الهرب من محبة الرئاسة
ليست الرئاسة في حد ذاتها خطية فقد وضع الله رئاسات حتى بين الملائكة وقد يكون إنسان رئيسًا وفي منصب كبير، ومع ذلك يكون وديعًا ومتواضع القلب.
العيب إذن ليس في الرئاسة إنما في محبة الرئاسة..
إن الذي يشتهي الرئاسة، إنما يشتهي لنفسه أمجادًا على مستوي محبة العالم، وليس على مستوي روحي، ومثل هذا، إذا حصل على رئاسة قد تتلفه وترفع قلبه.. وقد يظن أنه قد صار شيئًا، ويجب أن يعامله الناس هكذا..
والذي يشتهي الرئاسة، مصيره أن يقع في أحلام اليقظة..
كأن يخلو إلى نفسه، ويتصور أنه قد صار كذا وكذا، وأنه قوبل بدرجات معينة من المديح والتقدير والاحترام.. ويتصور أنه يقوم بأعمال عظيمة لم يعملها أحد غيره، لو أعطيت له تلك المناصب! وكلها تخيلات من المجد الباطل، تشعره بأنه يستطيع أن يعمل ما لم يعمله غيره.
وقد يسمح الله أن تسند إلى مثل هذا الشخص مسئوليات فيفشل فيها. لأن الإنسان يمكنه أن يعمل في الخيال ما يعجز عنه في الواقع.
ومثال ذلك قصة شيخ ذهب لافتقاد راهب محارب بالمجد الباطل. وكان هذا الراهب يتصور أنه واقف يعلم الموعوظين. وكان يلقي عظته عليهم بصوت سمعه الشيخ في الخارج. وبعد العظة باركها وصرفهم بسلام.. هنا وقرع الشيخ الباب، ففتح له الشاب، وفكر في نفسه ما عسي أن يقول عنه الشيخ إذا كان قد سمعه فلكي يتأكد قال: [إني أسف يا أبانا، لئلا تكون قد جئت من زمن وتعطلت على الباب].
فابتسم الشيخ وقال: [لقد جئت يا ابني وأنت تصرف الموعوظين]!
فاحرص أن تبتعد عن أحلام اليقظة هذه وتتصور ما ليس لك.
سئل القديس يوحنا الأسيوطي: [هل يليق بالإنسان أن يطلب رتبه وسلطانًا لتقويم المعوجين وأبطال الشرور؟ فأجاب:
[كلا.. لأنه إن كان وهو بعيد عن الدرجة، يشتهي أن يكون عظيمًا فماذا يعمل عندما يصل إلى الرئاسة والعظمة نفسها؟ لأن الذي لم يعرف الاتضاع وهو في حقارته، فماذا يفعل عندما يكون في عظمته؟!]
وأضاف القديس عن مثل هذا الشخص: [إن كان منتفخًا وهو بعيد عن المناصب، فماذا يعمل عندما يأخذ المناصب؟!] إن الرئاسة قد لا تضر الناضجين روحيًا الذين يحتملونها باتضاع، ولكنها تضر غير الناضجين. قال القديس اوروسيوس أحد خلفاء القديس باخوميوس الكبير.
[إن الرئاسة مضرة للأشخاص الذين لم ينضجوا]. وضرب لذلك مثلًا فقال: [إذا أحضرت طوبة من طين لم تحترق بعد بالنار والقيتها في الماء فإنها تذوب. أما إذا حرقت بالنار، فلو القيت في الماء تبقي وتشتد... كذلك الشخص الذي يصل إلى الرئاسة قبل أن ينضج قبلما يحمص بالنار، أي باختبارات الحياة، قبلما يزول منه المجد الباطل، فإنه معرض للهلاك].
كذلك مساكين هم الناس الذي يخضعون لرئاسة شخص محب للمجد الباطل. أنه يضيع نفسه، ويضيع معه الناس، من أجل المجد الذي يطلبه
ولذلك من الخطر جدًا، أن يوضع في رتبه الرعاية أشخاص يحبون الكرامة العالمية. فإن كنت لست متضع القلب، لا تطلب لنفسك درجة الكهنوت، بل اشته لنفسك أن تكون خروفًا في رعية المسيح عن أن تكون راعيًا يطلب دم رعيته من يدك.
اشته أن تكون حملًا من القطيع، يرعاك غيرك، لا أن تكون مسئولًا عن رعية.
لأنك إن كنت لا تقدر أن تربح نفسك فكيف تقدر أن تربح للرب نفوسًا كثيرة..؟! إن كنت في الوقت الذي لم يكن عليك فيه أثقال، لم تستطع أن تحيى ذاتك، فكيف تقدر أن تخلص شعبًا كبيرًا من شر العالم؟! الإنسان المتضع الذي يريد خلاص نفسه، ويشعر في داخله بعجزة عن الرعاية، يهرب منها.
