الصلاة: ما هي؟ وكيف توصِّل إلى الله؟
ليست كل صلاة تعتبر واسطة روحية، يمكن أن توصلك إلى الله.. هنا وأتذكر ما قيل عن إيليا النبي إنه "صلى صلاة" (يع 5: 17) كانت صلاة حقيقية، استطاعت أن تغلق السماء وأن تفتحها، وأن تقتدر كثيرًا في فعلها (يع 5: 16).
فما هى الصلاة إذن؟ ما تعريفها؟
الصلاة هى جسر يوصل بين الإنسان والله. شبهوها بسلم يعقوب الواصل بين السماء والأرض (تك 28: 12). إنها ليست مجرد كلام، إنما هى صلة.. هى صلتك بالله، قلبًا وفكرًا..
الصلاة هى إحساسك بالوجود في الحضرة الإلهية.
وبدون هذا الإحساس لا تكون الصلاة صلاة.. هى مشاعر قلب متجه إلى الله، يشعر بوجود الله معه، أو بأنه واقف أمام الله. كما قال إيليا النبي "حي هو رب الجنود، الذي أنا واقف أمامه" (1مل 18: 15).. وأمام الله ينسى الإنسان كل شيء، ولا يبقى في ذهنه سوى الله وحده. ويتضاءل كل شيء. ويصبح الله هو الكل في الكل وليس غيره..
الصلاة هى عمل القلب، سواء عبر عنها اللسان أو لم يعبر.
هى رفع القلب إلى الله. لأن القلب يتحدث مع الله بالشعور والعاطفة، أكثر مما يتحدث اللسان بالكلام. وربما يرتفع القلب إلى الله بدون كلام.
لذلك فإن تنهد القلب أمام الله صلاة. وحنين القلب إلى الله صلاة. وعواطف الحب نحو الله صلاة. فالصلاة هى الصلة بين الله والإنسان. وإن لم توجد هذه الصلة القلبية، فلن ينفع الكلام شيئًا.
إن أحببت الله تصلى. وإن صليت تزداد حبًا لله. فالصلاة هى عاطفة حب، نعبر عنها بالكلام.
نرى هذا الحب وهذه العاطفة بكل وضوح في مزامير داود إذ يقول:
"يا الله أنت إلهي، إليك أبكر. عطشت نفسي إليك" (مز 63: 1). "كما يشتاق الأيل إلى جداول المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله، إلى الإله الحي. متى أجئ وأتراءى قدام الله" (مز 43: 1، 2).. إنه شوق إلى الله عطش إليك. كما تشتاق الأرض العطشانة إلى الماء
كثيرون يصلون، ولا يشعرون بتعزية. لأن صلواتهم خالية من الحب.. مجرد كلام!
هؤلاء رفض الله صلواتهم. وقال عنهم " هذا الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه فمبتعد عنى بعيدًا" (أش 29: 13). وكرر السيد المسيح نفس التوبيخ بالنسبة إلى اليهود (مت 15: 8) (مر 7: 6) إذن اخلط صلاتك بالحب. وتكلم فيها مع الرب بعاطفة. فالصلاة هى اشتياق النفس إلى الوجود مع الله. هى اشتياق المحدود إلى غير المحدود، اشتياق المخلوق إلى خالقه، واشتياق الروح إلى مصدرها وإلى شبعها..
والصلاة المقبولة هى التي تصدر من قلب نقى.
فالكتاب يقول " ذبيحة الأشرار مكرهة الرب، وصلاة المستقيمين مرضاته" (أم 15: 8) (أم 21: 27). وقد رفض الرب صلاة الأشرار فقال لهم " حين تبسطون أيديكم، أستر وجهى عنكم. وإن أكثرتم الصلاة، لا أسمع. أيديكم ملآنة دمًا" (أش 1: 15). ومن الناحية الأخرى يقول الكتاب " طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها" (يع 5: 16).
إذن ماذا يفعل الخاطئ المثقل بآثامه؟
يصلى ليساعده الله على التوبة. ويتوب لكي يقبل الله صلاته..
يصلى ويقول: "توبنى يا رب فأتوب" (أر 31: 18). فالصلاة هى باب المعونة، الذي يدخل منه الخاطئ إلى التوبة. وقد قال ماراسحق "من قال إن هناك بابًا آخر للتوبة غير الصلاة فهو مخدوع من الشياطين".. إذن لا تنتظر حتى تتوب ثم تصلى!! إنما أطلب التوبة في صلاتك، من ذلك الذي قال "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئًا" (يو 15: 5)
الصلاة هى فتح القلب لله، لكي يدخل ويطهره.
