منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 29 - 11 - 2024, 12:34 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,305,143

قداسة الله - قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ


قداسة الله

«قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ»

(إش6: 3)

ربما كان من أصعب المواضيع التي يمكن التحدّث فيها هو موضوع “قداسة الله”. ما أبعد هذا الموضوع عن فكرنا المحدود وعن أمثلتنا البشرية وعن عالمنا الوضيع! وليس من الممكن أن نكتب موضوعًا عن قداسة الله دون الرجوع للأصحاح السادس من سفر إشعياء. لقد انشغل معظم المؤمنين بهذا النص على مر الأجيال، وصارت عبارة «قدوس قدوس قدوس رب الجنود» علامة من علامات العبادة المسيحية جيلاً بعد جيل.
يخلط الكثيرون بين “قداسة الله” و“بر الله”، ويعتبر الكثيرون أن قداسة الله هي أن الله “بلا خطية” وأن بر الله هو أن الله “بلا خطية” أيضًا. ولكن للأسف رغم أن هذا المعنى صحيح بنوع ما، لكنه قاصر جدًا. إن هذا هو ما يسمى باللاهوت الكبادوكي، الذي اعتاد أن يصف الله عن طريق نفي بعض الصفات عنه، ويسمونه اللاهوت السلبي، فالله بلا خطية، وغير محدود، وغير محتوى، وغير متغير وهكذا... ولكن هذه الطريقة السلبية لوصف الله ليست من أفضل الطرق لفهم الله. إن علينا أن نلتزم بالتعابير الكتابية عندما نقترب من طبيعة الله وصفاته. إن وصف الله عن طريق نفي بعض الصفات عنه تضع الإنسان مقياسًا لله. بما أن الإنسان محدود ومحتوى ومتغير وبه خطية، فالله بالتالي غير محدود وغير محتوى وغير متغير وبلا خطية. وهكذا صار الإنسان المحدود مقياسًا لفهم الله. وهذا يعطي فكرة قاصرة تمامًا عن الله، لأنه يُظهر الله كأنه مشابه للإنسان، ولكنه فقط أفضل منه في كل جانب.
إن كلمة “بر”، ولسنا في مجال دراستها، تتكلم عن استقامة السلوك بما يتفق مع مقياس سامٍ. وهي في الأصل تتحدث عن عدل الله، أي عن معاملاته العادلة البارة مع الآخرين. لذا فهي لا تعني فقط أنه بلا خطية، ولكن تعني أنه في تصرفاته وتعاملاته يتفق مع مقياس سامٍ جدًا عن كل مقاييس البشر.
ومن الناحية الأخرى، تختلف قداسة الله عن بر الله. ففي العهد القديم تستخدم كلمة “قادوش” العبرية (קָדוֹשׁ) والتي تأتي من الأصل العبري “قدش” التي تعني أن يكون شيئًا ما منفصلاً متميزًا أو مخصصًا لأمر ما. وفي العهد الجديد تستخدم كلمة “هاجيوس” اليونانية (ἅγιος)، والتي تعني نقي من كل جانب ويدعو لإثارة الإعجاب والإجلال والتبجيل والإكرام. وهكذا فكلمة قدوس أو قداسة الله لا تعني فقط أنه بلا خطية بل تعني أن “الله منفصلٌ وحده في فئة خاصة به، وليس بها غيره، فهو متميزٌ ومتفردُ ونقيٌ من كل جانب بشكل يثير الرهبة والمخافة والإعجاب والإجلال والتقدير والإكرام في سمو متعالٍ عن كل ما عداه”.
وإن ذهبنا للأصحاح السادس من سفر إشعياء حيث كُتبت العبارة الشهيرة «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ» (إش6: 3) وتفحَّصنا ما يحيط بها، سنجد الكثير جدًا من النور الإلهي يطل علينا من هذا النص، كاشفًا لنا أبعادًا في ذاك الإله العجيب الذي نعبده.
الخلفية التي تمت فيها أحداث هذا النص
لم تكن قد مضت عدة شهور على وفاة الملك عزيا (6: 1). وليس اعتباطًا كُتب هذا التأريخ، لأننا إن رجعنا لتاريخ حياة عزيا نجد أنه «كَانَ .. ابْنَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ، وَمَلَكَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ.. وَعَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ ... وَكَانَ يَطْلُبُ اللهَ فِي أَيَّامِ زكَرِيَّا الْفَاهِمِ بِمَنَاظِرِ اللهِ. وَفِي أَيَّامِ طَلَبِهِ الرَّبَّ أَنْجَحَهُ اللهُ» (2أخ26: 3-5)، وإن قرأت الأعداد من 6 إلى 15 سوف تجد قائمة بنجاح وإنجازات عزيا.
