ضرب فرعون قاسي القلب وشعبه العنيف مستخدمًا كل وسيلة، النهر بمياهه التي تحولت إلى دم، الحشرات كالبعوض والجراد لإقلاق راحتهم، السماء بالبرود والبروق، الملائكة لإهلاك الأبكار الخ. الآن وقد أهلك الذئاب العنيفة قاد الذين كانوا تحت المذلة كغنم وقطيع تحت رعاية راعٍ صالحٍ سماويٍ يصطحب قطيعه ويقوده من أرض العبودية إلى أرضٍ تفيض لينًا وعسلًا. منذ البداية دخل بهم إلى قاع البحر، وأخرجهم يسَّبحون ويرتلون، حتى يطمئنوا أنهم محفوظون في وسط البرية، في أمان أكيد. وَهَدَاهُمْ آمِنِينَ فَلَمْ يَجْزَعُوا. أَمَّا أَعْدَاؤُهُمْ فَغَمَرَهُمُ الْبَحْرُ [53]. مفارقة عجيبة، الضعفاء صاروا في أمان متهللين بلا خوفٍ، وأصحاب السلطة والقوة يصارعون مع الموت في قاع البحر. وَأَدْخَلَهُمْ فِي تُخُومِ قُدْسِهِ، هَذَا الْجَبَلِ الَّذِي اقْتَنَتْهُ يَمِينُهُ [54]. قادهم إلى حدود الأرض المقدسة، إلى الموضع الذي يقيم فيه هيكله، ويجعل من جباله جبالًا مقدسة. إنها صورة رائعة لرعاية الله لنا ونحن في برية هذا العالم، حيث يدخل بنا إلى عربون السماويات، ونتمتع بالمقادس الإلهية. وَطَرَدَ الأُمَمَ مِنْ قُدَّامِهِمْ، وَقَسَمَهُمْ بِالْحَبْلِ مِيرَاثًا، وَأَسْكَنَ فِي خِيَامِهِمْ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ [55]. طرح الشعوب ليهبهم الأرض ميراثًا يقيمون فيها بيوتهم ويتمتعون بثمارها؛ هذا ما تحقق على يدي يشوع بن نون. * إن كنتَ قد أدركتَ أي سلام يجلبه طريق الحكمة، أيَّة نعمة أو وداعة تنالها، فاطرح كل تهاونٍ وكسلٍ، وادخل هذا الطريق، ولا تتراجع أمام عزلة البريَّة (مز 78: 55)، فإنك إذ تمكث في هذه الخيام تحصل على المنْ السماوي، وتأكل خبز الملائكة[39]. العلامة أوريجينوس 7. تدهور في عصر القضاة إذ استقر الشعب وورث، عوض أن يشكر ويسبح الله، سقطوا في العبادة الوثنية، وانحرفوا إلى الرجاسات، وذلك في عصر القضاة. فَجَرَّبُوا وَعَصُوا اللهَ الْعَلِيَّ، وَشَهَادَاتِهِ لَمْ يَحْفَظُوا [56]. استقروا في أرض الموعد، لكن قلوبهم وأفكارهم بقيت جائلة بعيدًا عن الله، تطلب الملذات الزمنية وشبع الشهوات خلال العبادة الوثنية. بَلِ ارْتَدُّوا وَغَدَرُوا مِثْلَ آبَائِهِمْ. انْحَرَفُوا كَقَوْسٍ مُخْطِئَةٍ [57]. دخولهم إلى كنعان وتمتعهم بالنصرات المتوالية لم ينزع عنهم روح الارتداد والغدر. كرروا تاريخ آبائهم العصاة، ومارسوا خطاياهم، ولم يحفظوا العهد مع الله. نقلوا فسادهم معهم إلى أرض الميراث. فصاروا كقوسٍ تضرب السهام بلا هدفٍ. أَغَاظُوهُ بِمُرْتَفَعَاتِهِمْ، وَأَغَارُوهُ بِتَمَاثِيلِهِمْ [58]. 8. رفضه شيلوه سَمِعَ اللهُ فَغَضِبَ، وَرَذَلَ إِسْرَائِيلَ جِدًّا [59]. ما ورد هنا هو تذكار ما حدث في أيام عالي الكاهن، حيث فارق مجد الرب الحقيقي شعبه، إذ أسر الفلسطينيون تابوت العهد (1 صم)، وانكسرت رقبة عالي الكاهن، ومات ابناه في الحرب، وأنجبت زوجة فينحاس ابنا دعته ايخابود الذي يعني "زال المجد" (1 صم 21:4-22). إن كان الله قد غضب على شعبه، لأنه تمرد مرارًا وهو في البرية يتمتع برعاية الله الفريدة، فكم بالأكثر يغضب بل ويرذله جدًا لأنه لم يتعلم من الماضي، بل حمل نفس الروح في أرض الموعد. إذ صمم الشعب الذي أخرجه من مصر ودخل به إلى أرض الموعد أن يذبحوا للأصنام على كل تلٍ وأكمةٍ تجاهلهم الله، وهذا أقسى أنواع التأديب. لأن تغافله عنهم يفقدهم