منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 19 - 02 - 2023, 02:54 PM
الصورة الرمزية Mary Naeem
 
Mary Naeem Female
† Admin Woman †

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Mary Naeem متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 9
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر :
الـــــدولـــــــــــة : Egypt
المشاركـــــــات : 1,271,500

الأحد السابع: الكَمالُ الإنْجِيلي




الأحد السابع: الكَمالُ الإنْجِيلي:

عَدَمُ الانتِقامِ ومَحَبَّةُ الأَعداءِ (متى 5: 38- 48)


النص الإنجيلي (متى 5: 38-48)

38 ((سَمِعتُم أَنَّه قيل: ((العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ)) 39 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر. 40 ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ، فاترُكْ لَه رِداءَكَ أَيضاً. 41 ومَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِداً. فسِرْ معَه ميلَيْن. 42 مَن سأَلَكَ فأَعطِه، ومَنِ استَقرَضَكَ فلا تُعرِضْ عنه. 43 ((سَمِعتُم أَنَّه قِيل: ((أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك)). 44 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم، 45 لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار. 46 فإِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟ 47 وإِن سلَّمتُم على إِخواِنكم وَحدَهم، فأَيَّ زِيادةٍ فعَلتُم؟ أَوَلَيسَ الوَثَنِيُّونَ يَفعَلونَ ذلك؟ 48 فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل.

مقدمة

يصف إنجيل متى شريعة كمال المَحبًة التي جاء بها سيدنا يسوع المسيح (متى 5: 38-48). تحثُّ هذه الشريعة المسيحيين على أن يكونوا كاملين، كما أَنَّ آباءهم السَّماويَّ كامِل، خُصوصاً فيما يتعلق بعَدَمِ الانتِقامِ ومَحَبَّةُ الأَعداءِ. فعالمنا المعاصر بأمس الحاجة إلى شريعة كمال المَحبًة: كم من مدينة تمّ تدميرها في وقتنا الحالي بسبب الأعمال الانتقامية؟ كم من صراعات عرقيــة ودوليــــــة واجتماعية يُطبّق عليهــا مبدأ التصعيد " الأقوى هو الذي يرُدّ الضربات". ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 5: 38-48)



38 سَمِعتُم أَنَّه قيل: ((العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ)
)



تشير عبارة " العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ "إلى شريعة الأخذ بالثأر والانتقام المأخوذة من سفر الخروج، وهي "وإِن تأَتَّى ضَرَر، تَدفَعُ نَفْساً بِنَفْس، وعَيناً بِعَين وسِنّاً بِسِنّ وَيداً بِيَد ورِجْلاً بِرِجْل" (خروج 21: 24). ولم يكن هذا القانون قاعدة للانتقام الشخصي (خروج 21: 23-25)، إنما أعطي للحد من الانتقام ومعاونة المحكمة على تحديد العقاب الذي لا يغالي في الصرامة أو في اللَّين حيث يكون العقاب بقدر حجم الجريمة. فان هذا القانون يُخفِّف من حدة الانتقام (التكوين 4: 15-24). إذا أُصيب الإنسان بظلم ٍ فيجب ألاَّ يثأر لنفسه بظلم أشد، وإنَّما يجب أن يكتفي بمقابلة العَين بالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ، ولكن بعض الناس استخدموا هذا القانون للتبادل بالمثل القائل "أعاملك كما تعاملني"، في حين يسوع يطلب من تلاميذه " كَما تُريدونَ أَن يُعامِلَكُمُ النَّاس فكذلِكَ عامِلُوهم" (لوقا 6: 31). ويعتبر هذه المبدأ القاعدة الذهبية التي تلخّص الشريعة والأنبياء (متى 7: 12).



39 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر.



تشير عبارة "أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم " إلى تناقض قول يسوع مع سوء استعمال الكتبة والفِرِّيسيِّينَ للشريعة. أمَّا عبارة " تقاوموا" في اليونانية ἀντιστῆνα فتشير إلى الوقوف في حرب ضد من يقاومك مجاهدًا أن تنتصر عليه؛ أمَّا عبارة "لا تُقاوِموا" فتشير إلى عدم الردِّ أو مقابلة الضربة بالضربة، إمَّا بصورة شخصية وفورية، وإمَّا بهجوم معاكس في المحكمة كما أوضح يسوع كلامه مع تلاميذه "فسَأُوتيكم أَنا مِنَ الكَلامِ والحِكمَةِ ما يَعجِزُ جَميعُ خُصومِكم عَن مُقاوَمَتِه أَوِ الرَّدِّ علَيه" (لوقا 21: 15). لا يريد يسوع أن نردَّ على الضربة بالضربة، وعلى الشرِّ بالشر، بل ننتظر حكم المحكمة. بينما الدفاع عن النفس بالعنف لا يدلّ دوما على القوة، وعدم الدفاع لا يعني الخنوع، أو الجُبن أو فقدان للكرامة بل تحدّيًا للشّرير وإحراجًا له وترفّعًا عن النزول إلى مستوى الشرير المُتدنّي. فيسوع دافع عن نفسه حين لُطم واحِدٌ مِنَ الحَرَسِ كانَ بِجانِبِه في دار رئيس الكهنة ولامَه. ولكنّه لم يَردّ على الصفعة بالصفعة، ولا على الإهانة بالإهانة، بل ناقشه وحاوره قائلا: "إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟ "(يوحنا 18: 22)؛ وهكذا يقصد السيّد المسيح أن نتحدّى بحِلمنا المُعتدِّين، ونفحمهم بلطفنا ونبلنا وشهامتنا وشجاعتنا وضبط أنفسنا. أمَّا عبارة "الشِّرِّير" فتشير إلى من يُسيء إليك شخصيا. فمعنى هذه الآية انه يجب على الإنسان أن يحتمل الأذى والإهانة من ناحية، ومن ناحية أخرى أن يتخلّى عن ذاته، فيكون مستعدًا لمحاربة نفسه قبل محاربة الناس واحتمال الألم الذي أصابه ظلمًا وعَدُوّانًا. ويُعلق القديس فرنسيس الأسيزي قائلا: "هل ارتكبتُ خطيئة؟ إنّ ذلك بسبب الشيطان! هل عانيتُ ظلمًا؟ إنه خطأ القريب!" هذا هو موقف العديد من المسيحيّين. لكن ليس علينا أن نرمي خطأنا على الآخر: فالعَدُوّ، كلّ يحمله بين يديه؛ والعَدُوّ هو الأنانية التي تجعلنا نقع في الخطيئة. طوبى للخادم الذي منذّ ذلك الحين يبقي هذا العَدُوّ الموجود بين يديه مقيّدًا، ويعرف أن يتسلّح ضدّه بحكمة؛ طالما يفعل هذا، لن يتمكّن أي عَدُوّ آخر، منظور أو غير منظور، من أن يؤذيه" (Admonitions, 9-10). وما يساعده على تنفيذ هذا الأمر هو حصوله على النعمة التي أفيضت في قلوبنا بالروح القدس "لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5: 5)؛ أما عبارة "مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر" فتشير إلى بذل الإنسان نفسه للآخر في كل ما هو عليه فلا يدافع عن نفسه، لان حياته تعود إلى الله. أمَّا عبارة " لَطَمَكَ " فتشير إلى مثل على الأذى الشخصي. فخير لك أن تحوِّل خَدِّكَ الآخر لمن لطمك من أن تنتقم لنفسك أو أن تحقد في قلبك تاركًا النقمة لله وللحكام، كما جاء في حكمة الأمثال " لا تَقُلْ: ((أُجازي بِالشَّرّ)) بلِ انتَظِرِ الرَّبَّ فيُخَلِّصَكَ"(أمثال 20: 22). أمَّا عبارة "خَدِّكَ الأَيْمَن" فتشير إلى الكرامة الشخصيَّة، وهكذا عندما تأتي الصفعة على الخد الأيمن للإنسان تهدف إلى احتقاره واستهانته والاستهتار به، إذ يلطم المُعتدي براحة يده، وإذا لطمه من الخلف بمؤخّرة يده يُعتبر دليلا على الغدر والجبن؛ وخلاصة ما أراده المسيح هو ما تنبَّأ به أشعيا النبي من أمره " أَسلمتُ ظَهْري لِلضَّارِبين وخَدِّي لِلنَّاتِفين ولم أَستُرْ وَجْهي عنِ الإِهاناتِ والبُصاق"(أشعيا 50: 6). وأمَّا عبارة "الخد الآخر" فتشير إلى التنازل عن سبب الخلاف والمسامحة وتحمُّل ضعف الآخرين لأَجلِ المسيح. يعلق الراهب دوروثاوس الغزّاوي نحو 500 "الربّ يحثّنا على تقبّل مَن يصفعنا على خدّنا بصبر وليس هذا فحسب، بل يطلب منّا وبكلّ تواضعٍ أن نعرضَ له الخدّ الآخر. لأنّ هدف الشريعة كان تعليمنا ألاّ نفعلَ ما لا نريد أن نعانيه. فكانت تمنعنا إذًا عن فعل الشرّ خوفًا من المعاناة. أمّا المطلوب الآن، فهو رفض الكراهية والرغبة في الشهوة والمجد الباطل والميول السيّئة الأخرى" (تعليمات: الرقم 1). وليس المفهوم هنا عدم دفاع المسيحي عن نفسه، بل أن يحتمل الآخر قــــدر استطاعته وبمحبة لكي يربحه للمسيح. والمسيح يضع هنا حكمة ذهبية "كَما تُريدونَ أَن يُعامِلَكُمُ النَّاس فكذلِكَ عامِلُوهم " (لوقا 6: 31)؛ فالمطلوب ألاّ نردَّ على إخوتنا بمثل ما يفعلون بنا من شر، بل بحسب ما نحب أن يفعلوا هم بنا. وأوصى يسوع بعدم المقاومة للشر، لأنه هو نفسه استنفذ كل عقوبة، وقوّم كل خطأ، وقاسى كل ثأر وكل عقاب وكل تخليص حق أو عِوض بفضل موته على الصليب. وبالتالي الثأر يكون نكران عمل المسيح وتعليمه، لذا يجب أن نحسن إلى من يسيئون إلينا، وان نحبَّ وان نغفر لهم وان نصلي لأَجلِهم. وأمَّا من يبادر إلى الانتقام في طلب حقوقه فهو مغاير لروح المسيح. وهذا لا يعني أن الشريعة الطبيعية والإلهيَّة تمنع الإنسان عن أن يحامي عن شخصه وعن عائلته عندما تكون حياته أو حياتهم في خطر.



