القديس بولس
مقتطفات
+ إنه في لحظة خاطفة، وبالنعمة الإلهية العجيبة، سطعت رؤيا أمام شاول، تعلّم منها أن يسوع الناصري الذي أبغضه واحتقره واضطهده، وقد تجلى أمامه الآن في المجد، هو القدوس البار ابن الله الوحيد. إنه لم يره في شبه غيبوبة ولا في حلم غامض. بل رآه وجهًا لوجه في بهاء من النور وبتوكيد واقعي جعلاه لا يستطيع أن يرى غيره. لم يعد هناك شك إطلاقًا في أن الجليلي المهان ليس سوى رب المجد والحياة. وفي اللحظة استُعلن لشاول أنه سفير للقدوس؛ وأنه من هاتين الشفتين الإلهيتين سينال – من حين إلى حين – كل التوجيهات التي تمكنه من أن يؤدي بالتمام المسئوليات العظمى التي أُئتمن عليها. ومن عمق ضميره المعذب صدرت الصرخة: "ماذا تريد أن أعمل يا رب"؟ ولقد ظلت هذه الرؤيا عقيدة راسخة في داخله إلى آخر حياته: إنه المندوب المختار والرسول المعَّين من الرب، وفي الرؤى التي منحه إياها الرب انغرست رسولية شاول الطرسوسي.
+ هل خطر ببال أحدنا أن الله يعرف اسم الشارع ورقم البيت الذي نسكنه؟ إن نعجب فلنذكر توجيهه له المجد إلى البيت الذي أرشد حنانيا إليه.
+ الذي يجب أن نذكره هو أن الله يدرِّب أعظم خدامه عن طريق العزلة والفشل وخيبة الأمل.
+ وجدير بنا أن نعرف أن بولس لم يتبع مخططًا وضعه هو لنفسه بل كان يسير خطوة بخطوة تحت إرشاد الروح القدس.
+ (عن بولس الرسول) ولو أننا تأملنا لوجدناه ضعيف البنية حسّاسًا، متوتر الأعصاب، ربطوه إلى عامود وجلدوه بعد أن كانوا قد خلعوا ثيابه، ثم رموا به في سجن عفن مظلم، ومع ذلك لا يتذمّر إطلاقًا، إنه يتمتع ببركات عظمى تملأه فرحًا. ومن العجب أن حياته كلها كانت سلسلة من الضيق والاضطهاد ونكران الجميل وسوء الظن، ومقابل هذا كله اسمعوه يكرر الهتاف: "إفرحوا في الرب"، "افرحوا في الضيقات"، "لأن خفة ضيقتنا الوقتية". فدين السيد المسيح دين عجيب في كونه يخلق مثل هؤلاء الأبطال. وكأني به يردد لنفسه: "ماذا لو اضطهدني الناس فالله معي"، "ماذا لو فشلت عظتي هذه المرة فالله سيغلب يومًا ما"، "ماذا لو قتلوني؟ ذلك أفضل لأني سأكون مع السيد المسيح".
+ وهنا نرى القوة الباطنية للمسيحية إذ كان من المتوقع أن تموت الكنيسة التي ما كادت تتنفس حتى داهمها البطش. ولكن، ألم يقل السيد المسيح أن ملكوت الله يشبه البذرة؟ والبذرة تحتوي حياة مختبئة، تحّتم عليها حياتها المختبئة أن تنمو.
+ لأنه حين تصخب الأمواج على السطح يظل العمق هادئًا، وسر السلام في القلب المسيحي هو أن حياته الباطنية مختبئة في السيد المسيح.
+ إذن فلنذكر باستمرار ذلك السر الباطني في حياة بولس: إنه الوعي المستمر بحضرة الرب إلى جانبه، إنه يعيش في هذه الحضرة بلا انقطاع. فخلف الجماهير الصاخبة، وفوق رؤوس الكهنة والحكام. كان يرى السيد المسيح دومًا، فانساب السلام إلى أعماقه كنهر: النهر الذي تُفرّح جداوله مدينة الله.
+ آه! متى حصلت على وقت! ويا للأسف أننا كثيرًا ما نقف هذا الموقف. ولكن علينا أن نتيقن بأننا في كل مرة نلتقي بالسيد المسيح ونؤجل "لوقت مناسب" نباعد بيننا وبين إمكانية التلاقي. لأن كل تأجيل مثل هذا يلقى بغشاوة على العين الباطنية ويزيد القلب قساوة.