كل شيءٍ، ويعرضهم للهلاك. وَرَفَضَ مَسْكَنَ شِيلُوهَ، الْخَيْمَةَ الَّتِي نَصَبَهَا بَيْنَ النَّاسِ [60]. أعلن عن رذله لشعبه برفضه مسكن شيلوه حيث كانت خيمة الاجتماع، لأنه ارتكبت أبشع الخطايا في أبواب الخيمة، كما أُقيمت السواري فوق كل تلٍ عالٍ، لهذا ارتحل المجد، وحلّ بدلًا منه "ايخابود" (زوال المجد). إذ كان تابوت العهد في شيلوه سمح الله للفلسطينيين أن يأخذوه تأديبًا لشعبه الذي رفض الله وذبح للأوثان. وَسَلَّمَ لِلسَّبْيِ عِزَّهُ، وَجَلاَلَهُ لِيَدِ الْعَدُوِّ [61]. أكد الله خطورة الموقف بتسليم تابوت العهد الذي يمثل عزه للسبي الفلسطيني. لقد فضل الله أن يحتمل إهانة الأعداء، الذين ظنوا أن إلههم داجون قد غلب إله إسرائيل واستولوا على تابوت عهده، عن أن يحتمل خيانة شعبه الذين تمتعوا بعجائبه. وَدَفَعَ إِلَى السَّيْفِ شَعْبَهُ، وَغَضِبَ عَلَى مِيرَاثِهِ [62]. سقط ثلاثون ألفًا من الشعب بالسيف (1 صم 10:4) لأنه لم يعد الله عونًا لهم مع أنهم خاصته وميراثه. غيرته عليهم دفعت إلى تأديبهم حتى وإن بدا التأديب قاسيًا. مُخْتَارُوهُ أَكَلَتْهُمُ النَّارُ، وَعَذَارَاهُ لَمْ يُحْمَدْنَ [63]. "مختاروه أكلتهم النار"، أي نار غضب الله على شعبه الجاحد، فسلمهم لنار الحرب. "وعذاراه لم يحمدن"، جاءت في بعض الترجمات إنهن لا يتزوجن أو ليس هن أغاني الزواج. إذ أكل السيف الشبان في الحرب بقيت العذارى بلا زواج، ولم تُُسمع من أفواههن أغاني الفرح، وكما جاء في إشعياء النبي: "تمسك سبع نساء برجلٍ واحدٍ في ذلك اليوم قائلات: نأكل خبزنا، ونلبس ثيابنا، ليُدع فقط اسمك علينا، انزع عارنا" (إش 1:4). كَهَنَتُهُ سَقَطُوا بِالسَّيْفِ، وَأَرَامِلُهُ لَمْ يَبْكِينَ [64]. أما الكهنة الذين سقطوا بالسيف، فيُقصد بهم حفنى وفينحاس ابنا عالي الكاهن. "وأرامله لم يبكين"، إذ لم تحزن الأرامل على فقدان أزواجهن، لأن حزنهن على ما حلّ بالشعب ككل ابتلع كل حزن شخصي. وكأنه لم تجد العذارى فرصة للفرح، لأن الشباب قد ضربه سيف العدو، ولم تجد الأرامل فرصة للنوح، لأن هول الكارثة العظمى للشعب قد حطمهم وشغلهم عن الحزن على أزواجهن. * لم ينح أقرباء القتلى في الحرب عليهم، وذلك بسبب شدة الأذى والضيق الذي كان يحاصرهم جميعًا، ويلهيهم عن النوح والبكاء. الأب أنثيموس الأورشليمي 9. قيام مملكة داود فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ، كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ [65]. سرعان ما تمر فترة التأديب لينعم الشعب ببداية جديدة، حيث يهب شعبه قوة القيامة. يبدو الله كنائمٍ يستيقظ ليعمل بقوة في حياة شعبه. الرب لا ينعس ولا ينام (مز 3:121)، لكنه إذ يقوم للقضاء بعد فترة طويلة من الصمت في طول أناة يكون كمن استيقظ من النوم. في الغرب تستخدم هذه العبارة مع العبارة "وبنى مثل مقدسة مثل مركب الكركدن (وحيد القرن rehinoceros) كالأرض التي أسسها إلى الأبد" في ليتورجية عيد القيامة أو الفصح المسيحي في الصباح، حيث تعلن العبارتان عيد قيامة السيد المسيح كأنها استيقاظ من النوم، ليس للموت سلطان عليه. إنه يستيقظ كجبار غالب للموت وللشيطان، محطمًا سلطانه على المؤمنين. بقيامته أسس كنيسته المقامة في العالم كله لكي تشترك معه في المجد الأبدي. إنها تشبه قرن الكركدن، وكما يقول البابا أثناسيوس: [الكركدن حيوان لا يُمكن انهزامه، لأن له في جبهته قرن