01 - 12 - 2012, 08:58 AM
|
|
|
† Admin Woman †
|
|
|
|
|
|
إنسانيّة يسوع
بقلم: أ. ب آ
مقدّمة
لا يمكننا الفصل أبداً بين إنسانية يسوع وألوهيته، كأن نقول: هنا، في هذا الموقف أو ذاك التصرف، كان يسوع إنساناً؛ وهناك، في موقف أو تصرف آخر، كان إلهاً.. هذا قولٌ إنساني، وذاك إلهي. لا شك أننا نستطيع أن نشاهد مجد الألوهية في التجلي؛ ونلحظ الإنسانية في الجوع والعطش والتعب والفرح والتأثر.. ولكننا حين ننظر إلى يسوع كشخص، هو دائماً واحدٌ لا يتجزّأ.
هذا المقاليُعرّف عن إنسانيّة يسوع.يتبعهمقالآخر يكشف ألوهية السيد المسيح. نحاول فيهما الدخول في سرّ هذا الشخص، في فهم إنسانيته وألوهيته من جهة، والارتباط الوثيق بينهما من جهة أخرى. لا شكّ أن تطارح التساؤلات في هذا الموضوع هو من العمق بمكان أكثر من تسلسل وتحديد الأفكار. ببساطة: مَنْ يكون يسوع المسيح؟ ما دوره في التاريخ؟ هل هو إنسان ككل البشر؟ يُقال لي: "نعم"، ولكن بدون خطيئة!.. كيف؟.. وأنا، ككل إنسان، حين أعيش واقع الخطيئة أشعر أنها ما يميّزني.. فكيف يكون "مِثْلي" من دونها؟ [1].. هل إنسانية يسوع هي إنسانيةٌ من نوع آخر تميّز بها عن سائر البشر لكونه إلهاً، وكأن الألوهيّة ابتلعت الإنسانية؟.. ما هي إنسانية يسوع، وما علاقتها بألوهيته؟... سوف نحاول أولاً التفكير بهذه التساؤلات على ضوء ما كشفه لنا الكتاب المقدس، ثم نستعرض ما تقدمه لنا الكنيسة من عقيدة إيمان حول هذا الموضوع.
1- يسوع في الكتاب المقدس
المبدأ والأساس في التعرف على شخص يسوع: قيامته!.. كانت البشارة بالمسيح، قبل أن يدوَّن الإنجيل، تعلن بطريقة "الخطف خلفاً" الـ Flash Bac، أي الإعلان أن يسوع حيٌّ بعد موته هو منطلق التبشير به والتعرف الحق على شخصه. لنبدأ من هنا.
يقول كتاب أعمال الرسل، الذي كتبه لوقا كاتب الإنجيل الثالث، في ذلك: "إن يسوع الناصري، ذاك الرجل الذي أيّده الله لديكم بما أجرى عن يده بينكم من المعجزات والأعاجيب والآيات، كما أنتم تعلمون، ذاك الرجل الذي أُسلم بقضاء الله وعلمه السابق فقتلتموه إذ علقتموه على خشبة بأيدي الكافرين، قد أقامه الله وأنقذه من أهوال الموت... ونحن بأجمعنا شهود على ذلك.. فلما سمعوا ذلك الكلام، تفطَّرت قلوبهم، فقالوا لبطرس ولسائر الرسل: "ماذا علينا أن نفعل، أيها الأخوة". فقال لهم بطرس: "توبوا، وليعتمد كلٌّ منكم باسم يسوع المسيح، لغفران خطاياكم، فتنالوا عطية الروح القدس" (أنظر وقارن: رسل2/22-38، وأيضاً 3/13-20، 4/10-00، 10/39-43، 13/27-00).. نستنتج من النص السابق والنصوص الأخرى ما يلي:
1- إن صفة "ناصري" هي دلالة على تاريخية يسوع، أي أنه إنسان ما، وُجد في زمان ومكان معينين. لقد عُرف يسوع بهذا اللقب، فورد 11 مرّة في الأناجيل، و7 مرات في أعمال الرسل. حيث ترتبط هذه الصفة عموماً، وهي تعريفٌ عن إنسانية يسوع كما ذكرنا، بشخصيته المميّزة، فرواية القيامة في الأناجيل تؤكد أن الذي قام هو هذا "الناصري" (أنظر: مر16/6، لو24/19). وبالمقابل الذي أُسلم وتألم ومات هو "الناصري" (أُنظر: مت26/71، 14/67، يو18/5-7، 19/19). كما تُطلق هذه الصفة على يسوع في عزمه على تقويض وتبديد قوة الشر (أُنظر: مر1/24، 10/47، لو4/34، 18/37).
