رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور 45 (44 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير تسبحة العُرس للمسيا الملك المحارب مزمور مَلكي مَسياني: أحد المزامير الملوكية يتناول مراحل عدة في الحياة الملوكية. وهو يصف احتفالًا لعرس ملوكي، لا يمكن تطبيقه على أي زواج بشري، إنما ينطبق على العرس الروحي بين السيد المسيح الملك وكنيسته. المزامير الثلاثة السابقة (42-43-44) مزامير الألم الذي يُعاني منه الأفراد كما الجماعة، تليها مزمور المجد هذا الملوكي، وله غاية نبوية، إذ يكشف عن المسيح الملك وعروسه الكنيسة. جاء بعد مزامير الألم ليعلن الروح القدس أن الألم هو طريق العرس والمجد الأبدي. في المزمور السابق نسمع مرثاة جماعية حيث يشعر الشعب كأن الله قد رفضه، ودخل به إلى العار، ولم يخرج معهم في الحرب، وسلمهم للأعداء في مذلة، وفي هذا المزمور الملوكي المسياني، نرى الشعب وقد اتحد بالمسيا الملك المحارب يدخل إلى مجد داخلي، كعروس سماوية مزينة، يشتهي الملك جمالها الروحي، تدخل إلى قصره وتنعم به. في المزمور السابق كان الشعب مثلًا بين الشعوب، يهزأون به، وينغصون الرأس سخرية به، وهنا يُقدم الشعب كملكة، تأتي إلى الملك وفي إثرها عذارى صاحباتها. في المزمور السابق يشعر الشعب كأن الله قد باعه بلا ثمن، وهنا يشعر كأن الله باع كل شيء، وحارب جبابرة ليقتني هذا الشعب ويغنيه بفيض بركاته. في المزمور السابق يقدم الشعب نفسه ذبائح حب كغنم للذبح، وهنا يتمتع الشعب ببهجة القيامة وقوتها وأمجادها الأبدية. في المزمور السابق نجد دعوة لله: "قم"، وهنا نجد الدعوة موجهة للشعب: "انسي شعبك وبيت أبيكِ فيشتهي الملك حسنك". المسيا الملك: في الترجوم -التفسير اليهودي القديم- أُضيفت كلمة "المسيا" إلى لفظة "الملك"، فقيل: "أيها الملك المسيا أبرع جمالًا من بني البشر". جاءت الكتابات المسيحية الأولى والليتروجيات تفسر هذا المزمور بكونه تسبحة العرس القائم بين السيد المسيح وكنيسته. إنه أنشودة حب مشترك ومتبادل بين المسيا المخلص وعروسه الملكة؛ فيه تُناجي الكنيسة عريسها الأبرع جمالًا من بني البشر، القادر وحده أن يدخل إلى المعركة لحسابها فيغلب عدو الخير، ويحرر عروسه من أسرها، ويسكب بهاءه عليها، ويهبها بره وشركة أمجاده. وفيه يُناجيها العريس معلنًا اشتياقه إليها، ويهبها فرحه وبهجته وقوته وسلطانه، فتعيش ملكه متهللة بالروح. يظن البعض أن المزمور يصف عُرس سليمان الملك، لكن كما قلنا إنه يحمل عبارات لا يمكن أن تنطق على إنسان بشري؛ ويرى آخرون أنه وإن وصف سليمان إنما بكونه رمزًا للسيد المسيح ملك السلام؛ وكما قال السيد المسيح عن نفسه: هنا من هو أعظم من سليمان! * إنه أغنية حفل العُرس المقدس، للعريس والعروس، للملك وشعبه للمخلص وللذين يخلصون. * الاتحاد الزوجي هو اتحاد "الكلمة" والجسد؛ خدر هذا الاتحاد هو رحم العذراء، لأن الجسد ذاته قد أتحد بالكلمة، حيث يُقال: "يكونان الاثنان جسدًا واحدًا" (مت 19: 5). القديس أغسطينوس المزمور 45 في الطقس القبطي: يُتلى هذا المزمور أو يُسبح به في صلاة الساعة الثالثة حيث نذكر عطية الروح القدس. فإن الروح الذي وهب الأنبياء أن يتنبأوا عن هذا الملك المسيا المحارب لحساب البشرية، والذي هيأ القديسة مريم للتجسد به... هو الذي حلَّ على الكنيسة في يوم البنطقستي (العنصرة) ليعطي التلاميذ قوة الكرازة والشهادة له كعريس محب للبشر. الروح القدس هو الذي يشكّل النفس ويقدسها لتصير على صورة عريسها فتتأهل للعرس الأبدي. إنه روح العريس الذي يأخذ مما له ليعطي العروس! طوال شهر كيهك حيث تستعد الكنيسة لعيد الميلاد المجيد بالتسابيح، تبدأ التسبحة بالهوس الكيهكي الذي يضم فقرات كثيرة من هذا المزمور، فإن غاية التسبحة الكيهكية هي حث كل نفس لاستقبال طفل المزود كعريس للنفس قادر وحده أن يدخل بها إلى المعركة ليهبها نصرته ويعطيها إكليله ويحسبها عروسًا وملكة غالبة ومنتصرة. وفي أعياد القديسة مريم حيث نرى فيها العضو الأول في الكنيسة، ومثالًا حيًا لكل نفس تنعم بالعضوية الكنيسة تقتطف الكنيسة بعض فقرات من هذا المزمور لتسبح بها حيث تبعث في أولادها الشوق الحقيقي للعرس الأبدي. وتستخدم فقرات منه في ليتروجية الزواج بكون سرّ الزواج هو ظلًا للعرس الأبدي بين الله الكلمة والكنيسة، يستمد العروسان حبِهما ووحدتهما من الحب المشترك بين المسيح وكنيسته. الإطار العام: 1. فاض قلبي... [1]. 2. قلم كاتب ماهر [1]. 3. مجد الملك [2]. 4. ملك محارب [3-5]. 5. إعلان ملكوته [6-8]. 6. الملكة العروس [9-12]. 7. مجد العروس [13-17]. أ. مجد داخلي ب. مجد سماوي ج. مجدها في تنوع مواهبها د. مجدها في كرازتها وشهادتها لعريسها و. كنيسة متهللة ز. كنيسة مكرمة ح. كنيسة مسبحة تُمجد اسم الله لتُسبحك نفسي أيها العريس الأبدي! العنوان[839]: "لإمام المغنين على السوسن Shoshannim eduth، لبنى قورح، قصيدة؛ ترنيمة محبة". وبحسب الترجمة السبعينية: "إلى التمام، وعلى الذين يتغيرون. فهم لبني قورح وتسبحة من أجل المحبوب". 1. "على السوسن": حرف الجر "على" يُشير إما إلى "بحث عن السوسن"، أو أنه مزمور "يضرب على آلة موسيقية معينة تُدعى "السوسن" أو أنه يُعزف على نغمة نشيد يبدأ بكلمة "السوسن". استخدمت الكلمة بالمفرد "على السوسنة" في عنوان المزمور 60، وبالجمع في المزمور 80، ولم تستخدم في عناوين مزامير أخرى. قديمًا كان يفهم كلمة "Shoshannim" على أنها آلة موسيقية ذات ستة أوتار، أما الآن فيوجد إجماع على أنها تعني "السوسن (أزهار معينة)"، وتُفهم كلمة Eduth بمعنى شهادة، أي "سوسن الشهادة" أو زنابق الشهادة. ماذا تعني زنابق أو سوسن الشهادة إلا أن هذه التسبحة تمجد عمل الله الخلاصي، الذي أقام من بني البشر زنابق جميلة أو سوسن يحمل رائحة المسيح الذكية، يشهد لنعمة الله الغنية. إنه مزمور عرس الكنيسة التي قيل عنها "كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنين" (نش 2: 2)، وقيل عن عريسها: "الراعي بين السوسن" (نش 2: 16). 2. "على الذين يتغيرون": إنها تسبحة العروس التي جاءت من الأمم، تغيرت طبيعتها، وتغير فكرها وقلبها، حيث تركت بيت أبيها إبليس لتسكن في بيت العرس متحدة مع عريسها السماوي. * بالفعل في هذا الوقت قد تغيّر حال الوثنين؛ أما الذين لم يتغيروا (يقبلوا الإيمان) فيرون الكنائس مملوءة، بينما معابد (الوثنية) مهجورة. يرون زحامًا هنا، وعزلة هناك! فيتعجبون للتغيير الذي طرأ... ليقرءوا ما سبق أن أُخبروا به. ليصغوا بآذانهم لذاك الذي وعد بهذا. ليؤمنوا بذاك الذي يتمم الوعد. وليتغير كل واحد منا أيها الإخوة، من "الإنسان العتيق" إلى الإنسان الجديد"، من ضالٍ إلى مؤمن، ومن لص إلى مقدم صدقات، ومن زانٍ إلى عفيف، من فاعل شرٍ إلى فاعل خيرٍ! القديس أغسطينوس لقد تم التغيير على مستوى جماعات كما على مستوى أفراد. يستمر هذا التغير بالتجديد المستمر، فينحل إنساننا العتيق بكل أعماله ويتجدد إنساننا الداخلي يومًا فيومًا! أنشودة عرس الكنيسة هي أنشودة التغيُّر المستمر والتجديد، لعلنا نبلغ "إلى إنسان كامل؛ إلى قياس قامة ملء المسيح"[840] (أف 4: 13). 3. "ترنيمة محبة" أو "تسبحة من أجل المحبوب": * المحبوب هو "اليد" التي تغيرت؛ الذي يتحدث عنه الصوت الإلهي، قائلًا: "هذا هو ابني المحبوب" [ربما يقصد بالتغير هنا الإخلاء أو التجسد الإلهي[841]]. * من هو هذا المحبوب إلا الابن الوحيد[842]؟! البابا أثناسيوس الرسولي 4. "لبني قورح Core": سبق لنا الحديث عنهم كرمز لبني الجلجثة[843]، أو أبناء المصلوب، فإنهم وحدهم يتغنون بتسبحة عرس الحمل... فمن لا يتمتع بالصليب كقوة الله كيف يقدر أن يُنشد تسبحة العرس السماوي؟! 