رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مكوِّنات الرجاء حدَّد أفلاطون الرجاء بأنَّه »انتظار خيرٍ من الخيرات«. أمّا الخيرات التي ننتظر فهي عديدة. قال ابن سيراخ (ف 2): 7 يا من تخاف الربّ، انتظر رحمته، وحين تسقط لا تمِل عنه. 8 يا من تخاف الربّ آمنْ به وأجرك لن يضيع. 9 يا من تخاف الربّ انتظرْ خيرًا وسرورًا أبديٌّا ورحمة. فالمؤمن ينتظر العودة إلى أرضه (إر 44: 14). والحرِّيَّة (إش 25: 9؛ مز 112: 7)، كما ينتظر أن ينال التعليم (إش 42: 4) أو المال (أع 24: 26) أو الغلَّة الوافرة (1 كو 9: 10). وجاء الكلام عن الرجاء على لسان بولس: أن يزور الجماعة، أن يطيل إقامته في موضع ما، أن يكون حرٌّا بحيث يلتقي أحد التلاميذ. قال لجماعة رومة: »أرجو أن أراكم عند مروري بكم في طريقي إلى إسبانية« (رو 5: 24). ولجماعة كورنتوس: »فأنا لا أريد أن أراكم هذه المرَّة رؤية عابرة، بل أرجو أن أقيم بينكم مدَّة طويلة بإذن الرب« (1 طو 16: 7). وقال لأهل فيلبّي: »أرجو في الربِّ يسوع أن أُرسل إليكم تيموتاوس« (فل 2: 19). ثمَّ: »ولي ثقة بالربّ أن أجيء إليكم أنا أيضًا بعد قليل« (آ23). وكتب الرسول إلى تلميذه تيموتاوس: »أكتبُ إليك هذه الرسالة راجيًا أن أجيء إليك بعد قليل« (1 تم 3: 14). فالرسول يعيش في الرجاء وينتظر من الله أن يسهِّل له طريقه، إذا شاء. كما ينتظر أن تكون عواطف قرَّائه كما يُرام. كان خلاف مع كنيسة كورنتوس، فترجّى بولس »أن يفهموه« (2 كو 1: 13). »أن يعرفوه« (2 كو 5: 11). وترجّى لهم »أن يزداد إيمانهم« (2 كو 10: 15). وأوجز الرسول كلامه بهذه العبارة: »رجاؤنا فيكم ثابت، لأنَّنا نعرف أنَّكم تشاركوننا في العزاء كما تشاركوننا في الآلام« (2 كو 1: 7). موضوع الرجاء في العهد القديم كان الإقامة في أرض الموعد (تك 15: 7؛ 17: 8؛ خر 3: 8؛ 6: 4). ولمّا أقام الشعب في الأرض، ترجُّوا من الربِّ الحماية تجاه الأخطار المحدقة بهم. وتطلَّعوا إلى يوم الربِّ حيث ينجون من كلِّ شر وينعمون بعهد من السعادة والازدهار. كلُّها انتظارت مادِّيَّة. وتجاه الخطيئة التي ندَّد بها الأنبياء، ترجَّى الشعب خلاصه أو أقلَّه خلاص البقيَّة الباقية، إن لم يكن الآن، ففي نهاية العالم: »أعاهدكم عهدًا أبديٌّا. الأمم يعرفون نسلكم، وذرِّيَّتكم بين شعوب الأرض« (إش 61: 8-9). في امتداد العهد القديم نرافق بولس الرسول، ذاك الذي تعلَّم عند قدمَي غملائيل (أع 22: 3). فالرجاء عنده هم أكثر من رغبة، أكثر من احتمال مؤسَّس على الواقع. فالرجاء يتضمَّن الثبات، التي هي إمكانيَّة تحمُّل الصعوبات بدون ارتخاء، والوقوف مهما كانت الرياح مضادَّة. مثل هذا الرجاء ذكره الرسول (1 تس 1: 3)، الذي يتضمَّن اليقين والتأكيد، والحرارة والثقة التامَّة، وإن كان الرجاء ينبوعًا يحرِّك الصبر والجلد والمثابرة، فالصبر من