40 ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ، فاترُكْ لَه رِداءَكَ أَيضاً.



تشير عبارة " ومَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ " إلى ترك التلميذ ما لديه للآخر، لان ما ينتزعه منه لا يظل بالفعل مُلك له. أمَّا عبارة " قَميصَكَ" فتشير إلى الثوب وهو أشد الثياب ضرورة. ولا ينتزع القميص إلاَّ عند الذي يُباع كعبد، كما حدث مع أخوة يوسف الذين " نَزَعوا عنه قَميصَه، القَميصَ المُوَشَّى الَّذي علَيه" ليبيعوا يوسف للتجار (التكوين 37: 23). ولذلك فإن ما يطالب به الخصم باهظ الثمن؛ أمَّا عبارة " رِداءَكَ " فتشير إلى الثوب الفوقاني المستعمل غطاء في الليل والذي لا تجيز الشريعة احتجازه بسب ذلك، إلاَّ نهارا واحدا "إِذا اَستَرهَنتَ رِداءَ قَريبِكَ، فعِندَ مَغيبِ الشَّمْسِ رُدَّه إِليه، لأَنَّه سِترُه الوَحيد وكِساءُ جِلدِه، ففيمَ يَنام؟" (خروج 22: 25 -26)؛ ومع ذلك يطلب يسوع أن تسير الأمور إلى النهاية وأن يُعطى " الرداء" أيضا، ويؤكّد على أنّه، في اللحظة الّذي ينتزع الآخر شيئاً ما منّا، فنحن مدعوّون إلى أن نعطيه إيّاه. كما حدث مع يسوع " ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ" (يوحنّا، 10، 18). فالشرّ الّذي يرتكبه الآخر يُصبح مجالاً لحبِّنا المجاني له. ولا يقوم طلب يسوع باحتمال الألم فحسب، وإنَّما أن نكون مستعدِّين لتقبُّل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل بنا، فإن اغتصب ثوبنا نترك له الرداء، وإن سخّرنا ميلًا نسير معه ميلين. ولكن يجب ألاَّ يُفهم من ذلك تحريم الدفاع عن أنفسنا، لانَّ ذلك يفسح المجال للأشرار أن يتمادوا ويجعلوا المظلوم فريسة لهم. والمسيح لم يحتمل الشر، بل قاومه بكلامه، كما جاء في الإنجيل "لَطَمَ يسوع واحِدٌ مِنَ الحَرَسِ كانَ بِجانِبِه وقالَ له: أَهكذا تُجيبُ عَظيمَ الكَهَنَة؟ أَجابَه يسوع: إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟ " (يوحنا 18: 22-23)، وهكذا فعل بولس الرسول أيضا " فأَمَرَ حَنَنْيا عَظيمُ الكَهَنَةِ الَّذينَ بِجانِبِ بولس بِأَن يَضرِبوه على فَمِه. فقالَ له بولُس: ((سيَضَرُبكَ الله، أَيُّها الحائِطُ المُكَلَّس، أَتَجلِسُ لِمُحاكَمَتيِ بِسُنَّةِ الشَّريعة، وتُخالِفُ الشَّريعة فتَأمُرُ بِضَرْبي؟" (أعمال الرسل 23: 2-3) الرسل أيضا (قولسي 4: 9-13)، وهكذا فعل المسيحيون في كل عصر. المسيح يُنهي عن مخاصمة الآخرين لدى الحكومة عندما تكون الغاية من ذلك الانتقام لا إظهار الحق، كما يقول بولس الرسول " وفي كُلِّ حال فإِنَّه مِنَ الخَسارةِ أَن يَكونَ بَينَكُم دَعاوٍ. فلِمَ لا تُفَضِّلونَ احتِمالَ الظُّلْم؟ ولِمَ لا تُفَضِّلونَ احتِمالَ السَّلْب؟ " (1 قورنتس 6: 7). خير لنا أن نخسر مالنا من أن نخسر نفوسنا لعدم محبَّتنا.



41 ومَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِداً. فسِرْ معَه ميلَيْن.



تشير عبارة "مَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِداً. فسِرْ معَه ميلَيْن" إلى ما يفعله التلميذ في تقديم أكثر ما يطلبه الآخر منه. أمَّا عبارة "مَن سَخَّرَكَ" فتشير إلى مثلٍ ثالثٍ للأحوال التي يُفضِّل فيها يسوع أن يحتمل الإنسان الظلم على الدفاع عن حقِّه بروح الغضب والثأر والانتقام. أمَّا عبارة " ميلاً " فتشير إلى قياس روماني يساوي 1500 متر على الوجه التقريب أو مسافة نحو ثلث ساعة مشياً؛ وأمَّا عبارة " سَخَّرَكَ " فتشير إلى عادة رومانية حيث كان اليهودي تحت الحكم الروماني مُهدّدًا في أية لحظة أن يُسخِّره جندي روماني ليذهب حاملًا رسالة مُعيّنة على مسافة بعيدة بناء على النظام البريدي المُتَّبع في ذلك الحين، أو يُسخِّره القيام بعمل معين، كما فعل الجند مع سمعان القيرينيّ "بَينَما هُم خارِجون، صادَفوا رَجُلاً قيرينيّاً اسمُهُ سِمعان، فسَخَّروه أَن يَحمِلَ صَليبَ يسوع" (متى 27: 32). فالمبدأ يكمن في عدم مقاومتنا للشِّرِّير الذي يُسئ إلينا، لانَّ العنف يُولد العنف، والمَحبًة هي الرابحة في النهاية. ولكل إنسان خطيئة وعيوب قليلة كانت أو كثيرة، فماذا نربح إذا كنّا لا نغضُّ النظر ولا نتنازل عنها، ولا نغفر زلات بعضنا؟ ألا تسوء العاقبة؟ ويُعلق البابا بولس السادس: "إن لم تقضِ البشريّة على الحرب، فلسوف تقضي الحرب على البشريّة. وإن لم تقضِ البشريّة على العنف، سيقضي العنف على البشريّة!". أمَّا عبارة " ميلَيْن" فتشير إلى الميل الثاني فلا يعمل الإنسان ما يطلب منه عن مضض، وإنما يُقدّم أكثر ممّا يطلب منه بحرية لكي يربح نفسه ويربح الآخر بحبّه. وهو علامة قوّة الروح وانفتاح القلب بالحب، ويُعلق القديس أوغسطينوس " بالتأكيد إن الربَّ لا يقصد كثيرًا تنفيذ هذه الوصيّة بالسير على الأقدام، بقدر ما يعني إعداد الذهن لتنفيذ الوصيّة". تطلب منا هذه الآية أن تكون المَحبًة دستورَ تصرُّفنا حين يلحّ احدٌ علينا.



42 مَن سأَلَكَ فأَعطِه، ومَنِ استَقرَضَكَ فلا تُعرِضْ عنه.



