القديس كريكور ناريكاتسي
القديس كريكور ناريكاتسي، اللاهوتي والفيلسوف والشاعر الصوفي الأرمنيّ
في يوم الأحد الجديد ١٢ نيسان ٢٠١٥، وقبل القداس الحبري الذي ترأسه قداسة البابا فرنسيس، وشاركه قداسة غبطة الكاثوليكوس البطريرك نرسيس بدروس التاسع عشر، وآباء المَجمَعِ المُقدّس للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، لإحياء الذكرى المئوية للإبادة الجماعية للأرمن على يد العثمانيين سنة ١٩١٥.
وبحضور بطاركة الأرمن الارثوذكس الكاثوليكوس كاريكين الثاني، كاثوليكوس ايشميادزين في أرمينيا، والكاثوليكوس آرام الأول، كاثوليكوس بيت كيليكيا، والبطريرك يوسف يونان، بطريرك السريان الكاثوليك، ورئيس جمهورية أرمينيا، وعدد كبير من الكرادلة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والوفود الارمنية التي أتت من جهات العالم الأربعة، منح قداسة البابا فرنسيس لقب "ملفان الكنيسة" أي "معلّم الكنيسة" Docteur de l’Eglise، القدّيس الأرمني كريكور ناريكاتسي. وفي ٣ شباط ٢٠٢١ طلب قداسة البابا أن تحتفل الكنيسة الجامعة بتذكار هذا القديس في اليوم السابع والعشرين من شهر شباط.
سِيرة القدِّيس كريكور ناريكاتسي "غريغوريوس الناريكي"
ولد كريكور، اسم كريكور "غريغوريوس" باليونانيّة يعني الساهر اليقظ المنتبه، في العام ٩٥١م، في قرية ناريك من مقاطعة "فاسبوراكان" الواقعة جنوب بحيرة فان على رابية عالية، في مواجهة جزيرة أختمار وكنيستها، واكتسب كنيته منها. كان كريكور الطفل الثالث بعد إسحق واوهانيس "يوحنا" لوالدَين تقيّين. توفّيت والدته وهو طفلاً، أمّا والده خُسروف فكان غزير العلم ومشهورًا بثقافته وعلمه وتقواه. وعندما ترمّل خسروف إنتسب إلى الحياة الرهبانية ونال سر الكهنوت، ونظرًا إلى ثقافته الواسعة نال درجة الأسقفيَّة وأسندت إليه الرعاية الاسقفية في أنتيسيفا فعهد تربية ولدَيه الصغيرَين، اوهانيس (يوحنّا) وكريكور، إلى الراهب أنانيا (حَنَنيا) ناريكاتسي عمّ زوجة المطران خُسروف رئيس دير ناريك المعروف بعلمه وأدبه وحسن إدارته. نال الشقيقان على يد الراهب أنانيا تربية دينية ممتازة وثقافة واسعة، إذ كان أنانيا متعمّقًا في الكتاب المقدّس واللاهوت ومتبحّرًا في الفلسفة والآداب والعلوم واللغات، حتّى ذاع صيته و لُقِّب بالفيلسوف.
نما كريكور في كنف هذا المربي الراهب أنانيًا، معجبًا بخصاله واتخذه قدوةً صالحة له، فاختار طريق الرهبنة والتنسك، وانزوى على تل شمال الدير، وأخذ يتقدّم في معارج التصوف، ويجمع إلى جانب الحياة الرهبانية والنسكية إكتساب العلوم العالية والفضائل السامية. وبعد رسامته الكهنوتيّة بقي ناسكًا زاهدًا متواضعًا في دير ناريك طول حياته ومن هنا إرتبط اسمه باسم كريكور ناريكاتسي أو كريكور الناريكي، نسبةً إلى قرية ناريك، مسقط رأسه. وتفرّغ لإرشاد الرهبان وتأليف الكتب. وقد وصف المؤرخ صموئيل أنيتسي القديس كريكور الناريكي بقوله: "لمع كالشمس في الحكمة والعلم ابن أرمينيا وابن المطران خُسروف".