2- البشارة الأولى (أي الإنجيل باللغة اليونانيّة: Evanggulion ) هي إعلان قيامة يسوع،
3- إنها بذات الوقت "شهادة" رسله،
4- وهي أيضاً منح الروح القدس، روح البنوّة لمن يؤمن به، ويتوب ويعتمد.
5- وهي "إعادة قراءة" وفهم لشخصية يسوع "الناصري"، وما تضمنته من أحداث وتعاليم ومواقف، في حضور حي له. قام بإعادة القراءة هذه الرسل أنفسهم، وقد تعمَّدوا بنور الروح القدس عطية القيامة، الذي تقبلوه يوم العنصرة، حيث الصلاة، ومشاركة الجماعة، والافخارستيا "كسر الخبز"، والمواظبة على تلقي الكلمة المحيية، والخدمة، وصنع الأعاجيب (رسل2/42-47).
6- وأعاد الرسل أيضاً، على ضوء القيامة، فهم "الكتب المقدَّسة" بأسرها، أي العهد القديم، وقد كان آنذاك وحده الكتاب المقدَّس. والرب شخصياً يفسر ويدعو إلى الفهم والانسلاخ عن "غلاظة القلب" (لو 24/ 25، رسل2/42-47). ولقد قامت الجماعة الرسوليّة الأولى فيما بعد بتدوين هذه البشارة في أسفار العهد الجديد.
نستنتج من خلال قراءتنا العهد الجديد ككل ما يلي:
أ- إن الإنسان يسوع "الناصري" هو ابن الله، في كلٍ من كتاب أعمال الرسل، و الأناجيل الإزائية (متى، مرقس، ولوقا)، وهذا ما يسمى اللاهوت التصاعدي[2]. أي أن هناك "إعلانُ تدريجي" لشخص يسوع ينطلق من إنسانيته للوصول إلى ملء سرّه في البنوة الإلهية.
ب- وبالمقابل هناك "لاهوت تنازلي" يتمحور حول مفهوم "التجسّد": "الكلمة صار بشراً"، يقدّمه كلاً من يوحنا وبولس. أي أن ابن الله يصير إنساناً، هو يسوع الناصري (أنظر: مقدمة الإنجيل الرابع: يو1/1-00، وأيضاً غلا4/4
ج- إن الهدف في كلا اللاهوتََين، هو تقديم رؤية جديدة للإنسان ولعلاقته الخاصة بالله، أي الخلاص. كما يقول الآباء: "صار ابن الله إنساناً لكي يصير الإنسان ابناً لله". ويقول إيرناوس (أسقف ليون - القرن الثاني): "مجد الله هو الإنسان الحي".
ألقاب يسوع تعرّف عنه
لقد اعتاد اللاهوتيون في دراستهم شخصية يسوع المسيح فيما يُسمّى "علم المسيح" الخريستولوجيا (Christologie)، التعريف عنه خصوصاً من خلال "الألقاب"[3] التي أُطلقت عليه أو أطلقها هو نفسه على نفسه، كـ "المسيح"، "ابن البشر"، "المعلم"، "الكلمة"، "الابن"، "ابن الله"، "النور"، "والطريق الحق والحياة".. (الخ). إن هذه الألقاب، تدلّ في آنٍ على إنسانية يسوع وألوهيته، ولكننا نستطيع أن نرى في بعضها دلالات أقوى على إنسانيته، وفي الأخرى على ألوهيته. ولننتبه إلى تغيير المعنى بشكل جذري، في بعضها على الأقل، بحسب مفهوم يسوع.