تشير عبارة "من سأَلَكَ فأَعطِه" إلى العطايا المجانية. وأول من يستحق الصدقة والجود والكرم، والصدقة والإيثار، هم: الأرامل واليتامى والعُميان والعُرجان والكُسحان والمرضى، كما أوصى يسوع "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ " (متى 25: 35-36)؛ أمَّا عبارة "فأَعطِه" فتشير إلى العطاء بسخاء وهو موقف إيجابي حيث لا يستطيع الإنسان القيام بهذا العمل إلا ّ إذا اعتبر كل شيء نفاية على غرار بولس الرسول "أَعُدُّ كُلَّ شَيءٍ خُسْرانًا مِن أَجلِ المَعرِفَةِ السَّامية، مَعرِفةِ يسوعَ المسيحِ رَبِّي. مِن أَجلِه خَسِرتُ كُلَّ شَيء وعدَدتُ كُلَّ شَيءٍ نُفايَة لأَربَحَ المسيحَ "(فيلبي 8:3). فمهما أعطى الأنسان فهو أفضل من الرفض بروح الغضب. أمَّا عبارة "ومَنِ استَقرَضَكَ" فتشير إلى القرض المطلوب بلجاجة ونحن لا نريد أن نقرض. أمَّا عبارة "فلا تُعرِضْ عنه " فتشير إلى من هو في عزّة نفس لا يقدر أن يستعطي فيطلب قرضًا، فلا تطلب ردّه منعًا من إحراجه. أعتبر اليهود أقوال يسوع الواردة أعلاه (متى 5: 39-42) متطرفة في ذلك الوقت من الاحتلال الروماني، لأنهم كانوا معتادون على حب الانتقام واخذ الثأر والبغض لأعدائهم، علما أنّه لا يوجد في الكتاب المقدس ما يروي تعبير: "أبغض عَدُوّك". فاقترح يسوع أسلوبا جديداً لمقابلة الظلم، وذلك بدلا من المطالبة بالحقوق، يطلب يسوع التسليم بها، ويعني ذلك أن صنع العدالة والرحمة اهم من المطالبة بهما. فالمسيح يقول لنا من خلال هذه الآية انه خير لنا أن نقرض مِن أن نرفض ذلك بروح الغضب. وقروضنا يجب أن تكون بحسب إمكانيتنا وبالنظر إلى خير من يسألنا إياها. وأحياناً يكون امتناعنا عن العطاء أفضل معروف للمقترض أو المستعطي الكسول تمشيا مع توصية بولس الرسول " إِذا كان أَحدٌ لا يُريدُ أَن يَعمَل فلا يَأكُل"(2 تسالونيقي 3: 10). ولكن أفضل أن نعطي غير المستحق بعض الأحيان من أن نطرد محتاجا حقيقية.



43 سَمِعتُم أَنَّه قِيل: أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك.



تشير عبارة "أَحْبِبْ قَريبَك" إلى ما ورد في العهد القديم في محبة القريب "وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أَنا الرَّبّ"(الأحبار 19: 18)، ومحبة القريب كانت محصورة على قريب الدم والدِّين والقومية. وقد جاء في قانون الأسِّينيِّن في قمران: على أبناء النور من أهل قمران أن يُحبّوا المنتسبين إلى جماعتهم، وان يكرهوا أبناء الظلام من غيرهم" (الأحبار 1: 9-10)؛ لانَّ القريب في نظر اليهود هو اليهودي، أمَّا في نظر يسوع المسيح فهو السامري الَّذي عَامَلَهُ بِالرَّحمَة (لوقا 10: 37)؛ أمَّا عبارة "أَبْغِضْ " فتشير إلى عدم حب على المستوى الديني وليس الشخصي "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه أمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متى 6: 24). إذ علم الكتبة أنَّ الشريعة لم تأمر ببغض الأعداء بل بمحبة القريب حيث ألزمت الشريعة بحبِّ القريب، وسمحت بمقابلة العداوة بعداوة مساوية. وسمحت الشريعة نفسها محبّة الأعداء على الصعيد الفردي، فقيل: وإذا رَأَيتَ حِمَارَ مُبغِضِكَ ساقِطاً تَحتَ حِملِه، فكُفَّ عن تَجَنُّبِه، بل أَنهِضْه معَه (خروج 23: 5). وقيل أيضًا: لا تَكرَهِ الأَدومِيَّ، لأَنَّه أَخوكَ، ولا تَكرَهِ المِصرِيَّ، لأَنَّكَ كُنتَ نَزيلاً في أَرضِه" (تثنية الاشتراع 23: 8)، بالرغم من أن الادوميين والمصريّين كان من ألد أعدائهم. أمَّا عبارة "عَدُوَّك" فتشير إلى أعداء جماعة المؤمنين، كما ورد في المزامير "عبَادَ أَوثانِ الباطِل أَبغَضتَ" (مزمور 31: 7).



44 أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم



تشير عبارة "أَحِبُّوا أَعداءَكم" إلى محبة الأعداء، وهي في قلب تعليم يسوع حيث كان يسوع أول شخص أحبَّ أعداءه، وصلى من أَجلِ الذين حكموا عليه وعذَّبوه "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون " (لوقا 23: 34). فوصية المَحبًة نقضت جميع الحواجز، كما جاء في تعليم بولس الرسول "فلَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع"(غلاطية 3: 28)؛ فالمَحبًة مطلوبة على مستوى الجميع دون أي تمييز، وهي محبة تحطّم الحواجز والحدود وتدعو إلى نبذ ما يتشبَّث به الناس من مُبرِّرات للكراهية والبغضاء، كما جاء في تعليم مثل السامري الصالح (لوقا 10: 25-37) والمَحبًة مطلوبة على المستوي الاجتماعي بدون مراعاة للأشخاص كما جاء في توصيات يعقوب الرسول "لا تَجمَعوا بَينَ مُراعاةِ الأَشخاصِ والإِيمانِ بِرَبِّنا يسوعَ المسيح، لَه المَجْد (يعقوب 2: 1)، والمَحبًة مطلوبة أيضا على المستوي الشخصي كما يؤكد القديس بولس الرسول "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة (رومة 13: 8-10). ومن ليست له محبة لكل إنسان حتى أعداءه فهو ميت روحيًا " نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إلى الحَياة لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا. مَن لا يُحِبُّ بَقِيَ رَهْنَ المَوت"(1يوحنا 3: 14)، حيث أننا لسنا غرباء أو أعداء بعد اليوم في نظر يسوع، لذلك يتوجب علينا أن نحبَّ الجميع وبدون استثناء وان نُزيل الحدود ونُهدم الجدران التي تفصلنا عن بعضنا البعض؛ وهذا الأمر ليس في قدرة الإنسان العادي، بل بفضل المَحبًة التي هي هبة من الله يُعطيها لنا بالنعمة التي يُشير إليها بولس الرسول: أما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟" (1 قورنتس 3، 16). وفي هذه المهمّة الصعبة المتمثّلة في مَحبَّة الأعداء يُعزّينا وجود الروح القدس، روح المَحبًة. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلا: "جاء المسيح بهذا الهدف حتى يغرس هذه الأمور في أذهاننا ويجعلنا نافعين لأعدائنا كما لأصدقائنا"؛ أمَّا عبارة " وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم" فتشير إلى نقلة نوعيَّة في صلاتنا من أَجلِ مُضطَهِدينا التي تجعلنا نتشبَّه بالله في محبّته للبشر، فالصلاة من أَجلِ آخر تعني أنَّك تعهد به إلى الله، وان تتخلَّى عن أي إدانة أو مطالبة في حقِّه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم قائلا: "إنَّ صلواتنا ضدّ افتراءات أعدائنا حتى تموت، أمَّا هم فيحيون. لأنه إن مات عَدُوّنا نفقده كعَدُوّ، ولكن نخسره كصديق أيضًا. وأمَّا إذا ماتت افتراءاته فإننا نفقده كعَدُوّ وفي نفس الوقت نكسبه كصديق". يطلب يسوع أن نحتمل الظلم أكثر ممّا يودّه الظالم دون أن نحمل في داخلنا كراهيّة نحوه، بل يتحول حبُّنا للأعداء إلى صلاة، كما طلب منَّا يسوع "صَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم "، وهكذا نقابل الشرّ بعمل خير.



45 لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار.