عُرف ناريكاتسي بتواضعه مع غزارة علمه. وذاعت شهرته في جميع أنحاء أرمينيا، بسبب مقدرته على الوعظ وبلاغته في الكتابة لدرجة مُلفتة للنظر، في سبيل نشر كلمة الله. كما أنّه من أئمّة الموسيقى الليتورجيّة، ودُعي "كنارة العذراء مريم" إذ ألّف عدد كبير من الأناشيد التي كتبها مشيداً بسيّدتنا مريم العذراء. وصفه المؤرِّخ صموئيل أنيتسي بقوله: "لمع كالشمس في الحكمة والعِلم". وقال فيه القدِّيس نرسيس لامبروناتسي: "هو ملاك في جسد". توفّي كريكور سنة ١٠١٠م في رائحة القداسة بعدما أنهكته حياة الزهد والتقشف، ودُفن في دير ناريك (يقع دير ناريك على بعد ٤ كلم من الجنوب من بحيرة فان في تركيا، قد تهدّمَ في عام ١٩١٥ أثناء الإبادة الأرمنية).
مؤلَّفات القديس كريكور الناريكي
١- "شرح نشيد الأناشيد"، وكان ذلك في سنة ٩٧٧م، بناءً على طلب من الأمير غورغين خاتشيك Gourguen Khatchik ، ويُشير إلى ما يرمز إليه سِفْر الأناشيد من ارتباط بين الله وشعبه في العهد القديم، وبين الكلمة المتجسِّد والكنيسة في العهد الجديد بأسلوب بليغ وأفكار واضحة.
٢- المؤلف الثاني هو "تاريخ صليب أبارَانْك Aparank، أضاف إليه مَديحين هما تحفة في الجمال: "مديح الصليب المُقدّس" و"مديح والدة الإله"، في سنة ٩٨٤، يصف فيه كيفيّة انتقال ذخائر الصليب المقدَّس من القسطنطينيَّة إلى أرمينيا. ثمّ مديح السيّدة العذراء يتالّف من خمسة وعشرين مقطعاً، يتغنّى فيه بأُمومة مريم وكمال النِعمة فيها وانتقالها إلى السماء وشفاعتها القديرة لدى السيّد المسيح. ويُعَدّ من أجمل ما كَتَبه أباء الكنيسة في العذراء مريم الدائمة البتوليّة.
٣- ثلاث خُطَب بشكل طلبة، عنوانها "كنز":
أ) في حلول الرُّوح القُدُس.
ب) في الكنيسة المقدسة.
ج) في الصليب المُقدّس الذي حمل الله.
٤- مَديح "الرسل والتلاميذ السبعين" الذين يعدّهم أعلى مرتبة من سائر القدِّيسين.
٥- مَديح في "القدِّيس يعقوب النصيبيـنيّ" الذي يحظى بإكرام خاصّ لدى الأرمن.
٦- نحو عشرين نشيداً يرجَّح أنها تعود إلى أيام حداثته.
٧- "كتاب الصلوات" أو "كتاب المراثي" أو "المناجاة" ويسمى باللغة الأرمنية: Madyan Voghperkutiun، تمَّ تأليفه سنة ١٠٠٢، وهو كتاب هام في التراث الأرمنيّ، ومصدر غذاء روحيّ للشعب الأرمنيّ أعدَّه بناءً على طلب ملحّ من زملائه. إن هذا الكتاب، كالصخر الصوّان، لن يشيخ، فهو يناسب عصرنا ويُلبّي حاجات جميع الأجيال، لأنه نفذ إلى أعماق قلب الإنسان الذي خُلِقَ لله. في لغة شعرية سامية، يتوجه الكاتب كريكور الناريكي بثقة إلى الله، معتبراً نفسه أكبر الخاطئينَ في العالم، وراجيًا رحمته اللامتناهية وراغبًا في الاطهار من الخطايا والإتحاد به.
يشتمل الكتاب على خمس وتسعين صلاة تجمع ما بين رفعة التصوّف وروعة الشعر. جاء الكتاب على هيئة مناجاة أي "حوار مع الله من أعماق القلب". وقد أُطلق على هذه الصلوات "المراثي" لتميّزه بأسلوب الرثاء والفنّ الأدبيّ المأساويّ، وفيها يرثي الكاتب وضعه الخاطئ ويذرف دموع الندامة، ويصف صراعه الداخليّ بين الخير والشرّ، وبين الجسد والروح، وبين النُور والظلمة. وقد دخلت بعض هذه الصلوات في الطقوس الليتورجيّة الأرمنية لما فيها من سموّ روحانيّ وعُمق إيمانيّ.
