رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||
|
|||||||||
الشاب الغني «فنظر إليه يسوع وأحبه وقال له يعوزك شيء واحد، اذهب بع كل مالك واعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني حاملاً الصليب» (مر 10: 21) مقدمة لا يستطيع أي إنسان على الأرض مهما بلغ من عمق الفكر وحسن التقدير أن يكشف عما فعلت هذه القصة في حياة الناس، وهل يمكن أن تتتبع آثارها العظيمة، وقد مدت جذورها في كل التاريخ، ووقفت تحكم على مواكب الناس، في أجناسهم المختلفة على مدى العصور، ألم يذهب القديس أنطونيوس - أبو الرهبنة في التاريخ - إلى الكنيسة، ويسمع عظة عن الشاب الغني فيتأثر بها، ويقرر أن يوزع كل ما يمتلك، ما خلا شيء صغير يبقيه من أجل أخته؟ ثم يعود مرة أخرى إلى الكنيسة ليسمع القول: «لا تهتموا للغد» وتؤثر فيه الكلمة فيوزع القليل الذي لأخته، حتى تضحي كاملة مثله!! ألم يتأثر بها القديس فرنسيس الأسيسي، فيتخلى عن ثروته الطائلة، ويخرج إلى الخدمة على النحو التالي العظيم الذي عرفه به التاريخ؟! ألم ير تشارلس استد أن الثروة ستقف عائقًا في سبيل تكريسه للخدمة، وفي ساعة واحدة وزع الآلاف التي ورثها ليخدم السيد؟! إن قصة الشاب الغني قصة قوية عميقة كالسيف القاطع الذي يصل إلى الأغوار البعيدة في امتحان الحياة وفحصها، لقد أحب المسيح الشاب الغني لأنه كان نموذجًا من أعظم نماذج الشباب التي تتملكنا بالإعجاب والحب، ولكن المسيح أيضًا، لم يتردد في كشف الحاجز الرهيب الذي فصل الشاب عن امتيازه الأعظم، دون أدنى مساومة أو تردد أو ذبذبة أو شبهة!! ومن حق السيد علينا أن نضع هذه الصورة مجلوة واضحة المعالم أمام الجميع شبابًا أو شيبًا على حد سواء، ولأجل ذلك سنرى القصة فيما يلي: الشاب وأوصافه العظيمة ملك هذا الشاب أوصافًا قل أن تجتمع في شاب واحد، ومن ثم يصح أن يكون نموذجًا لأي شاب يظهر على هذه الأرض، ومرآة يتطلع فيها الجميع، ومقياسًا يمكن مع جلاله العظيم، أن يكشف عن القصو الرهيب لأي سفينة تمخر العباب، وهي كاملة المحتويات فخمة المظهر، وبها مع ذلك ثقب واحد تتدفق منه المياه إلى داخلها حتى تغرق بجمالها وفخامتها ومن فيها، وتثوي في الأعماق مظهرًا ومخبرًا بسبب الثقب المفتوح، كان الشاب كما هو واضح وجلي. الشاب الممتليء قوة وشبابًا ألست تلاحظ أنه جاء إلى المسيح «راكضًا» والكلمة «راكضًا» تستوقفنا إلى حد مثير، من أين جاء، ولماذا لا يسير الهوينا أو على مهل، إنه صورة الشباب المتدفق بالقوة والحيوية، إنه الشاب الذي عناه الحكيم القديم عندما قال: «فاذكر خالقك في أيام شبابك قبل أن تأتي أيام الشر أو تجيء السنون إذ تقول ليس لي فيها سرور، قبل ما تظلم الشمس والنور والقمر والنجوم وترجع السحب بعد المطر، في يوم يتزعزع فيه حفظة البيت وتتلوى رجال القوة وتبطل الطواحن لأنها قلت وتظلم النواظر من الشبابيك، وتغلق الأبواب في السوق، حين ينخفض صوت المطحنة ويقوم لصوت العصفور وتحط كل بنات الغناء. ويخافون من العالي