جهته يستطيع أن يُولِّد الرجاء، بمعنى أنَّه الطريق الذي يقود إلى الرجاء. وهذا الرجاء يدلُّ على نفسه في المثابرة، لا في اندفاع ينطلق سريعًا ليتوقَّف أسرع، مثل النار في القشّ، أو حبَّة الحنطة التي وقعت على أرض قليلة التراب: أفرخَت حالاً وما عتَّمت أن يبست. قال متّى عن تلك الحبَّة: »ووقع بعضه على أرض صخريَّة قليلة التراب. فنبتَ في الحال لأنَّ ترابه كان بلا عمق، فلمّا أشرقت الشمس احترق وكان بلا جذور فيبس« (مت 13: 5-6). هنا نقرأ الرسالة إلى رومة: »نحن نفتخر بها (= بالنعمة) في الشدائد لعلمنا أنَّ الشدَّة تلد الصبر، والصبر امتحانٌ لنا. والامتحان يلد الرجاء، ورجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا« (رو 5: 3-5). نحن أبعد ما يكون عن انتظار الأمور المادِّيَّة، وإن كان الربُّ لا يستثنيها من عطاءاته. وسندُنا هو الله الذي يوجِّه حياتنا من أجل الخير بسبب المحبَّة المسكوبة فينا. مثل هذا الرجاء يرافقه الفرح الذي يعمُر به قلبُ الرسول، حين يكلِّم الجماعة في تسالونيكي: »فمن يكون رجاءنا وفرحنا وإكليل افتخارنا أمام ربِّنا يسوع المسيح يوم مجيئه؟« (1 تس 2: 19). هو تطلَّع إلى المستقبل البعيد أو القريب: »مجيء ربِّنا«. والربّ يأتي في المجد. ونحن ننتظره »صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة« (رو 12: 12). وما قاله بولس للتسالونيكيّين ها هو يقوله لجماعة رومة: »فليحِّرركم إلهُ الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بالروح القدس« (رو 15: 13). وماذا يرجو المؤمن؟ أوَّل أمر يرجوه هو البرّ. هو لا يتَّكل على أعمال الناموس مهما سمت كرامتها، بل على الله وحده الذي يُتمُّ مواعيده بنعمة من لدنه، الذي يؤمن بالإنسان ويطلب منه أن يؤمن، الذي يحفظ أمانته لكلِّ واحد منّا ويطلب منّا أن نردَّ على الأمانة بالأمانة. ذاك هو معنى مقال بولس في بداية توسُّعه في القسم العقائديّ من الرسالة إلى رومة: »لأنَّ فيه كُشف برُّ الله بالإيمان وللإيمان كما هو مكتوب: البارُّ بالإيمان يحيا« (رو 1: 17). من أعطاه هذه الصفة، من اعتبره بارٌّا؟ الله وحده. وحين يعتبر الإنسان نفسه بارٌّا يُشبه ذاك الفرّيسيّ الذي جاء إلى الهيكل يصلّي مشدِّدًا على برارته الخاصَّة. غير أنَّه عاد صفر اليدين. قام بطقس خارجيّ »فما كان مقبولاً عند الله« (لو 18: 14). فالمؤمن ينتظر بلا ملل وفي هدوء تامّ ذاك »البر« الذي يحصل عليه بالروح القدس. هذا ما يقودنا إلى الرسالة إلى غلاطية مع ذروة في هذه العبارة: »أمّا نحن فالروح يجعلنا ننتظر، بالإيمان، الخيرات التي يرجوها البر« (غل 5: 5). تبرَّرنا، صرنا أحرارًا، فيُطلَب منّا أن لا نعود إلى العبوديَّة (آ1) من أيِّ جهة أتت. لأنَّ من يصنع الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة، كما قال الربّ (يو 8: 