رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
دفاعه عن كماله: تصف الآيات [1-3] إنسانًا سلك بكمال؛ لذا يرى البعض أن لغة هذا المزمور تبدو غريبة وغير جذابة بالنسبة لكثير من المسيحيين[517]، إذ يظنون أن ثقة المرتل هذه تقوم على اتكاله على الأنا والبر الذاتي وأعماله الصالحة الذاتية، ينتقدونه بسبب افتخاره، ويقارنوه بالفريسي المذكور في مثل الفريسي والعشار (لو 18: 9 الخ) [518]. يجدر بنا ملاحظة الآتي: 1. الكمال هنا يعني مجرد تبرئته من الاتهامات الموجهة إليه والسابقة الاشارة إليها. كما يعني أيضًا أنه بصلاح قلبه وبنواياه الصادقة كان خاليًا من كل نية شريرة، إنما يسلك بنقاوة وبراءة. هكذا وصف الرب نفسه سلوك داود عندما ظهر لسليمان في المرة الثانية، إذ ذكَّره بداود أبيه بالكلمات التالية: "وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلبه واستقامة، وعملت حسب كل ما أوصيتك، وحفظت فرائضي وأحكامي، فإني أقيم كرسي ملكك" (1 مل 9: 4-5). سلك داود بكمال بالرغم من كونه خاطئًا وابتعد عن أن يكون كاملًا، أما ابنه سليمان فسقط بائسًا. لكنه يوجد ابن آخر لداود، هو أصل داود وذريته، ابن داود وربه، ربنا يسوع المسيح؛ هو بلا خطية، وكما قال بنفسه: "أن رئيس هذا العالم آت وليس له فيَّ شيء" (يو 14: 30). هو وحده يقدر أن يقدم هذا الاحتجاج بطريقة كاملة! 2. يرى البعض أن طلبة المرتل: "احكم لي" إنما تعني "دافع عني"[519]. المعنى الفعلي هو: "احكم لكي تدافع عني"؛ فإنه يُحكم على المؤمنين الأبرار ظلمًا حتى الذروة، لكن لهم الله وحده، ديّان الكل، ومخلصهم والمحامي المدافع عنهم. 3. في الآية [11]: "وأنا بدعتي سلكت، انقذني وارحمني" لم يغب عن المرتل حاجته الملحة إلى الفداء، واعتماده على نعمة الله ورحمته[520]. إن كان داود النبي يطلب من الله أن يفحص قلبه وكليتيه، هذا لا يعني نوعًا من الكبرياء، لأن ما يفعله داود من برّ هو عطية إلهية، إذ يقول: "على الرب توكلت فلا أضعف". ونحن أيضًا من جانبنا انكارنا حقيقة عمل السيد المسيح في حياتنا كأولاد لله لا يحسب ذلك اتضاعًا، إذ يليق بنا أن نشهد عن قوة الله ومحبته باستعلان عمله الخلاصي الكفاري فينا، فنشهد بالكلام كما بالسلوك. 4. في دفاع المرتل عن نفسه ربما قصد رفع العثرة عن الشعب حتى لا يهلكوا بسببه. بالمثل نرى القديس بولس لم يشأ أن يدافع عن نفسه ولا أن يفتخر بنفسه، إذ يقول: "وأما أنا فأقل شيء عندي أن يُحكم فيّ منكم أو من يوم بشر" (1 كو 4: 3)، "نحن جُهال من أجل المسيح وأما أنتم فحكماء في المسيح؛ نحن ضعفاء وأما أنتم فأقوياء، أنتم مكرمون وأما نحن فبلا كرامة" (1 كو 4: 10)، لكنه إذ شعر أن الاتهامات الموجهة ضده وضد حقه في الرسولية وضد تعاليمه الإنجيلية اضطر أن يدافع بقوة، قائلًا: "اقبلوني ولو كغبي لأفتخر أنا أيضًا قليلًا" (2 كو 11: 6)، "قد صرت كغبي وأنا أفتخر" (2 كو 12: 11). "احكم لي يا رب فإني بدعتي سلكت. وعلى الرب توكلت فلا أضعف" [1]. لم يكن أمام داود النبي - وقد وجه إليه الأعداء اتهامات باطلة تمس إيمانه وحياته وتعثر شعبه فيه - إلا أن يستغيث أمام محكمة العدل الإلهي، حيث يقوم بالفصل في الأمور الله