وفي الطريق أهوال واللوز يزهر والجندب يستثقل والشهوة تبطل لأن الإنسان ذاهب إلى بيته والنادبون يطوفون في الأسواق قبل ما ينفصم حبل الفضة أو ينسحق كوز الذهب أو تنكسر الجرة على العين أو تنقصف البكرة عند البئر» (جا 12: 1 - 6) لعله وليم بت الشاب العظيم الذي قال لمنتقديه من الشيوخ في البرلمان الإنجليزي لأنهم كانوا يقولون عنه إنه شاب. فالتفت إليهم وقال: هذا هو العيب الذي يتمني كل واحد منكم أن يرجع إليه!! أجل!! وما أجمل أن يكون الجسد متدفقًا بالحيوية، والذهن حاضر لماحًا، والذاكرة ناهضة، والخيال متوقدًا، والرجاء متوثبًا، والحياة كلها بستان في الربيع. الشاب الغني والثروة في حد ذاتها أساس الحضارة كما يقولون، فالشعوب الفقيرة تأتي عادة في المؤخرة في موكب الحضارة والثروة تجعل العبد حرًا، فلا يباع ويشترى تحت ضغط العوز والحاجة، وتبقى له آدميته وكرامته كإنسان لا يكرهه الجوع على المذلة والاستجداء، والمال يعطي الإنسان أن يحصل على كل ما هو نافع ولازم، فإذا حصل المرء عليه بالعفة والشرف، فهو خير كثير، وينبيء عن قدرة صاحبه على الجد والاجتهاد وحصانة الرأي وحسن التقدير، وقوة الإقدام، ولا يجوز ونحن نرى الأخطار الرهيبة التي يمكن أن تنشأ من المال أن ننسى أنه يمثل أعظم القوى المستخدمة بين الناس للخير والخدمة!! أن أنبل العواطف وأحطها كثيرًا ما تكون مرتبطة بالمال،... هل قرأت قصة كوزيت لفكتور هوجو، وكوزيت هذه فتاة صغيرة في الثانية عشرة من عمرها تعمل خادمة في بيت رجل غني يمتلك فندقًا، وكان الوقت شتاء، والناس تتأهب لعيد الميلاد المجيد، غير أن زوجة صاحب الفندق وهي تنام على فراشها الوثير في تلك الليلة، قالت لزوجها لقد مللت هذه الفتاة الصغيرة، وسأطردها في الغد من العمل، وقال لها الزوج اصنعي ما تشائين، واستسلم الرجل وزوجته للنوم، على أنه في تلك الليلة قصد الفندق مسافر، وقبل أن يأوي إلى مضجعه أخذ يتجول في أركانه يستطلع ما فيه، وحسب التقاليد والعادة كان الصغار يضعون أحذية يأتي إليها الملاك ليلاً ليضع للأولاد عطايا وهدايا، وكان الصغار يستيقظون في الصباح ليروا الهدية التي تركها لهم طارق الليل الخفي في أحذيتهم، وكان في الفندق ولدان صغيران هما ابنا صاحب الفندق.. وقد ناما في فراش وثير دافيء، وجاء طارق الليل، وهو الأم في الحقيقة، التي وضعت قطعة من النقود في حذاء كل واحد من الولدين، ولكنها وضعت ترابًا في حذاء الخادمة التي تبغضها، وعز على المسافر أن يشهد هذا المنظر البشع، من التمييز الشنيع بين الصغيرين اللذين ينامان في سريرين مريحين، الصبية البريئة التي تنام على كومة من القش بدون غطاء. فأسرع لافراغ الحذاء من التراب، ووضع فيه قطعة جميلة من الفضة لتستيقظ اليتيمة لتجد أن عناية السماء بها، تعوضها عن الإحساس باليتم والحرمان الذي تعيش فيه، وذهب الرجل بعد ذلك ليستريح، ما أكثر ما يفعل المال من الخير أو الشر في حياة البشر على حد سواء. الشاب المتعلم ومن الواضح أن القصة تكشف عن