+ يا لبؤس هؤلاء المتراجعين! فالسيد المسيح واقف يقرع على باب كل قلب. وكأنه يستعطف خليقته أن تفتح له! ومع ذلك فكم هم الذين يلبّون النداء ويسارعون إلى فتح قلوبهم له؟ وهذا الجفاء القلبي هو الذي جعل العلامة المصري الكبير أوريجانوس ينصحنا بقوله: "صلوا لكي يفتح الله نوافذ قلوبكم لتدخل منها النعمة الإلهية".
+ من الصالح أن نرفع كل طلباتنا إلى الله بالصلاة: الطلبات التافهة والخطيرة سواء بسواء ولكن من الأكثر صلاحًا أن نترك الإجابة بين يديه.
+ (عن بولس ومن وقف أمامهم ليُحاكموه) كان يعرف الفرح والسلام والرجاء في أعماق قلبه، هذه التي يحتاج إليها العالم هنا وفي الدهر الآتي. كان يعرف أن للحياة معنى أعمق وأنبل لم يخطر قط على قلوب هؤلاء السادة.
+ فما أقصر إدراكنا عن أن يتفهم كيفية استجابة الله لصلواتنا! ففي تدبير الله سيذهب إلى المدينة التي كان متلهّفًا على أن يصل إليها ولكنه سيذهب أسيرًا مقيدًا بالسلاسل!
+ وكان بولس متلّهفًا على دخول العاصمة الكبرى متلهفًا على توصيل معلمه وربه إلى قلب الإمبراطورية. وهو في طريقه الآن للوقوف أمام قيصر وجهًا لوجه. صحيح أن هذه المقابلة قد تؤدي به إلى الموت ولكن الموت له كان طريقًا يوصله إلى حياة كلها بهاء وبهجة. ثم إنه لم يكن وحده. فقد رافقه لوقا الطبيب المحبوب وأرسترخس المكدوني. كذلك نعرف من رسالته إلى أهل رومية أنه كان له أحباء كثيرون في تلك المدينة. وبكل هذه الصداقات والآمال، وبوعيه بحضرة الله، وبالثقة الهادئة التي كان ينظر بها إلى الموت، كان للعالم سلطان هزيل جدًا عليه، سلطان يتراجع أمام المساندة الإلهية التي تغمره.
+ ولكي يكون الإنسان هادئًا واثقًا وسط المفازع لا بُد من الله. لابد من الوعي بحضرة الله محب البشر وهذا الوعي هو الذي منح بولس الأعصاب الثابتة واليد الأكيدة والقلب الذي يخفق باتزان.
+ ليس كل مسيحي مدعّوًا إلى الكرازة ولكن كل مسيحي – وبلا استثناء – مدعو لتشجيع الآخرين: مدعو من الفادي الحبيب إلى إدخال الطمأنينة والعزاء على القلوب القلقة
+ كان الله ساهرًا على سلامتهم (بولس الأسير ومن معه في السفينة) كما سلامتنا – سواء أكان بيننا بولس أو لم يكن. وقد يعترض من يقول: إنه يتركنا أحيانًا لنغرق! فليكن لأنه حتى إذا تركنا نغرق، ودفعت بنا الأمواج إلى العالم الآخر فهو يعتني بنا وهو واقف ينتظرنا على الناحية الأخرى.
+ وهنا يجدر بنا أن نقف لنوازن بين موقف رسول الأمم وبين موقف من جاءوا إلى مصرنا على زعم أنهم مبشرون. إنه يرفض أن يقيم بناءه على حساب غيره؛ أما هم فلم يركّزوا بناءهم إلا على أساس غيرهم؛ إنهم أخذوا أولئك الذين سرت المسيحية في قلوبهم تسعة عشر قرنًا وحوّلوهم عن كنيستهم العريقة التي جالدت الزمن إلى كنائسهم الخاصة. ومما يوجع النفس أنهم حين كانوا يرسلون تقاريرهم السنوية إلى مقر رياستهم، كانوا يسجّلون فيها أنهم اكتسبوا كذا شخص للسيد المسيح! فمتى يحترم الإنسان كرامة أخيه الإنسان؟!
