رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
مزمور حمد لله إن كان حبقوق قد دخل إلى الألم الداخلي والضيق الخارجي، لكن وسط الآلام يتمتّع بتعزيات الروح القدس الذي يكشف للمؤمن الأسرار الإلهيّة وسط المرارة فتتحوّل حياة الإنسان كلها إلى تسبحة حمد ومجد لله. هكذا يختم النبي السفر بمزمور حمد أو تسبحة مجد الله تُقدّم لنا: "صلاة لحبقوق النبي على الشجويّة (الأوتار): يا رب قد سمعت خبرك فجزعت، يا رب عملك في وسط السنين أحيّه، في وسط السنين عّرِف، في الغضب أذكر رحمة" [1-2]. إذ وقف النبي على المرصد يترقب كلمة الله وإذ انتصب على البرج الإلهي متحصنًا تهلّلت نفسه في داخله بالرغم من كل الظروف القاسية المحيطة به. وفيما كان النبي يئن من أجل شعب الله إذا بالله يكشف له خطّته الخلاصية عبر العصور التي تجلت على الصليب فتهلّل ممسكًا بقيثارة الروح ليضرب على أوتارها مزمور تسبحة، قائلًا: "يا رب قد سمعت خبرك (كلامك) فجزعت". وكأن يقول يا رب إذ سمعت كلامك امتلأت نفسي رهبة وخشية، كشفت ليّ أسرارك وأدركت أعمالك فصرت في دهشة! لم تقف رؤيته عند حدود أعمال الله في عصره وإنّما امتدت ليراها عبر العصور، مدركًا أن الله في محبته وإن كان يغضب فيؤدّب لكنّه حتى في غضبه لا يحتمل أنات شعبه إنّما يعود فيرحم. "يا رب عملك في وسط السنين أحيّه، في وسط السنين عّرِف، في الغضب أذكر الرحمة". حقًا إن الرب يغضب على شر الإنسان، لكنه في وسط غضبه تئن مراحمه، الأمر الذي عبرّ عنه هوشع النبي في صورة رائعة، قائلًا على لسان الرب: "قد انقلب عليّ قلبي، اضطرمت مراحمي جميعًا، لا أجري حموّ غضبي، لا أعود أخرب أفرايم، لأنيّ الله لا إنسان، القدوس في وسطك فلا آتي بسخط" (هو 11: 8-9). إن كان الله إله محتجب أو متحجب كما قال إشعياء النبي (إش 45: 15)، لكنه يعلن ذاته لشعبه عبر الأجيال خلال مراحمه التي يظهرها حتى في لحظات الغضب الإلهي والتأديب... ولعلّ ما يُقدّمه الله عبر السنين من إعلانات، إنّما يُظْهِر عمليًا في تغيير البشريّة التي فسدت وأقامها من سقوطها. وكما يقول القديس جيروم: [الله يصنع عجائب كل يوم، إنه يعمل... أنتم أعمال الله العجيبة، فبالأمس كنت مغتصبًا ما للغير واليوم تُقدّم للآخرين ما هو لك". هذا التغيير هو غاية كلمة الله المعلنة خلال الناموس الموسوي، التي تجلّت بكمالها خلال تجسد الكلمة الإلهي وإعلانه الخلاص على الصليب. لهذا يعود النبي إلى أعمال الله مع شعبه في البريّة بتقدّم الناموس على جبل موسى لينطلق بهم إلى أعماله خلال المسيّا المخلص. 