شاب كان على حظ كبير من الثقافة والعلم، فهو لا يمكن أن يبلغ مرتبة الرئيس، إلا إذا كان قد أوتى من العلم شأنًا كبيرًا وعاليًا، والعلم في حد ذاته أقوى وأعظم وأنفع من الغنى المادي، إذ لا يمكن أن ينتهي إلا بنهاية حياة الإنسان نفسه، على العكس من المادة التي تتقلب بها الحال، والمال غاد ورائح كما يقولون، وهناك النصيحة العظيمة التي درج عليها الناس بالنسبة للأجيال الصاعدة والقائلة: «علموهم ولا تورتوهم» في مجال الأسبقية والفضل للعلم على المال، ويكفي أن نلاحظ في توزيع الثروات في الأرض، أن الكثير من الأمم المتخلفة الممتلئة أرضها بالكنوز والثروات والمناجم، لا يأخذ أولادها المتخلفون علميًا، هذه الثروات، ويأخذها، إلى حد النهب والسلب، الوافدين المستعمرون بما لديهم من معرفة وتكنولوجية متقدمة، ولعل هذا هو السبب الذي جعل المستعمرين يعمدون إلى تعطيل هذه الشعوب عن تحصيل المعارف والعلوم، ومن المعتقد أن الشاب الغني، كان من الوجهة العملية في القمة في جيله، وفي لغة العصر الحاضر كان يمكن من حمله الدرجات العملية الجامعية. الشاب الواسع النفوذ وكان الشاب كما هو ثابت رئيسًا، والرئاسة لا يمكن أن تعطي إلا للسباق في المركز والنفوذ بين الناس، ونحن لا نعلم مدى السلطان الذي كان يتمتع به، لكونه رئيسًا، لكنها القاعدة العامة التي تشجع على اليقين بأنه كان يملك السطوة والقوة التي تمكنه من أن يفرض رأيه وأمره على غيره من الكثيرين ممن هم تحت سلطانه وولايته وأمره، فإذا جاز أن نتصوره في صورة عصرية، فإننا يمكن أن نرى شابًا من أصحاب الأعمال الكبرى، الذي يجلس في غرفته العظيمة الوثيرة، المكيفة، والتليفونات عن يمينه وعن يساره، والمديرون التابعون، والسكرتيرون الكثيرون، والحركة الدائبة والزوار من أعلى الطبقات، وما أشبه من مظاهر العظمة التي قد يوخذ بها الكثيرون في الأرض، ولاسيما عندما يجلس في المقعد شاب يملك كل هذه السلطة بين يديه، وتحت نفوذه!! الشاب العظيم الأخلاق كان هذا الشاب على أروع مستوى خلقي، لا تعوزه الشجاعة، إذ جاء إلى السيد، وعداوة الفريسيين تتقد ضده، والمسيح على مقربة من الصليب، ومع ذلك فهو مأخوذ بعظمة السيد، إذ رآه يبارك الأولاد ويحتضنهم، وعندما ركض إليه، جثا أمامه، جثا وهو الغني أمام من يبدو فقيرًا لا يملك شيئًا، وجثا وهو الفريسي أمام من لم يسر على نظام الفريسيين وفي سبلهم، كان الواضح من سيرته أنه «جنتلمان» بكل ما في الكلمة من معنى، والأخلاق هي الدرة الأجمل والوسام الأعلى للشباب، وكثيرون يتسامحون مع الشباب إذا هوى من هذا الجانب أو ذلك من جوانب الأخلاق، بدعوى أن الشباب لابد أن يكون هكذا، ولكن الشاب الغني كان مبرأ من اللوثات الاجتماعية التي يمكن أن تلصق بالشباب، حتى ولو أغمض المجتمع عينيه عنها!! الشاب المتدين على أن الشاب - فوق هذا كله - كان متدينًا بحسب المفهوم الديني عند كافة الناس، إذ لم تكن أخلاقه نوعًا من الحياة الأدبية التي قد يتمسك بها البعض حتى ولو كان