ما هي ميزات الشريعة الجديدة الإنجيلية؟
توقّع اليهود بأنّ الربّ الإله سوف يعطي شريعة جديدة عن طريق المسّيح (يلكوت شمعوني 2، 296). والشريعة الجديدة ما هي الاّ الشريعة الإنجيلية التي هي كمال الشريعة الطبيعية – الإلهية الموحى بها الى موسى النبي.
لم يُكمل يسوع الشريعة بالتشديد فقط على الوجهة الباطنية وما في قلوبنا بل ركز أيضا على كمال الشريعة وقوتها بالروح القدس واولوية العمل والحرية والمحبة.
أ. شريعة الكمال:
لم يأتِ يسوع ليقيم شريعة جديدة عوضاً عن الشريعة القديمة. انه أعطى المعنى الحقيقي للشريعة القديمة. فالشريعة الانجيلية لا تلغي قيمة الفرائض الاخلاقية الموجودة في الشريعة الموسوية القديمة، بل تظهر كل حقيقتها الالهية والإنسانية، وتذهب إلى حد اصلاح أصل الاعمال، أي القلب، حيث يختار الانسان بين ما هو طاهر وما هو دنس كما جاء في تعليم يسوع المسيح " مِنَ القَلْبِ تَنْبَعِثُ المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم " (متى 15: 19).
يقود الانجيل الشريعة هكذا إلى كمالها بالاقتداء بكمال الاب السماوي تلبية للرب يسوع "كونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل. (متى 5: 48)، والمغفرة للأعداء، والصلاة لأجل المضطهدين، كما وصّانا يسوع المسيح " أَمَّا أَنا فأَقولُ لكم: أَحِبُّوا أَعداءَكم وصَلُّوا مِن أَجلِ مُضطَهِديكُم " (متى 5: 44).
ب) شريعة الروح القدس:
بما ان شريعة يسوع هي شريعة الكمال، وهو هدف صعب المنال بوضع الإنسان الحاضر (متى19: 10)، فإنَ يسوع قدَّم مع هذه الشريعة نفسه مثالاً جذاباً ومنح قوة باطنية سوف تساعد على حفظ الشريعة، وهي قوة الروح "لكِنَّ الرُّوحَ القُدُسَ يَنزِلُ علَيكم فتَنَالون قُدرَةً وتكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض" (أعمال 1: 8)؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ما لم يستطع الناموس أن يتمّمه بالحروف تحقّق بالإيمان، لهذا يقول السيد المسيح “لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل". وقد صرّح بولس الرسول " فغايَةُ الشَّريعةِ هي المسيح، لِتَبْرير ِكُلِّ مُؤمِن" (رومة 10: 4).
أوضح لنا يسوع اننا بحاجة الى نوع من البِّر يختلف تماما عن بر الفريسيين "فإِنِّي أَقولُ لكم: إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات. (متى 5: 20) وكيف يكون ذلك: فان حفظنا الوصايا (برّنا) يجب ان يكون نتيجة لما يفعله الله فينا، وليس ما نستطيع نحن ان نفعله من تلقاء أنفسنا. وان يكون مركز حفظ الوصايا (برنا) الله وليس الذات، وهدف حفظ الوصايا هي مخافة والله وطاعته وليس استحسان الناس. وان يكون حفظ الوصايا ليس مجرد حفظ الشريعة، بل حبّا في المبادئ التي وراءها وهو الله. الشريعة الإنجيلية توجّه صدقتنا وصلاتنا وصومنا نحو الآب السماوي " إِيَّاُكم أَن تَعمَلوا بِرَّكم بِمَرأًى مِنَ النَّاس لِكَي يَنظُروا إِليكم، ...لِتكونَ صَدَقَتُكَ (صلاتك، وصومك) في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك" (متى 6: 1-6).
