بيت لحم قرية ميلاد ملك الملوك
هى قرية صغيرة من تلك القرى الفلسطينية المتناثرة على التلال، تُحيط بها أرض مزدانة بكثير من الأشجار والنبات، أمَّا ينابيعها فيتدفق منها ماء عذب، اشتاق داود النبيّ أن يشرب منه مرّة، وهو على بعدٍ أثناء حربه مع الفلسطينيين، يقول الكتاب المقدّس " فَتَأَوَّهَ دَاوُدُ وَقَالَ: مَنْ يَسْقِينِي مَاءً مِنْ بِئْرِ بَيْتِ لَحْمِ؟ " (2صم15:23).
معناها " بيت الخبز "، وقد دُعيت هكذا لخصوبة أرضها، التي تفيض بالثمر وبخاصة الكروم والزيتون، وهكذا شاء الله أن يولد خبز الحياة النازل من السماء فى بيت الخبز، لكي يأكل منه كل جائع إلى البر فيحيا حياة أبدية (يو54:6).
في زمن يعقوب دُعيت " أفراتة " أو " أفراثة "، وفي هذا يقول مار يعقوب السروجيّ: " اسم أفراتة تعني بيت لحم لأنَّ الحياة نزل من السماء وحل بمكانها، ها في بيت لحم خبز جديد لجياع الأرض "، ولكن بعد غزو كنعان، دُعيت بيت لحم اليهودية لتمييزها عن بيت لحم زَبولونْ.
وتأتي أول إشارة إلى بيت لحم فى الكتاب المقدس، في مكان ذُرفت فيه الدموع، فهناك نلمح على الطريق المؤدي إليها قافلة تسير متباطئة قد أناخها الحزن، وفي القافلة شخصان: رجل وامرأة، والمرأة تعاني سكرات الموت، إنَّهما يعقوب وراحيل اللذين ارتحلا من بيت إيل إلى بيت لحم لتموت راحيل وتُدفن في هذا المكان المقدس (تك16:35-20).
فأول لمحة عن بيت كانت للدموع! ثم سرعان ما تغير المشهد، لنرى بيت لحم مكاناً للحُب البريء، فقصة الحُب الجميلة بين بوعز وراعوث، نُسجتْ خيوطها الذهبية في بيت لحم، فدخلت القرية الحقيرة التاريخ، بعد أن امتلأ جوها بعبير الحُب الساميّ أحد ينابيع الوجود!
ومن هذا الحُب الفريد الذي ترعرع تحت سماء بيت لحم وبين أزهارها، جاء داود النبيّ الملك العظيم، فقد كان مسقطه بيت لحم (صم12:17)، وفيها أيضاً مُسح ملكاً (1صم13:16).
وظلت الأجيال تتعاقب، والرجاء يقوى، وفى وسط هذا الشعور الغامر بقرب مجيء المُخلّص، يأتي ميخا النبيّ بنبوة واضحة عن ميلاد المسيح في بيت لحم فيقول: " أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمَِ أَفْرَاتَةَ وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ" (مى2:5).
هذا وقد ذكر لنا الكتاب المقدس أنَّ رحبعام ابن سليمان حصنها (2أى6:11 )، كما جاء في كتب التاريخ أنَّ يوستنياس قد رمم أسوارها. وفى سنة (330م) بنت الملكة هيلانة فوق المغارة، كنيسة تُدعى الآن باسم " كنيسة المهد "، وهكذا شاءت حكمة الله أن يولد المسيح في بيت لحم رغم أنَّ العذراء كانت تسكن الناصرة! فما هى قصة الميلاد العجيب؟
أصدر أُغسطس قيصر أمر بإحصاء رعاياه فى أنحاء المملكة الرومانية، فقد كان أباطرة روما عشّاقاً لفنون تعذيب البشر وإذلالهم، ومن صور هذه القسوة الأمر الذي كان يصدره الحاكم عندما يعتلي العرش، وهو إحصاء الشعوب التي تخضع له وتؤدي الجزية، وقد كانت الأمة اليهودية خاضعة للسلطة الرومانية في ذلك الوقت.