ملحدين أو وثنيين، انتصارًا للجانب الأدبي في الإنسان، لقد كانت الخلفية الحقيقية له، حرصه منذ صغره على حفظ الوصايا التي قال عنها ردًا على سؤال السيد: «لقد حفظتها منذ حداثتي (مز 10: 20) ومن المؤكد أنه كان صادقًا ومخلصًا في تعبيره، ولا يبين من الكتاب أو من نظرة المسيح إليه، أنه تحدث بهذا القول مدعياً أو مختلفًا أو مختالاً أو معجبًا!! لقد كان الرجل صادقًا، صدق أي شاب نظيره يمتنع عن السرقة والزنا وما أشبه، مما يراه كسرا للوصية الإلهية، كما يفهم الإنسان هذا الكسر من التلوث المادي الفعلي على مفهوم الناس!! فإذا أضفنا إلى هذا كله أن الشاب ركض إلى المسيح بحثًا عن الحياة الأبدية التي كان ولاشك مشغولاً بها، بحكم مركزه الديني إذ هو «رئيس» لقد كان يتطلع إلى ما وراء الحياة الحاضرة، راكضًا متوثبًا!! الشاب الذي يعوزه شيء ما لسنا نظن أن شابًا، غنيًا، متعلمًا، واسع النفوذ، رائع الأخلاق، متدينًا، يمكن أن يعوزه بعد ذلك شيء ما، أو يمكن أن يكون في حاجة إلى ما هو أكثر!! أو كما قال أحدهم: هل يعوزني شيء، إذا كنت شيخًا، فإن طلبتي الوحيدة أن أسترجع السنين الضائعة التي أكلها الجراد لابدأ حياة أجمل وأنفع، أو إذا كنت أميًا، فكل تصوري إنني إن محوت أميتي وواصلت دراستي إلى ما بعد الحياة الجامعية، فإن باب الحياة ينفتح لي في كل جانب، فإذا كنت فقيرًا، فإن خيالي يتجه إلى الثروة التي لو تحققت فلن يعوزني شيء بعد ذلك، فإذا وصلت إلى مركز مرموق، وملكت ناصية النفوذ، فكل تفكيري أنني لا أريد أكثر من ذلك،.. كان الشاب الغني يملك مفاتيح الحياة من هذه الجوانب المختلفة جميعها، ومع ذلك كان يحس أنها جميعًا لا تملأ الفراغ الموحش الذي يملأ قلبه، كما أنها لا تعطيه البهجة والسعادة والرضا التي يحن إليها، وهو لا يعرف لماذا هو غير مستريح أو سعيد، وهو لا يستطيع أن يدرك كنه هذه التعاسة الجاثمة على قلبه دون تعليل ظاهر أو واضح!! في الحق إن هذا الشاب ليس فريدًا في نوعه، ولكنه صورة لكل شاب يتصور أن الدنيا عندما تعطي كل ما يمكن أن تعطيه، تمنح الإنسان الرضا والراحة والبهجة والاكتفاء، ومن قديم وضع سليمان هذا التصور فعب من الحياة ما استطاع أن يعب، وخرج بالنتيجة الوحيدة القائلة: «باطل الأباطيل الكل باطل.. وقبض الريح» (جا 1: 2 و14) والا فهل استطاع أصحاب الملايين في الأرض أن يجدوا سعادتهم، لقد وجدوا - وهم في قلب قصورهم وعظمة أمجادهم - أصبع المسيح تشير إلى كل واحد منهم قائلة: «يعوزك شيء» وهل أدرك العلماء، مهما ارتفع علمهم، راحة أو بهجة!! لقد رفعوا عيونهم عن كتبهم ليسمعوا صوتًا: ينادي كل عالم «يعوزك شيء» وهل أدرك جبابرة الأرض، والذي غزوا الممالك وأذلوا أعناق الناس، وهم في قمم مجدهم، الهدوء والسلام!! لقد رأوا الأصبع تتحرك نحوهم لتقول لكل جبار: «يعوزك شيء» ولم يكن هذا أيضًا بعيدًا عن كل من ظن أنه يعيش حياة الآداب العالمية، ففي كل مكان يتهاوى فيه الإنسان أمام مثل الحياة، إذ يحس بالقصور الأخلاقي الذي