رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
تَرْكُ "تَرْكِ التَّرْكِ": استحالةُ الاختيار لقد نسِي أو تناسى هذا الشّاب "لحظة" لا يستطيع أحدٌ منّا –مهما ارتفع شأنه– أن ينساها، إنّها "لحظة" و"حقيقة" في آنٍ واحدٍ؛ فمهما حاول هو ومهما حاولنا نحن أن ننساها وندفنها لن نستطيع إلى ذلك سبيلًا. إنّها "حقيقة"، بل حقيقة مِن أقسى الحقائق وأمرّها، إنّها حَدَثٌ يحدث يوميًّا، ولكنّه يهزّنا بمُفاجأته؛ إنّها باختصار "حقيقة الموت". فمَن منّا اكتشف وسيلة يهرب بها مِن ذاك الذي يُدعَى "الموت"؟ ومَن منّا اخترع طريقًا ينجيه من هذا "المجهول القاسي"؟ وهل مِن أحد ابتكر دواء يشفينا من هذا "الدّاء اللّعين الأعمى"؟ «إن لغز الحياة البشريّة يبلغ قمته أمام الموت. فالإنسان لا ينزعج لآلامه وانحلال جسده التدريجيّ، بقدر ما تزعجه أيضًا فكرة الفناء النهائيّ. لذك نجده يتوق بكلّ قلبه إلى استبعاده ورفض هذا الفشل النهائيّ لذاته. إن بذرة الخلود الكامنة فيه والتي لا تجد مردّها في المادّة وحدها، تثور على الموت. إن جميع المحاولات العلمية مهما بدت مفيدة، قد ثبت عجزها عن تبديد قلق الإنسان. فحتى إطالة العمر بيولوجيًّا لا تشبع رغبة الإنسان في حياة مستقبلية، فإنها تأصلّت في أعماق قلبه ولا يمكن اقتلاها» (المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني المسكونيّ، دستور راعويُّ "الكنيسة في العالم المعاصر"، بند 18). لعلَّ هذا الشّاب عندما قام بـ"تَرْك التَّرْك"، أي عندما قام بتَرْك نصائح يسوع الذي دعاه وطالبه بالتَّرْك، لم يفكّر لحظة في هذه "اللّحظة الحتميّة"، أي الموت! ولعلَّه لم يدرك أن هذا الموت الذي سيواجه حتمًا هو تَرْكُ "تَرْكِ التَّرْك"! فالموت في الحقيقة هو تَرْكٌ، لا للأملاك والأموال فحسب، وإنّما تَرْكٌ للحياة برمّتها؛ فهو تَرْك للأشخاص والعلائق، لمن أحبَّنا وأحببناه! وليس هذا فحسب، ولكنّه هو ذاك التّرْك الذي فيه نترك "تَرْك التَّرْك" أيضًا، أي أنّه ليست ثَمَّة فرصة أخرى تُعرَض علينا وتطالبنا بالتَّرْك. فالموت يجعلنا نترك حتّى إمكانيّة الاختيار مجدَّدًا؛ فهو بحقٍّ ليس فقط إمكانيّة الاستحالة، وإنّما استحالة كلّ إمكانيّة أيضًا! إنّنا لا نعلم على وجه التّحديد ماذا حدث مع هذا الشّاب بعد ذاك اللّقاء مع يسوع؛ فإنّنا نرجوا مِن صميم قلوبنا أن يكون قد فتح قلبه وعقله لصوت المعلّم الصّالح فنال الحياة الأبديّة. ولكنّ حديثنا هنا يفترض أن هذا الشّاب لم ينصاع لنصائح المعلّم الصّالح؛ فلقد كان الموت– الذي لم يستعدّ له هذا الشّاب– بمثابة تَرْك "تَرْكِ التَّرْك"، أي تَرْك "إمكانيّة القبول أو الرّفض" مرّة أخرى. فها كاتب المزمور الثّلاثين يُعبِّر عن ذلك تعبيرًا بليغًا، فيخاطب الله قائلًا: «أَلعَلَّ التُّرابَ يَحمَدُكَ ويُخبِرُ بِحَقِّكَ؟» (مز 30/ 10)! ولذا، يرفع صلاته إليه: «أُنظُرْ واْستَجِبْ لي أَيُّها الرَّبّ إِلهي وأَنِرْ عَيَنيَّ لِئَلاَّ أَنامَ نَومةَ المَوت» (مز 13/ 4)! |
|