تذكرنا بصلاة العشار، الذي رفع قلبه في انسحاق أمام الله، طالبًا الرحمة (لو 18: 13). وهكذا خرج مبررًا. عليك إذن أن تصلى لكي تحصل على نقاوة القلب، وأنت تقول للرب في صلواتك: إنضح على بزوفاك فأطهر، واغسلنى فأبيض أكثر من الثلج (مز 50).. أليس هو القائل " أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدة في داخلكم.. وأجعلكم تسلكون في فرائضى" (خر 36: 26، 27).. اطلب منه في صلاتك تحقيق هذا الوعد.
الصلاة هى تدشين للشفتين وللفكر، وهى تقديس للنفس، بل هى صلح مع الله..
الإنسان الذي بينه وبين الله خصومة، طبيعى أنه لا يتحدث معه. لا يصلى. لا يجد دالة للحديث مع الله. فإن بدأ يصلى، فمعنى هذا أنه يريد أن يصطلح مع الله.. وإذا صلى، يستحى من حديثه مع الله، ويخجل من أن ينجس فكره الذي كان مع الله منذ حين (). يصل إذن إلى استحياء الفكر، وهذا ظاهرة روحية صحيحة.
وهكذا بالصلاة تبطل الأفكار الردية، كلما داوم الإنسان على الصلاة، ويدخل بها في جو روحي، ويبعد عن قوات الظلمة.
الصلاة هى رعب الشياطين، وأقوى سلاح ضدهم.
فالشيطان يخشى أن يفلت هذا المصلى من يده. يخشى أن ينال بصلاته قوة يحاربه بها. كما أنه يحسده على علاقته هذه مع الله، التي حرم هو منها.. لذلك فالشيطان يحارب الصلاة بكل الطرق يحاول أن يمنعه بأن يوحى للإنسان بأن مشاغل كثيرة تنتظره وليس لديه وقت، أو يشعره بالتعب وبثقل في الجسد. وإن أصر على الصلاة، يحاول أن يشتت فكره ليسرح في أمور عديدة..
أما أنت يا رجل الله، فاصمد في صلاتك مهما كانت الحروب. وركز فيها فكرك وكل مشاعرك.
وكما قال الرسول "قاوموا إبليس فيهرب منكم" (يع 4: 7). ولا تستسلم لأفكاره. واعرف أن محاولته منع صلاتك، إنما تحمل اعترافًا ضمنيًا منه بقوة هذه الصلاة كسلاح ضده. فلا تلق سلاحك، بل حارب به. واستمر في الصلاة مهما شردت أفكارك. ولا بد أن ييأس العدو من جهادك الروحي ويتركك. كما أن النعمة لن تتخلى عنك، بل ستكون معك..
وفي صلاتك، افتح أعماق نفسك لتمتلئ من الله.
اطلب الله نفسه، وليس مجرد خيراته. قل له كما سبق أن قال داود "طلبت وجهك، ولوجهك يا رب التمس. لا تحجب وجهك عنى" (مز 199). تأكد أن نفسك التي تشعر بنقصها، ستظل في فراغ إلى أن يكملها الله نفسه. إنها تحتاج إلى حب أقوى من كل شهوات العالم. وهى عطشانة، وماء العالم لا يستطيع أن يرويها (يو 4: 13).
قل له يا رب: لست أجد سواك كائنًا يفهمني.
واطمئن إليه: افتح له قلبي، وأحكى له كل أسراري، وأشرح له ضعفاتي فيسمعها ولا يحتقرها. وأسكب أمامه دموعى، وابثه أشواقى. أشعر معه أننى لست وحدى، وإنما معى قلب يحتوينى وقوة تسندنى.. بدونك يا رب، أشعر أننى في فراغ، ولا أرى لي وجودًا حقيقيًا. أنت هو عمانوئيل، الله معنا.. روحى تشتاق إلى روحك الكلى، تشتاق إلى ما هو أسمى من المادة والعالم وكل ما فيه.. نعم، إن في داخلى اشتياقًا إلى غير المحدود، لا يشبعه سواك.
هذه هى صلاة الحب، وهى أعلى من مستوى الطلب. فأنت قد تصلى ولا تطلب شيئًا..
قد تكون صلاتك شكرًا على ما أعطاه لك الله من قبل. تشكره على عنايته بك، ورعايته لك، وعلى ستره ومعونته وكل إحساناته، لك ولكل أصحابك وأحبابك.. وقد تكون صلاتك تسبيحًا لله، مثل صلاة السارافيم " قدوس قدوس، رب الجنود السماء والأرض مملؤتان من مجدك وكرامتك" (أش 6).