تشير عبارة "لِتَصيروا" إلى برهان بنوَّتنا له لا سببها. أمَّا عبارة "بني أَبيكُمُ" فتشير إلى أنَّنا أبناء الله عندما نشابهه في الرأفة وعمل الخير لجميع الناس، وخاصة في مَحبَّة الجميع. نتثبِّت بنوتنا إن تمثلنا بالله في عمل المَحبًة للجميع لأننا لا نقدر أن نشابه الله في القوة ولا في الحكمة، كما جاء في تعليم بولس الرسول "قَدَّرَ لَنا مُنذُ القِدَم أَن يَتَبنَّانا بِيَسوعَ المسيح على ما ارتَضَته مَشيئَتُه " (أفسس 5: 1)، لأنَّ غاية حياتنــا الروحيّة هي أن نصير شركاء له في الطبيعة الإلهيّة من خلال شركة الروح القدس فننعم بأبوّتِه لنا. وليست البنوّة الإلهية واقعًا سننتظره في نهاية الأزمنة، بل إنّها تُعطى لنا يوم نُحبّ أعداءَنا حُبّا حقيقيًّا. والأخوة العالمية تصدر عن حقيقة الأبوة العالمية؛ أمَّا عبارة "تَصيروا " فتشير إلى الانتقال إلى حالة جديدة تؤثر في الكيان كله؛ لو لم يحبنا الله ونحن أعداؤه ما صرنا أبناءه، ولكنَّا إن ادعينا أننا أبناءه ونحن غير مشابهين له في المَحبًة فقدنا كل حقوقنا. أمَّا عبارة " يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار " فتشير إلى الله الذي لا يُميّز بين الأشخاص، بل يُحبّ الجميع، ولا يقتصر منح شمسه ومطره للصَّالحين بل للأشرار أيضا، دون استثناء أيّ أحد، ودون تحديد، ودون تفضيل البعض على البعض الآخر. اختار المسيح مثالا من ناموس الخلق: الشمس والمَطَرَ، لانَّ نفعهما للجميع ظاهر. وموقف يسوع هنا مُغاير لموقف اليهود، حيث لا أعداء له، بل يعتبر كل واحد قريبه، كما ورد في مثل السامري الرحيم (لوقا 10: 25-37) مُقتديا بالآب السماوي الذي لا يُميّز بين الأشخاص، بين الأخيار والأشرار حين يُشرق شمسه أو مطره بل يُحبّ الجميع. وفي هذا الصدد يقول بولس الر سول "اسلُكُوا سَبِيلَ الرّوحِ" (غلاطية 5: 16)، ومن يسلك سبيل الروح يسمو فوق الشر، فلا يرى فقط شرّ الإنسان، بل صلاح الله وحكمته اللامتناهية، ونعمته على الإنسان. وليس لدى الله إلاّ عَدُوّ واحدٌ يُبغضه وهو الخطيئة. وتُبين الآية أن موجب الأول لمحبتنا للناس هو مثل الآب السماوي.



46 فإِن أَحْبَبْتُم مَن يُحِبُّكُم، فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟ أَوَلَيسَ الجُباةُ يفعَلونَ ذلك؟



تشير عبارة "أَحْبَبْتُم" إلى جوهر الملكوت والصفة المُميَّزة للملكوت هي المَحبًة؛ أمَّا عبارة "مَن يُحِبُّكُم" فتشير إلى والدينا وأصدقائنا ومحيطنا وبيئتنا وبلدنا وعرقنا وديننا وحزبنا السياسي؛ أمَّا عبارة " فأَيُّ أَجْرٍ لكم؟" في الأصل اليوناني μισθός (معناه الأجرة أي ما هو مستحق من الناحية القانونية) فتشير إلى استفهام إنكاري، أعنى لا حق لكم للمدح أو للثواب على ذلك من الله. في حين أن لوقا الإنجيلي يركز على النعمة، وليس على الأجرة " فإِن أَحبَبتُم مَن يُحِبُّكم، فأَيُّ فَضْلٍ χάρις لَكُم؟ لأَنَّ الخَاطِئينَ أَنفُسَهُم يُحِبُّونَ مَن يُحِبُّهُم " (لوقا 6: 32). وفي الفصلين 5 و6 في إنجيل متى يركز الكلام على التعارض بين أجر الناس وأجر الله. ويبيّن يسوع أنَّ أجر الله مُطلق، ولا يعود إلاّ لعطائه المجَّاني، كما جاء في مثل العملة وأجرتهم، إذ قال صاحب العمل " أَلا يَجوزُ لي أَن أَتصرَّفَ بِمالي كما أَشاء؟ متى 20: 15)؛ أمَّا عبارة " الجُباةُ " فتشير إلى العشَّارين الذين يُضرب بهم الدناءة بين الناس (لوقا 3: 15) وهم جُباة الضرائب المَحليِّين من اليهود يعلمون للصالح الرومانيين والذين كانوا يضعون تحت المزاد ضرائب بعض أقسام البلاد. وكان الفائزون بدورهم يؤجّرون جمع الضرائب لجباه محليِّين كانوا يبتزّون كل ما يستطيعون من الشعب، وكان اليهود يعتبرون هؤلاء الجُباة خونة وعرضة لاحتقار المجتمع، لأنهم كانوا في خدمة الرومانيين المُحتليِّن، وكانوا يمارسون غالبا مهنتم باختلاس الأموال، كما أعلن ذلك زَكَّا العشار فقال لِلرَّبّ: "يا ربّ، ها إِنِّي أُعْطي الفُقَراءَ نِصفَ أَموْالي، وإِذا كُنتُ ظَلَمتُ أَحداً شَيئاً، أَرُدُّه علَيهِ أَربَعَةَ أَضْعاف"(لوقا 19: 8)، وغالبا ما كانوا يُعدّون خاطئين. فلا عجبَ أنَّ لوقا الإنجيلي تحدَّث عن الخاطئين بدل العشارين " فإِن أَحبَبتُم مَن يُحِبُّكم، فأَيُّ فَضْلٍ لَكُم؟ لأَنَّ الخَاطِئينَ أَنفُسَهُم يُحِبُّونَ مَن يُحِبُّهُم" (لوقا 6: 32). وهنا ينادي الرب يسوع بحبٍّ بلا حدود، بحب ٍّعاشه هو نفسه، حب يُشبه حبَّ الله لجميع البشر حتى الذين لا يُحبونه، والذي يوزّع خيراته ويطلع شمسه ويُنزل غيثه على الجميع. فالله هو المرجع الأخير والوحيد: يجب أن نطابق عقليتنا عقلية الله، وان نتشبَّه به تعالى كي نُصبح فعلا أبناءه. وإلاَّ ما الفرق بين المؤمن المسيحي والوثني؟ وتُبيِّن الآية أنَّ موجب الثاني لمحبتنا للناس هو مثل الجباه الذين يُحبون أصدقاءهم ويعاملوهم بالمثل.



47 وإِن سلَّمتُم على إِخواِنكم وَحدَهم، فأَيَّ زِيادةٍ فعَلتُم؟ أَوَلَيسَ الوَثَنِيُّونَ يَفعَلونَ ذلك؟



تشير عبارة "سلَّمتُم" إلى طريقة إظهار الاعتبار والمَحبًة، لكن كان اليهود لا يُسلمون على الأمم، لأنَّهم كانوا يعتبرون الذين يُسلِّمون عليهم أصدقاء وأخوة. أمَّا عبارة " إِخواِنكم" فتشير إلى اليهود بني جنسهم. أمَّا عبارة "زِيادةٍ " فتشير إلى سر الخُلق المسيحي. فالمَحبًة تعمل أكثر مما يطلب منها، والمسيح ينتظر من تلاميذه أكثر من ذلك، لان لهم من النور والمعرفة والنعمة أعظم مما للغير. أمَّا عبارة " الوَثَنِيُّون " في الأصل اليوناني ἐθνικοὶ (معناها الأمم) فتشير إلى الأمم الذين هم خارج العهد، الذين ما كان يُنتظر منهم أن يعرفوا أكثر من ذلك. الأمم تعني في التقليد اليهوديّ "غير اليهوديّ". في هذه الآية يعطي يسوع مثلا عن الذي يُحيِّي من يُحيِّيه. والاّ ما والفرق بين المؤمن المسيحي وغير مسيحي؟



48 فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل.



