رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
اللجوء إلى الله لتأكيد براءته: جاءت افتتاحية المزمور صلاة لتبرئته [1-5] يليها تثبيت هذه البراءة [3-5]. يترجى المرتل في الله أن يبرئه، واثقًا في برّ الله الذي لا يحابي الوجوه، ومعتمدًا على صلاح ضميره. "استمع يا الله عدلي (برّي)، واصغ إلى طلبتي، وانصت إلى صلاتي فليست هي بشفتين غاشتين" [1] يطلب المرتل من الله أن يستمع إليه ويصغى وينصت، مكررًا ثلاث مرات في هذا العدد طالبًا من القاضي أن ينصفه. هذا التكرار لا يُقدم منه باطلًا وإنما دليل اللجاجة وعدم اللجوء إلى آخر غيره. كان داود بارًا بلا عيب، يتبع الحق والعدل من جانبه، بريئًا من الأخطاء المُتهم بها؛ غير أن السمات الواردة هنا (عدلي (بريّ)، بشفتين بلا غش) تنطبق على السيد المسيح أولًا وقبل كل شيء، إذ هو البار الكامل، وشفتاه بلا غش (1 بط 2: 22)، يشفع ببره عن شعبه، ويستمع الآب على الدوام إلى شفاعته. السيد المسيح هو المتضرع، الذي يصلي كرأس من أجل جسده، الكنيسة، حاسبًا قضية شعبه قضيته الخاصة به، متشفعًا لأجل قديسيه، لأنه "في كل ضيقهم تضايق" (إش 63: 9)، قائلًا لشاول: "شاول شاول، لماذا تضطهدني؟" (أع 9: 4). ونحن أيضًا كأعضاء في جسد المسيح يليق بنا أن نحيا بالبر، لأن الآب لا يمكنه أن يتعامل معنا ما لم نكن أمناء معه بالتمام، لنا برّ المسيح. هو يعرف دوافعنا الحقيقية؛ قد نخدع أنفسنا أحيانًا، لكننا لا نقدر أن نحدع الله. ويلاحظ في المزمور الذي بين أيدينا الآتي: أ. لا يمكننا فهم الدفاع بالبر هنا كتعبير ساذج عن البر الذاتي، فهو ليس مجرد تأكيد من جانب الإنسان العابد على خلوه من الخطية، إنما هي محاولة لتبرير الإنسان من اتهامات معينة ظالمة. فبقولنا: "استمع يا الله عدلي (بري)"، لا نعني أننا بلا خطية، وإنما نعني أن صوت دم السيد المسيح واستحقاقاته أعظم من صوت الاتهامات الباطلة ضدنا بل ومن صوت الخطية التي تشهد ضدنا، صوته فينا أقوى، لأنه صوت برّ المسيح، الحق الإلهي! في برّ المسيح نسمع صوت الرسول: "طلبة البار تقتدر كثيرًا في فعلها، كان إيليا إنسانًا تحت الآلام مثلنا وصلى صلاة أن لا تمطر فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر..." (يع 5: 16-17) وكأنه ببر المسيح نحمل مفتاح السماء، ويستجيب لنا الآب نفسه! ب. بقوله: "فليست هي بشفتين غاشتين" يعلن المرتل أنه لا ينطق في صلاته بالشفاة المجردة، وإنما خلال انسجام الشفتين مع إخلاص القلب الداخلي، وأمانة العمل؛ وكأن المرتل يعلن أن صلاته تخرج من كيانه كله: الفكر الداخلي أو نية القلب والكلمات مع العمل. صاحب الشفتين الغير غاشتين يحمل إخلاصًا داخليًا وصدقًا في تصرفاته الظاهرة، فلا يسقط تحت التوبيخ الإلهي: "جبهة امرأة زانية كانت لكِ... ألست من الآن تدعينني يا أبي أليف صباي أنت... ها قد تكلمتِ وعملتِ شرورًا واستطعتِ" (إر 3: 3-5). شفتا الغش مكروهة عند الناس فكم بالحري تكون مكروهة لدى الرب؟! الله لا يطلب صلوات الشفاة الغاشة، وإنما يطلب سكب النفس (1 صم 1: 15) وسكب القلب (مز 62: 8). ج. إذ يلجأ المرتل إلى