رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
العبد المطيع وذبيحته: إذ تحدث المرتل عن عجائب الله الكثيرة والمتجلية في عمل الفداء، انطلق إلى الصليب يتكشف أسراره، رآه الذبيحة الفريدة التي تفوق كل ذبائح العهد القديم كله. "ذبيحة وقربانًا لم تشأ، بل جسدًا هيأت لي. والمحرقات التي من أجل الخطيئة لم تُسر بها. فحينئذ قلت: ها أنا قادم. في أرض الكتاب مكتوب: من أجلي هويت أن أعمل مشيئتك يا الله. وناموسك في وسط بطني" [6-8]. ماذا رأى المرتل في ذبيحة السيد المسيح المصلوب؟ 1. الله لا يحتاج إلى ذبائح وقربان ومحرقات، فقيمتها تكمن في أمر واحد، وهو التهيئة للصليب، بكونها رمزًا له، خارج هذا الرمز لا يُسر الله بها، لذلك يقول "جسدًا هيأت لي"، فبالتجسد دخل طريق الصليب. * عُرفت الذبيحة الحقيقية بواسطة المؤمنين من رجال العهد القديم، إذ سبق فأُظهرت في رموز، هؤلاء كانوا يمارسون طقوسًا تحمل رمزًا للحقيقة التي تأتي فيما بعد. كثيرون فهموا معناها لكن عددًا أكبر كانوا يجهلونه... كانوا يذبحون الحمل، ويأكلون الفطير. "فصحنا أيضًا المسيح قد ذُبح لأجلنا" (1 كو 5: 8). هانذا أتعرف في ذبيحة المسيح على الحمل المذبوح! القديس أغسطينوس * إذ يعرف (الله) أنهم يُهملون البر ويمتنعون عن حب الله، أعلن الله أنه لا يُسر بمحرقات وذبائح بالكلية، كما باستماع صوت الرب. فالطاعة أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش (1 صم 15: 22). ويقول داود أيضًا: "ذبيحة وقربانًا لم تشأ، جعلت أذنيّ كاملتين، والمحرقات التي من أجل الخطية لم تطلب" [6]. بهذا يعلمهم أن الله يتوق إلى الطاعة التي تجعلهم في أمان أفضل من الذبائح والمحرقات التي لا تنفعهم شيئًا من جهة البر. بهذا يتنبأ عن العهد الجديد في نفس الوقت. بوضوح أكثر يتحدث عن هذه الأمور في المزمور الخمسين (51) "لأنك لو آثرت الذبيحة لكنت أُعطي، ولكنك ما تُسر بالمحرقات؛ فالذبيحة لله روح منسحق. القلب المتخشع والمتواضع ما يرذله الله" (مز 51: 17). إذ لا يحتاج الله شيئًا يقول: "لست أقبل من بيتك عجولًا ولا من قطعانك جداءً، لأن لي كل وحوش البر، البهائم التي في الجبال والبقر؛ قد غرفت سائر طيور السماء؛ وبهائم الحقل معي. إن جعت فلا أقول لك لأن لي المسكونة وكل ما فيها. هل آكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس؟" (مز 50: 9) الخ. ولئلا يظن أن الله يرفض مثل هذه الأشياء في غضبٍ يضيف واهبًا الإنسان عزاءً: "اذبح لله ذبيحة تسبيح؛ أوفِ للعلي نذورك؛ وادعُني في يوم الضيق أنقذك فتمجدني" (مز 50: 14-15) . * الخدمة التي تألفت من ظلال ورموز لم تكن مقبولة، أنها كانت تُقدم بدون ثمر إذ ما قورنت برائحة الروحيات الزكية. القديس إيريناؤس * لم تكن تقدمات الدم مرضية، أما رائحة العبادة الروحية الزكية فهي مقبولة للغاية لدى الله. هذه لا يقوى إنسان ما على تقديمها ما لم يكن له أولًا الإيمان بالمسيح، كما يشهد المغبوط بولس إذ كُتب: "بدون إيمان لا يمكن