تشير عبارة "كامِلين" إلى القداسة التي هي هويّة الله وجوهره وهدفه من خلقنا، وقد ورد ذكرها في التوراة " كونوا قِدِّيسين، لأَنِّي أَنا الرَّبَّ إِلهَكم قُدُّوس "(الأحبار 19: 2)؛ وهنا يدعو السيّد الرّب شعبه أن يكون في شركة الكمال معه في القداسة والرحمة والمَحبًة. والوجه العملي للتعبير عن معنى القداسة فهو البُعد عن الأكاذيب والخداع ونشر الافتراءات والسرقة، والكراهية والحقد. ويسوع يُكرّر ذات الشيء. وأعطانا مثالا على الكمال بقوله للشاب الغني: " إِذا أَرَدتَ أَن تكونَ كامِلاً، فاذْهَبْ وبعْ أَموالَكَ وأَعْطِها لِلفُقَراء، فَيكونَ لكَ كَنزٌ في السَّماء، وتَعالَ فاتبَعْني" (متى 19: 21). فالمؤمن المسيحي ينبغي أن يعيش حياته بمقتضى المقياس الأخلاقي الكامل للإنجيل، حيث يتوجب على التلاميذ أن يطابقوا كمال الله الذي يشمل حبُّه " الأبرار والأشرار"، ولقد عبَّر لوقا عن ذلك تعبيراً جيّدا باستعمال كلمة "رحيم" " كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم" (لوقا 6: 36). وكمال الله هو مثال رفيع يقدّمه يسوع لنا في إنجيل متى، الذي هو إنجيل الكمال، أمَّا إنجيل لوقا فهو إنجيل الرحمة حيث أنَّ الكمال الذي يطلبه يسوع هو كمال في القداسة الذي يكمن بانفصالنا عن قيم العالم الشِّرِّيرة وتكريس نفوسنا لعمل مشيئة الله وحمل رحمته للعالم، وهو والكمال في الأخلاق أيضا، وأخيرا الكمال في النضج كما جاء في تعليم يوحنا الرسول " أَيُّها الأَحِبَّاء نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو" (1يوحنا 3: 2). وهنا يتحدّث يسوع عن درجات الكمال ويبلغ إلى قمّتها في محبة الجميع حتى الأعداء بلا مقابل شبيه بمحبة ألاب السماوي، كما صرّح بولس الرسول " اقتدوا إِذًا بِاللهِ شأنَ أَبْناءٍ أَحِبَّاء" (أفسس 5: 1). ويقول البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني: "إن أولئك الّذين يتبعون الدعوة إلى القداسة بأمانة يكتبون تاريخ الكنيسة في بُعدها الأكثر أهمّية، أي بُعد العلاقة الحميمة مع الربّ". أمَّا عبارة " كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل " فتشير إلى الاقتداء بابينا السماوي وليس بأفضل الناس، لان أبينا السماوي هو الاله الكامل الذي محبَّتُه الكاملة تشمل أعداءه حتى جعلته يطلب فداهم " أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين" (رومة 5: 8). فان كنَّا غير كاملين الآن يجب أن نجعل الكمال غايتنا عالمين أنَّنا كلما تمثَّلنا به في المَحبًة دنونا من الكمال، كما جاء في خبرة بولس الرسول "ولا أَقولُ إِنِّي حَصَلتُ على ذلِكَ أَو أَدرَكتُ الكَمال، بل أَسْعى لَعَلِّي أَقبِضُ علَيه، فقَد قَبَضَ عَلَيَّ يسوعُ المسيح" (فيلبي 3: 12). ونستنتج من هنا أن يسوع لا يتحدث عن كمال الطقوس كما كان في العهد القديم التي اهتمَّ بضحية بلا عيب، لكن في العهد الجديد، لم يعد تقديم ضحايا بل محبة، ولا يتحدث يسوع أيضا عن كمال الشخص الذي يقوم بواجبه على أكمل وجه، بل عن قلبٍ يعرف كيف يُحبُّ الله والآخرين بطريقة متكاملة ونزيهة وبلا شروط على مثال يسوع "أَنا فيهِم وأَنتَ فِيَّ لِيَبلُغوا كَمالَ الوَحدَة ويَعرِفَ العالَمُ أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني وأَنَّكَ أَحبَبتَهم كَما أَحبَبتَني" (يوحنا 17: 23).





ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 5: 38-48)



بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 5: 38-48)، نستنتج انه يتمحور حول كمال الشريعة بمفهوم يسوع. الله يدعو شعبه إلى أن يكون في شركة معه في القداسة والمَحبًة. من هنا نبحث في مقومات الكمال في العهد القديم وفي العهد الجديد.



1. اهم مقومات الكمال في العهد القديم: القداسة



لا تتكلم أسفار العهد القديم عن كمال الله، إنَّما تتكلم عن كمال أعماله وشريعته وطريقه. يتكلم سفر تثنية الاشتراع عن كمال الله في أعماله "جَميعَ سُبُلِه حَقّ. اللهُ أَمين لا ظُلمَ فيه هُو بارِّ مُستَقيم." (تثنية الاشتراع 32: 4)، ويترنَّم صاحب المزامير عن كمال شريعته بقوله" شَريعَةُ الرَّبِّ كامِلَةٌ تُنعِشُ النَّفْسَ" (مزمور 19: 8)، وأخيرا عن كمال طرقه كلَمَ داوُدُ الرَّبَّ بِكَلام هذا النَّشيدِ " الله عِزِّي وبَأسي يَجعلُ كامِلاً سَبيلي" (2 صموئيل 22: 31).



لا تتكلم أسفار العهد القديم عن كمال الله، إنما تتكلم عن قداسة الله حيث تُقدِّم الله تعالى كمثال للقداسة ينبغي الاقتداء به "كونوا قِدِّيسينَ لأَنِّي أَنا قُدُّوس" (الأحبار 11: 45)، إنه قدوس، عظيم، قدير، رهيب "لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكم هو إِلهُ الآلهَةِ ورَبُّ الأَرْباب، الإِلهُ العَظيمُ الجبَارُ الرَّهيبُ الَّذي لا يُحابي الوجوهَ" (تثنية الاشتراع 10: 17)، وأنه صالح وأمين "الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء" (خروج 34: 6)، ويتدخل في التاريخ بعدالة سامية، كما يترنم صاحب المزامير "قَدير أنتَ المَلِكُ المُحِبُّ للِحَقّ فإِنَّكَ أَنتَ أَقَمتَ الاْستِقامة وأَجرَيتَ في يَعْقوبَ الحَقَّ والعَدل" (مزمور 99: 4).



إذا كان الله القدوس يطلب من شعبه أن يكونوا قدِّيسين ومُكرَّسين لله، فيفرض عليهم بذلك مطلب الكمال. فالمكرّس ينبغي أن يكون سليماً صحيحاً لا عيب فيه سواء في ذبائحه التي تقرب يقرّبها لله " الأَعْمى والمَكْسورُ والمَبْتورُ والمُتَقَرِّحُ والأَجرَبُ ومن بِه القُوباء لا تُقَرِّبوها لِلرَّبّ، ولا تَجعلوا مِنها ذَبيحةً بِالنَّارِ على المَذبَحِ لِلرَّبّ" (الأحبار 22: 22)، وسليما في الكهنة "كُلُّ رَجُلٍ بِه عَيبٌ مِن نَسْل هارونَ الكاهِن لا يَتَقَدَّمْ لِيُقَرِّبَ الذَّبائِحَ بِالنَّارِ لِلرَّبّ: إِنَّه بِه عَيْب، فلا يَتَقَدَّمْ لِيُقَرِّبَ طَعامَ إِلهِه" (الأحبار 21: 21).



تطلب الشريعة ألاَّ يكون الشخص المُكرَّس سليما في جسده فحسب، إنما أيضا سليما في نفسه حيث أنَّ من واجب المُكرَّس أن يخدم الله " بقلب كامل"، وبكل إخلاص وأمانة، كما أوصى سليمان الملك" فلتكُنْ قُلوبُكم بِكامِلِها لِلرَّبِّ إِلهِنا لِتَسيروا في فَرائِضِه" (1 ملوك 8: 61)، وأن هذه الخدمة هي بمثابة كفاح ضد الشر، "فاقلعَ الشَّرَّ مِن وَسطِكَ" (تثنية الاشتراع 7:17). ولذا فإن الانحرافات في المفهوم الديني كانت موضع محاربة شديدة من جانب الأنبياء (عاموس 4: 4، أشعيا 1:1-17)، مع تجنَب العنف والأنانية. لذا كان اليهود الأتقياء يمارسون الكمال في حفظ الشريعة "طوبى لِلكامِلينَ في سُلوكِهم لِلسَّائرينَ في شَريعةِ الرَّب" (مزمور 119: 1). الدعوة للقداسة تقوم في أنّ نصبح قديسين أيّ أننا نصبح رجالًا ونساء يتعلمون من الخالق القدوس أنّ نعيش حياة بشرية مُدركين بشكل متزايد إنّنا "صورة الله" الّتي خُلقنا عليها من أجله.