1- يسوع هو "المسيح" المنتَظر:
يسأل يسوع تلاميذه: "من أكون في نظركم " فيجيب بطرس: "أنت المسيح" (مر8/27-30). إن لفظة "المسيح" (مَشيح) العبرية تعني "الذي مسحه الله" [4]، هي من أهم الألقاب التي أُطلقت على يسوع. فقد استعملت في كتب العهد الجديد حوالي الـ470 مرة تقريباً. ويُطلق هذا اللقب عادةً على النبي والكاهن والملك، لأنهم كانوا يمسحون بالزيت دلالة تكريسهم لخدمة الله. والمسحة بالزيت هي رمز منح الروح القدس. فموسى مسح هارون وبنيه ليكونوا كهنة الله (خروج 30/30)، وصموئيل مسح داود ليكون ملكاً (1صموئيل16/1-13، 2صموئيل12/7). وأشعيا مسحه الروح القدس ليعلن اقتراب الملكوت (أشعيا 61/1-2). ولقد وعد الله داود على لسان ناتان النبي أنه سيُقيم من نسله ملكاً "وسيقرُّ عرش ملكه إلى الأبد" (2صموئيل7/13). عاش شعب العهد القديم على مدى أجيال، وهو ينتظر تحقيق تلك النبوءة، بمجيء ملك من نسل داود؛ "يُمسَح" ولا يكون لملكه انقضاء. وازداد رجاؤه إلحاحاً بعد تدمير مملكته وسبيه إلى بابل. وراح الأنبياء يصفون ملامح هذا المسيح. واشتد الانتظار فيما يسمى "الأزمنة المسيحانية"، خصوصاً في ظل الحكم الروماني قبيل الميلاد. ولقد قامت حركات مسيحانية تُأجج روح الانتظار عند الشعب. وجاء يسوع أخيراً، وهو المسيح المُنتَظَر، ولكن بخلاف التوقعات، لأنَّ مملكته ليست من هذا العالم (يو18/36). وكانت الصدمة الكبرى في أن هذا المُنتَظَر يبشِّر بملكوت يناقض التوقعات. ويفسِّرُ اللاهوتيون أن تجارب يسوع، التي اختبرها ربما طيلة حياته حتى بلوغه الصليب، هي صراع الاختيار بين الملكوت المُنتَظَر عند معاصريه وطيلة أزمنة الترقب، المبني على القوة والخوارق والسلطة والمجد الأرضي؛ وبين ملكوت الله القائم في تتميم مشيئة الآب، في الحق والبرارة والمحبة والعدل. ربما نستطيع الآن فهم التناقض في طلب صلب يسوع بعد المناداة به ملكاً.
2- يسوع هو "ابن البشر":
إنَّ لقب "ابن البشر" (بَرناشا) الذي استعمله يسوع للدلالة على نفسه هو من أقدم الألقاب المطلقة عليه في العهد الجديد (حوالي الـ85 مرة)، كما يقول مفسرو الكتاب المقدَّس. ويرجع هذا اللقب إلى نبوءة دانيال التي تقول: "ورأيت في رؤى الليل فإذا بمثل ابن البشر آتياً على سحاب السماء، فبلغ إلى القديم الأيام وقُرِّب أمامه، وأُوتي سلطاناً ومجداً وملكاً. فجميع الأُمم والألسنة يعبدونه، وسلطانه سلطان أبديّ لا يزول، وملكه لا ينقرض" (7/13-14).
تشير هذه النبوءة إلى مجيء إنسان ملكي وسماوي يظهر في آخر الأزمنة، فيزيل سلطان سائر الملوك، ويملك إلى الأبد. ورغم أن هذا اللقب يشير إلى آخر الأزمنة ( أُنظر لو شئت: لو12/8-9 ومت16/28 ومت24/30 ومت25/31-33 ومت13/40-43 ومر14/61-62 )، إلاّ أنه يدلُّ أيضاً، بحسب مفهوم يسوع، إلى تحقيق الملكوت منذ الآن، والعلامة في ذلك: مغفرة الخطايا، وشفاء المرضى، والسيادة على الشريعة (أُنظر: مر2/10، لو19/10، مر2/28). وسلطة ابن البشر ليست سلطة سيادة بل خدمة (مت8/20، 20/28). وكان يسوع كلّ مرة يتحدَّث عن آلامه يدعو نفسه بهذا اللقب (مر8/31 و9/31 و10/33 ومر14/21و41 ويو3/14 و13/31 ). وهنا كانت تكمن الدهشة عند معاصريه، حيث أن انتظارهم لابن البشر هو مختلف عمَّا حققه يسوع، تماماً كما حدث لهم في انتظارهم للـ"مسيح" (يو12/31-36).
انتظار الأُمم .. عهدٌ قديم للأمم إن الانتظار لا يقتصر فقط على شعب العهد القديم بل يشمل كلَّ الأمم والشعوب. يقول جون هُوْ: "ما من بلدٍ في العالم أجمع إلاّ أقام الله له فيه منادين يبشرون مواطنيه بقدومه. لم يتلقوا وحياً خاصاً لهذا الغرض، غير أنهم كانوا ممتلئين حكمة خاصة وجرأة غريبة تجعلانهم يهيئون العقول عفواً لقبول الكلمة الإلهي الأزلي المزمع أن يتجسَّد ليهدي العالم إلى الخلاص". ويقول باسكال: "كم يسرنا أن نعاين بعين الإيمان أن داريوس وكسرى والاسكندر وقيصر.. كانوا يعملون عن غير علم منهم لمجد الإنجيل"
حتى الفلاسفة أدركوا حقيقة الانتظار هذه ولو بشكلٍ ظليّ، يقول أفلاطون: "يجب أن ننتظر شخصاً يعلمنا كيف ينبغي أن نتصرَّف مع الله ومع البشر".