1. فاض قلبي... 1. "فاض قلبي بكلام صالح" [1]. يرى بعض الآباء في عبارة "فاض قلبي كلمتي الأسمى" (الترجمة السبعينية) شهادة عن ولادة الابن من الآب، بكونه المولود من القلب، من ذات الجوهر ومساوٍ له؛ نذكر هنا بعض مقتطفات من كلماتهم في هذا الشأن: * إنه الكلمة الذي يفيض به قلب الآب[844]. القديس أمبروسيوس * وُلد (الابن الوحيد) من الله بطريقة خاصة به وحده، من رحم قلبه الذاتي، هذا الذي يشهد له الآب نفسه: "فاضى قلبي كلمتي الأسمى"[845]. * يشهد الآب نفسه قائلًا: "فاض قلبي كلمتي الأسمى"، سُرَّ الآب بالأكثر به، الذي تهلل بسرور فائق ومتساوٍ (لمسرته) بحضور الآب[846]. * يكشف الكتاب المقدس أن الآب والابن واحد، تمامًا كما نعرف من جانبنا أن الآب والابن متمايزان، أقول متمايزان وليسا منفصلين، لأنه من جهتي أنطق بكلمات الله ذاته: "فاض قلبي بكلمتي الأسمى"[847]! العلامة ترتليان * يفهم البعض أنه (حديث) شخص الآب القائل: "نطق قلبي بكلمة صالح"، إذ يُفصح لنا عن ميلاد معين لا يُنطق به. * لأنه ما معنى: "أتكلم"؟ "ألفظ كلمة". أين؟ من قلبه؟! من أعماقه ذاتها ينطق الله "كلمة"؟! أنتم أنفسكم لا تنطقون شيئًا إلا ما تخرجونه من قلبكم، كلمة خاصة بكم تنطقون بها مرة وتختفي، هذه التي لا تأتون بها من موضع آخر. فهل تتعجبون إن كان الله ينطق هكذا، لكن نطق الله "سرمدي"؟! القديس أغسطينوس * رأينا قبلًا، وهكذا يجب الإيمان بالحق أن الكلمة هو من الآب، وهو الابن الوحيد الذي يليق به ومولد طبيعيًا. لأنه بماذا يفهم الإنسان "الابن" الذي هو "الحكمة" و"الكلمة"، الذي به كان كل شيء كما تعلمنا أيضًا الكتب المقدسة، إذ يقول الآب بلسان داود: "فاض قلبي بكلمة صالح" "من الرحم قبل كوكب الصبح ولدتك"؟![848]... القديس أثناسيوس الرسولي 2. قلم كاتب ماهر: "فاض قلبي بكلام صالح، إني أخبر الملك بأفعالي، لساني قلم كاتب ماهر" [1]. يشعر المرتل وقد رأى بعيني النبوة عرس السيد المسيح المصلوب بفيض في داخله؛ كأن لهيب نارٍ من الحب قد اتقد في أعماقه، فصار لسانه يشترك مع كل كيانه في التعبير عن هذا العرس الفريد. عندما أراد القديس بولس أن يتحدث عن خطية معينة لم يقدر، إذ يقول إن ذكرها قبيح ومن العار، أما عندما يتحدث عن الملك العريس السماوي فكان لسانه يفيض بكلام صالح يُعبر به عما في قلبه وعن أفعاله. وقف المرتل أمام المسيح العريس فأخبر بحياته وسلوكه عن هذا العرس، وصار لسانه قلم كاتب ماهر. أقول إن لساننا عندما يتحدث، غالبًا ما يُعبِّر عما في أعماقنا، فإن كان لنا نصيب في العرس الروحي بالحياة العملية أو بالحب لله والناس يفيض الروح على لساننا بكلمات النعمة العاملة لحساب ملكوته، أما إذا لم يكن لنا شركة يصير لساننا كبقية أعضائنا آلات إثم للموت (رو 6: 13) تجرح وتقتل عوض أن ترطب النفوس وتشفيها. * اللسان هو القلم الذي به نكتب عهودنا مع الله... إننا نعترف بملكوته علينا ونرفض هيمنة إبليس. هذا هو التوقيع (على العهد)، هذا هو الاتفاق والعهد[849]. القديس يوحنا الذهبي الفم لسان المرتل قلم كاتب ماهر، يتحرك بإرشاد روح الله القدوس، معبّرًا عن فكر الروح بعمق وكمال. التهب قلبه وانشغل عقله بالعُرس السماوي فصار لسانه ينطق بالصلاح، أي تقدس لينطق بكلمات إلهية. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن اللسان كبقية الأعضاء يمكن أن يكون أداة للبر كما للشر. * فلنهئ كل أعضاء جسدنا لتكون أسلحة للبر لا للإثم. لندرب أولًا لساننا ليكون خادمًا لنعمة الروح القدس، بنزع كل السموم وكل شر من أفواهنا، وعدم النطق بكلمات الحماقة. يمكننا أن نجعل كل عضو من أعضائنا أداة شرٍ أو برّ. أصغوا، كيف صيَّر البعض اللسان سلاحًا للإثم، وآخرون سلاحًا للعدل: "لساني سيف ماضٍ" (مز 57: 5)، بينما يقول آخر عن لسانه: "لساني قلم كاتب ماهر". الأول يسبب موتًا، والثاني يسجل الناموس الإلهي، من ثَم فالأول سيف ماضٍ والثاني قلم، لا بحسب طبيعته كلسانٍ، وإنما باختيار من يستخدمه؛ فإن طبيعة اللسانين واحدة، لكن الاستخدام مختلف[850]. القديس يوحنا الذهبي الفم يمكن للإنسان أن يسلم لسانه أداة في يدّيْ السيد المسيح لينطق بكلماته ويشهد عن محبته الإلهية وحنوّه، كما يمكنه أن يُسلمه أداة في يديْ عدو الخير ليخدع وينافق ويقتل الآخرين بكلماته، كما بسيف مهلك. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لتكلم بطريقة يتضح بها أن ما نقوله هي كلمات المسيح[851]]. لنتشبه بالمرتل الذي التهب قلبه بحب العريس فنظم أشعاره عنه، وصار قلبه ولسانه يلهجان بشخصه وسماته وأعماله... رأى أمورًا جديدة فصارت حياته كما لسانه يفيضان تسبيحًا، وكما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [يشير إلى عمل النفس العقلاني بسبب كل الأفكار التي تفيض دومًا وتموج، فإن من يثبت نظره على جمال الله اللامتناهٍ، يكتشف على الدوام ما هو جديد؛ وإذ يبقى الله يعلن عن نفسه يستمر الإنسان في دهشٍ[852]]. ماذا رأى المرتل في العريس السماوي؟ * إنه كلمة الآب المولود منه أزليًا! * أبرع جمالًا من بني البشر! * شفتيه تفيضان نعمة ورحمة وحنانًا! * إنه ملك محارب محب، يدخل المعركة لحساب عروسه! * يرتبط سيفه بجماله، به يبتر كل ما هو قبيح فينا! * عجيب في عدله وفي حبه! * كرسيه أبدي! * مسحته مبهجة! * ثيابه رائحتها ذكية! *عروسه سماوية محبوبة جدًا لديه ومكَّرمة! * يتعبد له الأمم! * يدخل بشعبه إلى هيكله! * يقيم ملوكًا ورؤساء! * موضوع تسبيح الشعوب! 3. مجد الملك: تطلَّع المرتل إلى العرس فرأى عريسًا فريدًا ليس من وجه للمقارنة بينه وبين بني البشر، فقال: "إنك أبرع جمالًا من بني البشر" [2]. كتب القديس أغسطينوس يتغنى بربنا يسوع المسيح بكونه أبرع جمالًا من بني البشر: [إنه جميل في السموات بكونه الكلمة مع الله (الآب)؛ جميل على الأرض وهو متسربل بالطبيعة البشرية؛ جميل في الرحم، وجميل بين ذراعيْ والديه؛ جميل في المعجزات، جميل في جلده بالسياط؛ جميل في منحه الحياة، وجميل في عدم رفضه الموت؛ جميل في بذله ذاته، وجميل في أخذها ثانية؛ جميل على الصليب، وجميل في القبر، وجميل في عودته إلى السماء]. هكذا نراه أبرع جمالًا في طبيعته بكونه كلمة الله الواحد مع أبيه والمساوي له في الجوهر، وأبرع جمالًا في عمله الخلاصي وبذله آخر قطرة من دمه لأجل خلاص محبوبه الإنسان... تبقى أعماله الخلاصية موضوع تسبيح الأرضيين والسمائيين. * أي جمال؟ إنه جمال القيامة، بكونه أبرع جمالًا من بني البشر[853]. * فاق كل بني البشر جمالًا، ابن القديسة مريم وعريس الكنيسة المقدسة، الذي جعل الكنيسة تشبه أمه، فقد صيّرها أمًا لنا وحفظها عذراء لنفسه[854]. القديس أغسطينوس * أتساءل: لماذا (لم يقل): أبرع جمالًا من الملائكة أيضًا؟ لماذا يقول "أبرع جمالًا من بني البشر"، إلا لأنه صار إنسانًا...؟! حتى وهو إنسان هو أبرع جمالًا من بني البشر. ومع كونه حالًا بين بني البشر وقد صار منهم... إلا أنه أبرع جمالًا من بني البشر! القديس أغسطينوس لا يُفهم الجمال هنا بمعنى مادي أو جسداني بل بمفهوم روحي. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لئلا تفهموا إنه يتحدث عن الجمال الجسدي يقول المرتل إنه يقوم على الطاعة، وهذه ليست جمالًا للجسد بل للنفس، إذ يقول إذا فعلتم هذا تصيرون في جمال ومحبوبين في أعين عريسكم[855]]. رأى بعض الآباء مثل الشهيد يوستين وترتليان والقديس أكليمندس الإسكندري في التجسد الإلهي إخلاء الرب وتنازله حتى عن الجمال الجسدي، غير أن الغالبية العظمى للآباء رأوا فيه جمالًا جسديًا مع الجمال الروحي كانعكاس لعمل اللاهوت فيه، فيقول القديس جيروم: [اختفى لاهوته ببهائه وعظمته تحت حجاب الجسد، وبعث بأشعته على ملامحه الجسدية، فسبى كل الذين كان لهم غبطة التطلع إليه[856]]. إن ما يشغل قلبنا هو جمال عمله الخلاصي العجيب وبهاء شخصه، إذ هو وحده بلا عيب. لهذا يليق بعروسه أن تحمل سمة جماله بانعكاس بهائه عليها. * حقًا يليق بعريسنا الأبرع جمالًا من بني البشر ألا يجد فينا شيئًا من الخطايا السابق ذكرها لئلا تسيء إلى عيني عزته[857]. الأب قيصريوس أسقف آرل يرى المرتل أن سرّ جمال السيد هي كلمات النعمة التي تفيض من شفتيه: "انسكبت النعمة من شفتيك، لذلك باركك الله إلى الدهر" [2]. يقول القديس باسيليوس الكبير[858]: [إن النبيإذ تفرس في بهاء مجد لاهوت الابن نطق بهذا القول مشتاقًا إلى جمال لاهوته، وقد فاضت النعمة على شفتي الابن، كما جاء في الإنجيل المقدس أن الجموع كانت تتعجب من كلمات النعمة الخارجة من شفتيه (لو 4: 22)؛ فقد كان يجتذب سامعيه بفرح ويقنعهم ويقودهم إلى التلمذة له، حتى أنه في مدة يسيرة انتشر كلامه بكرازة الإنجيل في كل المسكونة. لقد أدرك معلمنا بطرس الرسول قوة كلماته وفاعليتها، فقال: "إلى من نذهب؟! كلام الحياة الأبدية عندك" (يو 6: 68). وتتحدث الكنيسة في سفر النشيد عن جاذبية كلمة المخلص، قائلة: "اجذبني وراءك فنجري" (نش 1: 2). * نعومتها (عذوبتها الشديدة) تدل على فيض نعمة تعليمه[859]. العلامة أوريجانوس * تعني "النعمة" هنا ما حلّ بالجسد... لأنه قد انسكبت كل نعمة في ذاك الهيكل. فلم يعطِ الروح القدس ذاك الهيكل مكيالًا معينًا، "لأنه من ملئه نحن أخذنا" (يو 1: 16). نال هذا الهيكل النعمة في كل ملئها وفيضها... فكانت النعمة بالحق كاملة، أما في البشر فقليلة، ولا تزال كقطرة من تلك النعمة[860]. القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا يُحسب القديس يوحنا الذهبي الفم أن ما نناله من نعم أشبع بقطرة نتقبلها من السيد المسيح الذي باتحاد لاهوته بناسوته قدم ملء النعمة للناسوت غير المنفصل عنه ليكن مصدر نعم لنا. وهكذا كثيرًا ما يكرر القديس كيرلس الكبير بأن الكلمة الإلهي أخذ إنسانيتنا ليجدد طبيعتنا الفاسدة، فنرى فيه مصدر كل تجديد ونعم سماوية. يمكننا الكشف عن زوايا من النعم التي تفيض من شفتيه، مثل: 1. تمتعنا بالكلمة ذاته المتجسد، نتناول جسده ودمه المبذولين سرّ نعمة لاتحادنا معه، وثبوتنا فيه، إذ يقول: "من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو 6: 54). 2. قدم بشفتيه كلمته التي تُنير البصيرة الداخلية وتجتذب النفوس إلى خلاصه، فقد قيل: "فلما جلس تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم... فلما أكمل يسوع هذه الأقوال بُهتت الجموع من تعليمه، لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت 5: 1-2؛ 7: 28-29). 3. بكلماته يهب الغفران من عندياته: "مغفورة لك خطاياك" (لو 7: 48). 4. بكلمات نعمته الواهبة الحياة كان يشفي الأمراض، ويعزي الحزانى، ويُبكم المقاومين، ويخرج الشياطين، ويقيم من الموت. 5. بكلماته فتح أمامنا أبواب الفردوس، إذ يقول: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو 23: 43). تبقى كلمات السيد المسيح التي تفيض نعمة ينطق بها حتى بعد صعوده، وذلك خلال رسله وتلاميذه والكارزين بإنجيله... إذ يمثل هؤلاء شفتيه اللتين تفيضان بنعمته. ماذا يعني المرتل بقوله: "لذلك باركك الله إلى الدهر" [2]؟ يُجيب الأب أنثيموس الذي اعتمد على كتابات الآباء، إنه يتحدث هنا من جهة ناسوته، فمع كونه كلمة الله المتجسد، الواحد والمساوي للآب في ذات الجوهر، لكنه من جهة الناسوت وكممثل للبشرية يدعو أباه السماوي إلهًا، وبحسب الناسوت كان يتقدم في الحكمة والقامة (لو 2: 52)، ليس متدرجًا فيهما بل معلنًا إياهما تدريجيًا... فالحكمة ليست أمرًا غريبًا عنه، إذ هو "حكمة الله"، لكنه كان يظهر تدريجيًا، ويمارسها بكونه إنسانًا حقيقيًا. يقول أيضًا إن بقوله "باركك الله" إنما يعلن ما تناله الكنيسة من بركات إلهية خلال الرأس وباسمه... حينما تتبارك الكنيسة كجسد المسيح يُقال عن المسيح الرأس إنه تبارك مع أنه هو واهب البركة. 4. ملك محارب! "تقلد سيفك على فخذك أيها القوي؛ بُحسنك وجمالك استله وانجح وأملك" [3]. هنا نلاحظ الآتي: 1. لا يمكن أن يكون الحديث هنا خاصًا بالملك سليمان الذي كان رجل سلام لا قائد حرب. 2. يربط المرتل بين جمال الملك المحارب واستلاله السيف لينجح ويملك، الأمر الذي لا ينطبق على أي إنسان محارب، لأنه أي ارتباط بين جمال الإنسان وقدرته على الحرب؟! واضح هنا أن الحديث خاص بمعركة الصليب، فإن ربنا يسوع المسيح قائد حربنا الروحية ضد عدو الخير إبليس، والذي وحده بلا عيب، كليّ الجمال، يستل سيفه كعريس سماوي جميل ليقتل فينا ما هو قبيح، أي فسادنا، وبهذا يقيم مملكته في قلوبنا، معلنًا ذاته أنه الحق والوداعة والبر. هذا ما دفع القديس أغسطينوس[861] وأمبروسيوس[862] وغيرهما إلى الحديث عن الجمال هنا بكونه جمال القيامة، إذ يقول الأخير: [حقًا إن جمال المسيح مقدس، إذ كُتب عنه بكونه المُقام: "أبرع جمالًا من بني البشر". فإنه بكر الراقدين وقرناه كقرن وحيد القرن]. إن كان سيفه هنا هو صليبه الذي به سحق الشيطان وكسر شوكة الموت وغلب الجحيم، لذا يراه المخلصون "قوة الله" (1كو 1: 18)، وقيل عنه: "إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه (في الصليب)" (كو 2: 15)، فإنه بقيامته قد بررنا، أي وهبنا بره فصار لنا جمال قيامته! بمعنى آخر نفسر كلمات المرتل: "بجمالك استله وانجح واملك" هكذا: "يا بكر الراقدين، استل سيف الصليب، واضرب به إنساننا العتيق الفاسد، فننعم بقوة قيامتك وبهجتها، أي نحمل جمالها فينا، بهذا تملك فينا وتنجح كلمة كرازتك!". 3. سيف المسيح هو صليبه واهب الحياة المُقامة، وهو أيضًا كلمته، إذ قيل: "لأن كلمة الله حيَّة وفعالة وأمضي من كل سيف ذي حدَّين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونيَّاته" (عب 4: 12)، "سيف الروح الذي هو كلمة الله" (أف 6: 17). وقد استخدم السيد المسيح كلمات الكتاب المقدس في معركته مع إبليس في التجربة (مت 4: 4، 7، 10). وقيل عنه: "وسيف ماضٍ ذو حدين يخرج من فمه" (رؤ 1: 16). إن كانت كلمات السيد تفيض نعمة وعذوبة، تضمد جراحاتنا وتشفيها، إنما هي أيضًا سيف ذو حدين يفصل بين النور والظلمة، أو بين الحق والباطل، أو بين برَّ الله وفسادنا، جراحاته لا تهلك بل تلهب القلب حبًا شافيًا، لتتغنى النفس قائلة: "إنني مجروحة حبًا" (نش 2: 5؛ 5: 8). 