2. أهم مقومات الكمال في العهد الجديد: المَحبًة



إذا كان الكمال في العهد القديم يقوم على القداسة، فإن الكمال في العهد الجديد يقوم على المَحبًة حيث كشف يسوع أنَّ الإله القدوس هو إله المَحبًة، فلم يَعد الأمر يتعلق بالقداسة التي ينبغي المحافظة عليها بقدر ما يتعلق بالمَحبًة، ويقوم كمال المَحبًة على هبة حب الله الذي ينبغي قبولها ثم نشرها. ولقد عبَّر لوقا الإنجيلي عن قول يسوع في إنجيل متى الذي ينص " كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل" (متى 5: 48) باستعمال كلمة "رحيم" بدلاً من "كامل"، فقال " كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم" (لوقا 6: 36).



جاء يسوع "ليكمّل" في العمق ما هو مغروس في قلب كل إنسان حيث تُعتبر المَحبًة هي أكبر أماني الإنسان. ودعا أبناء الله إلى كمال المَحبًة، كما جاء في تعليم بولس الرسول "البَسوا فَوقَ ذلِك كُلِّه ثَوبَ المَحبًة فإنَّها رِباطُ الكَمال"(قولسـي 3: 14) "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة فإِنَّ الوَصايا الَّتي تَقول: "لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ" وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: "أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ". فالمَحبًة لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبًة إِذًا كَمالُ الشَّريعة"(رومة 13: 8-10). وأكمل يسوع الشريعة القديمة بتوجيه القلوب تجاه الحب من خلال عدم الانتقام ومحبة الأعداء.



يجب أن تكون مبادئ حياتنا وكل غاياتنا كمبادئ الله وغاياته، أي أن نكون نُظراء في المَحبًة والقداسة" لأَنَّه مَكتوب: كونوا قِدِّيسين، لأَنِّي أَنا قُدُّوس" (1 بطرس 1: 16)؛ ويسوع وحده المعلم القادر أن يعلمنا أن نكون كاملين، لأنه تجسَّد لكي يشخِّص كمال الله أمام الناس في حياته وموته. إنّ هذا الكمال، أي قداسة الربّ الإله، يتطابق مع ملء المَحبًة. ويعرض السيّد المسيح على مُستمعيه المتطلّبات الكبيرة للقداسة للمحبة التي تصل إلى حدّ إعلان عدم الانتقام ومحبة الأعداء.



أ‌) لا تُقاوِموا الشِّرِّير (متى 5: 38-39)



يقول يسوع "سَمِعتُم أَنَّه قيل: ((العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ))؛ أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير (متى 5: 38-39). يقابل المسيح هنا تعليمه بتعليم الكتبة والفِرِّيسيِّينَ بخصوص الانتقام حيث يُنهي المسيح عن أخذ بالثأر والانتقام، ذلك لان اليهود احتجُّوا على جوازه بما قيل في شريعة موسى "عَيناً بِعَين وسِنّاً بِسِنّ وَيداً بِيَد ورِجْلاً بِرِجْل " (الخروج 21: 24) قائلين أنَّ الشريعة سمحت لهم أن ينتقموا ممن أذاهم بشرط ألاَّ يزيدوا على القصاص المُعيَّن في الشريعة. وشريعة الانتقام هذه هي قانون للحاكم لإجراء العدل بين الناس عموما، وغايتها ردع الشخص عن أن ينتقم لنفسه ومنع ارتكاب التعدِّي بتعيين العقاب حتى لا يزيد على الاستحقاق. ومن هذا المنطلق، لا تسمح هذه الشريعة للمظلوم أن ينتقم لنفسه، كما أنَّها لا تسمح لجماعة من الناس ذلك، ولكنها تعلن للحاكم الذي تجبره وظيفته أن يُعاقب المُجرمين ما يجب أن يُجازى به المذنب.



الانتقام في لغتنا اليوم يعني إيقاع العقاب على المُتعدي بالرَّد على الشر بالشرّ، لانَّ الواجب يقضي بالانتقام للحقِّ المهضوم. ومع ذلك فممارسة هذا الحق قد تطورت على مرّ التاريخ، قد سحبت من الفرد ليعهد بها إلى الجماعة، لا سيما وقد أظهر الله ذاته، تدريجياً، انه هو المنتقم الشرعي الوحيد للبِرّ.



يقول يسوع: "سَمِعتُم أَنَّه قيل: العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ، أمَّا أَنا فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر" (متى 5: 38-39). إن قانون "العَين بالعَين" سُنَّة الملك حمورابي البابلي في القرن الثامن عشر ق.م. وهي شريعة الانتقام، وذلك بمقابلة الإساءة بالإساءة مثلها للحدّ من الثأر الشخصي ومن انتشار العنف المفرط وتنظيما لنزوات الناس. وقد ورد هذا القانون على لسان موسى النبي في القرن الثالث عشر قبل الميلاد: "وإِن تأَتَّى ضَرَر، تَدفَعُ نَفْساً بِنَفْس، وعَيناً بِعَين وسِنّاً بِسِنّ وَيداً بِيَد ورِجْلاً بِرِجْل، وحَرْقاً بِحَرْق وجُرْحاً بِجُرْح ورَضَّاً بِرَضَّ" (خروج 21: 23-25)، وذلك تلافيا للتجاوز في مقابلة الإساءة بأعظم منها. ولذلك فان هذا القانون يُحرّم الانتقام دون حدود، ذاك الذي ساد في الأزمنة الهمجية، كما ورد في سفر التكوين "إنَّه يُنتَقَمُ لِقايِنَ سَبعَةَ أَضْعاف وأَمَّا لِلامَكَ فسَبْعَةً وسَبْعين" (تكوين 4: 24). ومنها نستنتج أنَّ شريعة " العَين بالعَين" استهدفت طريق فرض عقاب مساوٍ للإهانة للحد من الانتقام والغريزة الطبيعية التي تطالب بعينين مقابل عين واحدة.



إن شريعة القداسة في العهد القديم تحرّم الأخذ بالثأر أو الانتقام بقولها "لا تُبغِضْ أَخاكَ في قَلبِكَ، بل عاتِبْ قَريبَكَ عِتاباً، فلا تَحمِلَ خَطيئَةً بِسَبَبِه. لا تَنْتَقِمْ ولا تَحقِدْ على أَبْناءِ شَعبِكَ، وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ" (الأحبار 19: 17-18). وهناك بعض أمثلة مشهورة كصفح يوسف بن يعقوب (تكوين 45: 3-4)، لكن واجب الصفح كان محصوراً في دائرة الأخوة في القومية. لكن أخذ واجب الصفح وجه شمولية مع الحكماء (سيراخ 28: 1-7).



كان السبب الذي لأَجلِه يُقلع البار تماماً عن الانتقام لنفسه هو ثقته بالله والاستغاثة به: "لا تَقُلْ: أُجازي بِالشَّر بلِ انتَظِرِ الرَّبَّ فيُخَلِّصَكَ" (أمثال 20: 22). إن البار لا ينتقم، بل يفوّض الله مهمة الانتقام والعقاب بالعدل "لإِنْزالِ الِاْنتِقام بِالأُمَم والعِقابِ بِالشُّعوب" (مزمور 179: 7). على هذا النحو يتصرف إرميا في اضطهاده، عندما "يفوِّض دعواه لله" (إرميا 20: 12)، إن ما يرغب فيه ليس هو الشر، بل العدل، وهذا لا يمكن أن يعود إلى مجراه إلا بتصرف من الله وحده. ويُعلق أيوب البار "إنّي لعالمٌ بأن فاديّ حيّ، وسيقوم آخراً على التراب"، ويحكم بالعدل (أيوب 19: 25).



في أسفار العهد القديم، منع الله شعبه من مقاومة الشرّ بشرٍ أعظم، إنّما سمح له أن يقابل الشرّ بشرٍ مساوٍ أو بشرٍ أقل أو بالصمت من أَجلِ قسوة قلوبهم. أمّا وقد دخلنا العهد الجديد فقد ارتفع بنا يسوع المسيح إلى مقابلة الشرّ بشر مماثل أو أقل أو حتى بالصمت وإنما نقابله بالخير ناظرين إلى الشِّرِّير كمريض يحتاج إلى علاج. وانتقل بنا يسوع إلى درجة الكمال المسيحي كأعلى درجات الحُبِّ التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان.