الله يجد في الحضرة الإلهية راحته، فيطلب منه أن يتسلم بنفسه قضيته ويعلن أحكامه فيها علانية، لأنها أحكام عادلة ومستقيمة. "من وجهك ليخرج قضائي، عيناي لتنظرا الاستقامة" [2]. * ليت قضائي لا يصدر عن الشفاة الغاشة (التي للأشرار) وإنما عن حضورك البهي، لكي لا أنطق بخلاف ما أكتشفه فيك. ليت عيناي - عينا القلب بالطبع - تعاينان الأمور المستقيمة. القديس أغسطينوس ماذا يعني المرتل بوجه الآب إلا الابن الذي خبَّرنا عن الآب، وأعلن بالصليب كمال الحب الإلهي، فإننا خلال عمله الخلاصي ننعم ببهاء الوجه الإلهي، ويحق لنا الدخول إلى الأحضان الأبوية، معاينين كل ما هو حق ومستقيم. د. استقامة حياته الداخلية: "جرَّبت قلبي وتعهدته ليلًا، واحميتني فلم تجد فيَّ ظلمًا. لكيما لا يتكلم فمي بأعمال الشر" [3]. كلمة "جربت" تستخدم للتعبير عن امتحان الذهب بالنار (زك 13: 9)، الأمر الذي يفوق حدود الفحص العادي إلى التفتيش في الأعماق داخل النفس البشرية. ربما عنى المرتل بطلبته هذه أن يقدم قلبه لله ليلًا حينما يترك كل من هم حوله ليكشف للرب أعماق قلبه وصدق نيته بعيدًا عن أعمال البشر والانشغال معهم في أحاديثهم... يرى الله في داخله إخلاصًا صادقًا، لا يحمل كراهية أو بغضة أو ظلمًا حتى ضد المفترين عليه. يرى الله في قلبه اشتياقًا حقًا ألا ينشغل المرتل بكلمات الناس بالرغم من عدم انعزالهم عنه جسديًا؛ هو يتحدث معهم ويعاملهم لكنه كمن هو غريب يطلب أن ينطق بأعمال الله لا الناس. وربما أراد المرتل أن يعلن أنه ما أسهل على البشر أن يحكموا ضده، بإساءة فهم كلماته أو تصرفاته، أما الله فيحكم حسب أعماقه. وكأنه يقول مع الرسول بطرس بعد إنكاره للرب: "يا رب أنت تعلم كل شيء، أنت تعرف إني أحبك" (يو 21: 17). ما أحوجنا أن نتعهد قلوبنا ليلًا، فيشرق مسيحنا علينا ويحول ظلمتنا إلى بهاء نوره! ربما يقول "تعهدته ليلًا، لأن الليل هو ترمومتر الحياة الروحية، فيه تنكشف القلوب. الإنسان الملتهب قلبه بالحب طول نهاره عندما يحل الليل يجد لذته في التمتع بالصلاة ودراسة الكتاب المقدس والتأملات الروحية، وحينما يضع رأسه يردد في قلبه: "إني لا أدخل إلى مسكن بيتي، ولا أصعد على سرير فراشي، ولا أعطي لعينَّي نومًا أو لأجفاني نعاسًا، ولا راحة لصدغي، إلى أن أجد موضعًا للرب" (مز 132 صلاة النوم). يضع رأسه على وسادته ليهيم فكره في السماويات حيث يوجد قلبه ويكون هناك كنزه. أما من ارتبك بهموم الحياة فلا يجد في الليل لذة بل يعاني من الأرق ويزداد قلقه، ويصير الليل لا للراحة بل لاختبار عربون الجحيم الذي لا يُطاق. والذي يقضي يومه في الملذات الجسدية والتسيّب من جهة حواسه، فمتى حلّ الليل ينغمس بالأكثر في أحلام اليقظة المثيرة لجسده وأفكاره... وهكذا يكشف الليل للإنسان حاله الداخلي. في الليل تنفتح السماء أمام عيني المرتل ليهيم في حب الله ويصلي من أجل أخوته! ه. ضبط لسانه: "لكيما لا يتكلم فمي بأعمال البشر" [3]. لقد تهيأ المرتل تمامًا لتقديم أفكاره وكلماته وأعماله لفحص دقيق جدًا من قبل الله، وفي نفس الوقت أدرك الغبطة التي يتمتع بها الإنسان الذي