الغيرة نار ملتهبة
الغيرة المقدسة هى نار متقدة في قلب المؤمن تدفعه بحماس شديد للسعى بكل الجهد لأجل خلاص الناس، وبناء الملكوت.
وكما قيل عن السيد الرب إنه: "يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تى 2: 4).. هكذا أيضًا الإنسان الذي تلهبه الغيرة المقدسة، يريد أن جميع الناس يخلصون.. وليس فقط يريد، إنما يعمل بكل قوته، وبكل مشاعره، ولا يهدأ، كما قال داود النبى:
"إنى لا أدخل إلى مسكن بيتى، ولا أصعد على سرير فراشى، ولا أعطى لعينى نومًا، ولا لأجفانى نعاسا، ولا راحة لصدغى. إلى أن أجد موضعًا للرب، ومسكنا لإله يعقوب" (مز 131).
هكذا الذي تلهبه الغيرة المقدسة، لا يهدأ ولا يستريح، إلى أن يجد موضعا للرب في قلب كل أحد، ويخلص على كل حال قومًا (1كو 9: 22).
الغيرة نار في قلب إنسان حار بالروح، يشتعل قلبه بمحبة الله، ومحبة الناس، ومحبة الملكوت. وبكل حرارة يعمل بجدية، ولكي يحقق رغباته المقدسة، من جهة خلاص الناس وإنتشار الملكوت.
ولذلك حسنا عندما أراد الله أن يرسل تلاميذه للخدمة، حل الروح عليهم مثل السنة من نار.
وبهذاألهبهم للخدمة، وصارت كلماتهم في الكرازة كلمات نارية، كأنها اسهم من نار تلهب القلب وتحرك الضمائر، و"لا ترجع فارغه" (إش 55: 11).. كلمة من القديس بطرس الرسول في يوم الخمسين قادت ثلاث آلاف إلى الإيمان (أع 2: 41). وبهذه الروح النارية، وبهذه الغيرة المقدسة، أتى ملكوت الله بقوة..
إنها النار التي قال عنها السيد المسيح: "جئت لألقى نارًا على الأرض، فماذا أريد لو اضطرمت" (لو 12: 49).
إنه العمل النارى الذي بدأ يوم الخمسين واستمر. وبه وقف الرسل القديسون أمام كل قوة اليهود وكل قوة الرومان، يشهدون للإيمان " بكل مجاهرة، بلا مانع" (أع 28: 31) " ونعمة عظيمة كانت على جميعهم" (أع 4: 31، 33).
ما أجمل قول المزمور: "الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً" (سفر المزامير 104: 4).
فإن كنت نارًا تلتهب، حينئذ تصلح أن تكون خادمًا لله. إذ يجب أن يكون خدامه " حارين في الروح" (رو 12: 11)، لأن إلهنا نفسه قيل عنه إنه: "نار آكلة" (تث 24: 24).
إرمياء النبي كذلك: كانت كلمة الله في جوفه " كنار محرقة " فلم يستطيع أن يهدأ، ولم يقدر أن يسكت، على الرغم من كل التعب الذي أصابه (إر 20: 9). قال له الرب: "هأنذا جاعل كلامى في فمك نارًا" (إر 5: 14). وصاح إرميا: "أحشائى أحشائى. توجعنى جدران قلبى. يئن في قلبى. لا أستطيع السكوت" (إر 4: 19). وهوذا داود النبي يقول: "غيرة بيتك أكلتنى، وتعييرات وقعت على" (مز 69: 9).
أي أن التعبير الذي يصيبك يا رب من الخطاة، أو يصيب كنيستك وشعبك، كأنه وقع على أنا شخصيا. وداود شعر بهذا فعلا، لما عير جليات صفوف الله الحى (1صم 17: 26). ولم يهدأ حتى أزال ذلك العار..