نفسه فاحص القلوب والعالم بكل الظروف الخفية والظاهرة، وها هو يقدم ضميره شاهدًا على نقاوة قلبه واخلاصه. يؤكد المرتل أنه حفظ ضميره صالحًا، ووضع رجاءه واتكاله على الرب، لهذا يتوسل من أجل أن يتفحص الرب قضيته، طالبًا منه أن يكون قاضيًا بينه وبين الذين يتهمونه. أنه لا يستطيع أن يبرر نفسه أمام اتهام الخطية، لكنه خلال الحب الإلهي يستطيع الله أن يبرره من الاتهامات الباطلة. الله هو الشاهد على صدق قلبه ونواياه. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يقول: "على الرب توكلت" لأنه أتهم بأنه قد صار في شركة مع الوثنيين، مستهينًا بخدمة بيت الرب الجماعية... كأنه يقول لست أتكل حتى على أي ذراع بشري سواء لمؤمن أو غير مؤمن، إنما اتكالي هو على الرب وحده. إن كنت أعيش مع الوثنيين الأشرار بالجسد لكنني بالروح منفصل عنهم، لأني لا اتكل عليهم ولا على غيرهم. * الرغبة في أن يُحاكم الإنسان أمر خطير وجاد ويصعب أن يفكر الإنسان فيه من جهة نفسه، فما هي هذه المحاكمة التي يتوق إليها؟ انفصاله عن الأشرار... ما معنى العبارة: "وعلى الرب توكلت"؟ من يترنح بين الأشرار هو إنسان لا يضع ثقته في الرب، فإن مثل هؤلاء (الأشرار) يثيرون شقاقات... هل وضعت ثقتك في إنسان؟ إذن، فإنك ستتذبذب كلما تذبذب هذا الإنسان، وتسقط عندما يسقط الإنسان، لكنني إذ توكلت على الرب أبقى ثابتًا. القديس أغسطينوس إحمِ قلبي وكليتيَّ" [2]. جاءت الكلمة المرادفة للفحص هنا بما يخص امتحان المعادن وفحصها بالنار (مز 12: 6؛ 17: 3)؛ فقد اشتاق المرتل أن يمتحنه الله مرة ومرات، إذ يعلم براءته فيما نُسب إليه باطلًا، طالبًا من الله أن يثبت ذلك بنفسه ويعلنه[521]، فإن الفحص الإلهي إنما يزيده تزكية وبهاءً ومجدًا. * إذ أخاف لئلا تفلت مني بعض الأخطاء السرية امتحني يا رب وجربني. اكشف (ما بداخلي) ليس أمامك يا من ترى كل شيء، بل أمام نفسي وأمام العبيد زملائي... أعطِ داوءً لرغباتي وأفكاري الدفينة حتى تطهر كما بلهيب. * افحص رغباتي الدفينة بالنار، جرب أفكاري، امتحن أفكاري مؤكدًا أنها لا تعيش في الشر، وأن الشر لا يثيرها. أية نيران تفحص قلبي؟ نار كلمتك. أية نيران تجرب قلبي؟ لهيب روحك. هذه هي النار وُصفت في موضع آخر بالكلمات: "لا شيء يختفي من حرها" (مز 19: 7). كما قال الرب بدوره عن هذه النار: "قد جئت لألقي نارًا على الأرض" (لو 12: 49). القديس أغسطينوس الأب ثيؤدور "لأن رحمتك أمام عينيّ هي، وقد أرضيتك بحقك" [3]. يتذكر داود النبي مراحم الله في الماضي، وهو يُعوّل عليها في حاضره وأفكاره الحالية، ويترجاها في أيامه القادمة. تقواه (أو براءته) تقوم على أساس الآراء الصحيحة الخاصة بسمات الله وعنايته الإلهية نحو شعبه بوجه عام ونحو داود بوجه خاص، ومن ثم كان الفيض المبهج للتقوى والرحمة والرأفة المملؤة حبًا، لهذا كان داود في كل أفكاره يركز على هذا الجانب من شخصية الله. بقوله "أرضيتك (ابتهج) بحقك" ربما يشير المرتل إلى اتهامه بعبادة الأوثان، فيعلن أنه وإن كان قد اضطر إلى الهروب من وسط شعبه إلى شعب وثني لكنه لم يحد قط عن الحق الإلهي إلى زيف الأوثان، علاوة على أنه يبتهج من أعماق قلبه بالله الحقيقي. |
|