ج) شريعة العمل:
ظنَّ الفريسيون وعلماء الشريعة ان تعليم الآخرين هو الهدف الأسمى في الحياة. لكن السيد المسيح أوضح ان الطاعة لله هي أعظم هدف، فمن السهل ان تعلّم شريعة الله وتطلب من الآخرين ان يطيعوها، دون ان تمارسها بنفسك، لذا قال يسوع " فمَن خالفَ وَصِيَّةً مِن أَصْغَرِ تِلكَ الوَصايا وعَلَّمَ النَّاسَ أَن يَفعَلوا مِثْلَه، عُدَّ الصَّغيرَ في مَلَكوتِ السَّمَوات "(متى 5: 19). فشريعة النظام الجديد هي شريعة الحرية الكاملة "وأَمَّا الَّذي أَكَبَّ على الشَّريعَةِ الكامِلَة، شَريعَةِ الحُرِّيَّة، ولَزِمَها، لا شَأْنَ مَن يَسمعُ ثُمَّ يَنْسى، بل شأنَ مَن يَعمَل، فذاكَ الَّذي سيَكونُ سَعيدًا في عَمَلِه"(يعقوب 1: 25).
والشريعة الإنجيلية هي شريعة عمل لأنها تقتضي ممارسة كلام الرب " لَيسَ مَن يَقولُ لي ((يا ربّ، يا ربّ)) ي َدخُلُ مَلكوتَ السَّمَوات، بل مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ أَبي الَّذي في السَّمَوات. (متى 7: 21)؛ كما تقتضي هذه الشريعة اختيار حاسم بين الطريقين "أُدخُلوا مِنَ البابِ الضَّيِّق. فإِنَّ البابَ رَحْبٌ والطَّريقَ المُؤَدِّيَ إِلى الهَلاكِ واسِع، والَّذينَ يَسلُكونَه كَثيرون. ما أَضْيَقَ البابَ وأَحرَجَ الطَّريقَ المُؤَدِّيَ إِلى الحَياة، والَّذينَ يَهتَدونَ إِليهِ قَليلون" (متى 7: 13-14). وخلاصة الشريعة الانجيلية هي القاعدة الذهبية "فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء. "(متى 7: 12).
د) شريعة الحرية
الشريعة الانجيلية هي شريعة الحرِّية (يعقوب 1: 25)، لأنها تحرِّرنا مما في الشريعة القديمة من رسوم طقسيَّة وقانونية، وتميل بنا إلى التصرف تلقائيا بدافع المحبة، كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "تَكلَّموا واعمَلوا مِثْلَ مَن سَيُدانُ بِشَريعَةِ الحُرِّيَّة" (يعقوب 2: 12) من ناحية.
ومن ناحية أخرى، لان الشريعة الانجيلية تجعلنا ننتقل من حالة العبد إلى حالة صديق المسيح كما أكّد الرب يسوع "لا أَدعوكم خَدَماً بعدَ اليَوم لِأَنَّ الخادِمَ لا يَعلَمُ ما يَعمَلُ سَيِّدُه. فَقَد دَعَوتُكم أَحِبَّائي لأَنِّي أَطلَعتُكم على كُلِّ ما سَمِعتُه مِن أَبي" (يوحنا 15: 15)، وإلى حالة الابن الوارث أيضا كما جاء في تعليم بولس الرسول "الدَّليلُ على كَونِكُم أَبناء أَنَّ اللهَ أَرسَلَ رُوحَ ابنِه إِلى قُلوبِنا، الرُّوحَ الَّذي يُنادي: ((أَبَّا))، ((يا أَبتِ)) فلَستَ بَعدُ عَبْدًا بلِ ابنٌ، وإِذا كُنتَ ابنًا فأَنتَ وارِثٌ بِفَضْلِ اللّه"(غلاطية 4: 6-7).
ه) شريعة المحبة:
أكمل المسيح الشريعة من خلال كشفه عن روح المحبة في وصيته الجديدة "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34). لذلك تدعى الشريعة الانجيلية شريعة محبة، لأنها تحمل على تفضيل التصرف بفعل المحبة التي يبثَّها الروح القدس على التصرف بالخوف؛ فالرب يسوع أعطانا أن نتجاوب مع وصايا الشريعة ولن نتمِّمها عن حب، وذلك بسكب روح المحبة في قلوبنا بالروح القدس كما جاء في تعليم بولس الرسول " لأَنَّ مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا" (رومة 5:5)، فجعلنا نطيع الشريعة ليس خوفًا من عقاب بل حبًا له. الشريعة الانجيلية كلها موجودة في وصية يسوع الجديدة "أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34).
