رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الناصرة ترفض يسوع ابن بلدها
النص الإنجيلي (مرقس 6: 1-6) 1 وانصَرَفَ مِن هُناكَ وجاءَ إِلى وَطَنِه يَتبَعُه تَلاميذُه. 2 ولمَّا أَتى السَّبت أَخذَ يُعَلِّمُ في المَجمَع، فَدَهِشَ كثيرٌ مِنَ الَّذينَ سَمِعوه، وقالوا: ((مِن أَينَ له هذا؟ وما هذهِ الحِكمَةُ الَّتي أُعطِيَها حتَّى إِنَّ المُعجِزاتِ المُبِينَةَ تَجري عن يَديَه؟ 3 أَلَيسَ هذا النَّجَّارَ ابنَ مَريَم، أَخا يعقوبَ ويوسى ويَهوذا وسِمعان؟ أَوَ لَيسَت أَخَواتُهُ عِندَنا ههُنا؟)) وكانَ لَهم حَجَرَ عَثرَة. 4 فقالَ لهم يسوع: ((لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِهِ وأَقارِبِهِ وبَيتِه)). 5 ولَم يَستَطِعْ أَن يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ المُعجزات، سِوى أَنَّه وَضَعَ يَديَهِ على بَعضِ المَرْضى فَشَفاهم. 6 وكانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم. ثُمَّ سارَ في القُرى المُجاوِرَةِ يُعَلِّم. مقدمة يصف لنا مرقس الانجيلي رفض اهل الناصرة ليسوع المسيح ابن الناصرة (مرقس 6: 1-6) فتَعَجَّبُ يسوع مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم. وكان رفضهم اعلانا مسبقا عما سيفعله الشعب اليهودي، لهذا اعتزل يسوع الجمع، وانفرد بتلاميذه يُعلمهم قبل ان يرسلهم؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولاً: تحليل وقائع النص الإنجيلي (مرقس 6: 1-6) 1 وانصَرَفَ مِن هُناكَ وجاءَ إِلى وَطَنِه يَتبَعُه تَلاميذُه تشير عبارة "انصَرَفَ مِن هُناكَ" الى مغادرة كفرناحوم (مرقس 5: 21).أمَّا عبارة "جاءَ إِلى وَطَنِه" فتشيرالى الزيارة الثانية الى الناصرة التي تتميز عن زيارة يسوع الاولى التي حدثت قبل ذلك بسنة "أَتى النَّاصِرَةَ حَيثُ نَشَأَ، ودخَلَ الـمَجْمَعَ يَومَ السَّبتِ على عادَتِه، وقامَ لِيَقرأ"(لوقا 4: 16). أمَّا عبارة "وَطَنِ " في الأصل اليوناني πατρίδα فتشير إمّا إلى أرض الآباء في مجملها (يوحنا 4: 44)، وإمّا إلى مسقط الرأس، أي المدينة أو القرية التي تقيم فيها العائلة. وهذا هو المعنى المشار اليه هنا. وطن يسوع هو الناصرة (مرقس 4: 23) حيث نشأ يسوع وترعرع صبياً وشاباً (لوقا 4: 16) كما يروي الانجيل "وكانَ يسوعُ يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس" (لوقا 2: 52). وفي الواقع هذا، ووقد أمضي يسوع القسم الأكبر من الثلاثين سنة الاولى من حياته في الناصرة (مرقس 1: 9). وتعتبر الناصرة وطن يسوع من رجوعه من مصر الى ان ابتدأ ينادي بالإنجيل. وهذه الزيارة الثانية اليها بعد تلك المدة؛ واما زيارته الأولى الى الناصرة فذكرها لوقا الإنجيلي حيث طردوه بالقسوة إذ أرادوا وقتئذٍ أن ِيُلقوُه من على حَرْفِ الـجَبَلِ الَّذي كانَت مَدينتُهم مَبنِيَّةً علَيه (لوقا 4: 14-30). أمَّا عبارة "يَتبَعُه تَلاميذُه" فتشير الى يسوع الذي ترك الناصرة كفرد عادي ولكنه الآن يعود كأحد الرابيين المعلمين، يحيط به تلاميذه، أي رسله وهم اسرته الجديدة لأنهم هم الذين يسمعون كلمة الله ويؤمنون بها. وقد عاد إلى بلدته بعد النجاح والصيت اللذين حقّقهما في المنطقة. يبدو ان القصد من عودته هو إعطاء اهل بلدته فرصة أخرى للإيمان به. الا ان النتيجة كانت ان ثارت ثائرة الحسد فيهم، ولم يستطيعوا ان يتقبلوا ان ابن قريتهم أصبح صاحب رسالة سماوية. 2 ولمَّا أَتى السَّبت أَخذَ يُعَلِّمُ في المَجمَع، فَدَهِشَ كثيرٌ مِنَ الَّذينَ سَمِعوه، وقالوا: "مِن أَينَ له هذا؟ وما هذهِ الحِكمَةُ الَّتي أُعطِيَها حتَّى إِنَّ المُعجِزاتِ المُبِينَةَ تَجري عن يَديَه؟ عبارة " السَّبت "في الأصل اليوناني σάββατον مشتقة من كلمة عبرانية הַשַּׁבָּת (معناها راحة) تشير الى اليوم الذي يترك فيه الإنسان أشغاله المادية وذلك تذكاراً لليوم السابع من الخليقة " وبارَكَ اللهُ اليَومَ السَّابِعَ وقَدَّسَه، لأَنَّه فيه اَستَراحَ مِن كُلِّ عَمَلِه الَّذي عَمِلَه خالِقًا" (تكوين 2: 3). الله لم يسترح في يوم السبت فحسب، بل باركه وقدّسه أيضاً. واحترم يسوع قيمة يوم السبت كيوم للعبادة وكان يذهب دوماً إلى المجامع للصلاة في يوم السبت (لوقا 4: 16). وكان يريد ليوم السبت أن يكون يوم الخدمة وعمل الرحمة (مرقس 2: 28). وقد قدَّس المسيحيون الأولون يوم السبت، ولكن الاحد، اليوم الأول من الأسبوع حلّ تدريجياً محل اليوم السابع، حيث كان المسيحيون الأولون يجتمعون فيه للصلاة، فقد جعلت قيامة ربنا قيمة خاصة لهذا اليوم الأول من الأسبوع. وفي قرار المجمع المسيحي الأول لم يفرض قادة الكنيسة الأولى حفظ يوم السبت اليهودي على أحد (أعمال الرسل 15: 28). وقال الشهيد يوستينوس الفيلسوف النابلسي " نجتمع سويّة يوم الأحد، لأنه هو اليوم الأول الذي فيه غيّر الله الظلمة إلى نور، والعدم إلى وجود. وفي هذا اليوم قام مخلصنا يسوع المسيح من الأموات". أمَّا عبارة " يُعَلِّمُ " فتشير الى دور يسوع في التعليم وتأثيره الشديد في سامعيه حيث كان تعليمه يختلف عن تعليم الكتبة ومفسري الكتب المقدسة الذين يعتصمون بسلطة النصوص او السُنّة. انه "كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن له سُلْطان، لا مِثلَ الكَتَبَة " (مرقس 1: 22). على الرغم من أنّ الربّ كان يعلم أنّ ردّ اليهود السامعين سوف يكون التمرّد إلاّ أنّ الله أرسل لهم ابنه يسوع كما جاء في نبوءة حزقيال "سَواءٌ أَسَمِعوا أَم لم يَسمَعوا، -فإِنَّهم بَيتُ تَمَرُّد -سيَعلَمونَ أَنَّ بَينَهم نَبِيًّا"(حزقيال 2: 5). وسيتمّ التبشير بغضّ النظر عن الاستجابة له. أمَّا عبارة "المجمع" فتشير الى مكان اجتماع اليهود الديني في مدن فلسطين وفي الجاليات اليهودية في ذلك الزمان. ويُقام المجمع في اي مدينة بها عشر عائلات يهودية على الاقل. وفي المجمع كانوا يحتفلون بالسبت بقراءة كتب الشريعة والانبياء وتتبعها عظة. في المجمع علم يسوع حيث يجوز لكل يهودي ان يلقي الكلام، ولكن سلطات المجمع كانت تعهد في ذلك الى المتضلِّعين في الكتب المقدسة كما حدث مع بولس الرسول وبرنابا " وبَعدَ التِّلاوةِ لِلشَريعَةِ والأَنبِياء، أَرسَلَ إِلَيهما رُؤَساءُ المَجمعَ يَقولون: أَيُّها الإخوان، إِذا كانَ عِندَكما كَلامُ وَعظٍ لِلشَّعب، فقولاه " (اعمال الرسل 13: 15). وفي هذا النص عهد رئيس المجمع الى يسوع قراءة الكتاب المقدس والتعليق عليه. وأمَّا عبارة "فَدَهِشَ كثيرٌ مِنَ الَّذينَ سَمِعوه" فتشير الى اهل الناصرة الذين لم يستطيعوا أن ينكروا حكمة يسوع وقوته، لكنهم كانوا في شك في انَّ مصدرهما كان من الله، فكانوا ينسبونهما الى الشيطان. ان رفض قبول البيّنات والاعتراف بوجود الله وقوته يمنع اظهار قوة الله. والرفض هو اساس عدم الايمان. وقد رفض اهل الناصرة رسالة يسوع مرتين: المرة الاولى عندما اتهمه معلمو الشريعة انه بعلزبول "بَلَغَ الخَبَرُ ذَويه فَخَرَجوا لِيُمسِكوه، لِأَنَّهم كانوا يَقولون: ِنَّه ضائِعُ الرُّشْد" (مرقس3: 20-35). وهنا رفض اهل الناصرة يسوع المرة الثانية. أمَّا عبارة "مِن أَينَ له هذا؟ "فتشير الى سؤال اهل الناصرة عن حكمة يسوع وهو الذي خرج من محيط الناصرة. سؤال يُثير الدهشة. توقف أهل الناصرة عند الوجه البشري ليسوع، وما استطاعوا أن يتجاوزوه ليروا فيه حامل كلمة الله بالرغم من أن كلماته وأفعاله تكشف فيه شيء يتجاوز إنسانيتنا. لان الحسد ملأ قلوبهم، ولم يتمكنوا أن يفهموا أن أحداً من أهل بلدتهم قد تكون له رسالة من السماء. هؤلاء كانوا واقفين لا ليتعلموا منه بل ليحكموا عليه، أُعجبوا بكلامه وقدرته على المعجزات، ولكنهم لم يستفيدوا بسبب كبريائهم وحسدهم الذي أغلق قلوبهم، فلم يروا في المسيح سوى نجار يعرفون عائلته، وهذا هو السبب في عدم إيمانهم كما يعلنه يسوع (مرقس 6: 6). اما عبارة " المُعجِزاتِ " فتشير إلى المعجزات التي أخبرهم بها الغير لأنهم لم يشاهدوا معجزة منه (مرقس 6: 5). ليس الأمر صدفة إن كان المرضى وحدهم هم المنفتحون على معجزات يسوع. إن الذي لم يعد لديه ما يخسره ويتمسك به هو من يستطيع أن يفتح ذاته على هبة يسوع التي تجدّد الحياة. وسمّى الإنجيليون ما أتاه المسيح من الخوارق بأربعة أسماء: عجائب إشارة الى تأثيرها في المشاهدين؛ وآيات اشارة الى غايتها وذلك إنها أدلة على ان الذي يفعلها مرسل من الله؛ وقوات إشارة الى عظمتها بالنسبة الى اعمال البشر، واعمال إشارة الى اعمال الله كما ورد في انجيل يوحنا (6: 28؛ 7: 21، 10؛ 25: 32: 38). 3 أَلَيسَ هذا النَّجَّارَ ابنَ مَريَم، أَخا يعقوبَ ويوسى ويَهوذا وسِمعان؟ أَوَ لَيسَت أَخَواتُهُ عِندَنا ههُنا؟ وكانَ لَهم حَجَرَ عَثرَة تشير عبارة "أَلَيسَ هذا النَّجَّارَ ابنَ مَريَم" الى شكوك هؤلاء الذين رأوا المسيح بعيونهم وكأنهم لم يروه، وسمعوه بأذانهم وكأنهم لم يسمعوه، فانطبق عليهم قول ارميا النبي "الشَّعبُ الفاقِدُ اللُّبّ الَّذي لَه عُيونٌ ولا يُبصِر ولَه آذانٌ ولا يَسمعَ"(ارميا 5: 21).لم يُدركوا سر يسوع ومكانته ورسالته وراء حياته البشرية، ولم يعرفوا أنه مسيح الرب إله القوَّات والمعجزات، فزاغوا عن تعاليمه وتكلَّموا بالباطل ضِدُّه، ومع أنهم قدَّروا كلمات الحكمة التي نطق بها إلا أنهم سعوا بروح الشك والغموض والحسد والحقد. حيث أنّ يسوع منهم، فلا يحقّ له أن يكون مختلفًا عنهم. وهذا السؤال ينفي تساؤلات البعض : بان يسوع بين عمر 12- 30 سنا كان مختفيا لدى "جماعة قمران" أو لدى "إخوة بيض" في مصر أو في الهند تاركاً أمّه العذراء. أمَّا عبارة "النَّجَّارَ" في الأصل اليوناني τέκτων (معناها عامل في الخشب او الحجارة أو المعدن، وبالعبرية חָרָשׁ، إذ كان يصنع النير والمحاريث) فتشير الى يسوع الذي كان عاملا في النجارة مثل سائر العمّال، وهو ليس برئيس كهنة ولا فريسي أو كاتب كما يؤكّده الشهود "أَلَيسَ هذا ابنَ النَّجَّار؟ أَلَيسَت أُمُّه تُدعى مَريم، وإِخوَتُه يَعقُوبَ ويُوسُفَ وسِمعانَ ويَهوذا؟ "(متى 13: 55) ولكن لم يوصف الانجيل يسوع انه كان يعمل في النجارة في فترة التبشير بعد ان وصل الثلاثين من عمره. لمّا بدأ خدمته لم يعمل بالنجارة بل كان يبشر فقط. ونلاحظ ان مرقس الانجيلي يقول ان يسوع كان نجاراً وليس ابن نجار مبيِّنا أن الله هو ابوه كما جاء في تصريح يسوع نفسه "لأَنَّ مَن يَسْتَحْيِي بي وبِكَلامي في هذا الجيلِ الفاسِقِ الخاطِئ يَسْتَحْيِي بِه ابنُ الإِنسان، متى جاءَ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه المَلائِكَةُ الأَطهار" (مرقس 8: 38). ويعلق العلامة القدّيس بونافَنتورا "لم يبحث يسوع إلاَّ عن جعل نفسه وضيعًا وألاَّ يُحسب له حساب وأن يعيش في الازدراء