به يقتل كل حيوان مفترس. هكذا يقول المرتل إنه عندما بُني هيكل الله خضعت الأمم، واستسلمت للقوة التي فيه.] * لقد سمعنا البعض يحاولون تبرير هذا المرض البالغ الضرر الذي يلحق بالنفس، ملتجئين إلى طريقة منفّرة في تفسير الكتاب المقدس لهذا التبرير، كقولهم بأنه ليس من الضرر في شيءٍ أن نغضب على إخوتنا الذين يخطئون، مادام الله ذاته، على حد قولهم، قد ذُكر عنه أنه يسخط ويغضب على أولئك الذين لم يعرفوه أو عرفوه ثم رفضوه، وفقًا للنص: "فحمي غضب الرب على شعبه، وكره ميراثه"، أو وفقًا لكلمات النبي وهو يصلي، قائلًا: "يا رب لا توبخني بغضبك، ولا تؤدبني بغيظك" (مز 6: 1)، غير مدركين أنهم إذ يريدون تلمس الأعذار لارتكاب خطية بالغة الأذية، ينسبون إلى العزة الإلهية ومصدر كل نقاء إحدى وصمات الانفعال البشري، لأن هذه الأشياء تُقال عن الله. فإذا فُسرت حرفيًا بصورة مادية يمكننا القول أيضًا أنه ينام، وفقًا للنص: "استيقظ يا رب لماذا تتغافى؟" (مز 23:44)، مع أنه قيل عنه في مكان آخر: "إنه لا ينعس ولا ينام حافظ إسرائيل" (مز 121: 4). وأنه يقف ويجلس، إذ يقول: "السماوات كرسيَّ والأرض موطئ قدميّ" (إش 1:66)، مع أنه "كال بكفه المياه، وقاس السماوات بالشبر". وهو "معيط من الخمر" حسب قوله "واستيقظ الرب كنائم، كجبارٍ معيطٍ من الخمر" (مز 65:78)، في حين أنه هو "الذي وحده له عدم الموت، ساكنُا في نور لا يُدنى منه" (1 تي 16:6). ولا داعي لذكر "الجهل" و"النسيان" اللذين كثيرًا ما يرد ذكرهما في الكتاب المقدس. وأخيرًا وصف أعضاء الجسد التي نُسبت إليه كما لو كان إنسانًا، كالشعر والرأس والأنف والعينين والوجه واليدين والذراعين والأصابع والبطن والقدمين. إذا عمدنا إلى أخذها جميعًا وفق معناها الحرفي العادي، يلزمنا أن نفكر في الله بما يتفق مع صورة الأعضاء وشكل الجسم، وهذا أمر بشع حقًا حتى مجرد الكلام عنه، ويتحتم أن نستبعده تمامًا عن أفكارنا... حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم. وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وإن نخشى عمل أي شيءٍ ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة. فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ[40]. القديس يوحنا كاسيان جَعَلَهُمْ عَارًا أَبَدِيًّا [66]. لم يعش الأعداء طويلًا في نشوة الانتصار، لأن يد الرب قد ثقلت عليهم بالبواسير، وصعد صراخهم إلى السماء. وَرَفَضَ خَيْمَةَ يُوسُفَ، وَلَمْ يَخْتَرْ سِبْطَ أَفْرَايِمَ [67]. لقد أكرم الله افرايم، فخرج منه يشوع القائد العظيم وجدعون القاضي، وفي تخوم أفرايم كان شيلوه الموضع الذي أُقيمت فيه الخيمة لمدة ثلاثة قرون. أما الآن فقد وُزن بالموازين فوجد ناقصًا، لذا رفض الله شيلوه موضعًا لخيمته. إنها نبوة عن انقسام المملكة في زمان رحبعام، وقيام يربعام من سبط أفرايم بضم بقية الأسباط فيما عدا يهوذا وبنيامين لإقامة مملكة إسرائيل المنشقة، وعاصمتها السامرة. بَلِ اخْتَارَ سِبْطَ يَهُوذَا جَبَلَ صِهْيَوْنَ الَّذِي أَحَبَّهُ [68]. ارتفع سبط يهوذا ليحتل مركز الصدارة حسب نبوة يعقوب، ومنه جاء السيد المسيح مخلص كل البشرية، كما انتقلت الخيمة إلى قرية يعاريم في أرض يهوذا، ثم إلى جبل صهيون. يشير هنا إلى سبط يهوذا الذي في حوزته هيكل سليمان بأورشليم، فصار يشبه وحيد القرن، أي يحمل قوة. يشير أيضًا إلى كنيسة العهد الجديد