إرضاءه" (عب 11: 6). القديس كيرلس الكبير * قدم ذاته للموت: موت اللعنة ليمحو لعنة الناموس. * قدم ذاته لله الآب طواعية، لكي - بذبيحة نفسه التي قدمها بإرادته - تزول اللعنة التي كانت بسبب عدم استمرارية الذبيحة المطلوبة (عجز الذبيحة الحيوانية عن الاستمرار إذ تُستهلك بموتها). أُشير إلى هذه الذبيحة في المزمور (6)... أعني تقديمها لله الآب الذي رفض ذبائح الناموس، مقدمًا ذبيحة الجسد المقبولة لديه. ويذكر الرسول الطوباوي هذه الذبيحة: "لأنه فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه" (عب 7: 27)، ومن ثم افتدى كل الجنس البشري بخلاصه، بذبيحة هذا الجسد المبذول المقدس والكامل. القديس هيلاري أسقف بوتييه 2. جاء في النص العبري: "أذنيّ فتحت" [6]. جاء في (خر 21: 1-6) عن العبد الذي يرغب بإرادته أن يخدم سيده كل أيام حياته ويخدم عائلته، تُثقب أذنه، إشارة إلى قبوله الطاعة الكاملة لهم بروح الحب لا العبودية، وشوقه إلى خدمتهم المستمرة. كان ذلك رمزًا للسيد المسيح الذي جاء ليَخدِم لا ليُخدم، وقد صار لأجلنا عبدًا، أطاع الآب طاعة كاملة وبذل ذاته لأجل الكنيسة التي يحبها. ونحن أيضًا إذ نتحد فيه كأعضاء جسده، نحمل روح البذل والطاعة، فتكون لنا الآذان المختونة المثقوبة عوض العصيان (إر 6: 10). يُبرز السيد المسيح كمال طاعته بقوله: "ها أنا قادم" [7]، معلنًا خضوعه الاختياري، فقد جاء قادمًا إلى العالم ليحقق ما سبق أن رُمز إليه بالذبائح الحيوانية، قادم ليتمم خلاص الإنسان. بقوله: "في أرض (درج) الكتاب مكتوب من أجلي هويت أن أعمل مشيئتك يا الله، وناموسك في وسط بطني" [7-8] يعلن أن ما يتممه هو تحقيقًا للخطة الأزلية الإلهية، والتي أُعلنت في كتاب العهد القديم. جاء في طاعة للآب ببهجة ومسرة. * انظروا ها هو يتمم مشيئة الآب بنفسه... مكتوب في بداية سفر المزامير: "في ناموس الرب إرادته" (مز 1: 2). القديس أغسطينوس 3. ما تممه إنما بمسرة، إذ يقول: "هويت أن أعمل مشيئتك يا الله" [8]. وكما قال لتلاميذه: "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني" (يو 4: 34)، وفي البستان أعلن "لتكن إرادتك لا إرادتي"، ويقول الرسول بولس: "من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي". سرّ سروره أنه كلمة الله الذي يعلن إرادة الآب، فإرادته وإرادة الآب واحدة. ولعل قوله: "ناموسك في وسط بطني" يعني أنه كلمة الله المتجسد، حيث لا ينفصل الكلمة عن الناسوت فقط! نحن أيضًا إذ نقبل الكلمة المتجسدة في حياتنا تصير الوصية (ناموس الله) فينا، نعيشها ونسر بها، متممين إرادة الله باختيارنا بمسرة حقيقية. 