+ (عن محاكمة بولس الرسول الثانية والأخيرة أمام نيرون) ووقف مرة ثانية أمام نيرون وكم كانت تكون صورة رائعة لو أن لوقا كان حاضرًا معه ليسجِّلها لنا.فهنا وقف خير رجل وجهًا لوجه مع شر رجل، تلاقى الخير والشر مواجهة. وكان الخير مُقيدًا بالسلاسل والشر جالسًا على العرش! وكم من مرة حدث هذا في عالم انقلبت فيه الأوضاع! فما زال الشر يناصب الخير العداء. ومازال الخير يصارع لينقذ العالم. ولكن على الرغم من كل المظاهر فالخير هو المنتصر. وفي هذا الوضع حين بدا أن الشر غلب تراجع متقهقرًا أمام الخير في النهاية. ومن ذا الذي يشك فيمن كان الأسعد: الشيخ المصارع الباسل الذي عاش من أجل الله بل عاشه فعلًا، ولم يكن ليملك في النهاية غير ثوب عتيق وبعض الرقوق، أم ذلك الإمبراطور الشرير الفاسق الذي كان يملك المال الوفير ويملك أيضًا السلطة المطلقة؟
+ وانتهت المحاكمة بسرعة، فلم يقف إلى جانب بولس محامٍ ولا صديق. ولم يكن من المهم أن يقف أحد إلى جانبه. فما دام المسيحيون متهمين بإحراق رومية، وما دام بولس متهمًا بأنه زعيمهم – فأي دفاع مهما بلغ من الصدق والبلاغة يمكن أن يؤثر في ذلك الطاغية السافل الذي بيده الحكم؟ ولأنه مواطن روماني صدر الأمر بقطع رأسه.
+ عن استشهاد بولس الرسول:
ووصل إلى ساحة الإعدام. ولمع سيف عريض في نور الشمس. وسقطت رأسه كلها شيب على الأرض. ولم يحظّ هذا المصارع المستميت في النهاية بمن يحمله في إعزاز ويبكي عليه ويدفنه بإكرام!
+ وليس في إمكاننا أن نرسم الصورة التالية: صورة هاتين العينين اللتين أغمضتهما ظلمة الموت لينفتحا على ذلك النور الذي يفوق بهاء الشمس. وهذه النفس المتواضعة الذي اعتبرها صاحبها كبيرة الخطاة وقفت أخيرًا وجهًا لوجه مع السيد المسيح الذي اقتنصها على الطريق إلى دمشق.
+ ولئن كان بولس لم يتمكن من الذهاب بالجسد إلى أقاصي الأرض فقد نابت عنه رسائله فأوصلت البشرى الذي كان مشتعلًا بها إلى كافة البقاع: إنها أوصلتها إلى بلاد لم تكن معروفة آنذاك. فالناس يقرأونها من القطب الجنوبي إلى القطب الشمالي، ومن مشارق الشمس إلى مغاربها. فالمسيحية الآن تعرفها شعوب أفريقيا وأمريكا الجنوبية، كما يعرفها الاسكيمو في كندا والشعوب السكندينافية وأيسلاند.
+ وليس من شك في أنه مازال منشغلًا بالاهتمام بجميع الكنائس مصليًا من أجل انتشار ملكوت الرب يسوع المسيح أكثر فأكثر، حتى وإن كان فرحًا بكونها الآن قد ملأت القلوب من أقاصي الأرض إلى أقاصيها.
+ ولنحاول الآن أن نتبصّر بعض رسائله فهي ترسم لنا صورة صادقة قوية لكاتبها. إنها تعكس مزاجه وانفعالاته. إنها سامية فائضة بالأحاسيس والمشاعر فتهزّ النفس هزًا. وهي تعكس عقله الذي يتراكض بسرعة مذهلة تجعل القارئ يلهث وراءه في مناسبات كثيرة.
+ وهكذا انتقل من قمة إلى قمة حتى لكأن مشاجرة الكورنثيين قد استثارت فيه أسمى القوى فجعلته يحلِّق عاليًا بدلًا من أن تؤدي به إلى السقوط أو إلى التحزّب وليس في إمكان أحد أن يعلو فوق الأحقاد هذا العلو الشاهق ما لم يكن مستندًا إلى صخر الدهور.