2. أعمال الله على جبل سيناء: انسحب قلب النبي حبقوق إلى عمل الله حين ارتفع موسى على الجبل ليتسلّم الشريعة فامتلأ الجبل بهاءً ومجدًا، وأشرق الله بنوره على شعبه لينطلق قلبه ولسانه، نفسه وجسده بالفرح والتسبيح، قائلًا: "الله جاء من تيمان، والقدوس من جبل فاران. سلاه. جلاله غطّى السموات، والأرض امتلأت من تسبيحه" [3]. يُشير هنا إلى ظهور الله في مجده بطريقة ملموسة عندما استلم موسى الشريعة وكما قيل "نزل الرب على جبل سيناء" (خر 19: 20)، "وكان منظر مجد الرب كنار آكله على رأس الجبل" (خر 24: 17)، "جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأت من جبل فاران" (تث 33: 2). إذ جاءنا خلال الشريعة غطى بهاؤه السموات، وامتلأت الأرض من تسبيحه. ما هذه السموات والأرض إلاَّ النفس البشريّة والجسد اللذان يتقدّسان بكلمة الله فتلألأ النفس بمجد الرب ويمتلئ الجسد فرحًا وتهليلًا. بالكلمة الإلهي تمتلئ النفس بالنور الإلهي والمعرفة السماويّة، أما الجسد فيتحوّل بكل أعضائه إلى قيثارة في يدي الروح القدس يعزف عليها تسبحة فريدة سماويّة. بمعنى آخر يتجلّى الله في حياة الإنسان بكليتها، في نفسه كما في الجسد. يقول القديس جيروم: [غنّوا حمدًا حقيقيًا، رنّموا بكل جزء من كيانكم. لترنّم يدك بالعطاء، وقدمك بالإسراع نحو عمل الخير... لتعطِ كل أوتارك صوتًا، فإن توقّف وتر واحد تفقد القيثارة كيانها. ماذا ينفعك إن كنت عفيفًا ولكنك طمّاع؟! ماذا تستفيد إن كنت طاهرًا وسخيًا في العطاء ولكنك في نفس الوقت حاسد؟! ما هو نفعك إن كان لك ستّة أوتار صالحة والسابع منكسر؟! فإن وترًا واحدًا منكسرًا يفقد القيثارة إمكانيتها في تقديم صوت متكامل]. جاء في الترجمة السبعينيّة: "الله يأتي من الجنوب، والقدوس من الجبل المظلّل"، ويعلّق القديس جيروم على هذه العبارة: "الله يأتي من الجنوب. هنا يُشير إلى المخلص، حيث ولد الله في الجنوب، لأن بيت لحم جنوب أورشليم" . ويرى القديس ديديموس الضرير أن الجنوب يُشير إلى الرياح الحارة التي تهب على النفس فتلهبها بالروح، أو بالحب فلا يكون باردًا، أما الشمال فيُشير إلى الرياح الشماليّة الباردة التي تُشير إلى عمل الشيطان الذي يُفسد حرارة الروح، لذا في سفر النشيد طلبت العروس أن يُنزع عنها ريح الشمال الذي هو عمل إبليس، وتأتيها ريح الجنوب التي تُشير للمخلّص عريسها نفسه. يُكمّل النبي تسبحته، قائلًا: "وكان لمعان كالنور، له من يده شعاع، وهناك استَتار قدرته" [4]. كأنه يقول: كنت أظن أن الأمور تسير بلا تدبير، الشرّير يلتهم البار، وأمّة الكلدانيّين تبتلع بقيّة الشعوب، ليس من يُحاسبها ولا من يصدها، لكنني وقد أدركت أسرار معرفتك وجدتك النور الأزلي المُدرِك للأسرار الخفيّة، ليس شيء مخفيًا عن عينيك. تمد يدك للعمل وإذا بشعاع يصدر عنهما يفضح السالكين في الظلمة، عندئذ يدرك الكل قدرتك التي كانت مستترة إلى حين. جاءت العبارة "له من يده قرنان" أي نور قرون الشمس كما جاء في ترجمة اليسوعيّين، هذان القرنان اللذان في يده هما لوحا الشريعة اللذان تسلّمهما موسى النبي، وكما قيل: "عن يمينه نار شريعة لهم" (تث 23: 2). "قدّامه ذهب الوبأ وعند رجليه خرجت (طردت) الحمى" [5]. بظهوره يطرد وباء الشرّ والظلمة، وعند رجليه أي بسلطان يأمر الحمى فتطيعه. "وقف وقاس الأرض. نظر فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهريّة، وخسفت آكام القدم، مسالك الأزل له" [6]. يقف ليقيس الأرض، فهي خليقته التي يهتم بها، من أجلها يقف ليعمل ولا يستريح حتى يُعلن أحكامه فترتجف الأمم الشرّيرة وتُدك الجبال المتشامخة والآكام القديمة. إنه السرمدي الذي يُدبّر كل الأمور لتعمل في الوقت الحسن. وكأنه يقول: كنت أظن العالم أشبه ببحر مملوء سمكًا تصطاده الأمّة الشرّيرة بلا ضابط، لكنني أدركت أن كل شيء غير مخفِ عنك. إن كانت الأرض كما قلنا قبلًا تُشير إلى الجسد، فإن الله وقف ليقيسه علامة اهتمامه به وتقديسه إيّاه، حيث يرجف الأمم الوثنيّة القاطنة هناك أي يُنزع عن الجسد كل شر وضعف روحي، ويدك الجبال المتشامخة أي الخطايا التي تبدو عنيفة للغاية ليس من يقدر أن يُحرّكها. أمام الله تتزعزع آكام الجسد التي تثقل النفس. هنا يصف النبي الله كمن هو في حالة وقوف: "وقف وقاس الأرض". وكما يقول القديس جيروم: [إن الله لا يتغيّر وليس له أوضاع جسدية لكنّه يُقال عنه أنه واقف حينما يتعامل مع الأبرار، ويُقال عنه أن يظهر ماشيًا عندما سقط آدم (تك 3: 9)، ويظهر جالسًا بكونه الديّان والملك (إش 6: 1)، ونائمًا كما في السفينة عندما يكون الإنسان بين زوابع التجربة، ويظهر قائمًا كما قيل "الله قائم في مجمع الآلهة". إذن يتحدث هنا عن الأرض وقد تمتّعت ببهجة خلاصه وتقدّست به لذا ظهر واقفًا يُقيسها! رأيت خيام كوشان تحت بليّة، رجفت شقق أرض مديان" [7]. اسم خيام كوشان لم يُذكر في العهد القديم إلاَّ في هذه العبارة، يحتمل أن يكون اسمًا قديمًا لمديان قد هُج . هكذا إذا كانت رؤية الله لحبقوق تتجلّى، والرب في عينيه قادم من جبل سيناء، فإن كل شيء مقاوم له ينهار قدامه. لعلّ خيام كوشان ظهرت كمن تحت بليّة وستائر مديان مُرتجفة عندما أسلم الله أرض كنعان لشعبه، فارتجفت كل الأمم المحيطة. يظن البعض أن خيام كوشان صارت تحت بليّة عندما أسلم الرب كوشان بيد القاضي عثنيئيل بن قناز بعد أن عبده إسرائيل ثماني سنين (قض 3: 8-11)، فتجلت قوة الله في قاضيه المرسل لخلاص شعبه وأذل من استعبد شعبه. أما ارتجاف ستائر مديان، فحدث عندما رأى صاحب جدعون حلمًا "وإذا رغيف خبز شعير يتدحرج في محلة المديانيّين وجاء إلى الخيمة وضربها فسقطت وقلّبها إلى فوق فسقطت الخيمة" (قض 7: 3)، وكان ذلك إشارة إلى سيف جدعون بن يوآش الذي قتل المديانيّين. في اختصار يُسبح حبقوق الرب من أجل أعماله إذ يهب أولاده الغلبة والنصرة، بل والسلطان فترتجف أمامهم الشياطين وتصير تحت بليّة! "هل على الأنهار حمى غضبك؟! هل على الأنهار غضبك، أو على البحر سخطك، حتى أنك ركبت خيلك، مركباتك مركبات الخلاص؟!" [8]. إن كانت المياه الكثيرة تُشير إلى الشعوب (رؤ 17: 15)، فإن شعب الله يُشبه بالأنهار حيث المياه العذبة والأمم الوثنيّة بالبحار المالحة. الله إذ يؤدّب شعبه، يحمي غضبه على الأنهار بسبب الظلم الذي وُجد في وسطه، وإذ يُعاقب الأمم بسخطه بسبب ما ارتكبته