الشريعة الانجيلية الجديدة، هي شريعة الروح القدس. لم تعد الشريعة الانجيلية الجديدة مكتوبة على ألواح من حجر بل محفورة بفعل الروح القدس في قلوب المؤمنين " إِنِّي لأَجعَلُ شَريعَتي في ضَمائِرِهِم وأَكتُبُها في قُلوبِهِم فأَكونُ لَهم إِلهًا وهم يَكونونَ لي شَعْبًا" (عبرانيين 8: 10). والمسيح هو الذي يمنح القوة للعيش بحسب "الحياة الجديدة". الروح القدس الممنوح لنا في العهد الجديد بسكبه روح المحبة في قلوبنا تجعلنا نحفظ الوصية عن حب وليس عن فرض كما جاء في تعليم الرب يسوع "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي." (يوحنا 21:14)، وبهذا كمّل يسوع الناموس فينا، إذ أن هدف الشريعة هو أن نحيا حياة البر.
والشريعة الإنجيلية هي شريعة محبة، لأنها تحتوي على المشورات الإنجيلية التي غايتها اقصاء ما يمكنه ان يُعيق نمو المحبة كما يقول العلامة توما الاكويني. والمشورات الانجيلية تتضمن العفة في حياة العزوبة لأجل ملكوت الله، والفقر والطاعة، وهي معروضة على كل واحد من تلاميذ المسيح المدعو لتكريس حياته في كمال المحبة.
وأخيراً فإنَ شريعة الملكوت تتلخَّص في الوصية المزدوجة، التي تلزم الإنسان بأن يحب الله، وأن يحبّ القريب كنفسه "فأَحبِبِ الرَّبَّ إِلهَكَ بِكُلِّ قلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهِنكَ وكُلِّ قُوَّتِكَ. والثَّانِيَةُ هي: أَحبِبْ قريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ" (مرقس 12: 30-31). ويوكّد بولس الرسول أهمية المحبة الأخوية بقوله "لا يَكوَننَّ علَيكم لأَحَدٍ دَيْنٌ إلاَّ حُبُّ بَعضِكُم لِبَعْض، فمَن أَحَبَّ غَيرَه أَتَمَّ الشَّريعة، فإِنَّ الوَصايا الَّتي تَقول: (لا تَزْنِ، لا تَقتُلْ، لا تَسْرِقْ، لا تَشتَهِ) وسِواها مِنَ الوَصايا، مُجتَمِعةٌ في هذِه الكَلِمَة: (أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ). فالمَحبَّةُ لا تُنزِلُ بِالقَريبِ شرًّا، فالمَحبَّةُ إِذًا كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13، 8-10).
وكل الأمور تتنظَم من حول هذه الوصية، وكلها مشتقَّة منها. وفي علاقات البشر بعضهم ببعض، هذه الوصية هي القاعدة الذهبية المثلى، وتحوي كل الشريعة والأنبياء" فكُلُّ ما أَرَدْتُم أَن يَفْعَلَ النَّاسُ لكُم، اِفعَلوهُ أَنتُم لَهم: هذِه هيَ الشَّريعَةُ والأَنبِياء" (متى 7: 12)، والتي قِمّتها شريعة المحبة “فإِذا عَمِلتُم بِالشَّريعَةِ السَّامِيَةِ الَّني نَصَّ عَلَيها الكِتاب، وهي: (أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ)، تُحسِنونَ عَمَلاً "(يعقوب 2: 8).
وحفظ الوصايا هو علامة الحب الحقيقي كما صرّح يسوع " مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"(يوحنا 14: 21)، ومن بين هذه الوصايا هي وصية المحبة الاخوية "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34) وهذه الوصية منبثقة من محبة الله " إِلَيكُمُ الوَصِيَّةَ الَّتي أَخَذْناها عنه: مَن أَحَبَّ اللهَ فلْيُحِبَّ أَخاه أَيضًا" (1 يوحنا 4: 21). وهكذا ولدت شريعة جديدة ترتبط بيسوع، وهي شريعة جديدة تبقى مدى الدهر قاعدة للحياة المسيحية.