4. يحمل السيد المسيح سيفه على "فخذه"؛ الذي هو كناية عن ناسوته. إن قلنا أن السف هو الصليب، فإنه بالجسد قد حمل الرب صليبه ليذل إبليس. بتأنس الرب تمتعنا بسيف الكلمة إذ رأينا الحب متجسدًا، وتلامسنا مع وعود الله الغنية التي تحققت في كمالها بالصليب. بتأنس الرب رأينا كلمة الله لا منقوشة بحروف على ورق، وإنما معلنة بالدم على صليب! 5. قيل: "تقلد سيفك على فخذك أيها القوي". إن كان الفخذ يُشير إلى التجسد الذي به أخلى الكلمة ذاته، وصار في الجسد كضعيف، لكنه كما نترنم في الجمعة العظيمة قائلين: "يا من أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة!" لهذا يدعوه المرتل: "أيها القوي"، أو "أيها الجبار". أي قوة أو جبروت أعظم من تحطيم قوى إبليس وهدم مملكته بصليب الرب؟! لقد أدرك الرسول بولس أن المصلوب قوي وجبار، يهبنا بصليبه الغلبة على شهوات الجسد ومحبة العالم، إذ يقول: "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل 5: 24)؛ "وأما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غل 6: 14). 6. إن كان السيد المسيح قد جاء ليملك في القلب ويهبه سلامًا فائقًا، لكن بإقامة مملكته فيه، تثور قوات الظلمة ضده، وتستخدم حتى المقربين إليه، لذا قال الرب: "أعداء الإنسان أهل بيته" (مت 10: 36). يقول القديس أغسطينوس: [نقرأ في الإنجيل الكلمات: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا"، "يكون من الآن خمسة في بيت واحدٍ منقسمين ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن... والحماة على كنتها" (لو 12: 52، 53). أي سيف هذا إلا الذي جاء به المسيح، وقد تحقق الانقسام؛ فإنه إذ يقدم شاب عاقل نفسه لخدمة الله يعارضه والده، فيحدث بينهما انقسام. الواحد يطلب الميراث الأرضي والآخر يحب السماوي]. 7. إذ يستل الرب سيف صليبه ليضرب بقوة عدو الخير، وينجح ويملك، إنما يقيم مملكة الحق والوداعة والعدل: "من أجل الحق والوداعة والعدل؛ فتهديك بالعجب يمينك" [4]. إن كانت مملكة إبليس تقوم على الباطل (الكذب) والكبرياء والظلم، فقد تجسد الكلمة وصُلب لكي يُحطم بالحق والوداعة والعدل مملكة الظلمة ويقيم مملكة البر الإلهي في داخلنا. أ. قاوم الرب الباطل بالحق، والكذب بالصدق، بكونه "الحق" نقبله فينا فلا يستطيع الباطل أن يجد له فينا موضعًا، نقبل النور فتهرب الظلمة. * أُعيد "الحق" فينا، "الحق من الأرض أشرق والعدل من السماء اطلع" (مز 84: 11). لقد جاء المسيح كتوقعات البشرية، إذ في نسل إبراهيم "تتبارك كل الأمم". القديس أغسطينوس إنه لم يعلمنا الحق فحسب، وإنما قدم نفسه لنقتنيه؛ وهكذا أيضًا بالنسبة للوداعة، فبتجسده اتضع لنقتنيه فنحمل الوداعة والاتضاع، وبه نحطم كبرياء إبليس. بمعنى آخر، السيد المسيح هو سلاحنا ضد العدو المتكبر. شهد إشعياء النبي عن وداعته العجيبة، قائلًا: "كشاة تُساق إلى الذبح، وكنعجة صامته أمام جازيها فلم يفتح فاه" (إش 53: 7). كما قال السيد عن نفسه: "احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب" (مت 11: 29). وأخيرًا فأنه بعدله يهبنا ملكوت البر الذي لا يعرف الظلم. هناك ارتباط بين الحق والوداعة والعدل، إذ هم وجوه مختلفة لملكوت واحد؛ فإن كان المؤمن يقبل المسيح "الحق" ففي رفضه للباطل يلتزم بروح الوداعة؛ بمعنى آخر لا يسقط تحت الغضب بحجة الدفاع عن الحق؛ وفي وداعته يلتزم بالعدل والبر الإلهي... جميعها هبات إلهية، أو قل هي عطايا الروح القدس فينا الذي يأخذ مما للمسيح ويهب الكنيسة لتحمل شركة سماته وتتهيأ للعريس الأبدي. هذه هي أسلحة العريس السماوي: الحق والوداعة والعدل... وهي الأسلحة التي لأجلها قَبِلَ الصليب ليُحطم الباطل ويذل الكبرياء وينتزع سلطان إبليس الظلم. بهذا تعتز يمين الرب وتحقق عجبًا، أو كما يقول القديس أغسطينوس: [إنه بهذا تقودنا يمينه أي قدرته وتصنع فينا أعمالًا عجيبة! إنها أسلحة فعّالة اجتذبت الكثيرين من الوثنية بأساطيرها الباطلة وتشامخها وعنفها إلى الشركة مع الله بالروح القدس في المسيح يسوع ليمارسوا الحياة الجديدة الفائقة السمو. لهذا يترنم المرتل، قائلًا: "نُبلك مسنونة أيها القوي، الشعوب تحتك يسقطون في قلب أعداء الملك" [5]. ما هي نبل السيد المسيح إلا الكرازة بالصليب التي اخترقت القلوب وجرحتها بالحب، وألهبتها بروح القوة التي لا تعرف الفشل أو اليأس. لقد أصابت القلوب التي كانت في عداوة مع الملك العريس، فخضعت له بالإيمان وسجدت له في طاعة عجيبة، تتمتع بالحياة الجديدة. يرى البعض[863] أن نبل الملك المسنونة هم الرسل الأطهار الذين سنّهم الروح القدس وصقلهم فانغرسوا في قلوب الشعوب والأمم يشهدون لتعاليم الرب ولعمل نعمته العجيبة! ففي يوم العنصرة تمتع الجمهور الحاضر بهذه النُبل المسنونة، إذ قيل: "فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم، وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرحال الإخوة؟" (أع 2: 37). ويتحدث الرسول بولس عن عمل الروح خلال النبوة في الكنيسة: "هكذا يخر على وجهه، ويسجد لله مناديًا أن الله بالحقيقة فيكم" (1 كو 14: 25). * يقول: "سهامك مسنونة". إن وصايا (سهام) الله المنطلقة في كل مكان تنذر بكشف خبايا كل قلب، حاملة وخز الضمير وتغييره في كل أحد[864]. العلامة ترتليان 5. إعلان ملكوته: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك. لأنك أحببت البر، وأبغضت الإثم. من أجل هذا مسحك الله إلهك بزيت البهجة أفضل من رفقائك. المرّ والميعة والسليخة من ثيابك. من المنازل الشريفة العاج الني منها ابتهجت" [6-8]. يتطلع المرتل إلى المسيّا الملك الغالب بصليبه، الذي يُقدم دمه الثمين كفارة عن خطايا العالم، ومهرًا لعروسه الملكة السماوية، فيترنم قائلًا: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور". وقد وضعت الكنيسة القبطية لحنًا مشهورًا يُدعى "بيك اثرونوس" pek`;ronoc أي "كرسيك" يستغرق حوالي ثلث ساعة تنطلق فيه النفس لتتأمل في عرش الملك المصلوب. تترنم به الكنيسة في أسبوع الآلام (الثلاثاء) كما في الجمعة العظيمة قبل الدفن... إن أحداث الصلب والدفن في عيني المؤمن ليست إلا إعلانًا عن عرش الملك الأبدي. ما هي سمات هذا الملكوت المُعلن بالصليب؟ 1. ملكوت إلهي: اقتبس القديس بولس هذه الآية وما بعدها في (عب 1: 8، 9) لتأكيد لاهوت ربنا يسوع المسيح؛ فإنه لا يمكن مطلقًا أن نوجه حديثنا إلى سليمان الحكيم أو غيره من الملوك، قائلين: "كرسيك يا الله إلى دهر الدهور"؛ إنما هو حديث خاص بالكلمة المتجسد الذي يعلن ملكوته فينا ويحملنا إلى ملكوته السماوي إلى الأبد. * جليٌّ أنه حتى قبل أن يصير إنسانًا كان ملكًا وربًا منذ الأزل. إنه أيقونة الآب وكلمته؛... وقد تحدث بطرس عن ربوبيته علينا، التي تحققت حين صار إنسانًا (إذ ملك علينا)، مخلصًا الكل بالصليب وقد صار ربًا على الكل وملكًا (أع 2: 36) [865]. القديس أثناسيوس الرسولي 2. ملكوت أبدي: لكل مملكة بداية كما لها نهاية، أما المسيا الملك فقد جاء يعلن عن ملكوته فينا لنبقى معه إلى الأبد، حيث لا يقدر الموت أن يُحطم ملكوته! إنه يحملنا ونحن بعد في الجسد إلى ما فوق الزمن والمكان لنحيا بقلوبنا معه في ملكوته، مترنمين مع الرسول: "أجلسنا معه في السمويات" (أف 2: 6) متممين الوصية: "فإن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله؛ اهتموا بما فوق لا بما على الأرض... متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كو 3: 1-4). 3. قضيب ملكه قضيب الاستقامة: في حكمة تارة يترفق وأخرى يؤدب، وفي الحالتين يطلب استقامتنا وبرَّنا، فهو محب للبرِّ، لأنه قدوس ومبغض للإثم، لأنه لا يمكن أن تتفق الظلمة مع النور. 