بهذا الأمر، لم ينشئ يسوع المسيح شريعة جديدة تكمّل مبدأ العَين بالعَين فحسب، وإنما يوصي بعدم مقاومة الشِّرِّير (متى 5: 38-42). إنه لا يدين عدالة المحاكم البشرية، التي سيقول عنها بولس إنها مكلّفة بمباشرة تنفيذ الانتقام الإلهي " إِنَّ السُّلْطَة لم تَتقلَدِ السَّيفَ عَبَثًا، لأَنَّها في خِدمَةِ اللهِ كَيما تَنتَقِمُ لِغَضَبِه مِن فــــاعِلِ الشَّرّ" (رومة 13: 4)؛ ولكن يسوع يطالب تلميذه بالصفح عن الزَّلات ومحبة الأعداء ومقاومة الشر. يعلق آباء المجمع "نحثّكم، باسم الله الصّالح والعادل وباسم ابنه ربّنا يسوع المسيح، قاوموا كل أنانيّة. لا تدعوا غرائز العنف والحقد تأخذ مجراها بحرّية إذ إن تلك الغرائز تسبّب الحروب وقوافل البؤس" (المجمع الفاتيكانيّ الثاني رسالة إلى الشّبيبة).



ليس كافيا من الآن فصاعـداً، أن نفوِّض أمرنا للانتقام الإلهي، بل يجب أن "نغلِبِ الشَّرَّ بِالخير" (رومة 12: 21)، وأن يطبّق حرفياً وصيّة الكتاب: لأَنَّكَ في عَمَلِكَ هـــــذا تَرْكُمُ علــــى هامَتِه جَمْرًا مُتَّقِدًا (رومة 12: 20). وليس في الأمر انتقاماً بل نضعه في موقف حرج جداً يؤدّي به إلى تحويل بغضه إلى حب. إذ قد تتحوّل هذه النار إلى حب إذا ما تقبل العَدُوّ ذلك. فالإنسان الذي يحب عَدُوّه، يستهدف تحويله إلى صديق، ويتخذ الوسائل المؤدِّية لذلك بحكمة. وقد سبقه الله نفسه في هذا المضمار، فإِن "صالَحَنا اللهُ بِمَوتِ َابِنه ونَحنُ أَعداؤُه، فما أَحرانا أَن نَنجُوَ بِحَياتِه ونَحنُ مُصالَحون" (رومة 5: 10). ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم "لا تُطفأ النار بنارٍ أخرى، وإنما بالماء. فإن هذا التصرّف ليس فقط يمنعهم عن الاندفاع أكثر، وإنما يعمل فيهم بالتوبة عما سبق أن ارتكبوه، فإنَّهم إذ يندهشون بهذا الاحتمال يرتدّون عما هم فيه. هذا يجعلهم يرتبطون بك بالأكثر، فلا يصيروا أصدقاءً لك فحسب، بل عبيدًا عِوض كونهم مبغضين وأعداء".



لا يريد يسوع بوصية تجنب الانتقام "مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر"(متى 5: 38-39)، تدمير مبادئ العدالة الاجتماعية المتعارف عليها، وضياع الحق العالم وظلم الأقوياء للضعفاء. فهنالك ظروف يجب فيها الدفاع عن أنفسنا وعن الآخرين. يسوع نفسه لم يُعرض خدّه لخادم عظيم الأحبار عندما ضربه، بل توجّه إليه بعزة وكرامة سائلا: "إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟"(يوحنا 18: 22). ويُعلق القديس أوغسطينوس "كثيرون تعلّموا كيف يقدّمون الخدّ الآخر، ولكنهم لم يتعلّموا كيف يحبّون ضاربهم. المسيح ربُّ المجد، واضع الوصيّة ومنفّذها الأول، عندما لُطم على خدّه، لم يقدّم الخدّ الآخر، ومع ذلك فقد كان قلبه مستعدًا لخلاص الجميع لا بضرب خده الآخر فقط من قبل ذلك العبد، بل صلب جسده كله".



أن وصية يسوع "لا تُقاوِموا الشِّرِّير" (متى 5: 39) ليس هي موقف صادر عن ضعف، بل عن قوة داخلية التي تنمُّ عن التغلب على روح الانتقام التي فينا. لا يتمُّ التغلب على الشر عندما نكيل الصاع صاعين؛ إن الشر الذي نعاني منه يبقى قوة خارجية عنا، ولكن عندما ننتقم ونكيل لخصمنا بالمثل فان ذلك يؤدي إلى تغلغل الشر فينا وإلى تقويته. وهكذا نسمح للشرير أن يسكن فينا. أمَّا المسيح فيفتح طريقا جديد للبشرية: الانتصار على الشر بالخير والإجابة على البغض بالمَحبً والمغفرة. يعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني "لا يمكن لعالم الناس أن يصبح "أكثر إنسانيّة" إلاّ إذا فسحنا في جميع العلاقات المتبادلة للمغفرة التي لا بدّ منها وفقًا للإنجيل. إنّ المغفرة شرط هام للمصالحة ليس فقط في العلاقة بين الله والإنسان، بل أيضًا في العلاقات المتبادلة بين الناس" (الرسالة العامّة "الغنى بالمراحم" (Dives in misericordia)، الفصل 7، الفقرة 14).



ب‌) أَحِبُّوا أَعداءَكم (متى 5: 44)



يقول يسوع سَمِعتُم أَنَّه قِيل: أَحْبِبْ قَريبَك وأَبْغِضْ عَدُوَّك. أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم (متى 5: 43 -44). لم يوصِ يسوع تلاميذه إلى السعي نحو الكمال بعدم الانتقام فحسب، إنما بمحبة الأعداء أيضا، فقال "أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم" (متى 5: 44). وتبرز هذه الوصية وسط مطالب يسوع الجديدة، فهو نفسه تعرّض لأعداء "أَمَّا أَعدائي أُولِئكَ الَّذينَ لم يُريدوني مَلِكاً علَيهم " (لوقا 19: 27). وقد سلّموه للموت، وهو، من فوق صليبه قد غفر لهم "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون"(لوقا 23: 34). ويُعلق القديس أوغسطينوس "لا تفيد الصلاة من أَجلِ الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأَجلِ الأعداء! فإن صَّلينا من أَجلِ الأصدقاء لا نكون أفضل من العشَّارين، أمَّا إن صَّلينا من أَجلِهم فنكون قد شابهنا الله في محبته للبشر. وهكذا ينبغي أن يصنع التلميذ"، اقتداء بمعلمه الذي " شُتِمَ ولَم يَرُدَّ على الشَّتيمَةِ بِمِثلِها. تأَلَّمَ ولم يُهَدِّدْ أَحَدًا، بل أَسلَمَ أَمْرَه إلى مَن يَحكُمُ بِالعَدْل"(1 بطرس 2: 23). ويعلق القدّيس الأسقف قيصاريوس "قد يقول أحدكم: "لا يمكنني أن أحبّ أعدائي." في كلّ الكتاب المقدّس، قال الله لك إنه يمكنك ذلك؛ وأنت تجيب بأنّك، على العكس من ذلك، لا تستطيع؟ فكّر الآن: من علينا أن نصدّق، الله أم أنت؟ ليترك الضعف الإنساني من الآن فصاعدًا أعذاره غير المُجدية. لأنه لا أحد يعرف ما يمكننا فعله أكثر مِن الذي أعطانا القدرة"(عظات للشعب، العظة 37).



يُعلق القديس فرنسيس الأسيزي قائلا: "أن نُحَبّ عَدُوّنا بصدق، يعني أولاً ألاّ نحزن للإساءات التي تلقّيناها. ويعني أيضًا أن نشعر بألم الخطيئة التي ارتكبها الآخر كإهانة لمحبّة الله، وأن نُثْبت للرّب، من خلال الأعمال، أننا لا زلنا نحبّه" (Admonitions, 9-10). وهكذا نسير على مثال الآب السماوي "لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار". (متى 5: 45)، الذي منه نستطيع الحصول على الغفران "وأَعْفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12).



إن محبَّة الذين يُعبّرون لنا عن محبّتهم فقط، لا تجعلنا أفضل من الخاطئين. علينا أن نحبّ حتى الذين لا يقدرون أن يردُّوا لنا المَحبًة، إن أحبَبنا من لا يُحبنا، تشبَّهنا بالله. وإن عملنا أعمال الله أي قابلنا الشر بالخير نكون قد قمنا بعمل إلهي، وهذا العمل لا ينبع من قدراتنا، إنّه طاقة مجّانيّة بفضل روح الآب القدّوس الّذي يَحيا فينا. أمَّا في الانتقام فهو شيء من الطفولة والمراهقة وعدم ضبط الذات.



لم يكتفِ يسوع بالتحدث عن محبة الأعداء بين أفراد العائلة أو البلد بل عن محبة عالمية شاملة بدون حدود، محبة تشمل أيضاً العَدُوّ والمُضطهِدين. وان استثنيت أحداً من حبّنا فحبِّنا ليس كاملا. الإنسان الذي لا نحبُّه، الله يُحبّه! يُحبُّ الله الجميع، يُحبُّ الله أعداءه، ويُحبُّ من لا يحبونه، فعلينا أن نحب أيضا جميع أعداءنا كما يفعل الله.