ولكننا للأسف نقرأ «وَلَمَّا تَشَدَّدَ ارْتَفَعَ قَلْبُهُ إِلَى الْهَلاَكِ وَخَانَ الرَّبَّ إِلهَهُ، وَدَخَلَ هَيْكَلَ الرَّبِّ لِيُوقِدَ عَلَى مَذْبَحِ الْبَخُورِ» (2أخ26: 16)، وحاول أن يقوم بعمل كهنوتي رغم أنه ليس من أبناء هارون ولا من سبط لاوي، مستهينًا بشريعة وهيكل الرب. «وَدَخَلَ وَرَاءَهُ عَزَرْيَا الْكَاهِنُ وَمَعَهُ ثَمَانُونَ مِنْ كَهَنَةِ الرَّبِّ بَنِي الْبَأْسِ. وَقَاوَمُوا عُزِّيَّا الْمَلِكَ وَقَالُوا لَهُ: لَيْسَ لَكَ يَا عُزِّيَّا أَنْ تُوقِدَ لِلرَّبِّ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ بَنِي هَارُونَ الْمُقَدَّسِينَ لِلإِيقَادِ. اُخْرُجْ مِنَ الْمَقْدِسِ لأَنَّكَ خُنْتَ وَلَيْسَ لَكَ مِنْ كَرَامَةٍ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ الإِلهِ. فَحَنِقَ عُزِّيَّا. وَكَانَ فِي يَدِهِ مِجْمَرَةٌ لِلإِيقَادِ. وَعِنْدَ حَنَقِهِ عَلَى الْكَهَنَةِ خَرَجَ بَرَصٌ فِي جَبْهَتِهِ أَمَامَ الْكَهَنَةِ فِي بَيْتِ الرَّبِّ بِجَانِبِ مَذْبَحِ الْبَخُورِ. فَالْتَفَتَ نَحْوَهُ عَزَرْيَاهُو الْكَاهِنُ الرَّأْسُ وَكُلُّ الْكَهَنَةِ وَإِذَا هُوَ أَبْرَصُ فِي جَبْهَتِهِ، فَطَرَدُوهُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى إِنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ بَادَرَ إِلَى الْخُرُوجِ لأَنَّ الرَّبَّ ضَرَبَهُ. وَكَانَ عُزِّيَّا الْمَلِكُ أَبْرَصَ إِلَى يَوْمِ وَفَاتِهِ، وَأَقَامَ فِي بَيْتِ الْمَرَضِ أَبْرَصَ لأَنَّهُ قُطِعَ مِنْ بَيْتِ الرَّبِّ» (2أخ26: 17-21).
وهكذا مات عزيا لأنه خان الرب، وظهر البرص في جبهته دليلاً على فساد أفكاره ونجاسته وعدم لياقته بمقادس العلي. إذًا هناك ملك مقطوع من بيت الرب، حاول التعدي والإدعاء بأنه قادر على القيام بدور كهنوتي، فكشف الرب أنه أبرص الفكر، وبالتالي لا يستحق سوى الموت لأنه خائن وليس له كرامة ولا مكان في مقادس الرب. إذا النجاسة هنا هي عدم التوافق مع مقاييس الله وشريعته. وإن كانت النجاسة هي الفكرة المقابلة للقداسة فإن رفض عزيا جاء على أساس عدم توافقه مع قداسة الله. على هذه الخلفية ظهر الرب لإشعياء.
المشهد السماوي
كان هناك مشهد سماوي في هذه الرؤيا. يقول إشعياء «رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَال وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ» (إش6: 1). والسيد هي الكلمة العبرية “أدوناي” وهي أحد أسماء الله في العهد القديم. وأما كلمة “كرسي” فهي الكلمة العبرية “كيساي” وتعني “عرش”. أي أن من رآه إشعياء في الرؤيا هو ملك؛ لأنه جالس على عرش. ولكنه إذ أضاف كلمتي “عالٍ ومرتفع”، فهو بهذا يشير لسمو سلطان هذا الملك العظيم. فهذا العرش يستقر في السماء وأذيال ثياب هذا الملك تنحدر للأرض حتى تملأ الهيكل. فالرب يسوع في هذه الرؤيا ملك ذو سلطان عظيم أعلى من كل سلطان لأي ملك على وجه الأرض. أعلى بما لا يُقاس. أعلى من السماوات.