كذلك الشعراء اختبروا الانتظار، يقول فيرجيلوس الروماني: "لقد حانت الأيام الموعودة، ونظام الكون اللامحدود ها هو ذا قيد التجدد، طفل صغير مرسل من السماء إلينا. وعلى عهده ستُمحى آثار جريمتنا. والأرض لن تعرف الخوف فيما بعد، ولسوف يتخذ له مقراً مع الآلهة ويحكم العالم الهادئ بقوَّة فضائل أبيه. فهلمَّ أيها الابن العزيز، يا ابن جوبيتر انظر إلى المسكونة فهي خاشعة باحترام أمامك، تسلِّم عليك. وانظر فكل إنسان قد سُرَّ وابتهج بقدوم هذا العهد الجديد".
3- يسوع هو "المعلم":
لقد أُطلق على يسوع أيضاً لقب أو صفة "المعلم" (40 مرة تقريباً. أنظر: مر10/17، 14/14، لو8/49،17/13، يو11/38). ويبدو أن تلاميذه وعموم الناس قد اعتادوا مناداته بهذا اللقب حتى أن الإنجيل قد حفظه بلغته الأصلية: "رابي" (13 مرة، أنظر: مر9/5، 11/21، يو1/38،49، 3/2، 9/2، 11/8،..)، و"رابوني" (مر10/51، يو20/16).
لقد كان يسوع يعلم في الهيكل وفي المجامع وفي البيوت وفي كل مكان. وغالباً ما يُظهره الإنجيل أنه المعلم المتجوّل (أنظر: مت9/35، 15/32، مر1/21-22، 6/2، 4/1-2، 4/33-34، لو5/1-3، 10/25، يو7/14-17). ولقد تنوّعت شرائح مستمعيه التي يمكننا أن نصنفها بعدة مجموعات: الجموع، وهم البسطاء والصيادون والضعفاء وعامة الشعب، علماء الدين كالكتبة والفريسيين وعلماء الشريعة والصدوقيين، وأتباعه وهم التلاميذ والرسل وبعض النساء. ولقد كانت طريقة تعليمه جذابة، بشكلٍ أن الإنجيل غالباً ما يظهر كثرة الجموع التي كانت تتبعه لسماع كلمة الله منه، وكانت تندهش من عذوبة كلامه. كما كان يُنتقد أحياناً ممن يشعروا أن هذه التعاليم تهدّد راحتهم. أو لأنه يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة والفريسيين، وهذا ما يبرز صفة إنسانية عميقة فيه وهي الشجاعة. وكان يقدّم تعاليمه عموماً بأسلوبين: العظات، وأشهرها العظة على الجبل (أنظر: مت5-7)، والأمثال وأشهرها التي تعرّف عن أبوّة الله (أنظر خصوصاً: لو 15/11-32). ويفسر لتلاميذه كلّ ما غامضاً وعميقاً ليهيئهم لرسالة الملكوت.
المعلم الحق هو من يعيش ما يُعلّمه، وهكذا كان يسوع. علّم الصلاة (مت6/22، لو22/40)، وكان يصلي (مر1/35، لو116/12،/1،22/41). دعا إلى المحبة (مت5/44)، وأحب أقصى حدود المحبة (يو15/13). نادى بالمغفرة (مت18/21-22)، وغفر لصاليبه (لو23/34). تحدّث عن أولية الخدمة، وأن المعلم يجب أن يكون قدوة فيها (مت20/26)، وغسل أرجل تلاميذه (يو13/1-16). لذلك قَبِل، بحق، أن يدعوه تلاميذه بـ"المعلم".
لا يمكن أن يكون تعليم يسوع قائمة من التعليمات، بل نقول، استناداً إلى بعض الأمثلة النموذجية، إنه إزاحة الستار عن آفاق عظمة الإنسان التي لا حدَّ لها. ولا يبقى لنا إلاّ أن نصغي إلى ضمائرنا، يوم نفهم ما هي قيمتنا وما هي رغبتنا الحقيقية، ويوم نكتشف أن تلك المتطلبات ليست متطلبات غيرنا، بل متطلباتنا نحن. إنها لعظمة لا حدَّ لها، نعيشها في حياة وضيعة يومية، وإنها لآفاق لا حدَّ لها في قلب الآفاق المألوفة، كالعائلة والجوار والحي والمهنة... يكشف لنا يسوع كلّ ما يقدر عليه الإنسان في أبسط أنماط الحياة، شرط أن يكون في الحقيقة ابن إله هو أب.