4. له مسحة الابتهاج: في العهد القديم كان الأنبياء والكهنة والملوك يُمسحون بالدهن المقدس علامة حلول الروح عليهم لتكريس حياتهم وطاقاتهم لحساب شعب الله. بهذا يُحسبون مُفرزين للعمل المقدس، في ملكية الله ولحسابه، ولا يجوز لهم الانحراف عن رسالتهم. ولم يكن ممكنًا في العهد القديم أن يُسمح إنسان ما ملكًا وكاهنًا في نفس الوقت، لأن الكهنة من سبط لاوي بينما الملوك من سبط يهوذا، أما كلمة الله فقد قبل إخلاء ذاته بإرادته خلال التجسد والصلب ليعمل لحساب البشرية ولتقديسها فيه بكونه الكاهن الفريد الذي وحده الكاهن والنبي (رب الأنبياء) والملك والذبيحة... هذا هو مفهوم مسحته. فريد في مسحته لأنه وهو رب الكهنة والأنبياء والملوك وخالق الذبائح قبِل بإرادته ومسرته أن يصير الكاهن والنبي والملك والذبيح! مُسح بزيت البهجة، لأنه قبِل هذه المسحة بسرور، كقول الرسول: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي" (عب 12: 2). كما قبلها كمسرة أبيه الذي يشهد عن الابن قائلًا: "هذا هم ابني الحبيب الذي به سُررت" (مت 3: 7؛ 17: 5، مر 1: 11؛ لو 3: 22). بمسحته الفريدة يهبنا نحن أعضاء جسده، مسحة البهجة في سرّ الميرون، فنُحْسب ملوكًا وكهنة (رؤ 1: 6) وذبيحة أو تقدمة للرب! دُعي "المسيح" بكونه الممسوح لخلاصنا أزليًا، ونحن نُدعى مسيحيين لأننا به نُمسح لله وتُفرز قلوبنا لحساب ملكوته. لقد مُسح السيد المسيح كحجر مرفوض يصلح رأسًا للزاوية (مز 118: 22)، وكما يقول الرسول بطرس: "الذي إذ تأتون إليه حجرًا مرفوضًا من الناس، ولكنه مُختار من الله كريم، كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حية بيتًا روحيًا كهنوتيًا مقدسًا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح" (1 بط 2: 4، 5). أُشير إلى السيد المسيح كحجر مرفوض من الناس مقدّس لله بالحجر الذي وضعه يعقوب تحت رأسه عندما نام (تك 28: 11-18)، فرأى السماء مفتوحة و"إذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء". وملائكة الله صاعدة ونازلة عليه، عندئذ قام يعقوب ومسح الحجر بالزيت ثم تركه ومضى... إنه رمز للسيد المسيح الذي مُسح ليصالح السماء مع الأرض، لكنه هو المسيح المتروك أو المرفوض من الناس! فيما يلي بعض تعليقات للآباء عن الكلمة المتجسد الممسوح، والذي فيه نحن مُسحنا: * هذا الختم (المسحة) هو بالحري على قلوبنا لا على أجسادنا[866]. القديس أمبروسيوس * لأنه بالحق نال كل الملوك والأشخاص الممسوحين منه نصيبهم في أسماء الملوك والمسحاء، كما تسلم هم نفسه من الآب الألقاب: "الملك والمسيح والكاهن والملاك" والألقاب الأخرى المماثلة التي يحملها أو قد حملها. عصا هرون التي أفرخت تعلن عنه أنه رئيس الكهنة، وقد تنبأ إشعياء أن قضيبًا يخرج من جذع يسىَّ، وكان هذا هو المسيح[867]. الشهيد يوستين * يستحيل الإيمان بالمسيح دون تعلم الاعتراف بالآب والابن والروح القدس، لأن المسيح هو ابن الله الحيّ، الذي مسحه الآب بالروح القدس (مت 16: 16؛ أع 10: 38). وكما يقول داود بإعلان إلهي: "لهذا مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج أكثر من رفقائك"، وإذ يتحدث إشعياء باسم الرب يقول: "روح الرب عليّ، لأن الرب مسحني" (إش 61: 1) [868]. * حين أصبح إنسانًا أخذ اسم المسيح، لأن الألم والموت هما ثمرة هذا الاسم[869]. الأب يوحنا الدمشقي * بهذه الكلمة كشف عن اسمه، إذ كما سبق فشرحت إنه دُعي مسيحًا من المسح anointing[870]. الآب لاكثانتيوس * انظروا أيها الأريوسيون، واعلموا ما هو الحق... يسبحه المرتل بكونه الله السرمدي، قائلًا: "كرسيك يا الله منذ الأزل وإلى الأبد"، وقد أعلن عن الأمور الأخرى لكي تشاركه فيها... لقد مُسح هنا، لا لكي يصير إلهًا، إذ هو كذلك من قبل؛ ولا لكي يصير ملكًا، لأن ملكوته أزلي؛ إذ هو صورة الله، يُظهر الإعلان الإلهي المقدس. لكن لأجلنا كُتبت هذه الأمور مقدمًا. فإن ملوك إسرائيل صاروا ملوكًا عند مسحهم، وهم لم يكونوا هكذا قبلًا، وذلك مثل داود وحزقيال ويوشيا والبقية. أما بالنسبة للمخلص فعلى العكس هو الله، الحاكم أبدًا. قيل عنه كإنسان إنه مُسح بالروح، ليمنحنا نحن البشر، لا الرفعة والقيامة فحسب وإنما أيضًا سكنى وألفة الروح، ولتأكيد هذا الأمر يقول الرب نفسه بفمه في إنجيل يوحنا: "أرسلتهم أنا إلى العالم؛ ولأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق" (يو 17: 18، 19) بقوله هذا أوضح أنه ليس المقدَّس بل المقدِّس، لا يقدسه آخر بل يتقدس بذاته! يتقدس في الحق؛ من يقدس ذاته هو رب التقديس، فكيف يحدث هذا إذن؟ ما الذي يعنيه سوى هكذا: "إنني يكوني كلمة الآب، أبذل ذاتي، أصير إنسانًا، أتقدس فيه، حتى يتقدس الجميع فيَّ أنا الذي هو الحق"[871]. البابا أثناسيوس الرسولي * هذا هو زيت الابتهاج، الذي يقول عنه النبي: "مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك" [7]. أخيرًا يقول بطرس: "أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئًا من الجليل بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا، يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس" (أع 10: 37، 38). الروح القدس إذن هو زيت الابتهاج. حقًا قال: "دهن الابتهاج" لئلا تحسبونه مخلوقًا، لأن طبيعة هذا النوع من الدهن لا يختلط برطوبة (ماء) من نوع آخر. هكذا أيضًا لا تمسح البهجة الجسد بل تنير القلب الداخلي، كما قال النبي: "جعلت سرورًا في قلبي" (مز 4: 7) [872]... القديس أمبروسيوس يرى القديس أمبروسيوس في هذه المسحة إنها "دهن بهجة" ترتبط بالأعماق الداخلية لا الجسد، فتنزع عن القلب روح الغم والتبرم، وتهبه الفرح والبهجة، كما يُفصل من الماء بسهولة، لأن الزيت يطفو عليه ولا يمتزج به. إذ يتحدث المرتل عن المسحة التي بها نكتشف سرّ الصليب، يقول "مُرّ وميعة وسليخة من ثيابك" [8]. كانت ثياب أمراء الشرق ثمينة للغاية (لو 7: 25)، أما ثوب السيد المسيح فهو كنيسته، وهو ذو أريج حلو يبهجه بعمل روحه القدوس. كنيسته طاهرة "بلا دنس ولا غضب" (أف 5: 27)، تحمل رائحة بره وقداسته، رائحة المسيح الذكية (2 كو 2: 15). ويرى بعض القديسين أن ثياب السيد المسيح قد نسجت من خيوط آلامه على الصليب ودفنه، لأن المرّ والميعة والسليخة تُشير إلى الأطياب التي طُيَّبَ بها جسد السيد المسيح. * يشير النبي بهذه العطور إلى آلام ربنا وموته، لأنه عند إنزال جسده المقدس عن الصليب طيَّبه يوسف ونيقوديموس بمر وميعة. الميعة هي عصير شجرة، والسليخة هي قشرة تُسلخ من شجرة. يقول القديس باسيليوس الكبير:[إن المُرّ رمز لدفنه لأنه مشدد (جاف) ويدل على وضع الجسد في القبر؛ وأما الميعه فلكونها سائل فهي تدل على نزوله إلى الجحيم ليخلص المسجونين هناك: وأما السليخة فتدل على شجرة الصليب، وهذه قد فاضت رائحة عطرها، وملأت رائحتها الذكية البرايا. وأما قوله "من ثيابك" فيدل على تجسد ربنا وأخذ جسدًا يحل فيه اللاهوت. الأب أنثيموس الأورشليمي المُرّ هو نوع من الأطياب يستخرج كصمغ من شجرة ضخمة قصيرة تُسمى Balsamodendron Myrrah. وهو على شكل حبوب بيضاء أو صفراء لها رائحة ذكية. أُستخدم المُرّ في صنع المسحة المقدسة (خر 30: 23)، وفي التحنيط (يو 19: 39)، وفي تعطير النساء (إس 2: 12، أم 7: 17)، وهو ذو قيمة ثمينة (مت 2: 11). وهو أحد الهدايا التي قدمها المجوس عند ميلاد السيد المسيح. الميعة[873] وهي زيت عطري يستخرج من شجرة من أصل هندي تنمو في جميع الأراضي المقدسة. ويظن البعض أن الميعة هي صمغ راتينجي يُستخرج من شجرة شبيهة بشجرة المُرّ، وهي نوع من Balsamodendron. كان هذا العطر مستخدمًا في فلسطين للملابس وفي المخدع وعند الدفن في التكفين (أم 7: 17؛ نش 4: 14؛ يو 19: 39). وتتكون السليخة (خر 30: 24؛ حز 27: 19) من عيدان من لحاء شجرة نوع من "القرفة" Cinnamomum Cassia، نبات ينمو في الصين وماليزيا. وبراعم السليخة هي زهور لم يكتمل نضوجها تحمل ذات طعم القرفة ورائحتها. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل يرى في الثوب تنوعًا، إشارة إلى أن خلاصنا لا يتحقق بالنعمة وحدها وإنما ثمة حاجة إلى الإيمان وما يلحقه من ممارسة الفضائل[874]. وكان المُرّ والميعة والسليخة تفوح رائحتها بكونها رائحة المسيح الذكية التي نتمتع بها بنعمة الله دون تكاسل أو تهاون من جانبنا! يرى العلامة أوريجانوس أن ثياب كلمة الله تُشير إلى تعليم الحكمة الإلهية التي يفوح منها رائحة ذكية: يرمز المرّ إلى الموت الذي قبله السيد المسيح لأجل البشرية، والميعة تشير إلى تنازله وإخلائه ذاته ليحمل صورة العبد، والسليخة التي تستخرج من نبات يتغذى وينمو حيث ينهمر المطر بغزارة، تشير إلى فداء البشرية الموهوب من خلال مياه المعمودية[875]. وكأن غاية تعليم المسيح أن تموت معه (المُرّ) بروح الاتضاع (الميعة) متمتعًا بالبنوة لله (السليخة). ويرى كل من القديسين أمبروسيوس[876] وأثناسيوس الرسولي[877]أن هذه العطور تُشير إلى الدفن إذ بها طُيّبَ جسد السيد المسيح. بمعنى آخر، إن كانت الكنيسة هي ثوب المسيح الملتصق به، فأنها لن تحمل رائحته الذكية ما لم تُدفن معه لتقوم أيضًا معه! بعد أن تحدث عن ثياب المسيح التي تفيح رائحتها الذكية، يتعرض لهيكله البهي الناصع البياض الذي تقيمه نفوس المؤمنين بروحه القدوس، كمقدس له، وموضع بهجة! "من المنازل الشريفة العاج التي منها ابتهجت. بنات الملوك في كرامتك" [8]. * الحصون (المنازل) التي يتحدث عنها تعني هياكل الله التي بُنيت بعد آلام المسيح وبعد أن فاح عطرها في العالم. قوله "من العاج"... لأنه كثير الثمن ومتلألئ في البهاء ويدون طويلًا. هكذا صارت الهياكل المقدسة لامعة بنور نعمة الله ودائمة. أما "بنات الملوك" فهن الملكة هيلانة والملكة أفدوكسيا وغيرهما اللواتي قمن ببناء هياكل مكرّمة وبهية في أورشليم كما في بلاد أخرى. ويُقال أيضًا عن نفوس المؤمنين إنها بنات ملك الملوك الذي هو ربنا يسوع المسيح. أنثيموس أسقف أورشليم 6. الملكة العروس: بدأت تسبحة العُرس بالكشف عن شخصية العريس وإمكانياته وأعماله وسمات مملكته وفاعليته، الآن تقدم لنا العروس الملكة، ومركزها في عيني عريسها، وسمائها، ودورها الإيجابي. "قامت الملكة عن يمينك" [9]. لم يقل "قانت العروس" بل "قامت الملكة عن يمينك" وذلك لتأكيد الحقائق التالية: 1. أنها وإن كانت في حالة عُرس دائم، وفرح بلا إقطاع، لكن يلزمها أن تدرك دورها الإيجابي بكونها "ملكة". دخولها إلى العُرس، هو دخول إلى حالة فرح، لا لتعيش مدللة تنتظر من يخدمها، بل تحمل المسئولية لتعمل لحساب الآخرين. جاء المسيح الملك لكي يخدم ويبذل نفسه عن كثيرين، وهكذا يليق بالكنيسة - كهنة وشعبًا - أن يشاركوا العريس هذه السمة: سمة الخدمة الباذلة والحب العملي بلا توقف! 2. جلوسها عن يمين الملك هو شرف عظيم، من يستحقه؟! لكنه "اليمين" يعني القوة، فجلوسها عن يمينه إنما يعني أنها تحمل قوته، فلا تنسب أي نجاح إلى ذاتها بل إلى عريسها العامل في حياتها... كل ما في حياتها هو ديْن لذاك الذي أقامها ملكة. لهذا إذ يشرح القديس يوحنا الذهبي الفمكيف رأى داود النبي الكنيسة ملكة يقول: [طرح نفسه علينا كثوب: "لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح" (غل 3: 27). وحينما رأى داود ذلك الثوب من بعيد بعينيه النبويتين صرخ عاليًا، وقال: "قامت الملكة عن يمينك". فجأة صارت المتسولة والمطرودة ملكة تقف عن يمين الملك؛ ويظهر النبي المسيح والكنيسة كعريس وعروس واقفين في عُرس[878]]. 3. إنه عرس فريد فيه ترتدي العروس عريسها كثوب تختفي فيه (غل 3: 27)، فتحمل شركة سماته: أي الحياة السماوية التي يرمز لها بالذهب. فقد قيل: "مشتملة بثوب موشى بالذهب متزينة بأنواع كثيرة" [9]. ثوب الكنيسة منسوب بالذهب، بمعنى آخر، في كل أفكارها وتصرفاتها تمارس الحياة السماوية، والفكر السماوي. أما زينتها المتنوعة فتشير إلى المواهب المتعددة لأعضائها. الكل يشترك في انسحاب قلوبهم إلى السماء لكن لكل واحد موهبته الخاصة التي لبناء الجميع. وكما يقول الرسول: "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد" (1 كو 12: 6)، "هكذا أنتم أيضًا إذ أنكم غيورون للمواهب الروحية اطلبوا لأجل بنيان الكنيسة أن تزدادوا" (1 كو 14: 12). 4. يطلب العريس السماوي من عروسه أن تحتل مكانتها في العائلة الملوكية السماوية بكونها عروس وملكة. فهو يحبها، مقدمًا آخر قطرة من دمه لاقتنائها، إذ ليس من شيء في نظره أثمن منها. لهذا يطالبها مشاركته في ذات الحب، فتعتبر كل شيء آخر غيره بلا قيمة مهما كان عزيزًا عليها. يطلب منها أن تخرج بقلبها من العالم وشره وخداعاته، كما يُطالبها أن تهجر أقرب الناس إليها لتلتصق به، كما أخلى ذاته لكي يلتصق بها. لقد قدس ذاته لأجلها (يو 17: 19)، طالبًا تقديس كل حياتها أو تكريس كل قلبه لخدمته، حاسبًا هذا هو جمالها الروحي الذي يشتهيه فيها، إذ يقول: "أسمعي يا ابنتي وانظري وميلي بسمعك. وانسي شعبك وبيت أبيكِ. فإن الملك اشتهي حسنك، لأنه هو ربك" [10-11]. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[879] أن الكنيسة قد صارت عروسًا للمسيح بعد أن كانت أختًا له، إذ جددها بالمعمودية قبل أن تصير عروسًا له. ولئلا تُفهم هذه الألقاب مثل "أخته" و "عروسه" بطريقة مادية أو بقرابة جسدانية أو دموية، نراه يدعوها هنا "ابنته". كيف تكون الأخت والعروس ابنة للعريس؟ إنه يود أن يكشف عن مدى شوقه للالتصاق بنا فيقدم لنا هذه الألقاب، فنقبله كل شيء بالنسبة لنا. ففي هذا المزمور يقدم نفسه هكذا: * الإله [6] الأبدي الذي يملك على القلب ويحملنا إلى عرشه السماوي. * المسيح [7] المسموح بدهن الابتهاج، مكرسًا كل إمكانياته ليهبنا فرحه الأبدي. * الملك [6] الذي يقيمنا ملكة تنعم بشركة مجده الملوكي. * عريسًا [11] نتحد به كعروس، فنحمل بهاء فينا. * سيدًا [11] نتعبد له بفرح. * أبًا روحيًا [10] ونحن ككل، ابنته المدللة في عينيه. ويلاحظ في دعوته إليها بأن تنسى شعبها وبيت أبيها لتلتصق به، الآتي: أ. يطالبها بتقديس حواسها، خاصة السمع والنظر؛ فإن كان هو سامع الصلوات والمتطلع إلى البائسين، يليق بنا نحن أن نسمع إليه بالطاعة، وأن نتطلع إليه بالحب. أول وصية هي "اسمع"... لأن الطاعة أفضل من ذبائح الجهال. والطاعة القلبية هي انعكاس للحب الداخلي الذي يسحب قلوبنا - العين الداخلية - التأمل في الله محبوبنا! ب. يُطالبها بالتشبه بإبراهيم أب الآباء الذي بالإيمان أمال أذنه إلى دعوة الله، فترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه، منطلقًا من أور الكلدانيين إلى حيث دعاه الله لينال المواعيد الإلهية المتلاحقة. كان يجب عليه أن يخرج من بين الوثنيين، وينسى كل خبراتهم لينعم بخبرات روحية جديدة بالتصاقه بالله ودخوله في عهد معه. * في هذا المزمور يتحدث الله عن النفس البشرية أنها إذ تقتدي بإبراهيم يلزمها أن تخرج من أرضها ومن عشيرتها، وأن تترك الكلدانيين أي الشياطين (العبادة الوثنية) وتسكن أرض الأحياء التي يقول النبي عنها في موضع آخر: "وأنا أومن أني أُعاين خيرات الرب في أرض الأحياء" (مز 27: 13). لكن لا يكفي الخروج من أرضكم ما لم تنسوا شعبكم وبيت أبيكم، أي إن لم تحتقروا (شهوات) الجسد، وتلتصقوا بالعريس في عناق وطيد وثيق[880]. القديس جيروم * قال القديس باسيليوس: [إن أب الخطاة هو الشيطان، إذ قيل إن من يصنع الخطية هو مولود من إبليس (8: 41، 44). إن قوله أن يخرجوا من بيت أبيهم يعني أن يكفوا عن فعل الخطية وأن يولدوا لله بالمعمودية ليصيروا أولاده. أنثيموس أسقف أورشليم إذ يدعوها أن تنسى بيت أبيها... يشتهي حسنها، لأنها إذ تتخلى عن إبليس وأعماله تقبل عمل الله فيها كسرّ جمالها. * لا يُعطى النسيان جمالًا... فما نوع النسيان هذا الذي يسكب جمالًا على النفس؟ إنه نسيان الخطية! لكن، متى يأتينا نسيان الشر؟ عندما نتذكر الأمور الصالحة، عندما نتذكر الله! إن كنا نتذكر الله على الدوام لا يمكننا أن نتذكر تلك الأمور أيضًا! * إن كان فينا أي شيء عتيق، فلنطرحه عنا؛ إن كان فينا أي غضن أي دنس أو عيب، فلنغسله فنصير أطهارًا (أف 5: 27)... يمكن حتى لمن تشوّه تمامًا أن يستعيد هذا الجمال الذي يقول عنه داود: "يشتهي الملك حسنك" [881]. القديس يوحنا الذهبي الفم * إننا مدعوون من الله الآب خلال مبادرة مباركة مغبوطة أن نهجر أبانا الشيطان. حقًا إننا نترك أبانا الشيطان شريطة الاستعانة بالله، والجهاد الدائم أن نتحاشى شره المخادع ونهرب منه[882]. الأب قيصريوس أسقف آرل * يعني إن تركتِ أعمال شعبكِ الشنيعة، وخرجت من بيت أبيك، يتجلى بهاؤك الأول، وتصيرين شهية المنظر. وأما بهاء النفس وجمالها فهو حسن العبادة والعفة والاتضاع وسائر الفضائل التي تُرضي الله. أنثيموس أسقف أورشليم * بالنسبة للشخص الذي يقول: "اسمعي يا ابنتي"، يكون لها بمثابة أب. إنه يشهد أن الذي يحثها على نسيان بيتها وشعبها هو أب لابنته، ويتم ذلك بموت الإنسان مع المسيح عن اهتمامات هذا العالم. يقول الرسول: "ونخن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى، لأن التي تُرى وقتية وأما التي لا تُرى فأبدية" (2 كو 4: 18). وإذ ننطق قلبيًا من هذا البيت المنظور الزمني نوجّه أعيننا وقلوبنا إلى ذاك الذي نبقى فيه إلى الأبد، ونحقق ذلك إذا ما كنا ونحن نتحدث في الجسد لا نعود بعد في حرب مع الرب حسب الجسد، معلنين بالقول والفعل حقيقة قول الرسول الطوباوي: "سيرتنا نحن هي في السموات" (في 3: 20) [883]. الأب بفنوتيوس * ترك الرسل والديهم (مت 9: 9؛ مر 11: 15-19)، تركوا الأقارب، تركوا كل ممتلكاتهم في لحظة. تركوا العالم وقنيته اللامحصورة... الله لا ينظر إلى حجم الممتلكات، بل إلى تدبير النفس التي نبذتها[884]. القديس جيروم * إذ يعتبر البعض (في هذا القول) استعارةً، يقولون إنه حينما جاء المسيح من اليهودية خرجت الكنيسة لاستقباله، خرجت من ديارها (أي من الوثنية)، إذ كُتب: "أنسي شعبك وبيت أبيكِ". لأن المسيح أيضًا خرج من تخومه (مت 15: 21-22)، لهذاصار ممكنًا أن يقع كل منهما في حب الآخر, ولهذا قيل: "وإذا امرأة كنعانية خارجة من تخومها" (أنظر مت 15: 22) [885]. * حتى راعوث، لو لم تكن قد تركت زوجها قبلًا ونبذت بيتها وجنسها وبلدتها وأقرباءها ما نالت هذه القربى. هكذا الكنيسة أيضًا إذ تخلت عن العادات التي اكتسبتها من آبائها، عندئذ وليس قبل ذلك، صارت جميلة في نظر عريسها[886]. القديس يوحنا الذهبي الفم يقول السيد المسيح: "خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم" (يو 16: 28)، وذلك بإخلائه ذاته، ونزوله إلينا دون أن ينفصل قط عن الآب لأنه واحد معه ومساوٍ له في الجوهر... هو خرج إلينا ليلتقي بنا، ونحن أيضًا نخرج إليه من "الذات" أو "الأنا" لنلتقي معه في دائرة الإخلاء كعروس مع عريسها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[887]: [إنه إذ رأى البشرية وقد تركت الله وصارت زانية، نزل الكلمة الإلهي إليها لا في كمال بهائه بل ابنًا للإنسان، حتى لا تخاف منه ولا تهرب، بل تقبله وتتقبل الاتحاد معه والتمتع بعمله فيها فتصير بالحق عروسه الجميلة والملكة]. به نترك فسادنا ونحمل الطبيعة الجديدة الجميلة والتي لا يشيخ جمالها مع الزمن ولا ينحل. * اعلموا أنكم قد ارتبطم بالمسيح، فامتنعوا عن تلك الحماقات، إذ هو لا يُسر بمثل تلك الانحرافات، بل يطلب جمالًا آخر به يزداد حبه لنا بالأكثر جدًا، أعني ما في النفس (من جمال). هذا ما يُلزمكم النبي أن تطلبوه، إذ يقول: "فيشتهي الملك حسنك"[888]. القديس يوحنا الذهبي الفم * كيف تصير المدوسة والفقيرة ملكة؟! إلى أين ارتفعت؟ لقد صارت الملكة التي تقف عاليًا بجوار الملك! كيف؟ لأن الملك صار خادمًا، وهو ما لم يكن عليه بالطبيعة، إنما صار هكذا. أفهموا إذن ما يخص اللاهوت، واستوعبوا ما يخص الإخلاء! أفهموا من كان هو؟ وماذا أصبح لأجلكم؛ ولا تخلطوا بين الأمور المتمايزة، ولا تجعلوا من جدلكم حول تعطفاته الجزيلة مجالًا للتجديف[889]. القديس يوحنا الذهبي الفم هكذا صار الملك خادمًا لكي يُقيم من الخادمة ملكة، وأخلى الملك ذاته لكي يسكب جماله عليها أبديًا! * المرض يفسد الجمال الجسدي، وطول الأيام يُحطمه، والشيخوخة تجعله شاحبًا، ويأتي الموت ويقتنصه بكليته. أما جمال النفس فلا تهزه الأيام ولا الأمراض ولا الشيخوخة ولا الموت ولا شيء من هذا، بل يبقى دائم الازدهار. كم من مرة أسقط الجمال المتطلعين إليه في تصرفات شريرة؟! أما جمال النفس فيجتذب الله ذاته ليحبه، وذلك تمامًا كما قال النبي مخاطبًا الكنيسة: "اسمعي يا ابنتي وانظري وميلي سمعك... فإن الملك قد اشتهى حسنك"[890]. القديس يوحنا الذهبي الفم 5. كنيسة متعبدة لعريسها: "لأنه هو ربك فأسجدي له" [11]. إذ يعكس العريس جماله عليها تصير جميلة جدًا جدًا وتصلح لمملكة (حز 16: 13)، فإنها في اتحادها معه تكتشف بالأكثر مجده، فتتعبد له في عذوبة فائقة. ومع كل تعبد تتعرف عليه بالأكثر فيزداد حبها له وخضوعها، لتبقى على الدوام تسجد له بكل كيانها في تهليل عجيب! إنها كعروس متهللة بعريسها لا تعرف كيف ترد له إحساناته غير المحصاة، فتخضع له وتسجد علامة شكرها الدائم! ومع كل شكر تفيض نعم الله عليها بالأكثر فيزداد حنينها بالأكثر نحو تقديم الشكر والحمد له...! هذه هي سمة الحياة السماوية الفائقة! يقول القديس غريغوريوس: [إنه في الأبدية إذ نخضع قائلين الثلاثة تقدسيات نشعر كأننا ننعم بمجده جديدًا في حياتنا فنقوم لنسجد، نبقى هكذا في عذوبة فائقة! شتان بين خضوع إبليس وجنوده لله في يوم الرب العظيم حيث يطلبون أن تسقط الجبال لتغطيهم من وجه الجالس على العرش، وبين خضوع العروس المتهللة التي تنعم بشركة الأمجاد. العروس الجامعة: تتسم هذه العروس بالجامعة، فقد انفتح باب الإيمان أمام كل الأمم والشعوب بعد أن ظن اليهود زمانًا أن الإيمان بالله قاصر عليهم دون غيرهم. ويتمتع بهذا الإيمان كل الفئات حتى وجد أباطرة وملوك وأمراء لهم نصيبًا في كنيسة العهد الجديد. ففي دهشة يقول المرتل: "وله تسجد بنات صور بالهدايا، ويتلقون وجهه أغنياء شعب الأرض" [12]. كانت "صور" تمثل الغنى الفاحش خلال تجارتها العالمية مع الانحلال والفساد، بكونها بلدًا تجاريًا مفتوحًا للغرباء. وقد سبق لنا الحديث عنها في تفسيرنا لسفري حزقيال[891] وإشعياء[892]. ويرى القديس جيروم أن كلمة "صور" في العبرية تعني "محنة"[893]، لذا يرى أن سكانها يشيرون إلى الساقطين تحت محنة الشيطان وبلاياه. سجود صور للعريس وتقديمها هدايا يشيران إلى انجذاب الأمم إليه وتقديم العبادة. وكما يقول الأب أنثيموس الأورشليمي: [ستخضع له كافة الأمم، لأنه للمسيح تنحني كل ركب. وقد ذكر صور المدينة التي كانت تُتاخم بلاد اليهود، وكانت فيها عبادة الأصنام زائدة. وأيضًا بذكره صور شمل كافة الأمم، وهذا تعريف للكل من الجزء. فيقول إن الأمم جميعها التي هي على مثال أهل صور ستخضع له، وتقدم له هدايا الإيمان المستقيم والأعمال الصالحة]. بقوله: "ويتلقون وجهه أغنياء شعب الأرض" [12] يرى المرتل أن المؤمنين بالسيد المسيح هم الأغنياء في الإيمان، الذين صاروا به ملوكًا وكهنة (رؤ 2: 1)، أغنياء في عيني الله الذي يتقبلهم أبناء له بروحه القدوس في مياه المعمودية. بمعنى آخر إذ تقدم إليه الأمم من كل العالم ينالون غنى وشبعًا ومجدًا داخليًا فلا يشعرون بعوزٍ أو احتياج. هذه هي إحساسات الرسول بولس الذي يجد في مسيحه كنوز الحكمة والعلم (كو 2: 3)؛ كما يقول: "إنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة وكل علم" (1 كو 1: 5). 