وهكذا تظهر كلمة “قدوس” بشكل مخفى، حيث إن الرؤيا تشدِّد على تميُّز وتفرُّد السيد كملك الملوك ورب الأرباب، وجالس على عرش تخطى السماوات وسلطانه ممتد على هذه الأرض.
ولكن العجيب أن أذيال ثيابه تملأ الهيكل. وكأنَّ الرب يُري إشعياء أن هناك شخصًا واحدًا يمكنه أن يصير ملكًا وكاهنًا في الوقت نفسه. ولكنه ليس كاهنًا عاديًا لأنه قدوس متفرّد متميّز منفصل وصار أعلى من السماوات. فأذياله تملأ الهيكل أي أنه يملأ الدور الكهنوتي مثلما يملأ الدور الملوكي، وبتميز شديد عن كل ما عداه من كهنة جاءوا وعاشوا وكهنوا وماتوا؛ فهو القدوس.
ومن سمات عجائبه أنه جالس في الهيكل. فعند دراستنا لأثاث خيمة الإجتماع نجد أنه ليس بها كرسي. ويقول كاتب العبرانيين عن كهنة العهد القديم «وَكُلُّ كَاهِنٍ يَقُومُ (أي يقف) كُلَّ يَوْمٍ يَخْدِمُ وَيُقَدِّمُ مِرَارًا كَثِيرَةً تِلْكَ الذَّبَائِحَ عَيْنَهَا، الَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ الْبَتَّةَ أَنْ تَنْزِعَ الْخَطِيَّةَ» (عب10: 11). فكل الكهنة والأنبياء لسانهم لسان حال إيليًا «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ.. الَّذِي وَقَفْتُ أَمَامَهُ» (1مل17: 1). «وَأَمَّا هذَا فَبَعْدَمَا قَدَّمَ عَنِ الْخَطَايَا ذَبِيحَةً وَاحِدَةً، جَلَسَ إِلَى الأَبَدِ عَنْ يَمِينِ اللهِ» (عب10: 12). فتقديم الذبائح يوميًا يعبِّر عن عدم كفاية العمل، أما تقديم ذبيحة واحدة ثم الجلوس في عرش ملوكي فيعبر عن اكتمال وتفرد العمل الكهنوتي للرب يسوع. «لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ اضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلاً عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا الشَّعْبِ، لأَنَّهُ فَعَلَ هذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ» (عب7: 26، 27).
وهكذا يصرخ النص نفسه بتميز القدوس وتفرده عن عزيا وعن داود وعن هارون وعن كل بشر. ثم ينقلنا النص نقلة جديدة، فيُرينا وجهة تميز وتفرد (قداسة) جديدة في ربنا يسوع المسيح فيقول: «السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ (فوق الهيكل في السماء حول العرش)، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ» (إش6: 2).
والسرافيم هي صيغة جمع للكلمة العبرية “سراف” وهي رتبة ملائكية والكلمة تعني “مشتعل”. وواضح أنهم ملائكة مختصة بالخدمة حول العرش الإلهي. ومن معنى اسمهم نعرف أنهم غاية في النقاء والسمو، ومن وظيفتهم حول العرش نعرف أنهم ملائكة متميزة عن باق الملائكة. ولكننا ندرك من سلوكيات هذه الرتبة الملائكية السامية أنها ما زالت بعيدة عن الله كل البعد. لقد عَلَت هذه الرتبة وسَمَت وقرُبت من عرش الله، ولكنها أيضًا ما أبعدها عنه! لم يُجدِ إرتفاعها وسموها في أن تقترب من مقاييس قداسة الله قيد شعرة. يظل الرب متفرِّدًا حتى عن هذه الرتبة الملائكية السامية.
نرى أولاً أن السراف يغطّي وجهه، مُعلنًا بذلك أنه لا يستطيع النظر لله. ففي مقاييس تفرُّد الله، أي قداسة الله، لا يستطيع حتى ملاك من فئة السرافيم أن يرى الله، فهو لا يستحق. بل نراه أيضًا يغطي رجليه وكأنه يقول إنه لا يحق له أن يتراءى في محضر الله. فما أسمى الله عن مخلوقاته مهما سمت. ونراه أيضًا يطير بجناحين، فهو ليس يقف أو يجلس، حاشا. بل هو يطير منفِّذًا ما يؤمّر به. فالرب يسوع المسيح هو وحده الجالس على عرشه، وحوله “الْكُلُّ قَائِلٌ: «مَجْدٌ»” (مز29: 9). وحتى “مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً”، هم “الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ” (مز103: 20).