التام. وهذا انتصارٌ أعظم من السيطرة على مدينة ما". لم يأت يسوع إلينا خلال الغمام، وإنما خلال التواضع، حّل بيننا ومارس عملنا ليشاركنا حياتنا، فنشاركه أمجاده الأبدية. أمَّا عبارة "ابنَ مَريَم" فتشير الى عدم ذكر الاب (يوسف) الذي يعتبر امراً غريباً في بيئة يهودية. ويحتمل أن يكون مرقس الانجيل أهمله هنا ملمحاً أنَّ الله هو ابو يسوع (مرقس 8: 38) وابو التلاميذ (مرقس 11: 25)، أو ان يوسف كان قد مات في ذاك الوقت. أمَّا عبارة "أَخا يعقوبَ ويوسى ويَهوذا وسِمعان" فتشير الى هؤلاء الاخوة وهم ابناء مَريَمُ امرأة قَلُوبا التي كانت بجانب مريم أم يسوع عند الصليب (يوحنا 19: 25). ويعلق القديس ايرونيموس" أن إخوة يسوع هم أولاد القديسة مريم زوجة قلوبا، أخت القديسة مريم العذراء". وقد اعتاد اليهود أن يلقبوا أبناء العم أو العمة أو الخال أو الخالة إخوة، إذ غالبًا ما يعيشون معًا تحت سقف واحد. وتدل كلمة "أخوة" في الكتاب المقدس كما العادة في بلادنا إمّا على أبناء الأم الواحدة، وإمّا على الاقربين كما نجد في قول ابراهم الى لوط ابن اخيه "نحن أخوة" (تكوين 13: 8)، استخدم لابان أيضًا ذات الكلمة عن زوج ابنته (تكوين 29: 15). وفي اللغة الآرامية تستخدم نفس الكلمة "أخ" لتعبر عن كل هذه القرابات. أصبح يعقوب رئيسا للكنيسة في اورشليم كما يؤكد بولس الرسول "ولَمَّا عَرَفَ يَعْقوبُ وصَخْرٌ ويُوحنَّا، وهُم يُحسَبونَ أَعمِدَةَ الكَنيسة" (غلاطية 2: 9)، وهو ايضا كاتب رسالة يعقوب. وأمَّا يهوذا فهو كاتب رسالة يهوذا. أمَّا الباقون والاخوات فلا يعلم عنهم الا القليل. فتسمية "اخوة يسوع" في الاناجيل إنما هي تسمية عامة لأقارب يسوع، وانه ليس ليسوع إخوة لا من مريم ولا من يوسف. ان الكنيسة تعترف ببتولية مريم الدائمة قبل ولادة يسوع وحين ولادته وبعد ولادته. (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 500). حتّى في أثناء الإصلاح اللوثري، كان كلّ من كالفين وزوينغلي يؤمنان أنّ مريم كانت عذراء دائماً. وهناك أراء كثيرة في هذا الموضوع وهي اخوة يسوع قد يكونوا قد يمكن أن يكونوا أبناء زوجة أخرى ليوسف النجار او أولاد خالة للمسيح. وإخوته لم يقبلوه أولًا ثم عادوا وآمنوا (يوحنا 7: 5). أمَّا عبارة " أَخَواتُهُ" فتشير الى بنات أم واحدة كما تشير الى الاقارب (التكوين 13: 8الاحبار 10: 4 1 أخبار 3: 22)، وهنا ندل على بنات عمِّ يسوع. وهنا الذكرالوحيد لأخوات يسوع. أمَّا عبارة "حَجَرَ عَثرَة" في الأصلاليوناني ἐσκανδαλίζοντο (معناها شك) فلا تشير في الكتاب المقدس الى قدوة سيئة او الى أمر يثير الاشمئزاز، بل الى عائق وفخ كما جاء في إنجيل متى "فإِذا كانت عينُكَ اليُمنى حَجَرَ عَثْرَةٍ لَكَ، فاقلَعْها وأَلْقِها عنك، فَلأَنْ يَهلِكَ عُضْوٌ مِن أَعضائِكَ خَيْرٌ لَكَ مِن أَن يُلقى جَسَدُكَ كُلُّه في جَهنَّم"(متى 5: 29). وحجر العثرة يسبب السقوط (1 بطرس 2: 8). وقد تنبّأ عنه سمعان الشيخ "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل وآيَةً مُعَرَّضةً لِلرَّفْض"(لوقا 2: 34) وسبق وتنبأ أشعيا أيضًا عنه "فيَكونَ لَكم قُدساً وحَجَرَ صَدْم وصَخرَ عِثارٍ لِبَيتَي إِسْرائيل وفَخّاً وشَبَكَةً لِساكِني أُورَشَليمَ فيَعثُرُ به كَثيرونَ ويَسقُطون ويَتَحَطًّمونَ ويُصْطادونَ ويُؤخَذون" (أشعيا 14:8-15). أمَّا أسباب هذه العثرة فهي كثيرة ومنها: يسوع اولا من حيث الصليب قد يكون حجرة عثرة (متى 11: 6). ثم الناس الذين يرفضون السير وراء يسوع (متى 5: 29) والعالم (متى 13: 41 والاضطهاد (متى 13: 12). أمَّا هنا فقد كان يسوع حجر عثرة الى أهل وطنه الناصرة،لسببين هما: أصله العائلي وعمله كنجار. فهميعتقدون أنَّهم يعرفونه دون ان يؤمنوا به وبالتالي يرفضون السير وراءه كما يؤكد يسوع "كانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم" (مرقس 6: 6) لأنه لم يكن في نظرهم المسيح المنتظر الذي لا يُعرف أصله وفصله. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يأتِ السيد ليسحب عقول أقربائه في طفولته وصبوته بأعمال خارقة، لكنه جاء ليخدم ويسحب النفوس لحبه خلال أعماله الإلهية الفائقة الحب!". وكان يسوع منبوذاَ من قبل ذويه، لانَّهم اعتبروه " ضائع الرشد" (مرقس 3: 21) كما كان منبوذا من قبل السلطات اورشليم الدينية، لانَّهم اعتبروا بعلزبول "إِنَّه بِسَيِّدِ الشَّياطينِ يَطرُدُ الشَّياطين" (مرقس 3: 22). ولم يستطيعوا ان يوفِّقوا وضع يسوع البشري (النجار، ابن مريم)، مع أصله الالهي. وهذا الامر يتطلب الايمان. ونستنتج مما تقدم أن عدم الترحيب بيسوع في الناصرة يشير الى نبذه من قبل شعبه إذ "كانَ لَهم حَجَرَ عَثْرَة يصطدمون به (متى 5: 29). وقد وجدت الكنيسة في هذا الرفض إحدى علامات المسيح الحقيقي، إذ فيه تتحقق أيضًا النبوات، إذ يقول أشعيا النبي: "فيَكونَ لَكم قُدساً وحَجَرَ صَدْم وصَخرَ عِثارٍ لِبَيتَي إِسْرائيل وفَخّاً وشَبَكَةً لِساكِني أُورَشَليمَ فيَعثُرُ به كَثيرونَ ويَسقُطون ويَتَحَطًّمونَ ويُصْطادونَ ويُؤخَذون" (أشعيا 8: 14-15). ويقول وبولس الرسول " قَد وَرَدَ في الكِتاب: ((هاءَنَذا واضِعٌ في صِهيُونَ حَجَرًا لِلصَّدمِ وصَخْرَةً لِلعِثار، فمَن آمَنَ بِه لا يُخْزى" (رومة 9: 33). وهكذا ينغلق أهل الناصرة على ذواتهم من خلال اسئلتهم الذاتية فيُصابون بالدهشة، ويعتبرون يسوع حجر عثرة وخطرا على بيئتهم ومعتقداتهم ولذلك نبذوه. لذلك إن الذي لم يعد لديه ما يخسره ويتمسك به هو من يستطيع أن يفتح ذاته على الهبة التي تجدّد الحياة. 4 فقالَ لهم يسوع: ((لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِهِ وأَقارِبِهِ وبَيتِه)) تشير عبارة "لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِهِ وأَقارِبِهِ وبَيتِه" الى قول مأثور حاول يسو ع ان يفسِّر به تفسيرا لظاهرة رفضه من قبل اهل الناصرة. حيث قال أحد الفلاسفة "في مسقط رأسك لا يُؤمن بك أحد". وفي المثل العربي نقول: الأقارب عقارب. وقد كان القدّيس فرنسيس، مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية، مكروهاً من قِبل أبيه وكان يُعتبر مجنوناً من قِبل أهل بلده. لقد درج الناس على إكرام الغريب الذي لا يعرفونه، والتقليل من شأن القريب الذي يعرفون نشأته وأهله، وغالباً ما يكون هذا بسبب الحسد والغيرة. لأنّ اهل الناصرة يظنّون أنّهم يعرفونه: أليس هو النَّجَّارَ ابنَ مَريَم؟ ألا نعرف إخوته وأخواته؟ ألم نشهد طفولته ونموّه؟ من هذا حتّى يكون آتيًا من الربّ؟ نحن نعرف من أين أتى، نحن نعرف من هو! ويظنّون أنّ ما يأتي من الله هو دائمًا الغريب، البعيد، الخارق، المختلف ويبحثون عن الله حيث لا يوجد. واستقبله أهل الناصرة بالتهكّم، لا بالتعجّب، لأنّهم كانوا يعرفون أهله، وتعثّروا فيه. لقد ولّدت معرفتهم له احتقاراً لتعاليمه، وفكرتهم المسبقة عنه، جعلت من المستحيل عليهم أن يقبلوا رسالته. فإنّ حظّ يسوع لم يكُنْ أحْسن من حظِّ مرسَليه من قبلِه، مثل إيليا النبي (1 ملوك 31:16) وارميا (ارميا 16: 14-15)، وحزقيال (حزقيال 2: 2-5) بهذا قد تمّ فيهِم ما قاله يوحنّا "قد جاء إلى خاصّتِه وخاصَّتُه لم تقْبلْه" (يوحنا 11:1). أمَّا عبارة " أَقارِبِهِ وبَيتِه " فتشير الى التشديد على ذوي قرابته كما ورد سابقا "مَن أُمِّي وإِخَوتي "(مرقس 3: 33)، لان يسوع أسس له عائلة جديدة من الذين يسمعون كلمة الله ويؤمنون "لأَنَّ مَن يَعمَلُ بِمَشيئَةِ الله هو أخي وأُخْتي وأُمِّي " (مرقس 3: 35).