4. بشارة المصلوب الذبيح: "بشرت بعدلك (ببرك)" [9]. بالصليب كرز السيد المسيح، مبشرًا كل بني البشر بحب الله الفائق، لا بألفاظ بشرية مجردة، وإنما بدمه المبذول. لقد سبق فبشر الأنبياء بمجيء المسيا المخلص، والآن جاء ليحدثنا بكلمة البشارة بنفسه. وكما يقول الرسول: "بعدما كلم الله الآباء بالأنبياء قديمًا كلمنا بأنواع وطرق كثيرة في هذه الأيام الأخيرة بابنه" (عب 1: 1-2). بشرنا بصليبه معلنًا تحقيق العدل الإلهي، أو وفاء العدل لحسابنا، وتقديمه بره برًا لنا. بالصليب صار السيد المسيح الذبيح المبشر الوحيد، يتكلم خلال كنيسته وخدامه ليجتذب بروحه القدوس كل نفس إلى بشارة الإنجيل المفرحة. جاءت الكلمة العبرية "باسار basar" لتعني "أخبارًا مفرحة"، تحمل ذات الأساس لكلمة "إنجيل". 5. بكرازاته العملية اجتذب أعضاء كنيسته من الأمم كجماعة عظيمة تتمتع بكلمات حبه التي لا يمنعها عن أحد، إذ يقول: "في جماعة عظيمة هوذا لا أمنع شفتّي" [9]. ما هما شفتا السيد المسيح اللتان لا يمنعهما عن النطق إلا عدله ورحمته، فبكلمة الصليب التي نطق بها عمليًا التقي العدل الإلهي مع الرحمة في تناغم عجيب! لم يمنع شفتيه، إذ تكلم علانية بصلبه جهارًا خارج المحلة، وشهد ذلك القادمون من كل بقاع العالم يحتفلون بعيد الفصح، كما شاهده الجند الرومان... لا يستطيع أحد أن يعتذر بجهله للصليب! * لقد بشّر وسط الجماعة العظيمة... الآن يُخاطب أعضاءه. إنه يحثهم أن يعملوا ما قد عمله هو فعلًا. لقد بشَّر، فعلينا نحن أيضًا أن نبشر. تألم، فلنتألم نحن أيضًا معه. لقد تمجد فسنتمجد نحن أيضًا معه (رو 8: 17)... لقد بشَّر وسط الأمم كلها، لماذا؟ لأنه هو نسل إبراهيم الذي فيه تتبارك جميع الأمم (تك 22: 8). ولماذا وسط الأمم كلها؟ لأن "منطقهم خرج إلى أقاصي المسكونة" (مز 19: 4). "هوذا لا أمنع شفتي. أنت يا رب علمت (برّي)" [9]. شفتاي تنطقان، وأنا لا أمنعهما عن الكلام. حقًا إن شفتي مسموعتان في آذان البشر، لكنك أنت الذي تعلم قلبي... فالبشارة لا تقصر على الشفتين وحدهما، حتى لا يُقال عنا: "مهما قالوا لكم فافعلوه، لكن بحسب أعمالهم لا تفعلوا" (مت 23: 3). ولئلا يُقال عن الشعب: "يسبحون الله بشفاههم لا بقلبهم". "هذا الشعب يكرمني بشفتيه لكن قلبه عني ببعيد" (إش 29: 31). أتقدمون اعترافًا مسموعًا بشفاهكم؟ اقتربوا إليه بقلوبكم أيضًا. "لم أكتم برّك (عدلك) في قلبي" [10]. ماذا يعني "برِّي"؟ إيماني، لأن "البار بالإيمان يحيا" (عب 2: 4؛ رو 1: 17). (ففي أثناء الاضطهاد) لا يقول المسيحي في قلبه: "إنني بالحق أؤمن بالمسيح، لكنني لا أعلن ما أؤمن به لمضطهدي الثائر ضدي الذي يُهددني. الله يعلم أنني أؤمن بالحق في داخلي، في أعماق قلبي؛ وهو يعرف إنني لا أنكره". "بخلاصك وحقك نطقت" [10]. لقد أعلنت أمام الكل عن مسيحك! كيف يكون المسيح هو "حقك"؟ إنه يقول: "أنا هو الحق" (يو 14: 9). كيف يكون المسيح "خلاصك؟ عندما تعرَّف سمعان على الطفل بين يديْ أمه في الهيكل قال: "لأن عيني قد أبصرتا خلاصك" (لو 2: 30). "ورحمتك وحقك لم أخفهما عن محفل عظيم" [10]. ليتنا لا نحجز رحمة الرب وحقه. أتريدون أن تسمعوا ما هي رحمة الرب؟ اتركوا خطاياكم، فيغفرها لكم. أتريدون أن تسمعوا ما هو حق الرب؟ تمسكوا بالبر؛ فينال بِرَّك إكليلًا. الآن تعلن الرحمة لكم، وأما الحق فسيُعلن لكم فيما بعد؛ فإن الله ليس رحيمًا دون أن يكون عادلًا، ولا هو بعادل دون أن يكون رحيمًا... "وأنت أيها الرب إلهي لا تُعبد رأفاتك عني" [11]. إنه يلتفت إلى الأعضاء المجروحة... أنظر خلال وحدة الكنيسة الجامعة إلى أعضائك المتألمة، تطلع إلى أولئك المثقلين بخطايا الإهمال، ولا تُبعد رأفاتك عنهم. القديس أغسطينوس هكذا إذ يتحدث عن كلمة الله المتجسد الذي جاء يعلن الخلاص بصليبه، جاذبًا الأمم إلى التمتع ببركات الفداء العجيبة، أراد أن يحمل المؤمنون سماته، خاصة الحب العملي. هكذا يليق بنا كأعضاء جسده أن نبشر به ومعه بالفم كما بالقلب. نشهد بلساننا كما بسلوكنا ونياتنا الداخلية. لا نخاف من الشهادة للسيد المسيح المخلص علانية بشفاهنا، ولا تقف الشهادة عند الفم بل يلزم أن يروه متجليًا في حياتنا. لقد جاء مسيحنا ليعلن الرحمة الإلهية والحق الإلهي. بالصليب تمتعنا بكمال حب الله ومراحمه، كما تحقق عدله في كماله. هنا بالتوبة ننعم بالرأفات في استحقاقات الدم الذي وفَّيّ الحق أو العدل، وفي يوم مجيئه يتحقق العدل الإلهي حيث ينال كل جزاءه حسب عمله، فننعم بشركة أمجاده إذ نستتر فيه، ونختفي في صليبه واهب الحياة. ليت رحمته وحقه لا يفارقان عيوننا الداخلية، فيشعلا فينا نيران حبه داخلنا، ويسمرا مخافته فينا. نحبه كأولاد لهم ملء الدالة دون استخفاف بأبوَّته، ونخشاه كديّان فاحص القلوب والكلى دون تجاهل لعمل نعمته فينا. كما شهد مسيحنا للآب عن رحمته وحقه، لنشاركه ذات السمتين، فنحمل روح الحب الحقيقي بلا تهاون، وروح الحق بلا عنف. حبنا يحمل جدية، وحزمنا يحمل ترفقًا! إن كان مسيحنا قدّم نفسه ذبيحة طاعة للآب وحب لبني البشر، حاملًا شرورنا وآثامنا في جسده ليحقق الرحمة والعدل، فإنه من جانبنا ينبغي أن نعترف بخطايانا التي بلا عدد، وقد أحاطت بنا من كل جانب، وأفقدتنا بصيرتنا الداخلية، حتى قلبنا قد تركنا، أي صرنا كالأموات. بمعنى آخر كلما أدركنا بشاعة الخطية ومرارتها نختبر بالإيمان عذوبة الصليب وإمكانيته. "لأن الشرور التي لا عدد لها قد أحاطت بي. أدركتني آثام، ولم أستطيع أن أبصر. كثرت أكثر من شعر رأسي. وقلبي تركني" [12]. أدرك المرتل أن الشرور تكتنف حياته، أينما اتجه تُحيط به، وبسبها فقد قلبه، أي بصيرته الداخلية، فلم يعد قادرًا على التمتع برؤية الله وشركة السمائين وخبرة الحياة السماوية. * "لأن الشرور التي لا عدد لها قد أحاطت بي". من يقدر أن يُحصي خطاياه، وخطايا الآخرين؟ إنه حمل ثقيل يئن منه القائل: "طهرني يا رب من خفياتي، ومن الغرباء (خطايا الآخرين) اشفق على عبدك" (مز 19: 12)... فإن خطايا الآخرين قد أُضيفت إلى الحمل الذي ينوء منه كاهله. "أدركتني آثام، ولم أستطع أن أُبصر". ما الذي يحرمني الرؤية، أليس الإثم؟ بسبب الدخان والتراب أو أي شيء آخر يُلقى تُحرم عيناك من معاينة ذاك النور، فلا تقوى على رفع قلبك الجريح إلى الله. يلزم أن يبرأ قلبك أولًا حتى تقدر أن ترى...! السبب هو أن العين انطمست بآثام كثيرة فلم تعد تبصر! القديس أغسطينوس |
|