ونشاهد ونسمع بعد ذلك السراف لا يخاطب الله، كأنه لا يستحق ذلك بل «هذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ» (إش6: 3). وهنا نرى أن حتى الطبقات الممجَّدة جدًا من الملائكة تنادي بقداسة الله، وتدرك تفرده الكامل الرهيب عنها، وتحدِّث بعضها البعض، ولا توجِّه كلماتها للرب بل لبعضها البعض في مخافة واضحة ورهبة بادية. وهي لا توجِّه لبعضها خطابًا عاديًا، بل إنها مناداة. ويسمى السراف في العدد الرابع “الصَّارِخِ”، أي أنها مناداة عن طريق الصراخ. والصراخ يتضمن التحذير والرهبة، كأنه إنذار وإعلان موجَّه للجميع. والمناداة بصوت عالٍ تتحدث عن رهبة يشعر بها كل سراف، رغم سمو رتبة خلقه، ورغم أنه “لهيب نار” (عب1: 7)، واسمه يعني “مشتعل”. آه يا إخوتي «فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الإِنْسَانُ الرِّمَّةُ، وَابْنُ آدَمَ الدُّودُ» (أي25: 6) عليه أن يفعل في محضر القدوس!
وهكذا يتحدث النص عن تميز هذا الجالس وتفرُّده المعبَّر عنه في كلمة “قدوس” في هذا المشهد السماوي، ولكن هناك مشهدًا آخر أرضيًا:
المشهد الأرضي
بعد أن رأينا السماوات تتزلزل (معنويًا) من قداسة الجالس على العرش، نرى أيضًا أن الهيكل “المقدَّس” محل حضور الرب نفسه، يتجاوب هو الآخر «فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ (عوارض الباب) مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا» (إش6: 4). والإهتزاز يتحدث عن ضعف وهشاشة الهيكل بالنسبة لمجد الجالس على العرش. أما الدخان فمن سفر الرؤيا نفهم أنه يتحدث عن مجد الله وقدرته إذ يقول يوحنا: «وَامْتَلأَ الْهَيْكَلُ دُخَانًا مِنْ مَجْدِ اللهِ وَمِنْ قُدْرَتِهِ» (رؤ15: 8). وفي سفر الخروج أيضًا يكتب موسى «وَكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ، وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ، وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا» (خر19: 18). وذلك «لأَنَّ إِلهَنَا “نَارٌ آكِلَةٌ”». فمن فرط تفرد أو قداسة مجده؛ حتى الجبال ترتجف أمامه وتمتلئ من دخان حريقه.
ولكن نفهم من ذلك أنه حتى دينونة الله متفردة، أو هي دينونة مقدسة مخيفة لأنه فيها سيتقابل الخاطئ مع تفرد الله، أي قداسته، فهو متفرد في مقاييس مطاليب عدله ومتفرد في شدة عقابه للخطية وغضبه عليها، إذ يتحدث عنه الرسول فيقول عمن يرفض المسيح إن عليه «قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ» (عب10: 27)، «وَيَصْعَدُ دُخَانُ عَذَابِهِمْ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ» (رؤ14: 11)؛ فتتجلى قداسة الله في الحكم على الخاطئ ويتجلى مجد الله حتى في الحكم بالعذاب الأبدي على الخطاة.
وفي ضوء هذا المشهد الجليل المهيب، ما كان من إشعياء إلا أن صرخ «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ» (إش6: 5). ها قد تحدث إشعياء عن نجاسة شفتيه. ولكن، لماذا الشفتين بالذات؟ هل كان النبي كذابًا أو شتامًا أو مجدفًا؟ بالطبع لا. ولكنه إذ رأى وسمع السرافيم، وأنهم يسبحون بقداسة الله ليلاً نهارًا، وليس على شفتيهم سوى ما يقدِّم له المجد والإكرام، شعر أنه نجس الشفتين. شعر أن شفتيه تم استخدامهما في أشياء كثيرة غير الأشياء التي تمجِّد الله وتكرمه. شعر أنه في ضوء محضر قداسة الله، أي تفرده وتميّزه كان على شفتيه أن تكونا خادمتين لمجد الله فقط. شعر أن أفضل ما فيه كنبي يتحدث بكلام الله (أي شفتيه) ناقص جدًا أمام ما يتطلبه الله ويستحقه من إكرام وتبجيل ومهابة وإجلال. فكيف له أن يقترب من الله وتقع عيناه على ذاك الذي من فرط تفرده وتميزه تُغطّي حتى الملائكة وجوهها حتى لا تنظره.