7. مجد العروس: نزل العريس السماوي إلى أرضنا لكي يبسط ذراعيه على الصليب فيضم المؤمنين من كل الأمم إلى أحضانه كعروس سماوية تحمل بهاء في داخلها، تطلب المجد الخفي لا المظاهر الخارجية. إنها كخيمة الاجتماع المغطاة من الخارج بجلود ماعز بلا جمال، أما الداخل ففيه أثمن أنواع الأقمشة من أرجوان وأسمانجوني مع تابوت العهد المبطن بالذهب والمنارة الذهبية بكل جمالها ومذبح البخور الذهبي الخ... من الخارج يراها العدو كما في فقر وخزي فيحتقرها، وفي الداخل يراها عريسها فيفرح بها. هكذا يرى الرسول أيضًا في خارجه الإنسان الذي يفنى بينما الداخل يتجدد يومًا فيومًا (2 كو 4: 16). من الخارج عار الصليب خارج المحلة، وفي الداخل قوة القيامة وبهجتها. يُحدثنا المرتل عن مجد العروس هكذا: 1. مجد داخلي: "كل مجد ابنة الملك من الداخل" [13]. إذ تدخل العروس إلى حجال عريسها الملك تصير له كل شيء: عروسًا وابنة وخادمة وصديقة الخ... تُمجده بحياتها حتى بأفكارها الخفية فيُمجدها هو أيضًا. * يجب أن نلاحظ أنه كما أن للملك حجالًا خاصًا إليه تُحضر عروسه أو ملكته، هكذا للعروس غرفتها حيث يُغلق الباب متى لحق بها كلمة الله (اللوغوس) ودخلت معه. لهذا فهي بكل ما لها من غنى في الداخل تغلق عليه في غرفتها هذه لتُصلي إلى الآب الذي يرى في الخفاء، وتدرك نفائس ما جمعته هناك، وإذ يبصر غناها يهبها ما تطلبه في صلواتها. العلامة أوريجانوس يُناجي العريس السماوي عروسه الممجدة في الداخل، قائلًا: "أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12). كأنه يقول لها: أذكري إمكانياتي فيك، فإنني أنا سرّ مجدك، جعلتكِ جنة وعينًا وينبوعًا؛ غرست فيكِ بروحي القدوس أشجارًا متنوعة، وفجّرت فيك ينبوع ماء حياة، وصرت لكِ سورًا من كل جانب حتى لا يتسلل إليك لص أو وحش مفترس. يُحدثنا الحكيم عن الإمكانيات الداخلية المجيدة، قائلًا: "اشرب مياهًا من جبك، ومياهًا جارية من بئرك. لا تفض ينابيعك في الخارج، في الشوارع، مع الغرباء"... كما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص[894]: [إنه حينما تنحرف أفكارنا الداخلية نحو الخطية الغريبة نكون قد أضعنا مياه ينابيعنا، وقدمناها للغرباء]. حين نركز أنظارنا على المجد الداخلي يُقيم الله نفسه حارسًا على أبواب قبلنا أو إنساننا الداخلي، إذ يؤكد: "وأنا يقول الرب أكون لها سور نارٍ من حولها وأكون مجدًا في وسطها" (زك 2: 5). يرى القديس أمبروسيوس أن المجد الداخلي المختوم هو بتولية النفس التي تحمل ثمارًا كثيرة صالحة: [ينطق السيد بهذا القول (نش 4: 12) للكنيسة التي يُريدها بتولًا بلا دنس ولا عيب. الجنة المخصبة هي البتولية التي يمكن أن تحمل ثمارًا كثيرة لها رائحة صالحة... إنها جنة مغلقة، لأنها محاطة بسور الطهارة من كل جهة. وهي ينبوع مختوم، لأن البتولية هي ينبوع العفة وأصلها، تحفظ ختم النقاوة مصونًا بغير اضمحلال، فيه تنكس صورة الله، حيث تتفق نقاوة البساطة مع طهارة الجسد أيضًا[895]]. 2. مجد سماوي: "مشتملة بأطراف موشاة بالذهب" [13]. في العهد القديم كان بهدب رداء الكاهن رمانات من نسيج ذات ألوان بديعة يتخللها أجراس ذهبية، يرى العلامة أوريجانوس أن هذه الأجراس يُلزم أن تدق على الدوام رمزًا لعدم سكوت الكاهن عن التحدث عن الأزمنة الأخيرة ونهاية العالم[896]. هكذا تحمل الكنيسة في عبادتها وسلوكها وعقائدها الطابع الأخروي السماوي (الذهب)، حتى أطرف ثوبها سماوية. 3. مجدها في تنوع مواهبها: "متزينة بأشكال كثيرة" [13]. 4. مجدها في كرازتها وشهادتها لعريسها. "يدخلن إلى الملك عذراى في أثرها. جميع قريباتها إليه يقدُمْنَ" [14]. إذ تنجذب النفس إلى عريسها تسحب معها قلوب كثيرة بشهادتها له، تأتي بكثيرين كعذارى. 5. كنيسة متهللة: "يَبْلُغْنَ بفرح وابتهاج؛ يدخلن إلى هيكل الملك" [15]. تفرح كل نفس بعريسها وتتهلل من أجل غنى أعماله ومحبته الفائقة لها. أما سرّ فرحها فهو دخولها إلى هيكل الرب السماوي. يرى القديس باسيليوس الكبير أن الحديث هنا عن الكنيسة الواحدة التي تجتذب الكثيرين من فساد معتقداتهم لتهبهم روح الفرح الحقيقي وتدخل بهم إلى الممالك السماوية. 6. كنيسة مكرمة: "ويكون لك أبناء عوضًا من آبائك. تُقيمهم رؤساء على سائر الأرض" [16]. لقد مات الآباء البطاركة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأقام الله من أبنائها (الرسل) رؤساء وملوكًا روحيين في كل أقطار المسكونة[897]، لهم سلطان روحي أن يحلو ويربطوا حسب إنجيل المسيح. * يتحدث الطوباوي داود هنا عن اختيار الرسل القديسين[898]. القديس كيرلس الكبير 7. كنيسة مسبحة تُمجد اسم الله: "ويذكرون اسمك في كل جيل وجيل؛ من أجل ذلك تعترف لك الشعوب يا الله إلى الدهر وإلى دهر الدهور" [17]. إنها تجتذب المؤمنين من كل الشعوب ليُسبحوا لله ويعترفوا بعمله الخلاصي العجيب. لتُسبحك نفسي أيها العريس الأبدي! * هب لي يا رب أن يشترك لساني مع قلبي في تسبيحك، فإن فيض حبك في داخلي يلهب أعماقي! وقد بقى لساني عاجزًا عن التعبير عما في باطني! * لتكشف عن بهاء جمالك في أعماقي، يا من أنت أبرع جمالًا من بني البشر! لتسكب بهاءك عليّ، فأحمل شركة سِماتك! * جميل أنت يا رب في حبك، بنزولك إليّ رفعتني إلى حضن أبيك، وبدخولك إلى معركة التجارب وهبتني نصرتك، وبضعفك أعطيتني ما هو أعظم من القوة! جميل أنت على الصليب، فقد فتحت لي أحشاءك الملتهبة حبًا، فأدخل واستقر فيها! جميل أنت في قيامتك، حطمت أبواب الجحيم، وفتحت لي أبواب الفردوس! جميل أنت في صعودك، فأنني أترقب مجيئك لكي أدخل معك إلى سمواتك! * شفتاك تقطران دسمًا، كلامك يهب نعمة الحياة والقيامة! قل كلمة فانجذب إليك، وأبقى معك إلى الأبد! * ما أروعك أيها العريس الملك المحارب، اضرب بسيفك لتبتر كل شر في داخلي، ادخل إلى معركة قلبي لتقيم عَلَمْ ملكوت محبتك فيّ! أقم في داخلي ملكوت الحق والوداعة والعدل! * أيها المسيح إلهي، امسحني بدهن روحك القدوس واهب البهجة! افرزني لحساب ملكوتك! * هب لي موضعًا عن يمينك أيها الملك السماوي، فأُحسب ملكة سماوية، ارتدي ثوب برك، وأتزين بمواهب روحك القدوس! * ادعني بصوتك فأنسى العالم وكل ما فيه، أنجذب إليك بكل قلبي، ويأتي معي كل من يشتهي العذراوية الروحية! * اسكب مجدك في داخلي، فقد اشمأزت نفسي من المجد الباطل. فيفيض قلبي بالتسبيح لك إلى دهر الدهور! * لك المجد أيها العريس السماوي، اكشف لي عن أسرار عُرسك! التعديل الأخير تم بواسطة Mary Naeem ; 23 - 01 - 2014 الساعة 05:02 PM |
|