قد تكون صلاتك مجرد تأمل في صفات الله الجميلة، كما في صلوات القداس الغريغورى، وكما في كثير من المزامير وصلوات الساعات. وكما قال القديس باسيليوس الكبير "لا تبدأ صلاتك بالطلب لئلا يظن أنه لولا الطلب ما كنت تصلى.
اعتبر صلاتك مجرد تلذذ بعشرة الله، أو كما يسميها بعض الآباء "مذاقة الملكوت".
مجرد وجودك في حضرة الله متعة، حتى لو لم تفتح فمك بكلمة واحدة، حتى لو لم يتحرك ذهنك بأي فكر، كطفل في حضن أبيه ولا يطلب شيئًا سوى أن يبقى هكذا..
ترى ما الذي يمكننا أن نطلبه في ملكوت السموات؟! لا شيء طبعًا. لأن هناك لا ينقصنا شيء حتى نطلبه. إنما نتمتع بما قال عنه المرتل " ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب" (مز 34: 8). الصلاة هى مذاقة الملكوت هذا. نذوق هنا على الأرض ما سوف نتمتع به في السماء...
لذلك قيل عن الصلاة إنها طعام الملائكة.
هى طعام أرواحهم، وهى غذاؤهم الذي يشبعهم. وهكذا أيضًا بالنسبة إلى أرواح القديسين، وكانت على الأرض غذاء للآباء المتوحدين والسواح.. ويتغذون فيها بمحبة الله وعشرته، ومتعة أرواحهم به. كما قال داود النبي للرب "أما أنا فخير لي الالتصاق بالرب" (مز 73: 28)
مبارك هو إلهنا الطيب الذي منحنا أن نصلى. تواضع منه أن يسمح لنا بأن نتحدث إليه.
وتواضع منه أن يصغى إلينا.. من نحن التراب والرماد، حتى نقترب إلى الله، ونقف أمامه ونتحدث إليه..و نضم أنفسنا إلى صفوف الملائكة الواقفة أمام عرشه تسبحه وتبارك اسمه، وتتبارك بالوجود في حضرته. حقًا إنه الخالق، أن يسمح لنا نحن مخلوقاته بهذه الدالة: أن نكلمه ويسمعنا.
لذلك عار كبير وخطية كبرى، أن تقول: ليس لدى وقت للصلاة..!!
هل يجرؤ العبد أن يقول إنه ليس لديه وقت للكلام مع سيده؟! عجيب بالأكثر أن المخلوق ليس لديه وقت للحديث مع خالقه!! إن أمورًا عديدة وتافهة تجد لها وقتًا..
ومحادثات لا قيمة لها، تجد لها وقتًا. لماذا إذن تحتج بضيق الوقت في الحديث مع الله؟!
إن داود النبي كان ملكًا وقائدًا وقاضيًا للشعب، وله أسرة كبيرة، ومع ذلك يقول للرب "سبع مرات في النهار سبحتك على أحكام عدلك" (مز 119) " عشية وباكر ووقت الظهر"، "وفي نصف الليل نهضت لأشكرك.."، "وسبقت عيناى وقت السحر لأتلو في جميع أقوالك" (مز 119).
المشكلة لا تكمن إذن في الوقت، إنما في الرغبة. إن كانت لديك رغبة في الصلاة، فلا شك ستجد وقتًا. لماذا إذن تحتج بضيق الوقت في الحديث مع الله؟!
ثم يجب أن تعرف أن الصلاة بركة لك. وأنك فيها تأخذ، ولست تعطى.
هل تظن أنك تعطى الله وقتًا حينما تصلى؟! وهل الله محتاج إليك أو إلى صلواتك؟! أم أنت تأخذ في الصلاة قوة ومعونة وبركة، وتأخذ لذة روحية ومتعة بعشرة الله، وحلًا لمشاكلك..؟!
يجب أن تتغير فكرتك عن الصلاة، لكي تدرك تمامًا أنك ضائع بدونها، وأنها عكازك الذي تستند إليه. إن عرفت هذا، ستعتمد عليها كواسطة روحية أساسية في حياتك. وبعد، أتراني أستطيع في هذا المقال أن أحدثك عن كل ما يتعلق بالصلاة؟! كلا، وإنما بعد كل هذا أتركك لتصلى، ولكي تذكرني أيضًا في صلاتك