الغيرة هى حالة قلب متحمس، ومتقد بمحبة الله، يريد أن محبة الله تصل إلى كل قلب. وهو إنسان يحب الله، ويريد أن جميع الناس يحبونه معه
هو إنسان يشتغل قلبه من نحو مجد الله ونشر كلمة الله، ويريد أن ملكوت الله ينتشر حتى يشمل كل موضع وكل أحد. ويريد أن الإيمان يدخل كل قلب، ولا يفقد أحد نصيبه في هذا الملكوت.
الإنسان الذي يتصف بالغيرة، يكون إنسانًا متقدًا بالنار.
كلامه كالنار في حماسته، وصلاته كالنار في قوتها، وخدمته كالنار في فاعليتها وفي امتدادها.
بغيرته يلهب القلب، ويشغل المشاعر، ويقوى الارادة ويدفع السامع دفعًا نحو التوبة () ونحو الملكوت، وينخسه في ضميره بطريقة لا يمكن أن يقاومها..
وبعكس ذلك هناك من يتكلمون باسلوب فاتر لا يقنع أحدًا ولا يأتى بثمر، ولا تظهر فيه حرارة الروح.
ومن أمثلة الكلمة الباردة، توبيخ عالى الكاهن لأولاده.
قال لهم " لا يا بنى، ليس حسنا الخبر الذي اسمع: تجعلون شعب الله يتعدون.. " كلام لا جدية فيه ولا حزم ولا حرارة، لذلك لم يؤثر فيهم، وقيل بعده: "ولم يسمعوا الصوت أبيهم" (1صم 2: 23 – 25). عرضوا أباهم لغضب الله عليه.
مثال آخر وهو انذار لوط لأنسبائه في سادوم.
لم تكن في حياته بينهم القوة التي تجعل لكلامه تأثيرا. لقد رأى شروهم من قبل، ولم تكن له الغيرة المقدسة على وصية الله. يكفى أنه أعطاهم بناته زوجات وصاهرهم! لذلك عندما قال لهم " قوموا اخرجوا من هذا المكان، لأن الله مهلك المدينة"، لم يسمعوا، بل يقول الكتاب " فكان كمازح في أعين أصهاره" (تك 19: 14).
بعكس ذلك كان بولس الرسول مثلا، الذي أنه وقف متهما أمام فيلكس الوالى، ويقول عنه الكتاب " وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة ارتعب فيلكس.." (أع 24: 25). وبنفس الوضع حينما تلكم أمام أغريباس الملك، لم يستطع هذا الملك الوثنى أن يقاوم قوة الكلام الذي كان يتكلم به بولس، " فقال أغريباس لبولس: بقليل تقعنى أن أصير مسيحيًا" (أع 26: 28).
الغيرة قوة فعالة، فيها الاهتمام والجدية، وليست فيها رخاوة.
فقد قال الكتاب " ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة" (أر 48: 10). لذلك كان خدام الله المتصفون بالغيرة، يعملون بكل جهد وقوة وبذل ولعلنا سنشرح ذلك في الفصل الخاص بـ(شروط الغيرة).
قال الرب لتلاميذه: هلم ورائى فاجعلكم صيادى الناس (مت 4: 19).
و الصياد المفروض فيه أن يبحث عن الأماكن التي يوجد فيها اسماك، والتي يمكن فيها الصيد، ويضع الطعم، ويرمى الشبكة، ويجاهد ويصبر، كما قال القديس بطرس " تعبنا الليل كله.." (لو 5:5). إذن المسألة فيها تعب وجهد، ولكنها تنتهى بالفرح كلما امتلأت الشبكة سمكًا.
بولس الرسول كان يسهر إلى بعد منتصف الليل يعظ (أع 20: 7). ومعروفة قصة افتيخوس الذي نام فوقع من الطاقة (أع 20: 7).
وربنا يسوع المسيح ظل يعظ الناس طول اليوم، حتى مال النهار (لو 9: 12). إذن علينا أن نبذل جهدًا، بكل غيرة، من أجل خلاص الناس.، كما قال الرسول عن خدمته " في تعب وكد، وأسهار مرارًا كثيرة" (1كو 11: 27). لخادم المتلهب بالغيرة، لا يكتفى فقط بالتعب، وإنما يصلي ويكتئب ويبكي!.