ليس تعليم يسوع فلسفة، بل هو اختبار حياتي. لذلك لا يستطيع رسل يسوع أن يكونوا دعاة نظام فكري. ولن يستطيعوا أن يرددوا كلامه، ما لم يشهدوا لاختبار علاقة معينة مع الله. حتى لمَّا كانوا يعيشون مع يسوع، كانت شهادتهم ناقصة إلى حد بعيد. كانوا بطيئي الإيمان وسريعي التشويه وثقيلي الاحتمال. أما بعد العنصرة، فإن الروح القدس، الذي هو روح يسوع، أي ذلك الذي يُلهِم ويُنعش نشاط يسوع من الداخل، سيهب لهم أن يؤدوا في أنفسهم طريقة يسوع في العيش ونمط حياته ونوعية وجوده والحياة التي يعيشها كاملةً وفقاً لمنطق المحبة. وإلا كانت المسيحية نظاماً، أي شيئاً آخر تماماً، في حين أنها تصبح على جانب كبير من الأهمية، إن كانت اختباراً [5].
مواقف يسوع تعرّف عنه
يؤكَد على إنسانية يسوع عادة في مواقف الضعف، كالجوع والعطش والتعب والألم، وكأن الضعف هو فقط ما يميّز الإنسان!.. لا شكَّ أن يسوع قد اختبر ذلك بعمق، وعاش الموت بكلّ ما يحمل من عنفٍ وتمزقٍ وألم، ولكني أحب أن أتأمل إليكم جوانب أخرى في إنسانيته، كالحرية والعاطفة.. حيث التوافق بين هاتين القيمتين تمنح فرادةً عميقة للإنسان، وهكذا كان يسوع.
إن يسوع حرٌّ أمام من يحبونه، فبكل شجاعة وهدوء يقول لأبويه لمّا أضاعاه في الهيكل ثلاثة أيام: “ألم تعلما أنه يجب عليّ أن أكون عند أبي" (لو2/50). لم يقبل أن يكون محتَكَراً لمحبيه، فيذهب للبشارة في الجليل ويترك كفرناحوم وقد أصبح له فيها أتباع أحبوه (مر1/35-39). ولم يقبل أن تبكي عليه بنات أورشليم (لو23/27). ورفض رغبة المجدلية في تملّكه (يو20/17). ولم يرضخ لمشيئة تلاميذه إلا ما كان منسجماً مع إعلان ملكوت الحق، وكأنه يريد أن يقول: "لا أريد أن تحتكرني طبقة اجتماعية أو عِرق أو عشيرة أو كنيسة أو أمّة. إني حرّ ومتأهّب للعمل بمشيئة أبي"[6].
كان يسوع حراً أمام الشرائع والعادات. يسمح لتلاميذه أن يأكلوا في السبت (مر2/23-28). و هو بدوره يشفي يوم السبت (مر3/1-6). ويقول بحزم: قيل لكم أما أنا فأقول.. (مت5/21-00). ولا يهمه إلا أن يحقق ملكوت "حرّية أبناء الله". إن حرّية يسوع ليست من نوع المخالفة من أجل المخالفة، فبنظره ما وجدت التقاليد والشرائع إلا لتخدم الإنسان وتنمّي علاقته بالله.
كان يسوع حراً أمام كبار عصره. يتوعد بلهجة قوية الكتبة والفريسين وعظماء الكهنة وهيرودس وكلّ مَنْ كان له سلطان يستعبد أحباء أبيه (لو11/37-00، يو3/13-00، لو13/32،00 ابحث عن النصوص المشابهة).
كان يسوع حراً أمام التجارب. جرّبه إبليس، وإبليس لا يتوّرط في إغواء من لا يُجرّب سلفاً. وذلك لأن يسوع إنسان وكامل الإنسانية. فلم يهزمه فقط في البرية بعد صومه وإظهار حريته أمام حاجاته الطبيعية (لو4/1-13)، بل دائماً، وبكافة مظاهر التجارب الخبيثة. فقد هرب من المجد البشري المزيف الذي قُدِّم له في معظم معجزاته (مر6/30-46)، ولم ينتابه الغرور حين دخل المدينة المقدسة دخول الفاتحين (يو12/12-16). ولم يخَفْ، رغم ارتعاده، أمام محنة الألم والموت (مر14/61و15/5). ولم يستسلم لعواطف الحقد السلبية أمام صالبيه (لو23/34).
وبالمقابل، وبتمييز مرهف ودقيق، لبّى يسوع نداء العاطفة المنسجم في آن معاً مع إنسانيته وبنوّته لله. فحوّل الماء إلى خمر في قانا الجليل بطلب مريم أمه (يو2/1-00)، وقد أخذ عنها مجمل صفاته الإنسانية، لا بل تتلمذت إنسانيتُهُ على يدها.