34). والمال يجعلنا أيضًا عبيدًا ويقودنا إلى الحزن لأنَّنا ننغلق على عالم نعيش فيه، وهكذا لا نستطيع »الدخول إلى ملكوت الله« (مر 10: 25). ذاك ما حصل لذلك الرجل الذي سأل الربَّ ماذا يعمل ليرث الحياة الأبديَّة (آ17). فالإنسان المبرَّر لا يستند إلى نفسه ولا إلى كفالات يجدها في هذا العالم، بل إلى محبَّة الله. وهو يُقيم في رجاء موجَّه نحو المستقبل الإسكاتولوجيّ في موقف ناشط، حارّ، قويّ. »فالذي يفلح الأرض والذي يدرس الحبوب يقومان بعملهما هذا على رجاء أن ينال كلٌّ منهما نصيبه« (1 كو 9: 10). ومع أنَّ الخلاص الذي حمله يسوع المسيح هو حاضر منذ الآن، فإحدى تجلَّياته تكون المشاركة والمقاسمة بين الرسول والمؤمنين (2 كو 1: 7). ومع أنَّ المسيحيّ يمتلك منذ الآن جوهر ما يكون له من سعادة، إلاَّ أنَّ هذا الخلاص يُمنَح له في الرجاء بواسطة الروح. وهذا الرجاء لا يمكن أن يخيب لأنَّه يتأسَّس على حبِّ الله الذي تجلّى في المسيح، وأفيض في قلوبٍ كانت من قبلُ خطأة. فالخلاص في تحقيقه التامّ والنهائيّ، يبقى بعيدًا لأنَّنا لا ندركه وجهًا لوجه. فالرؤية تدخلنا في الأشياء منذ الساعة الحاضرة، وتقيم علاقة عابرة. أمّا الرجاء، الموجَّه نحو المستقبل، فيقيم علاقة مع اللامنظور، مع الأمور الأبديَّة التي لم تحصل بعد. هو يستند إلى أمانة الله الثابتة لمواعيده، وإلى قدرته التي تكفل الخيرات الآتية، الإسكاتولوجيَّة واللامنظورة. ويرتكز على إيمان واثق به يؤمن الإنسان بالله، بما يقوله وبما يفعله. قال الرسول: »فلمّا برَّرنا الله بالإيمان نعمنا بسلام معه بربِّنا يسوع المسيح، وبه دخلنا بالإيمان إلى هذه النعمة التي نُقيم فيها ونفتخر على رجاء المشاركة في مجد الله« (رو 5: 1-2). ويواصل الرسول كلامه في الرسالة عينها: »في الرجاء كان خلاصنا. ولكنَّ الرجاء المنظور لا يكون رجاء. وكيف يرجو الإنسان ما ينظره؟ أمّا إذا كنّا نرجو ما لا ننظره، فبالصبر (أو: بالثقة) ننتظره« (رو 8: 24-25). ودعا الرسولُ التسالونيكيّين لئلاّ يتبلبلوا، فذكَّرهم بمكوِّنات الحياة المسيحيَّة: هم بالرجاء ينتظرون في مجيء الربّ، تتمَّةَ الخلاص الذي أدركوه منذ الآن بالإيمان. »أمّا نحن أبناء النهار فلنكن صاحين، لابسين درع الإيمان والمحبَّة، وخوذة رجاء الخلاص، لأنَّ الله جعلنا لا لغضبه، بل للخلاص بربِّنا يسوع المسيح« (1 تس 5: 8-9)؟ وجاء امتدادُ هذا الكلام في الرسالة إلى رومة: حيث المصالحة مع الله تتغلَّب على الغضب الذي هو عمليٌّا العقاب الأبديّ. »ولكنَّ الله برهن على محبَّته لنا بأنَّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعدُ خاطئون. فكم بالأولى الآن بعدما تبرَّرْنا بدمه أن نخلص به من غضب الله. وإذا كان الله صالحنا بموت ابنه ونحن أعداؤه، فكم بالأولى أن نخلص بحياته ونحن متصالحون« (رو 5: 8-10). |
|