من شرور ضدّ شعبه يحمي غضبه على البحار. لقد حمى غضبه على الأنهار والبحار عندما اعترضا طريق شعبه في عبورهم من أرض مصر إلى أرض الموعد، فشق بحر سوف ونهر الأردن، مجتازًا بشعبه كما بمركبات خلاص، وكأنه بقائد الموكب الخلاصي الذي يعبر به من عبودية إبليس إلى ملكوته السماوي، أما المؤمنون فهم الفرس التي تحمل الله قائدها في داخلها. في هذا يقول القديس جيروم: [يُقال هذا عن الله، إن كنا نحن فرس الله التي يركبها ]. ويقول الأب ثيوفان الناسك: [إنه يُحارب عنك بنفسه، ويدفع أعدائك ليديك متى شاء، كيفما شاء، كما هو مكتوب: "لأن الرب إلهك سائر في وسط محلّتك لكي ينقذك ويدفع أعداءك أمامك" (تث 23: 4) ]. "عريّت قوسك تعرية، سباعيّات سهام كلماتك، سلاه" [9]. ما هو القوس الذي تعرى ليضرب كالسهام السباعيّة، إلاَّ التجسد الإلهي خلاله تمتّعنا بكلمة الله كسهم يُحطّم الشرّ الذي تملك في داخلنا؟! ليحل كلمة الله فينا كسهم حقيقي يجرح قلوبنا بالحب فنقول "إني مريضة حبًا" (نش 2: 5)، ينزع عنها كل فساد خبيث أقامه العدوّ الشرّير فيها. كلمات الرب "سباعيّات"، تدخل إلى القلب فتجعله كاملًا، إذ يُشير رقم 7 إلى الكمال. "شقّقت الأرض أنهارًا" [9]. إذ نقبل الكلمة المتجسد فينا كسهم إلهي يجرح قلوبنا بالحب وينزع عنها فسادها، فإنه بدوره إذ يراها قد صارت أرضًا لا سماء تحب الزمنيّات لا الأبديّات يُشقّقها خلال شركة الصليب والألم، ويُحوّل الأرض إلى أنهار مياه حيّة، وكما قال المخلص "من آمن بيّ كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ (يو 7: 38). لا نخف لأننا أرض قفراء، فإن الرب بصليبه يُفجر فينا ينابيع روحه القدوس كأنهار ماء حيّ، تروي أرضنا وتُفيض بالشهادة له في كل موضع! يرى القديس جيرومأن السيّد المسيح هو النهر الأصلي الذي يُصب في أرضنا أنهارًا هي ثمرة عمله فينا، هذه الأنهار تشهد للنهر الحقيقي مُسبّحه له لا بالكلام فحسب وإنّما أيضًا بالعمل، وكما يقول المرتل: "الأنهار لتُصفق بالأيادي" (مز 98: 8). "ليت الأنهار التي ترتوي من المصدر يسوع تُصفق بالأيادي، فإن عمل القدّيسين هو التسبيح لله. المسيح لا يُسبح بالكلام بل بالعمل، إنه يطلب الفعل لا الصوت ". "أبصرت ففزعت الجبال، سيل المياه طما، أعطت اللُجّة صوتها، رفعت يديها إلى العلاء" [10]. إن كان كلمة الله الحيّ يُشقق بصليبه أرضنا فيجعلها أنهار مياه تُسبح وترتّل له بالعمل الروحي الحق، ففي سكناه داخلنا تراه جبال خطايانا الثقيلة فتفزع هاربة من أمام وجهه. ما كنا نحسبه جبالًا راسخة لا يقدر أحد أن يُحرّكها تصير بالصليب سهلًا. وكما قيل في زكريا "من أنت أيها الجبل العظيم؟! أمام زربابل تصير سهلًا، فيخرج حجر الزاويّة بين الهاتفين كرامة كرامة له" (زك 4: 7). وقد رأينا في دراستنا لسفر زكرياكيف يزول الجبل الشرّير ليظهر السيّد المسيح حجر الزاويّة صاحب الكرامة، المقطوع بغير يدين إذ هو ليس من زرع بشر، يصير جبلًا يملأ الأرض كلها (دا 2: 35). بهذا تتدفق نعمة الله كمياه بلا حدود لتُعطي صوت تسبيح داخلي، وترتفع يدي النفس الداخليّتين نحو العلا لتُمارسا العمل السماوي. "الشمس والقمر وقف في بروجهما، لنور سهامك الطائرة، للمعان برق مجدك بغضب خطرت في الأرض، بسخط دست الأمم. "خرجت لخلاص شعبك لخلاص مسيحك" [11-13]. إذ يُسبح النبي الله على أعماله عبر السنين يعود بذاكرته إلى أيّام يشوع حين صلّى لكي تقف الشمس والقمر في بروجهما في السماء حتى تكمل نصرة إسرائيل على أعدائه (يش 10: 12-13)، فلا يأتي ليل سريع فيه يهرب العدوّ قبل إتمام الهزيمة. في النور غلب يشوع العدوّ، وهكذا إذ يشرق الرب في القلب بكونه شمس البرّ وتتحوّل أرض المعركة إلى قمر بكونها الكنيسة المقدسة المقاومة لإبليس، يُبدد النور ظلمة العدو، ويبقى الرب مشرقًا حتى تتحقّق النصرة تمامًا. ولعله يقصد أيضًا أن عمله الله الخلاصي تخضع له كل الطبيعة، حتى الشمس والقمر تعمل معًا حسب تدبيره لتحقيق مملكته النورانيّة وإبادة مملكة الظلمة. ويمكننا القول بأن "الشمس والقمر وقفا في بروجها" يوم الصليب، حين اختفيا أمام بهاء مجد شمس البرّ في خجل مما تفعله البشريّة به. وقفا محتجبين، فيدهشان أيضًا كيف يُحطّم السيّد المسيح إبليس وكل جنوده ليحرّر الإنسان منهم كما من أمم وثنيّة، قائلين: "بسخط دست الأمم، خرجت لخلاص شعبك، لخلاص مسيحك". 3. بهجة الخلاص: "خرجت لخلاص شعبك لخلاص مسيحك. سحقت رأس بيت الشرّير معرّيًا الأساس حتى العنق. سلاه. ثقبت بسهامه رأس قبائله" [13-14]. يختم النبي تسبحته بالكشف عن خلاص الله للإنسان، بتحطيم سلطان إبليس علينا وببعث روح الفرح فينا. فبالصليب سحق رأس بيت إبليس الشرّير الذي تعرّى حتى الأساس وظهرت خداعاته الخفيّة، كاشفًا إيّاه من الأساس حتى العنق. فإن كان العدوّ قد صوّب سهامه ضدّنا إنّما لكي ترتد عليه وتحطّمه تمامًا فلا يكون له سلطان علينا ولا موضع فينا. كثيرًا ما حدثنا الآباء عن تحطيم سلطان إبليس لكي يبعثوا فينا الرجاء للعمل الروحي بلا خوف ولا تذبذب، فمن كلماتهم: * على الصليب أخزى المسيح الشيطان وكل جيشه. تأكد أن المسيح صُلب بجسده على الصليب فإذا به يصلب الشيطان هناك... كان الصليب علامة نصرة ولواء غلبة. كانت غايته عند الارتفاع على الصليب أن يرفعنا عن الأرض، وكما أظن صليب المخلص هو السلّم الذي رآه يعقوب. القديس جيروم * إننا نتعلّم فن الحرب لنستطيع الصراع لا ضدّ الناس بل ضد الأرواح. بلى، فإنه إذ يكون لنا فكر (حق) لا نُصارع قط، فإننا نُصارع لأننا اخترنا هذا مع أنّنا نلنا سلطانًا من ذاك الذي يسكن فينا، الذي قال "ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيّات والعقارب وكل قوّة العدو" (لو 10: 19). أعطى لكم كل السلطان أن تصارعوا أو لا تصارعوا إن أردتم. فنحن نصارع لأننا متراخون، أما الرسول بولس فلم يُصارع بل يقول: "من سيفصلنا عن محبّة المسيح؟! أشدّة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عريّ أم خطر أم سيف؟!" (رو 8: 35). اسمع أيضًا كلماته: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعًا" (رو 16: 20). لقد حمل سلطانًا عندما قال: "أنا آمرك باسم يسوع المسيح أن تخرج منها" (أع 16: 18). هذه ليست لغة من يصارع، لأن من يصارع لم يغلب بعد، ومن يغلب فلا يصارع بعد.