كيف نقترب لله؟
ولكن من ذا الذي يستطيع أن يفي بمقاييس الله المتفردة في العدل؟ من ذا الذي يمكنه أن يواجه قداسة الله محققًا ما تتطلبه من تكريس كامل وتوافق دائم مع مطاليب تفوق تخيلنا من فرط سموها وجلالها؟ الإجابة: «ليس ولا واحد» (رو3: 12). لذا يتحدث نصنا هذا عن شخص كريم، هو ملك وكاهن عظيم في الوقت نفسه، كان يمكنه أن يملك فقط، ولكنه اختار أن يكون كاهنًا أيضًا. فوظيفة الكاهن هي أن يقترب بالشعب إلى الله. ولكن اقترابه هكذا لم يكن ليصلح بسبب عدم إيفاء الشعب لمطاليب سمو قداسة الله. فما كان عليه سوى أن واجه قداسة الله بمطاليبها الرهيبة بدلاً من شعبه المفدي، فنقرأ أن الله «جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (2كو5: 21)، وأنه «صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا» (غل3: 13). نعم كان لا بد له أن يتجسد ويصير إنسانًا، ثم ينوب عن المؤمنين ويقف أمام قداسة الله بدلاً منهم. لقد واجه الله القدوس وهو حامل خطايانا إذ «حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ» (1بط2: 24).
ونحن نعلم أن الابن هو الله، ولكنه لما تجسد وقف أمام الله كإنسان وإله في نفس الوقت، نائبًا عن الخطاة. لذا فإن صفات الله كما واجهه المسيح هي صفات الجالس على العرش. نعم تواجه ربنا يسوع مع تفرّد وتميّز الله الذي اهتزت له أساسات عتب هيكل الله، وارتجف جبل سيناء أمامه، واشتعل بالنار والحريق، وامتلأ من محضره هيكل الرب بالدخان؛ تقابل وهو حامل للخطايا مع من ارتعد منه النبي إشعياء لمجرد أن شفتيه لم تكن تُكرما الله بالقدر الكافي. لأجلنا وقف ذاك الحمل في حالة اللعنة، وحمل الخطية أمام ذاك الذي ملائكة جبارة من طبقة السرافيم قد صرخت وتغطت وغطت وجهها حتى لا تتطلع في وجه قداسة مجده. كان هو في ذاته كما قال عنه الملاك يوم ميلاده «الْقُدُّوسُ» (لو1: 35). هو الإنسان الوحيد الذي «لم يحسب خلسة أن يكون مُعَادِلاً للهِ» (في2: 6). فهو الوحيد إذًا الذي يستطيع أن يدخل لمحضر الله ويجلس دون أن يغطي وجهه أو رجليه؛ هو الوحيد الذي «انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ» (مز45: 2) على شفتيه، بينما كل إنسان هو «نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ».
ولكنه عند وقوفه أمام الله لأجنا كان قد «حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ» (إش53: 12). فكيف تعامل معه الله؟ هل لفرط قداسة المسيح الشخصية تغاضى الله عن الخطايا التي حملها في محضره؟ لا وبالطبع لا، وهنا نرى مقدار تميز قداسة الله وفرط تفرده الذي لا يقبل أي شيء لا يتوافق مع طبيعته، حتى وإن كان من يحمله هو القدوس ذاته، الله الابن.