يصدر الأمر فتتحرّك الشعوب زاحفة إلى حيث مسقط رأسها، لتُسجل أسماءها في دفاترها وأيضاً مهنتها وثروتها، فتسهل جباية الضرائب، ومن ناحية أخرى يتعمّق في وجدان الشعوب الزاحفة الإحساس بالضعف والمذلة، ويتعمق في وجدان أباطرة روما كبرياء الأقوياء وغرور المستبدين!
وما أعظم الفرق بين موكب الأُسر الكادحة الزاحفة في خوف وقلق ومشقة، تحمل متاعاً قليلاً ومعه أحزاناً كثيرة، و بين موكب الحاكم الرومانيّ، وهو يتحرك في عربة فخمة مذهّبة ومُجهزة بكل وسائل الراحة، تُحيط بها جمهرة من الجند حاملي السلاح، لكي يشيعوا مزيداً من الخوف في قلوب البائسين.
صدر الأمر فانطلق الجميع، كل واحد إلى مدينته، فصعد يوسف من الجليل إلى اليهودية، من الناصرة إلى بيت لحم ليكتتب مع مريم امرأته (لو4:2)، وما هذا الصعود إلاَّ إعلان واضح أنَّ المسيح قد نزل من السماء ليرفعنا من الأرض إلى السماء.
ويتأمل القديس يعقوب السروجيّ في قصة الاكتتاب فيقول: " خرج الأمر أن يكتتب كل واحد اسمه في بلده، فكان يجب أن يكتب ابن الله اسمه في سما السموات، لكنَّه شاء أن يولد في بيت لحم لكي يكتب بميلاده أسماء الناس في سفر الحياة ".
انطلق موكب المكتتبين، النساء تلفّهم الأوشحة السوداء وكأنَّهم ليل يسير في بطء شديد، والرجال وقد أحنى الفقر أعوادهم الصلبة وغمر العرق جباههم المرهقة، وعلى مشارف بيت لحم تفرقت العائلات، فهناك من ذهبوا إلى الأقارب والأصحاب، ومن مَلَكَ بعض المال ذهب إلى الفنادق الرخيصة، أو إلى بعض المنازل التي حوّلها أصحابها إلى فنادق مؤقتة..أمَّا يوسف ومريم فمضيا إلى مغارة على أطراف المدينة فوق تلٍ لأنَّهما من الفقراء!! ولا تزال بيت لحم تُحيط بها المغائر والكهوف، يترك فيها الناس بهائمهم في أوقات الازدحام ومواسم التجارة والأعياد.
ويبقى السؤال الحائر بلا إجابة واضحة: أين ثروة الملك داود؟! أليست العذراء أعظم ثمرة في تلك الشجرة الملوكية؟! قد لا نعرف كيف فقدت الأسرة ثروتها، لكننا نعرف أنَّ حضارات الشعوب، صنعها هؤلاء المخلصون المجاهدون، العاملون بأمانة في صمت عظيم، وهكذا عاش المسيح الحياة بعد أن حررها من آلام الغنى، فكانت حياته بسيطة لا يشوبها الطمع أو تمزقها الأنانية أو يرهقها الجشع، وقد رضي بالقليل لأنَّه امتلك غنى النفس!
وفى لحظة هى أعظم لحظات الوجود، صرخ طفل ليس له قط نظير، معلناً عن مجيئه إلى عالمنا ليفصل بين زمنين، إنَّه يسوع! لقد أتت مريم بكائن فريد ليس كباقي الأطفال، فكل يوم يشق الفضاء صوت القادمين من الغيب إلى هذا العالم، ولكل كائن آتٍٍ إلى العالم دعوة ورسالة للحياة.. ولكن ما أعظم الفرق بين هذا وهؤلاء!!