يسمعه في همس الضمير القائل: «يعوزك شيء »0 إن القضية في الحقيقة تمتد إلى عمق أبعد، فالأمر الذي كان غائبًا عن الشاب، وكان يعوزه للذهاب إليه، إن هناك منطقة مجهولة، لم يصل إليها، ولم تطأها قدماه، لقد ركض إلى المسيح، فكشف له والمسيح عن الشوط البعيد الذي كان غائبًا عن حسه وإدراكه، كانت آفة الشاب الكبرى أنه قصير النظر، مخدوع الرؤيا، متعجل الحكم، متسرع التصور، وقد ظهر هذا من وجهين أساسيين أحدهما فيما يتصل بالمسيح، والآخر فيما يتصل بشخصه، لقد ركض إلى المسيح ودعاه المعلم الصالح، وقال له المسيح: «لماذا تدعوني صالحًا» وهو لا ينفي بذلك عن نفسه الصلاح فقد دعا نفسه الراعي الصالح، ووقف يتحدى اليهود قائلاً: من منكم يبكتني على خطية، وهو نبع الصلاح ومصدره بكل ما في كلمة الصلاح من معنى، الصلاح الذي لا ينسب إلا الله وحده، وعندما نسب الشاب إلى المسيح الصلاح الذي لا ينسب إلا الله وحده، وعندما نسب الشاب إلى المسيح الصلاح لم يكن في نظره أكثر من نبي، فإذا توقف عند هذا الحد، يكون مفهوم الصلاح، بالمعنى الدقيق، بعيدًا عن التصور الصحيح!! فإذا تحولنا من هذا التعجل في الحكم الذي ينطق باللفظ دون سير المدلول العميق له، يتكشف لنا الشاب عن عدم فهم الفارق بين الأخلاق والدين، فقد اختلطا في ذهنه، حتى إن أحدهما يقع موقع الآخر ويتبادل معه المكان على نحو غامض مبهم!! لقد كان الشاب يعتقد أنه حفظ الوصايا منذ حداثته، ومد المسيح بصره إلى أعماق الشاب، وأدرك أن مشكلته الحقيقية أنه لا يعرف نفسه، وأنه يفهم الوصايا فهمًا أخلاقيًا، الأمر الذي يتصوره ملايين الشباب عن الدين. فإذا كانوا بحسب القياس الخلقي خالين من النقائص الخلقية المتعارف عليها في المجتمع، فهم متدينون، والدين لا يجوز أن ينتظر منهم أكثر من الآداب والأخلاق، وقد كان على المسيح أن يحاصر هذا التصور ويكشف قصوه ونقصه وضعفه، ومن العجيب أن المسيح وهو يتحدث مع الشاب عن الوصايا، لم يوجه بصره إلى اللوح الأول الذي يتحدث عن علاقة الإنسان بالله، بل وجه البصر إلى اللوح الثاني، الذي يتحدث عن علاقة الإنسان بالإنسان، وذلك لأنه لو دخل معه في النقاش حول علاقته بالله، وهي علاقة ليس من السهل أن توزن بالمقاييس المحسوسة الملموسة، فلربما يتصور الشاب أنه يوفيها حقها، وإذا فإن اللقاء مع الشاب يمكن أن يكون أيسر منالاً لو دار حول اللوح الثاني، وفي الحقيقة إن السيد المسيح كان يقصد أن يكشف للشاب أنه كسر اللوحين معًا، فأخذه بأسلوب بارع ليدرك أنه إذا كان لا يستطيع أن يتمم العلاقة الصحيحة بين الإنسان والإنسان، فإنه أعجز من أن يتمم اللوح الأول في علاقته بالله جل جلاله، كان الشاب لا يدرك عمق تعلقه بالمال، فكشف له المسيح عن الضعف القاتل فيه، ولم يكن عيب الشاب على الأرجح في طريقة تحصيل المال، إذ لا يبدو من القصة أنه لجأ إلى أساليب فاسدة أو شريرة في تحصيله، لكن عيبه القاتل، كان في توزيع المال، أو بالحري في مكانة المال من قلبه، ولم يقل المسيح لغيره