هذه هي مأساة الله. إذا كان لا كرامة ليسوع في وطنه، فهذا لا يُقلّل من أهمية عمله ورسالته، بل يؤكد صدق النص الانجيلي الذي لم يحذف من التاريخ أمورا غير محبوبة عن أقارب يسوع. جاء الله لا يطلب مِن الذي يرسله ان يهتم بنجاحه او فشله، بل ان يشهد له وهو يهتم بالباقي. جاء يسوع يفتح قلبه بالحب حتى لرافضيه، وإن كان لا يُلزم رافضيه بقبوله قسرًا! هل نختلف نحن عن أهل الناصرة؟ هل نسمع كلام الله؟ هل نفتح قلوبنا الى النعمة؟ 5 ولَم يَستَطِعْ أَن يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ المُعجزات، سِوى أَنَّه وَضَعَ يَديَهِ على بَعضِ المَرْضى فَشَفاهم تشير عبارة "لَم يَستَطِعْ أَن يُجرِيَ هُناكَ شَيْئاً مِنَ المُعجزات" الى عدم امكانية يسوع صنع المعجزات بسبب عدم إيمان اهل الناصرة، واحترام حرية أهله وضميرهم، كان الجو غير صالح لعمل المعجزات. وهذه العبارة هي من أكثر عبارات الانجيل جرأة وتُظهر بوضوح ان معجزات يسوع لم تكن أعمالاً سحرية، ولا أمور سيكولوجية نفسية، وكأن ثقة المريض شرط لشفائه، بل هي أعمالٌ مرتبطة ارتباطاً حيوياً بإيمان الشعب. فهناك علاقة بين المعجزة والايمان. لم يصنع يسوع معجزة الا حيث الايمان، وهذا هو السبب الأعظم. ويعلق القديس غريغوريوس النيزينزي "لكي يتم الشفاء كانت الحاجة إلى أمرين: إيمان المريض وقوة واهب الشفاء، فإن لم يوجد أحد الأمرين يصير الأمر مستحيلًا". فهناك علاقة بين الايمان والمعجزة (مرقس 2: 5)، وهناك مرات يطلب يسوع فيها الايمان قبل ان يتدخل (مرقس 5: 36)، ومرات يربط يسوع المعجزة بالإيمان (مرقس 3: 34). فان لم يكن هناك ايمان، خلت المعجزة من كل معنى ولا يجوز ان يُقال ان هناك معجزة. فخارج إطار الايمان، تفقد المعجزة كل مدلولها، ولا يجوز ان نتحدث عن معجزة. ان عدم الايمان منع يسوع من ان يجري معجزة. ومع ان الله قادر على كل شيء الا انه في سلطانه لا يُجري معجزة إذا ما كان الانسان رافضا وثائراً. إن عدم الايمان يُبطل الى حد ما قدرة يسوع على صنع المعجزات (متى 13: 58). المعجزة ترتبط بالإيمان الذي هو جواب الانسان على مبادرة الله المجانية. وعليه أصبح إجراء المعجزات مستحيلا بسبب قلة إيمان أهل الناصرة، وليس عن قلة مقدرة يسوع، لان المعجزة تستلزم الايمان. وهذا لا يعني ان الايمان سبب المعجزة كما ان ثقة المريض بالطبيب ليست سبب شفائه. فالمعجزة تظهر قدرة الله ومحبته لاتباعه. ولذلك علينا أن نؤمن قبل كل شيء لنفهم المعجزة. أمَّا عبارة "وَضَعَ يَديَهِ " فتشير الى علامة على نقل القوة من يسوع الى المريض حيث تمر من صاحب السلطة الى طالب النعمة. وهنا تدل على سلطان يسوع في الشفاء (متى 9: 18). ونجد لها صدى في تعليم بولس الرسول الى تلميذه طيموتاوس"لا تُهْمِلِ المَوهِبَةَ الرُّوحِيَّةَ الَّتي فيكَ، تِلكَ الَّتي نِلتَها بِنُبُوَّةٍ مع وَضَعِ جَماعةِ الشُّيوخِ أَيدِيَهُم علَيكَ" (1طيموتاوس 4: 14). اما عبارة " على بَعضِ المَرْضى فَشَفاهم " فتشير الى يسوع الذي لم يصنع هناك عجائب كثيرة كما يؤكد ذلك متى البشير " لَم يُكثِرْ مِنَ المُعجِزاتِ هُناكَ لِعَدَمِ إِيمانِهِم" (متى 13: 58). 