المؤسسة على المعمودية الواحدة. وَبَنَى مِثْلَ مُرْتَفَعَاتٍ مَقْدِسَهُ، كَالأَرْضِ الَّتِي أَسَّسَهَا إِلَى الأَبَدِ [69]. وَاخْتَارَ دَاوُدَ عَبْدَهُ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَظَائِرِ الْغَنَمِ [70]. كان داود راعيًا للغنم، فأقامه الله راعيًا لشعبه، إذ يقول له: "أنا أخذتك من وراء الغنم لتكون رئيسًا لشعبي" (2 صم 8:7). مِنْ خَلْفِ الْمُرْضِعَاتِ أَتَى بِهِ لِيَرْعَى يَعْقُوبَ شَعْبَهُ، وَإِسْرَائِيلَ مِيرَاثَهُ [71]. كان داود النبي بكل صبرٍ وحنانٍ يمضي وراء النعاج المرضعة وهي تجول تبحث عن العشب، كما كان يُطعم الحملان وصغار الغنم، وبذلك تأهل للقيام بوظيفته كملكٍ يرعى شعبه بأمانةٍ. فَرَعَاهُمْ حَسَبَ كَمَالِ قَلْبِهِ، وَبِمَهَارَةِ يَدَيْهِ هَدَاهُمْ [72]. كان داود النبي مستقيمًا أمام الله ولم يحد قلبه قط عن طاعة الله، أمينًا لله ولشعبه. * رعى يعقوب قطيع لابان وتعب وسهر وقادهم حسنًا، عندئذ رعى بنيه وقادهم حسنًا، وعلّمهم أصول العمل الرعوي. اعتاد يوسف أن يرعى القطيع مع إخوته، وفي مصر صار قائدًا لشعبٍ كثيرِ، وقادهم كما يقود الراعي الصالح قطيعه.قاد موسى قطيع يثرون حميه، واُختير من رعاية الغنم إلي رعاية شعبه، وكراعٍ صالحٍ قادهم. حمل موسى عصاه على كتفه، وتقدم شعبه الذي يقوده، ورعاهم أربعين عامًا، وكان ساهرًا يتعب من أجل قطيعه، كان راعيًا صالحًا. عندما أراد ربه أن يهلكهم بسبب خطاياهم، إذ عبدوا العجل، صلى موسى لأجلهم وطلب من ربه قائلًا: "والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فأمحني من كتابك الذي كتبت" (خر 32: 32). هذا هو الراعي الساهر للغاية، يسلم نفسه لحساب قطيعه. هذا هو القائد الممتاز الذي يبذل ذاته من أجل قطيعه. هذا هو الأب الرحوم الذي يحتضن بنيه ويربيهم. موسى الراعي العظيم والحكيم، الذي عرف كيف يرعى قطيعه علَّم يشوع بن نون، الإنسان المملوء بالروح، والذي قاد الرعية كل حشد إسرائيل... بعد ذلك رعى داود قطيع أبيه، فأُخذ من القطيع ليرعى شعبه. "فرعاهم حسب كمال قلبه، وبمهارة يديه هداهم" (مز 78: 72). وعندما أحصى داود عدد قطيعه، حلّ الغضب عليهم وبدأوا يهلكون. عندئذ سلم داود نفسه لحساب قطيعه عندما صلى، قائلًا: "ها أنا أخطأت، وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟ فلتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي" (2 صم 24: 17). هكذا أيضًا اعتاد كل الرعاة الساهرين أن يبذلوا أنفسهم لحساب قطيعهم[41]. القديس أفراهاط الحكيم الفارسي الأب أنثيموس الأورشليمي من وحي مز 78 أعمالك تشهد لحبك! * حبك هو أنشودة لا تنقطع. خلقت كل شيءٍ من أجلي. ولم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك. في كل الأجيال تشهد أعمالك لحبك الفائق. تود أن تحتضن البشر، وتقيم منهم أبناء لك. أنت هو الصخرة والملجأ والفرح والمسرة. من يقتنيك لا يحتاج، ولا يعوزه شيء. * قصة البشرية معك قصة التمرد والجحود. وقصتك مع البشر، قصة الحب وطول الأناة. تقدم للبشرية ما تطلب منك. ليتها تتلمس حبك، فتطلبك. لكن، في غباوة يفيض قلب الإنسان جحودًا وتمردًا. * حتى تحت التأديبات قد يرجع الإنسان إليك. لكنه كثيرًا ما يطلب عطاياك لا الالتصاق بك. * إلهي هب لنا استقامة القلب وأمانته ونقاوته. يطلب، لأنه بالحق يحبك. يشتهي رؤياك، لأنك أنت شبعه وفرحه ومجده. |
||||
|