من الأغنياء أن يتخلوا عن أموالهم، وقد كان البعض من تلاميذه أغنياء، ولكنه لم يطلب منهم ما طلبه من هذا الشاب الغني، ولا يمكن أن يجعل المسيح شرط العلاقة به، هو التخلي عن الثروة، لأنه إذا كان الجميع بائعين فأين هم المشترون، إن المال شأنه شأن أي شيء آخر، إذا لم يأخذ مكانه الحقيقي في الحياة، وتطاول على مكان آخر، وهذا ما كان عند الشاب، كان على الشاب أن يدرك أن المال عزيز عليه إلى الدرجة التي يصعب عليها معها توزيعه على الآخرين، وبالتالي فإنه كان عليه أن يدرك بالامتحان الذي وضعه المسيح أمامه - أن الله لا يأخذ في الحقيقة المكان الأول في قلبه، كان الشاب يظن أن الله هو الأول في حياته وليس المال، فكشف له المسيح أن الله قد يكون له مكان في حياته، لكنه ليس المكان الأول، بل يأتي تاليًا أو على مسافة بعيدة من المكان الأول الذي يحتله المال. إن هذا الوضع يكشف لنا عن الفاصل الأبدي بين الدين والأخلاق، إن الدين هو أن يكون حب الله هو الأول والآخر في الحياة، وكل ما ينبع من هذا الحب، هو أعلى المراقي الخلقية في الحياة، ولكن الأخلاق مهما علت وسمت في معايير الناس، لا يمكن أن تضع الإنسان في وضعه الصحيح من قصة وجوده الأبدي، وإلا تحول الإنسان نوعًا راقيًا من الحيوان قد تكون له شجاعة الأسد، ووداعة الحمام، ولكنه حيوان أعجم لا يعرف خالقه، ولا الشركة التي تربطه بهذا الخالق، ولا يفهم شيئًا عن الحياة الأبدية التي ينفرد بها ويتسامى عن كل حيوان أو مخلوق أرضي!! إن هذه القضية هي القضية المجهولة من ملايين الشباب الذين يركضون على وجه الأرض، والذين يتصورون أنهم بلغوا الشوط، وهم في الحقيقة بعيدون عن الخطى الصحيحة في الشوط الأبدي من الحياة التي لا يمكن أن يعرفوها قبل أن يأخذ الله مكانه الصحيح الحقيقي من حياتهم!! ومن العجيب أن المسيح هنا يبدو قاطعًا كالسيف، دون أدنى مهادنة أو مساومة، فهو وإن أبصر الشاب يمضى حزينًا لأنه كان ذا أموال كثيرة، فهو لا يطلب منه أن يتوقف، ولا مانع من المناقشة أو المساومة على بعض المال أو جزء منه دون الكل كامتحان ممكن ميسور، ولكن المسيح على العكس يضع الأمر بأقصى صلابة يمكن تصورها، إذ يقول إن «مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله» (مر 10: 25) ومهما يختلف الشراح في المقصود بالعبارة: «ثقب إبرة» إذ يظنها البعض الباب الصغير داخل الباب الكبير الذي كان في أسوار المدينة، وهو أشبه حاليًا بأبواب السجون الصغيرة الموجودة في باب السجن، وهذا الباب كان يتسع لدخول رجل غير محمل بحمل، وأشار إلى أن الداخل إلى الملكوت ينبغي عليه أن يطرح عن كاهله الحمل حتى يستطيع الدخول، ويقول آخرون ولعله الأرجح أن المقصود بثقب الإبرة والجمل أصغر ثغرة أمام حيوان من أكبر الحيوانات، وهذا أمر يبدو مستحيلاً حسب تقدير الناس ومنطقهم. لكن الله يستطيع بنعمته أن يفعل ما يبدو مستحيلاً!!. ومن الملاحظ أن السيد المسيح وضع الصعوبة أمام الشاب، ولكنه لم يتركه لمواجتها، إذ أعطاه