* إن أردنا نحن يجعله الله مدوسًا تحت أقدامنا، ولكن أي ازدراء وبؤس أن نراه يدوس على رؤوسنا ذاك الذي أُعطى لنا أن نطأه تحت أقدامنا؟! كيف يحدث هذا؟! إنه بسببنا نحن. فإن أردنا يكون عظيمًا، وإن أردنا يكون قليل الحيلة. إن كنّا حذرين ووقفنا بجانب ملكنا ينسحب، ويكون في حربه ضدّنا لا يزيد عن طفل صغير. القديس يوحنا الذهبي الفم هذا هو سرّ بهجة نفس النبي، إذ رأى عمل الله الخلاصي بتحطيم سلطان إبليس لحساب مملكة النور. حقًا لقد ارتعدت أحشاؤه إذ رأى الكلدانيّين يفسدون كل ثمر، لكن وراء هذا التأديب يوجد خير أعظم، حين يحوّل الله التأديب إلى بهجة خلاص.يقول النبي: "سمعت فارتعدت أحشائي، من الصوت رجفت شفتاي، دخل النخر عظامي، وارتعدت في مكاني لأستريح في يوم الضيق عند صعود الشعب الذي يزحمنا" [16]. لقد رأى الكلدانيّين كشعب يزحمهم أو كعدوّ يود أن يقضي عليهم، فارتعدت أحشاؤه ورجفت شفتاه ودخل النخر في عظامه... لقد أفسد العدوّ كل ثمر روحي فلم يزهر التين ولا أثمرت الكروم. وجفت أشجار الزيتون. هذه هي صورة الإنسان الساقط تحت إبليس فلا ينعم بوحدة الروح (التين) ، ولا عمل الصليب (الكروم التي تُعصر)، ولا بالسلام الداخلي (الزيتون)، أي يفقد حياته الداخليّة بحرمانه من عمل الروح القدس وارتباطه بصليب ربّنا يسوع. ولا يقف الأمر عند فساد الأعماق الداخليّة وإنّما حتى الجسد يفقد قدسيّته فيصير كحيوانات ميّتة، إذ يقول "والحقول لا تصنع طعامًا، ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المزاود" [17]. لا يجد الجسد طعامًا روحيًا فيجوع ويمرض بل ويموت روحيًا ويصير الإنسان كحظيرة بلا غنم ومزود بلا بقر! هذا ما يبغيه العدو، فقدان لقدسية النفس والجسد أيضًا. لكن الله لا يترك الإنسان هكذا بل يرد له خلاصه، واهبًا إيّاه بهجة الخلاص، مقدّما ذاته قوّة له، ومشددًا قدّميه لتنطلقا نحو السماء مسرعة كالأيائل، فيتمشّى الإنسان على المرتفعات المقدّسة ولا ينزل إلى وحل العالم وترابه، إذ يقول: "فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي، الرب السيّد قوتي، ويجعل قدّمي كالأيائل ويمشيني على مرتفعاتي، لرئيس المغنّين على آلاتي ذوات الأوتار" [18-19]. هكذا بدأ السفر بالألم والضيق مع المرارة بسبب المتاعب الداخليّة والخارجيّة، لكن إذ دخل النبي في حوار مفتوح مع الله ووقف كما على مرصد يترقّب، وعلى حصن منتصبًا ليرى أعمال الله انتهى السفر بالبهجة والفرح، مدركًا أن الله نفسه هو قوّة أولاده، يُشدّد أرجلهم ويرفعهم إلى العلو لينطلق بهم بروحه القدوس فوق كل الأحداث. |
|