لقد جعل من تلاميذه أصدقاءه. فكان يأتي إلى مكان عملهم (لو5/3-00)، وإلى بيوتهم (مت8/14). وكان يوحنا يُنعت "بالذي يحبه يسوع" (يو13/8، 19/26، 20/2، 21/8،21).
نظر إلى الشاب الغني و"أحبّه" (مر 10/21). وتأثر و"تحنّن" لدموع أرملة نائين (لو7/11-16).
رفض الخطيئة وأحبّ الخاطئين (لو19/2-00، يو8/11). وانتابته مشاعر الثورة والغضب حين رأى بيت أبيه قد تحوّل إلى مغارة لصوص (مت21/13).
قَبِلَ أن تبذل النساء، اللواتي يتبعنه، من أموالهن عليه وعلى تلاميذه (لو7/3). و"أحب مرتا وأختها ولعازر" (يو11/5)، وقد كان يرتاح في بيتهم. ودمعت عيناه لموت صديقه (يو11/35). أحبّته مريم، وقد بالغ جبران في وصف هذه المحبة، فكانت تُصغي بتلهف لكلامه (لو10/39) وبدموعها تغسل قدميه وبشعرها تمسحهما، ولأنه الغالي أفاضت عليه طيبها الكثير الثمن (يو12/3-00).
أُعجب بإيمان قائد المئة الوثني (مت8/8-10)، وفتح محبته بشكل شمولي[7] (يو4/1-00). وتحنن على الجموع التي تبدو كخراف لا راعي لها (مر6/34)، وشفى فيهم كل من كان في مرض وسقم (مت4/23). وتفنّن بإلقاء الأمثال والخطب ليجذب سامعيه إلى ملكوت الله (لو5/1، مر4/1-2).
لقد عاش يسوع حريته وعاطفته بأمانة مطلقة لمشيئة أبيه، وهذا لا يناقض إنسانيته، بل بالعكس فملء الإنسانية هو عيش حرية وعاطفة كالتي عاشها يسوع.
إن سألتموني لماذا أنا مسيحي، أجبتكم: لأني اخترت الإنجيل مربياً لحريتي! لأنه لا تقوم حرية الإنسان على القيام بما يريد، بل على الإرادة ما يعمل، أي على تحمُّل مسؤولية أعماله.
لا يكون الإنسان إنساناً صحيحاً، ما لم يتحمَّل مسؤولية حياته. فالحرية الحقيقية هي القدرة على مواجهة الموت، لا الموت الأخير، والنهائي حتماً، بل ذلك الموت اليومي الذي تفرضه ممارسة العدل والحق والحرية.
لا يستطيع الإنسان أن يبذل نفسه ويحتفظ بها. فحين يبذل نفسه حقاً، يلتزم في سبيل الآخرين. لا شك أن ذلك يؤلم ويتطلَّب تضحيات حقيقية. علينا أن نتعلم أن نموت عن أنفسنا، لأننا عبيد أنفسنا خاصة، عبيد تلك "الرغبة في الوجود" التي تستولي على صميم قلوبنا.
إنّ مثال الإنسان الحر هو المسيح، فقد فضَّل الموت بإنكار نفسه. إنَّه شاهد لحرية الله الأزلية (تأمل تجارب يسوع : لو4/1-..). وبكلمة واحدة، الإنجيل هو الكشف عن "حرية الله المحرِّرة". هذا هو تحديد المحبة نفسه. محبه البشر هي الرغبة في أن يكونوا. والرغبة في أن يكون الآخر هي العدل، وبالتالي الاحترام الذي هو في قلب العدل. لكن الآخر لا يكون، ما لم يكن حرّاً، لأنَّ الإنسان إنَّما بالحرية هو إنسان. وخارج الحرية، لا توجد إنسانية حقيقية. وفي آخر الأمر، ليست الحرية إلاّ حرية المحبة، لأنَّه خارج المحبة تسود القدرة عل السيطرة التي تظلم وتمنع الإنسان أن يكون إنساناً على وجه كامل.
"الله محبة" (1يو4/8) ونحن "دعينا إلى الحرية" (غلا5/13). إذا فهمنا أن بين المحبة والحرية تطابقاً وارتباطاً وثيقاً وعميقاً، فهمنا حقاً جوهر الإيمان.[8]
2- المسيح في التفكير اللاهوتي هناك من شكّك بألوهية يسوع، وهناك من شكّك بإنسانية المسيح، وهناك من تعثّر في التوفيق بين الألوهية والإنسانية. الكنيسة، التي صلّت سر المسيح، وعاش مؤمنوها متشبهين بيسوع، حيث التفكير اللاهوتي بالمسيح ما هو إلا دعوة التزام حياتية لكل من يؤمن به؛ حاولت التعريف عن يسوع المسيح بدقة خلال العصور الأولى لها، ولا تزال. فمن خلال ظهور بعض الهرطقات أعلنت الكنيسة عن إيمانها. ندرس اليوم ما توصلت إليه العقائد حول إنسانية المسيح ونترك للحديث القادم الكلام عن الألوهية.