يصرخ إلى الله ليهبه كمال القلب والحديث والعمل. * "لكيما لا يتكلم فمي بأعمال الشر"، أي لئلا يفلت من شفتي كلام إثم، بل يخرج منهما كل ما يليق بمجدك وحمدك، وليس كتعديات البشر المقاومين مشيئتك. القديس أغسطينوس * لا تزعج نفسك بأمور العالم التي لا ينفعك منها شيء صالح لحياتك، إذ كُتب "لكيما لا يتكلم فمي بأعمال البشر". فالإنسان المولع بالحديث عن الخطاة وأعمالهم سرعان ما تثور فيه شهوة الاستهتار. بالحري يلزمك أن تنشغل بحياة الصالحين، فإن هذا يعود عليك بشيء من النفع . * تعلمت أن أصلي حتى لا يتكلم فمي بأعمال البشر. القديس باسيليوس الكبير * لا تبحث في فكرك عن أخطاء الغير، ولا تدنس لسانك باتهام قريبك؛ فإن القول "لا يتكلم فمي بأعمال الناس" أمر له تقديره! [347]. الأب بابي (السرياني) وربما قصد المرتل بقوله: "لا يتكلم فمي بأعمال البشر"، أو في النص العبري: "لا يتعدى فمي..." أنه وإن مرّ به فكر إدانة من جهة إنسان - حتى وإن كان عدوه - فإن هذا الفكر لا يمكن أن يجتاز فمه، أي لا يتحول إلى كلمات وبالتالي إلى عمل، إنما يحبسه ليقتله بعمل الله فيه. فقد وضع الله حافظًا لفمه وبابًا حصينًا لشفتيه كي لا يخطئ بلسانه. و. سالك في طريق الله الضيّق: "من أجل كلام شفتيك أنا حفظت طُرقًا صعبة. ثبت خطواتي في سبلك لئلا تزل قدماي" [4-5]. تحدث داود النبي عن قلبه الصالح ثم عن لسانه وأخيرًا عن أعماله. فمن جهة أعماله حفظ نفسه من الطرق الشريرة ليسلك طريق الله، أي ليعيش حسب مشيئته الإلهية؛ لم يتحقق هذا بقدرته الشخصية وإنما بارشاد الله ومعونته حتى لا تزل قدميه. في هذا المزمور يكشف المرتل عن كلام الأشرار وكلام الأبرار وأيضًا كلام الله. فشفتا الأشرار تُصدران افتراءات واتهامات باطلة ضد أولاد الله، لهذا يلجأ المرتل إلى الله كي يبرره فيها. وشفتا المرتل (الأبرار) تتحفظان من أعمال الناس لكي لا يوجد فيهما غش بل يحملان صدقًا وإخلاصًا وانسجامًا مع صدق القلب والعمل. أما شفتا الله فتحفظان أولاده، إذ تقدمان كلامه روحًا وحياة؛ تقودانهم إلى الطرق الإلهية التي تبدو صعبة لكن بلا زلّة أو سقوط. شفتاه ترشداننا وتهبانا قوة وثباتًا في الطريق. كلمات شفتيه إنما هي ميثاق الله ووعوده لنا القادرة أن تثبتنا فيه أبديًا. * "ثبت خطواتي في طرقك" حتى تبلغ الكنيسة كمال الرحمة خلال الطرق الضيقة التي تقود إلى راحتك. "لئلا تزل قدمي"، حتى تصير آثار رحلاتي مطبوعة كآثار الأقدام في الأسرار وفي كتابات الرسل، فلا تمحى أبدًا، بل تصير ظاهرة يلاحظها كل الذين يتبعونني. أو ربما تعني أن قدميَّ قد سلكتا تلك الطرق الوعرة وكملت السعي في طرقك الضيقة لكي أسكن أبديًا في الحياة الأبدية. القديس أغسطينوس طريق الله ضيق ووعر لكنه مستقيم، إن زلت قدماي فبسبب ضعفي وخطيتي، إذ كثيرون يتعثرون في وصية الله كما يتعثرون في التجارب، لهذا فإنني في حاجة إلى العون الإلهي ليس فقط لأدخل الطريق وإنما لكي اثبت فيه حتى النهاية، هو الذي يبدأ وهو الذي يكمل وهو الذي يبلغ بي إلى النهاية. هذا ما دفع المرتل أن يصرخ إلى الله الذي ينتظر سؤالنا لكي يستجيب! |
|