طريق الانتصار في القول: «اتبعني» أو في لغة أخرى أن المسيح لا يمكن أن يترك الشاب في الفراغ بعد أن يوزع كل ثروته، بل ستتحول شركته مع المسيح، إلى ثروته الحقيقية، وسيعطيه المسيح ذلك الغنى الروحي الذي يجعله يقول ما قاله الشاب العظيم بولس: «لكن ما كان لي ربحًا فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة، بل إني أحسب كل شيء أيضًا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي الذي من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح» (في 3: 7و8)0 كان الشاب يعتمد على «المال» أو في لغة أخرى يعتمد على «شيء» ولكن المسيح شاء في جوده وإحسانه أن يحوله إلى الاعتماد على «شخص» هو مصدر كل شيء، وضامن كل شيء، ومن الغريب أن المسيح يبدأ معه عندما ينتهي هو مما يضعه منظورًا أمام عينيه، والمسيح يريدنا دائمًا أن نسلك بالإيمان لا بالعيان!! والمسيح كفيل بسد كل أعوازه، ورعايته إلى الدرجة التي يمكنه معها أن يغني مع داود: «الرب راعي فلا يعوزني شيء» (مز 23: 1). ولو أن الشاب أصاخ السمع، وقبل الامتحان، وسار كما طلب السيد لتحول الامتحان وانتقل من على كاهله، ليقع على عاتق المسيح. الذي يقبل أن يمتحن في قدرته على الرعاية والإعالة كل أيام الحياة!! على أن الشاب تحت ثقل المنظور، «مضى حزينًا لأنه كان ذا أموال كثيرة» وقد أوحى ذهابه لعباقرة المصورين والفنانين أن يصوروه تحت عنوان ما أطلق عليه دانتي: «الرفض العظيم» فقد رسمه ف.جور وتس وهو يعطي ظهره للناظر إليه، وقد سقط رأسه وتهدلت كتفاه، وهو يودع الفرصة العظيمة التي قدمت له!! ورسمه هوفمان والمسيح يدعوه بترحاب إلى شركته، أما هو فقد بدأ زائغ النظرة ويده بين الفتح والقبض كمن يحاول أن يجمع العالم الحاضر والعتيد معًا دون جدوى!! وتساءل كامبل مورجان عن ذهابه التعس الحزين، وهل هي مأساته القاسية أم هو شعاع من رجاء، إذ مضى حزينًا، ولم يذهب هازئًا أو مستهترًا أو محتقرًا!! لقد ذهب حزينًا وهو يدرك أنه سيخسر شعبًا عظيما ورهيبًا، ولعله في هذا الحزن يعيد التأمل، ويستجيب للنداء الحاسم العظيم!! على أي حال، إن قصة الشاب الغني تحسم كالسيف حياة الإنسان، وتعطيه أن يدرك أن المسيح قد جاء لا ليطلب ما عندي أو عندك، بل ليطلب بالأحرى شخصي وشخصك، وأنك ستأتي يومًا ما إلى اللحظة التي تقرر فيها إما مذهب أون ويست الذي قال إن الأمريكي يفضل أن يكون غنيًا أكثر من أن يكون صالحًا، أو مذهب مالتيبي بابكوك الذي قال: إذا أعطاني الله الإمكانية والقوة لأصبح غنيًا، ومتعني بالنفوذ والقوة والتأثير في العالم، فإن أفضل تصور لي في الأرض، أن أكون طوع إرادة الله وأداة له ونافعًا وخادمًا للإنسانية جميعًا. |
09 - 11 - 2013, 11:42 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: الشاب الغني
شكرا
الشاب الغني |
||||
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
الشاب الغنى |
(الشاب الغني) |
الشاب الغني |
الشاب الغني |
( الشاب الغني ) |