التشكيك بإنسانية المسيح والرد عليه
لقدشكّكت بدعة "المظهَرية" (Docétisme)، والفالنتنيون (Valentiniens) من بعدها، بإنسانية يسوع. وهذه البدعة "غنوصية"، أسسها مارقيون (Marcion)، تعتقد أن الإنسان لا يصل إلى "المعرفة" (gnosis) إلا إذا تحرّر من عالم المادة والجسد الفاسد. فابن الله لم يتخذ جسداً بالمعنى المادي للكلمة بل اتخذ "مظهر جسد" أو "شبه جسد".
إن هذه الفكرة "لا تزال قائمة في أذهان كثيرين من المسيحيين، حتى في عصرنا الحاضر. فيسوع، في نظر هؤلاء المسـيحيين، إله يمشي على الأرض مسـتتراً في شبه جسـد بشـري. لذلك لم يحتمل مشـاقّ الطبيعة البشرية كما يحتملها سائر الناس، وإن جاع وعطش وتعب وتعذّب، فكونه إلهاً يجعله يحتمل كل تلك المصاعب دون إي ألم"[9].
أما أبوليناريوس أسقف اللاذقية فكان يؤمن بألوهية المسيح، إلا أنه في تفسيره لوحدة الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في شخص المسيح، اعتقد أن يسوع اتخذ جسداً فقط دون "نفس" psychi))، وإن اتخذ "نفس" فهي ليست "النفس الروحية" حيث سكن محلها الإله، فلو كان عند يسوع نفساً روحية كسائر البشر لارتكب الخطيئة واستحال عليه الفداء، حاشى. فلضمان قداسة المسيح، اعتبر ابوليناريوس أن الطبيعة الإنسانية عند المسيح ما هي إلا مجرّد "ثوب" لبسه الكلمة ليقوم بعمله الخلاصي[10].
إذا تساءلنا عن سبب الشك، إن في "المظهرية" أو "الأبولينارية"، أو الهرطقات الأخرى التي تنكر إنسانية المسيح، "رأينا أنه ردّ فعل طبيعياً بالنسبة إلى الذين يعلنون سيادة المسيح وربوبيته وألوهيته. فالعقل البشري لا يطيق أن تحل عظمة الله في إنسان: كيف يمكن أن يكون المسيح - الكلمة قد اتخذ لحماً بشرياً؟ كيف يمكنه أن يولد من امرأة، وهو الكائن مع الآب منذ الأزل؟ كيف يمكن الله المتعالي المتسامي (Trasendant) أن يصبح إنساناً؟ فالله منزّه عن ذلك، وخاصةً عن الجسد الذي هو مرادف للشر. لذلك كثرت الأناجيل المنحولة (Apocryphes) التي كانت تصوّر يسوع بصورة إله "يتنزّه على الأرض"، لا يحيا حياة بشرية حقيقية".. [11]
لقد ردَّ القديس اغناطيوس الانطاكي (110م) في رسالته إلى السميرنيّين، قائلاً: إن لم يعِش يسوع ويتألم إلا في الظاهر، فنحن أيضًا لم نخلص إلا في الظاهر، إذاك تتحول كل الحقائق في المسيحية إلى أمور ظاهرية.
أن يكون يسوع، ابن الله، في الوقت عينه إنسانا حقيقياً تاماً، ليس حقيقة واقعية وحسب، بل حقيقةٌ خلاصية. فلأن الله دخل جسدياً في لحمنا ودمنا البشريين افتدانا أيضاً في بشريتنا. إنه جمع في يسوع المسيح كياننا البشري بجملته (القديس إيرناوس أسقف ليون - القرن الثاني)، ومنذ ذلك الحين لم يعُد أي بعد بشري خارجاً عن الله أو بعيداً عنه. فالله في يسوع المسيح اتخذ كل ما هو بشري وقدسه. ومن ثم فالخلاص والفداء ليسا خلاصاً روحياً للنفس وحسب، ولكنهما يهدفان إلى خلاص الإنسان في كل كيانه. من بشرية هذا الخلاص أيضاً وُهب لنا بيسوع المسيح على نحو بشري. ومن ثم فبشرية يسوع ليست إذن قناعاً لله، ولا أداةً ميتة، ولا نوعاً من دمية بين يدي الله. فهو يحقق الخلاص من خلال طاعته وخدمته البشريتين. وهكذا أصلح بطاعته عصيان آدم. وإذا كان باستطاعة يسوع المسيح أن يفدينا، فما ذلك إلا لأنه ليس إلهاً حقيقياً وحسب، بل لأنه إنسان حقيقي (أنسيلم أسقف كانتربري) [12].