أما إذا أمسكك الله وصيرك راعيًا فأطلب منه قوة تعينك.
إن كانت حاجة الكنيسة قد وضعتك في منصب، فلا تثق بقوتك ومواهبك بل اسكب نفسك أمام الله، لكي يعمل هو بك، ولكي يعمل فيك ومعك. وتكون أنت مجرد آلة يسيرها هو حسب غني وفرة حكمته.
إن صرت راعيًا، أو صاحب منصب، فكن متضع القلب..
لا تعتبر نفسك أنك قد صرت من أعمدة الكنيسة، ولا تسلك بعظمة، إنما اعتبر نفسك مجرد خادم، واسلك كخادم، كما غسل المسيح أرجل تلاميذه. وقال عن نفسه: "إن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مر10: 45).
سألني كاهن جديد، أن أقول له نصيحة بمناسبة خدمته، فقلت له:
[كن ابنًا وسط إخوتك، وأخًا وسط أولادك]..
وهكذا لا يرفع نفسه ويستمر في اتضاعه. أما إن كان يريد أن يتمتع بكرامة في منصبه، فلا شك أنه سيضيع نفسه. لأن المناصب ليست رفعة، وإنما خدمة. والذي يسلك فيها كخادم فهذا سيرفعه الله، دون أن يرفع هو نفسه..
قال القديس برصنوفيوس:
[لا تحسب نفسك في شيء من الأمور ولا يحسبك أحد شيئًا، وأنت تنتج (أي تستريح)]..
ذلك لأن الناس يحبون المتضعين، وينفرون من كل محب للمديح أو الكرامة كذلك فإن المحب للرياسة قد يصطدم بغيره من يشتهون نفس الشهوة وينافسونه فيها. أما الذي يحب المكتأ الأخير، فإنه لا ينافس أحدًا.
وإن صرت رئيسًا، فلا تتسلط على أحد، بل عامل الكل بالرفق..
اعرف جيدًا أنك مجرد رئيس على عملهم ولست رئيسًا على أشخاصهم.
أما أشخاصهم، فلها عندك كل احترام وكل حب. واعرف أنك ومرؤوسيك سواء أمام الله، وربما تكون لبعضهم منزلة عند الله أعظم. اشعر في داخلك أنك زميل لهم، وأن كنت أقدم، تفاهم معهم بروح الود وبالبساطة.
فالسلطة تعطي للبعض من أجل إدارة العمل، وليس من أجل كرامتهم الشخصية..
والذي يعتبرها تكبيرًا لنفسه، يكون قد انحرف عن هدفها وعن تواضعها وهذا الكلام يقال أيًا عن الأب والزوج في الأسرة، كما يقال عن المعلم مع تلاميذه، وعن المرشد مع يرشدهم، وعن كل من يتولي مهام القيادة والأبوة والرعاية..
كان القديس باخوميوس يرفض أن يحمل له أولاده حاجياته وهو سائر في الطريق..
بل كان يحب أن يشابههم في كل خدمة وهكذا قال بولس الرسول أيضًا: "حاجاتي وحاجات الذين معي، خدمتها هاتان اليدان" (أع20: 34).
بهذا كان الآباء قدوة لابنائهم في الخدمة وفي الاتضاع. وبهذه القدوة كسبوا محبتهم، وكسبوا خضوعهم أيضًا..
وما كانوا ينظرون إلى أنفسهم اطلاقًا كرؤساء، إنما كآباء. ليسوا أصحاب سلطة، إنما كأصحاب قلوب كبيرة مملوءة بالحنان والشفقة. القديس الأنبا شيشوي، حينما سلموه أخًا جديدًا ليعلمه، ما كان يصدر له أمرًا في أي شيء. فلما عاتبه الآباء على ذلك، قال لهم:
[أنا لست رئيسًا عليه لآمره.. فإن أراد أن يتعلم. فلينظر إلى كيف أعمل، وليعمل مثلي].
لذلك فإن تواضع القلب هو شرط أساسي لكل من يتولي عملًا قياديًا، حتى لا يهلك نفسه وأنفس الذين يقودهم أيضًا، وحتى لا يكون قدوة سيئة في عمله القيادي. وإنما عليه أن يقود الناس بالحب والتعليم والمثال السليم، وليس بالسلطة وبالأمر والنهي.. أما عن المواضعين الذين يهربون من الرئاسة، فإننا نضع أمامهم مثال القديس بينوفيوس.