بل لقد واجه المسيح قداسة، أو قُل تفرّد غضب الله الرهيب المخيف ضد الخطية، فيقول إرميا بلسان المسيح في نبوة واضحة: «أَنَا هُوَ الرَّجُلُ (المسيح) الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ (أي شدة غضبه). (فالله الغاضب) قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ وَلاَ نُورَ. حَقًّا إِنَّهُ يَعُودُ وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ الْيَوْمَ كُلَّهُ. أَبْلَى لَحْمِي وَجِلْدِي. كَسَّرَ عِظَامِي (يتحدث معنويًا عن الآلام النفسية والروحية). بَنَى عَلَيَّ (مثل المدينة المحاصرة بواسطة عدو) وَأَحَاطَنِي بِعَلْقَمٍ وَمَشَقَّةٍ. أَسْكَنَنِي فِي ظُلُمَاتٍ كَمَوْتَى الْقِدَمِ. سَيَّجَ (بنى حولي سورًا) عَلَيَّ فَلاَ أَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ. ثَقَّلَ سِلْسِلَتِي. أَيْضًا حِينَ أَصْرُخُ وَأَسْتَغِيثُ يَصُدُّ صَلاَتِي (لما قال له: إلهي إلهي لماذا تركتني؟)» (مراثي3: 1-16)
لقد وفى المسيح - له المجد - في عمله الكهنوتي الكامل الذي جعل ثيابه تملأ الهيكل، كل مطاليب تفرّد أو قُل قداسة الله. فجعل أناس مثلنا “سُكَّانُ بُيُوتٍ مِنْ طِينٍ، الَّذِينَ أَسَاسُهُمْ فِي التُّرَابِ، وَيُسْحَقُونَ مِثْلَ الْعُثِّ” (أي4: 19) لهم شركة مع الله القدوس رغم مقاييسه السامية العالية، ولهم «ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى “الأَقْدَاسِ” بِدَمِ يَسُوعَ» (عب10: 19). تلك الأقداس التي ترتجف لها الطبيعة وتحترق، ويرتعب منها الأنبياء ويرتعد لأجلها الملائكة السامية الرتبة!
وهكذا نقرأ في رسالة أفسس أن المسيح وضعنا في مكانة حتى الملائكة القديسين لا يستطيعون أن يصلوا إليها، فيقول عن الله أبينا إنه «أَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (أف2: 6). هل قال إنه “أجلسنا”؟ نعم. لقد رأى إشعياء جالس وحيد هو الرب يسوع، ولكن بولس الرسول يرانا نحن أيضًا جالسين.
ولكن كيف تقابل الله القدوس معنا نحن الخلائق الساقطة؟ لقد أحضرنا الله أبونا إليه، عن طريق ابنه (إذ قدمه كفارة توفي مطاليب قداسته) فأصبحنا «قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ» (أف1: 4). نعم فهو ليس فقط لم يَعُد يرانا بلا لوم، بل أيضًا قديسين. أي أننا أصبحنا في حالة تؤهِّلنا للشركة الكاملة معه، التي لا يتمتع بها حتى السرافيم، لأننا صرنا مقدَّسين في المسيح “الْمَحْبُوبِ” القدوس. فنحن الآن عرفنا أشياء ونتمتع بأشياء “تَشْتَهِي الْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا” (1بط1: 12).
أيها الإخوة كم نحن مديونون للمسيح ولله أبينا؟ كم علينا أن نعيش بتفرد سامٍ عجيب عن ما حولنا، تاركين من القلب ليس الخطية فقط بل كل ما لا يتفق مع قداسة الله أي تفرده الكامل، وعاملين كل ما يمجد ذاك الذي واجه قداسة الله ويكرم أبينا. ونحن حري بنا أن نعيش ما قاله الله للشعب في القديم «وَتَكُونُونَ لِي قِدِّيسِينَ لأَنِّي قُدُّوسٌ أَنَا الرَّبُّ، وَقَدْ مَيَّزْتُكُمْ (أصبحتم متفردين) مِنَ الشُّعُوبِ لِتَكُونُوا لِي» (لا20: 26).
أخي أختي، كيف ستقابل القدوس؟ هل تمتعت بتغطية كفارته الوحيدة التي من الممكن أن تعطيك أن تتقابل مع القدوس مقابلة للسلام والبركة وليس للعنة والحريق؟ «هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ» (2كو6: 2)، اقبل المسيح الآن ربًّا ومخلصًا.
أختي وأخي، يا من تمتعت بغفران الله وبكفارة المسيح، هل تعيش قديسًا لله؟ هل أنت متميز ومتفرد عمن حولك؟ هل تنفصل عن كل صور الشر والفساد؟ هل لا تعيش ولا تفعل إلا ما يمجد قداسة القدوس المتفردة؟

رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
قالت مريم " قُدُّوسٌ اسمُه " فتشير إلى قداسة الله
مزمور 99 | قُدُّوسٌ هُوَ
لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ الرَّبِّ
قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الْإِلَهُ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (رؤيا 8:4)
قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ، الرَّبُّ الْإِلَهُ الْقَادِرُ


الساعة الآن 09:38 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025