إنسانية المسيح في المجامع المسكونية الأولى تعثّر النظر إلى يسوع إنساناً وإلهاً في آن معاً. فوَجدت النسطورية في إطلاق لقب "والدة الإله" (ثيوتوكوس) على مريم أم يسوع، انتقاصاً من إنسانية المسيح. وبالمقابل، راح الراهب افتيخوس (أوطيخا) وأتباعه، يفسرون وحدة شخص المسيح تفسيراً خاطئاً. فأكدوا أن إنسانية المسيح قد دخلت في لاهوته مثلما تدخل نقطة من العسل في البحر، أي أن هناك ثمة ذوبان للإنسانية في الألوهية. فصاغ مجمع خلقدونية (451) الإيمان على النحو التالي: "واحدٌ هو، وهو نفسه تام في اللاهوت وتام في الناسوت، إله حقيقي وإنسان حقيقي.. مساوٍ لنا في الجوهر بحسب ناسوته.. إننا نعترف بمن هو واحد وهو نفسه المسيح.. القائم في طبيعتين متحدتين من دون اختلاط ولا تحول ولا انقسام ولا انفصال".
"إن عقيدة مجمع خلقيدونية الأساسية قد تمّ التوسع فيها فيما بعد. فمن الحقيقة القائلة إن ليسوع المسيح طبيعة إنسانية حقيقية استُنتج أن يسوع كإنسان حقيقي له أيضاً نفسٌ روحية إنسانية حقيقية ومشيئةٌ إنسانية حقيقية تخضع للألوهيّة بملء حريتها. وهذا ما أعلنه المجمع المسكوني السادس (القسطنطينية 680-681). وحريته الإنسانية هي الأساس والشرط لطاعته التي بها افتدانا. ويتبيّن من هذه العقيدة أيضاً الطابع الإنساني الذي يتسم به خلاص الله من خلال يسوع المسيح.
وكما كان للمسيح حرية إرادةٍ إنسانية، كذلك كان له معرفةٌ إنسانية. فالكتاب المقدّس يقول لنا إنه ينمو في الحكمة (لو2/52)، وإنه تعلّم، مما تألمه، أن يكون طائعاً (عب5/8). لذلك كان يتمتع يسوع بالمعرفة الإنسانية التي تُكتسَب بالاختبار، وبالوعي الإنساني لذاته"[13]. خاتمة
لم تكن رسالة يسوع المسيح كشفاً عن سر الله وسر العلاقة معه وحسب، بل هي كشف عن حقيقة الإنسان. فبيسوع "تتبيّن بوضوح حقيقة سرّ الإنسان"[14]. لذلك من المهم لدى المسيحي التعرف على إنسانية يسوع، والدخول من خلالها إلى "سرّه"؛ لأن من يختبر ذلك، يختبر في حقيقة الأمر، الدخول إلى عمق كيانه. فيصبح "كل شيء يجد قوامه في المسيح.. لذلك يستطيع أن يستعمل كلّ شيء ويفرح بكل شيء. ولأن له رباً واحداً، فهو حرٌ تجاه سائر الأرباب (كو8/6). ولكن عليه أن يستعمل هذه الحرية المسيحية على النحو الذي يناسب يسوع المسيح، الذي يحيا بكليته من الله أبيه، وبه ولأجله، الذي لا يريد شيئاً من أجل نفسه، بل يريد كل شيء من أجل الآخرين. في يسوع المسيح يستطيع المسيحي ويتوجب عليه أن يكون منفتحاً تمام الانفتاح على العالم، ولكن ليس ليتشبّه بهذا العالم (رو12/2)، بل ليوجّه كل شيء إلى المسيح، ويملأه من روحه. وليس في ذلك إرهاقٌ لأي أحد ولا لأي شيء. بل بخلاف ذلك، في يسوع يتضح المعنى العميق للواقع كله. من دون يسوع المسيح، لا يمكن أن يُفهم الفهم الكامل لا للإنسان ولا للعالم. وبإحالة كل الواقع إلى يسوع المسيح، يأخذ العمل البشري أيضاً معناه الأخير. فهو ليس مشاركة عمل الله الخالق وحسب، بل له معنى أيضاً بالنسبة إلى ملكوت الله"[15].
إن كنا قد تساءلنا في البداية هل يسوع هو إنسان "مثلي"، لا بدَّ لنا في نهايته أن نغيّر السؤال: كيف يمكنني أن أصبح إنساناً "مثله"!.. هذا هو جوهر الخلاص
|