تتطلب محبة الأعداء من المسيحي أن يأخذ حذره من الشر "فإِذا كانت عينُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقلَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم"(متى 5: 29). والحذر من الشر يتطلب تجنب ظروف الخطيئة بل الابتعاد عنها، كما يقول بطرس الرسول " فلا تَتبَعوا ما سَلَفَ مِن شَهَواتِكم في أَيَّامِ جاهِلِيَّتِكم. بل، كما أَنَّ الَّذي دَعاكم هَو قُدُّوَس، فكذلِكَ كُونوا أَنتم قِدِّيسينَ في سيرَتِكم كُلِّها لأَنَّه مَكتوب: كونوا قِدِّيسين، لأَنِّي أَنا قُدُّوس" (1 بطرس 1: 14-16)، ولكي نتشبَّه بأبينا السماوي (متى 5: 45)، يجب علينا في الوقت نفسه، أن نسير على خطى الله تجاه الخاطئ " أمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين" (رومة 5: 8)، وأن نُحبَّه، مهما كلّفه الأمر، ومن هنا توصية بولس الرسول "لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير" (رومة 12: 21). نحن نحقق وصايا المحبة، لأننا أبناء الآب.



نستنتج مما سبق أن المسيحي الحقيقي لا يقابل الشرَّ بالشرِّ، ولا الشتيمةَ بالشتيمةِ، ولا العَينَ بالعَينِ، وذلك ليس تأييداً للظلم والطغيان بل كبحا للأنانية وانتصارا للمحبة ونيل البركة، كما صرّح بطرس الرسول "لا ترُدُّوا الشَّرَّ بِالشَّرّ والشَّتيمَةَ بِالشَّتيمَةَ، بل بارِكوا، لأَنَّكم إلى هذا دُعيتُم، لِتَرِثوا البَركة" (1 بطرس 3: 9).



لا يطلب يسوع فقط ألا نقابل الشرَّ بالشرِّ، بل أن نُصلي من أَجلِ أعدائنا " أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم "(متّى 5: 44). الصلاة من أَجلِهم تعني أننا نعهد بهم إلى الربّ، وأن نتخلّى عن أي إدانتهم أو مطالبة في حقنا. فنحن نخسر كلّ شيء، لكن يُخلّص الآخر. ما الذي يدفعنا إلى هذه المواقف؟ نجد الجواب في قول يسوع ربنا "فبِما تَكيلونَ يُكالُ لَكم وتُزادون" (مرقس 4: 24). نحن نُحب أعداءنا لكي نتمِّم وصية الله التي تنص "كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل (متى 5: 48)، ولأننا أبناء الله الآب.



من الضروري أن نستجيب لوصية السيد المسيح بالسير نحو كمال المَحبًة ونتَّجه إلى الأمام، كما صرّح بولس الرسول "يَهُمُّني أَمرٌ واحِد وهو أَن أَنْسى ما ورائي وأَتَمطَّى إلى الأَمام فأَسْعى إلى الغاية، لِلحُصولِ على الجائِزَةِ الَّتي يَدْعونا اللّهُ إِلَيها مِن عَلُ لِنَنالَها في المسيحِ يسوع" (فيلبي 3: 13)، فنصل بأجمعنا إلى بناء ذلك الإنسان الكامل، وبلوغ القامة التي توافق سعة المسيح "ونَبلُغَ القامةَ الَّتي تُوافِقُ كَمالَ المسيح "(أفسس4: 13).





الخلاصة



يريد يسوع إعطاء شريعة جديدة للشعب الجديد الذي نال الخلاص. وتكمن هذه الشريعة الجديدة على المَحبًة المجانية وبذل الذات والتحرُّر والعطاء المستمر على مثال المسيح الذي قال "ما مِن أَحَدٍ يَنتزِعُها مِنَّي بل إنّني أَبذِلُها بِرِضايَ"(يوحنا 10: 19). يطلب يسوع منا بذل الذات فيما نحن عليه، وما نمتلكه وما نفعله. أمَّا فيما نحن عليه: إذا جرح أحد كرامتنا فلا ندافع على أنفسنا، لان حياتنا تعود إلى لله " فأَقولُ لكم: لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر (متى 5: 39)". وفيما نحن يمتلكه: إذا نزع أحد ما لدينا نتركه له، لان ما ينتزعه منا لا يظل بالفعل ملكنا، فيوصي يسوع: "مَن أَرادَ أَن يُحاكِمَكَ لِيَأخُذَ قَميصَكَ، فاترُكْ لَه رِداءَكَ أَيضاً"(متى 5: 40). وأما فيما نفعله: إذا سخرنا أحد السير معه فلنسر معه طول الطريق، كما يوصي يسوع: " ومَن سَخَّرَكَ أَن تَسيرَ معه ميلاً واحِداً. فسِرْ معَه ميلَيْن " (متى 5: 41). وهذه التعليمات مقتضبة وغير معهودة في عالمنا الذي نعيش فيه، ولا يعرف إلا قانون الغاب والانتقام: العَين بالعَين.



يسوع ينتقد أسلوب الكتبة والفِرِّيسيِّينَ الذين كانوا يُشغلون مناصبهم القيادية ويستغلونها لمصالحهم. وقدّم يسوع معادلات أصعب من قانون "العَينُ بِالعَين والسِّنُّ بِالسِّنّ" المعروف، موجهًا كلامه إلى تلاميذه، ليكونوا على مثال أبيه السماوي " فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل." (متى 5: 48) وعلى مثاله معلمهم "أحِبُّوا أَعداءكم، وأَحسِنوا إلى مُبغِضيكُم، وبارِكوا لاعِنيكُم، وصلُّوا مِن أَجلِ المُفتَرينَ الكَذِبَ علَيكُم " (لوقا 6: 27-28). ويعلق القدّيس بوليكاربوس الأسقف " فلنَبقَ على الدوام متعلّقين برجائنا وبضمانة عدلنا، يسوع المسيح. "هو الَّذي حَمَلَ خَطايانا في جَسَدِه على الخَشَبة" ( 1 بطرس 2: 24)، وتحمّل كلّ شيء لكي نحيا فيه. فَلنَقتدِ بصبره، وإن تألّمنا من أجل اسمه، فَلنمجّده"(الرسالة إلى أهل فيلبي).



سار على خطى المسيح وتعليماته رسله وكثيرين من تلاميذه، وخير مثال على ذلك الشماس إِسْطِفانُس الذي غفر لجلاديه ساعة رجمه قائلا "يا ربّ، لا تَحسُبْ علَيهم هذهِ الخَطيئَة" (أعمال الرسل 7: 40). وفي العالم المعاصر قال مارتن لوثر كينغ الذي كان زعيمًا لأهل أمريكا البيض، الذين كانوا يضطهدون بني جنسه: "تصرفوا معنا مثلما تريدون، لكننا بالتالي نقول لكم: نحن نُحبكم. لأن محبة العَدُوّ هي من صُلب رسالة يسوع" فالمَحبًة هي سلاحنا. وأكّد يسوع أن كل مَن يرى أَعمالَهم الصَّالحة، سوف "يُمَجِّدوا أَباُهم الَّذي في السَّمَوات" (متى 5: 60)، لانَّ أعمالهم وكلماتهم لا تأتي منهم بكونها أبناء الله بفضل الروح القدس الذي حال فيهم.



بفضل تعليم المسيح نحن الآن لا نحيا بحسب الإنسان القديم، فمتل هذا يحب من يحبه، ويعطى من يرجو منه خيراً، أمَّا الأنسان الجديد، إنسان العهد الجديد المملوء نعمة فهو قادر أن يُحبَّ حتى من يكرهونه ويُعادونه. الحب هو السير في الكمال الذي يطالب به يسوع المسيح "كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل"، الحب هو الله بالذات كما عرّفه يوحنا الرسول " مَن لا يُحِبّ لم يَعرِفِ الله لأَنَّ اللّهَ مَحبَّة" (1 يوحنا 4: 8). وفي الواقع، لا أحد يقدر أن ينتصر على الشيطان، باستعمال سلطة الشيطان وهي الانتقام وبغض الأعداء. لذلك يُعلمنا يسوع بان نغلب الشر بالخير، ولا نقاوم الشِّرِّير (متى 5: 39)، بل نُحبَّ أعداءنا ونصلي من أَجلِهم.
رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
الأحد السابع من الصوم الكبير
الأحد السابع للفصح
الأحد السابع للصوم الكبير
الأحد السابع من الخماسين المقدسة
تقديس يوم الأحد " روحياً عقيدياً طقسياً " الأحد السابع من الصوم الكبير


الساعة الآن 03:36 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024