ولمّا كانت الصلوات مؤلّفة باللغة الأرمنيَّة الكلاسيكيَّة القديمة (كرابار)، تُرجمت إلى اللغة الأرمنيّة الحديثة ومن ثمَّ إلى لغات أُخرى ومن بينها اللغة العربية. وقد ذكر القدّيس في صلاته الثالثة أنّ كتابه موجَّه إلى "جميع أجيال الجنس البشريّ العائش على الأرض، يتوجَّه نشيدُ كتاب المراثي... إنّٓه يتوجه إلى اسائر المسيحيين العديدين في العالَم كلّه".
إنّ "كتاب المراثي" اقترن باسم القدّيس واشتهر به، فالأرمن لا يذكرون عنوان الكتاب، بل يقولون: "ناريك". وبعد أن كانت هذه الكلمة تُشير إلى الدير الذي أقام فيه القدِّيس كريكور، أصبحت مرادفًا لكتابه، وعلى مرّ الأجيال، وأُصبّح اسماً للذّكور، ويتخذه الكهنة اسماً لهم يوم رسامتهم ليقتدوا بالقدّيس وكتابه.
يُعدّ كتاب "ناريك"، عند المؤمنين الأرمن، كالكتاب المقدَّس فيُجلّونه ويحفظونه بتقوى، ويجدون في صلواته غذاءً روحيًّا وملاذاً يستغفرون به، ودواءً لشفاء المرضى من الأمراض الروحيّة والجسديّة وأيضاً لحمايتهم من الشرور والأخطار وليقودهم إلى الكمال .
وخلاصة القول مضمون "كتاب المراثي" يتمحور حول فكرة واحدة وهي الضعف البشري والاعتراف بالذنب وطلب رحمة الله، والقديس كريكور يريد ان يقول من خلال هذه الصلوات ان الإنسان لا يستطيع ان يدخل الملكوت السماويّ معتمداً على قدراته وكفاءته. وإذا لم يعطه الله من النِّعَم ما يشاء ويعطي الله نعمه لكم يشاء. يذكرنا هذا الموقف بمثل الفريسي والعشار الذي ضربه يسوع في الإنجيل، إن كريكور أشبه بذلك العشّار الذي يقرع صدره ويقول: اللهم اغفر لي انا الخاطئ، وكان لا يريد أن يرفع عينيه نحو السماء.
لقد رأى القديس كريكور ضعف البشرية وحاجتها إلى الله فأراد أن يبلغنا هذه الرسالة فاستعان بالمبالغة لكي يهز ضمائرنا فأتى كتابه عنيفاً بتواضعه قوياً في ضعفه البشري مدوياً في سكوته. إنّ "كتاب المراثي" كان بنعمة الله سببًا لتوبة كثيرين من الخطأة، ونبراسًا للمؤمنين في سلوك طريق الندامة فدعاه بعضهم بحقّ "دواء الحياة".
أختم مقالي بمناجاة أُمّ الله –للقديس كريكور الناريكي- المقطع الثاني:
أُعضديني بأجنحة صلواتِك،
أنت يا مَن ندعوها "أُمّ الأحياء"،
حتّى، عند مغادرتي وادي الشقاء،
أستطيع السيرَ بدون عناء إلى دارِ الحياةِ المعدّة لنا،
وحتّى يكون ختام حياتي مُحرَّراً من ثقل الآثام.
حوِّلي، إلى عُرسِ أفراحٍ يومَ ضيقي، يا شافية آلامِ حوّاء.
كوني لي محاميةً، توسَّلي وتضرَّعي:
لأنّي أؤمن بطهارتِك العجيبة.
وأؤمنُ بقبولِ طلبكِ.
بدموعِك ساعديني، لأنّي في خطر، يا مبارَكةً بين النساء.
إركعي على رُكبتيك لتنالي ليَ المصالحة، أنتِ يا أُمَّ الله.
إعتني بي، أنا الشقيّ، يا قُبَّةَ العليّ.
مُدّي لي يدك عند سقوطي، يا هيكلاً سماويّاً.
مجّدي ابنَك بكِ:
ليتنازَل ويصنع بي، وهو الإله،
أعجوبةَ الصفح والرحمة، يا أمَةَ الله، ويا أُمَّ الله.
فليتعظَّم شرفُك على يدي،
وليظهر خلاصي على يدِك.
ما أجمل صوتك يا كريكور، وطوبى لمن يسمعه ويسير على هداه.