6 وكانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم. ثُمَّ سارَ في القُرى المُجاوِرَةِ يُعَلِّم تشير عبارة " وكانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم " الى دهشة يسوع لعدم وجود إيمان عند اهل الناصرة بالرغم من براعة يسوع في التعليم، في الوقت الذي أثنى به يسوع على ايمان قائد المائة " الحَقَّ أَقولُ لَكم: لَم أَجِدْ مِثلَ هذا الإِيمانِ في أَحَدٍ مِنَ إِسرائيل"(متى 8: 10). وتعجب المسيح لا ينافي لاهوته لأنه كان إنسانا حقيقيا كما انه أله حق. أمَّا عبارة "عَدَمِ إِيمانِهم" فتشير إلى استغراب يسوع من قلة إيمان اهل الناصرة ومن قساوة قلوبهم. فان "عَدَمِ إِيمانِهم " هو السبب المُعلن في موقف رفض اهل الناصرة من يسوع. الايمان ليس علاقة نفسية، كما لو كانت ثقة المريض شرطا لنجاح علاجه، بل الموضوع هو الايمان. بدون ايمان لا معنى للمعجزة، ولا يجوز ان يقال انَّ هناك معجزة. فان عدم الايمان تحدد تأثير قوة الله وفاعليتها. يطلب يسوع الايمان قبل ان يتدخل في صنع المعجزات كما اكّد الى يائيرس، رئيس المجمع "لا تَخَفْ، آمِنْ فقط" (مرقس 5: 36) او يربط يسوع بعد المعجزة بين شفاء المريض وإيمانه كما صرّح الى المرأة المنزوفة "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خَلَّصَكِ" (مرقس 5: 34). والايمان المقصود هنا هو الايمان بيسوع وبقدرته الالهية التي تعمل عن يده (مرقس 4: 40). أمَّا عبارة " سارَ في القُرى المُجاوِرَةِ يُعَلِّم" فتشير الى متابعة يسوع نشاطه التعليمي دون ييأس في القرى المجاورة في الجليل رغم الفشل الصارخ الذي واجهه في بلده. ويُعلق الأب ثيؤفلاكتيوس "لم يكرز الرب في المدن فقط وإنما في القرى أيضًا معلمًا إيانا، ألا نحتقر الأمور الصغيرة، ولا نطلب الخدمة في المدن الكبرى على الدوام، وإنما نلقي بذور كلمة الرب في القرى الفقيرة والمحتقرة". ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (مرقس 6: 1-6) بعد دراسة وقائع النص الانجيلي (مرقس 6: 1-6) يمكننا ان نستنتج انه يتمحور حول رفض يسوع بسبب عدم الايمان وقساوة القلب. 1) الرفض بسبب عدم إيمان يصف لنا إنجيل مرقس أن يسوع "كانَ يَتَعَجَّبُ مِنْ عَدَمِ إِيمانِهم" (مرقس 6: 6) حيث ان عدم الإيمان لا يقوم فقط في إنكار وجود الله، أو في نبذ ألوهية المسيح، بل في عدم الاعتراف بآيات "كلمة الله" وفي عدم طاعته تبعاً لأصل اللفظ العبري אמין "آمن" فعدم الإيمان" معناه ألاَّ نقول لله "آمين "، وأن نرفض العلاقة التي يريد الله أن يقيمها مع الإنسان. ويُعبِّر الكتاب المقدس عن عدم الايمان بصور مختلفة، واهمها: "التمرد" كما حدت مع موسى الذي جمعَ الجَماعةَ أَمامَ الصَّخرَةِ وقالَ لَهم: ((اِسمَعوا أيُّها المُتَمَرِّدون، أَنُخرِجُ لَكم مِن هذه الصَخرَةِ ماءً؟" (عدد 20: 10). وهناك صورة ثانية لعدم الايمان وهي التذمر حيث يصف يوحنا الإنجيلي اليهود والتلاميذ الذين يرفضون أن يؤمنوا بيسوع بهذه الصفة بقوله: "فتَذَمَّرَ اليَهودُ علَى يسوع لأَنَّه قال: أَنا الخُبزُ الَّذي نَزَلَ مِنَ السَّماء" (يوحنا 6: 41) وهناك وجه آخر من التذمَر ضد الله، يقوم بممارسة العرافة والسحر والشعوذة كما حدث مع شاول والساحرة في عين دور (1 صموئيل 28: 3-25)، وكذلك يتعلق الامر اللجوء إلى الأنبياء الكَذَبة (إرميا 4: 10)؛ او الشك في صلاح الله وقدرته (تثنية 8: 2). وأمَّا إرميا النبي فيصف عدم الإيمان بصورة "الاتكال" على المخلوقات "ووضع ثقتنا" فيها (إرميا 5: 17). كذلك "أحد وجوه الخوف" الذي يقوم على مطالبة الله بتحقيق ما وعد به على الفور، إنه "استخفاف بالله"، و"عدم إيمان به" كقول بنو اسرائيل للرب " فإِنَّه خَيرٌ لَنا أَن نَخدُمَ المِصرِيِّينَ مِن أَن نَموتَ في البَرِّيَّة؟" (خروج 14: 11)، و"عدم السماع لقوله" (خروج 14: 22)، و"تجربته" كقول بنو اسرائيل لِلرَّبِّ: هَلِ الرَّبُّ في وَسْطِنا أَم لا؟ (خروج17: 7). رفض أهل الناصرة يسوع لأنهم توقفوا عند الوجه البشري له، وما استطاعوا ان يتجاوزوه ليروا فيه حامل كلمة الملكوت، وتناسوا من هو يسوع الذي يُجري المعجزات. وكان يسوع يُعلّم بكل حكمة وقوة وسلطان، ولكن أهل مدينته لم يروا فيه سوى نجّار، فقالوا: "مِن أَينَ له هذا؟ وما هذهِ الحِكمَةُ الَّتي أُعطِيَها حتَّى إِنَّ المُعجِزاتِ المُبِينَةَ تَجري عن يَديَه؟" (مرقس 6: 2). إنهم رفضوه لأنه كان واحدا منهم. ظنوا انهم يعرفونه، وهم لا يعرفون حقة المعرفة كما جاء في تصريح يسوع " أَجَل، إِنَّكُم تَعرِفونَني وتعرفونَ مِن أَينَ أَنا. على أَنِّي ما جئتُ مِن نَفْسي فالَّذي أَرسَلني هو صادِق. ذاكَ الَّذي لا تَعرِفونَه أَنتُم وأَمَّا أَنا فَأَعرِفُه لأَنِّي مِن عِندِه وهوَ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 7: 28). مّا يعني: إنّكم تعرفونني ولا تعرفونني؟ فأهل الناصرة كانوا يعرفون عن يسوع كل ما يتعلّق بطبيعته البشريّة: مظهره، موطنه وعائلته ومكان ولادته. إذ كان يُعلّم فيعجب الشعب بتعليمه، ويشفي المرضى فيتعزّى الشعب بمعجزاته، ويطرد الشياطين. أمَّا فيما يتعلّق بالطبيعة الإلهيّة، فأهل الناصرة لا يعرفونه. فقد قال لهم يسوع: "على أَنِّي ما جئتُ مِن نَفْسي فالَّذي أَرسَلني هو صادِق. ذاكَ الَّذي لا تَعرِفونَه أَنتُم". فحتّى يعرفوا الآب، يجب أن يؤمنوا بمَن أرسله، حينئذٍ تتعرّفون إليه، لأنّ "اللهَ ما رآهُ أَحدٌ قطّ الابنُ الوَحيدُ الَّذي في حِضْنِ الآب هو الَّذي أَخبَرَ عَنه " (يوحنا 1: 18)؛ كذلك" فما مِن أَحَدٍ يَعرِفُ مَنِ الِابْنُ إِلاَّ الآب، ولا مَنِ الآبُ إِلاَّ الِابنُ ومَن شاءَ الِابنُ أَن يَكشِفَهُ لَه" (لوقا 10: 22). وبعبارة أخرى، فان رفض يسوع يقوم بعدم الايمان بما علّمه "فتَمَّتِ الكَلِمَةُ الَّتي قالَها النَّبِيُّ أَشَعْيا: "يا ربّ، مَنِ الَّذي آمَنَ بِما سَمِعَ مِنَّا؟" (يوحنا 12: 38). وربما لو تذكر اهل الناصرة كلمة الله إلى موسى: " يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون" (تثنية الاشتراع 18: 15)، يمكن أن يقبلوا يسوع لا كنبي فقط، بل كمرسل من الآب، لكنهم توقفوا على كونه انسانا عاديا من بينهم وأخذوا يتكلمون فيما بينهم:" أمَّا هو النَّجَّارُ ابنُ مَريَم، أَخو يعقوبَ ويوسى ويَهوذا وسِمعان؟ أَوَ لَيسَت أَخَواتُهُ عِندَنا ههُنا؟". هذا ما اختبره يسوع في وطنه فقال لهم: لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِهِ وأَقارِبِهِ وبَيتِه"(مرقس 6: 4)، وهذا ما عاشه الأنبياء أيضا فصرخ النبي أرميا: " وَيلٌ لي يا أُمِّي لِأَنَّكِ وَلَدتِني رَجُلَ خِصامٍ ورَجُلَ نِزاعٍ لِلأَرضِ كُلِّها"(إرميا 15، 10). ولقد أرسل الآبُ ابنه يسوع ليظهره للعالم. فاحتقره أنسباؤه. ويبدو عدم الإيمان يسود في القلوب التي ترفض تجسُّد ابن الله وعمله الفدائي. ونستنتج مما سبق أن خطيئة عدم الإيمان تقوم على عدم الاعتراف " بأن يسوع هو المسيح (1 يوحنا 2: 22-23) وعلى جعل الله كاذباً، (1 يوحنا 5: 10). فيركز يوحنا الانجيلي على عدم الإيمان في رفض الترحيب في شخص يسوع الناصري، "بالكلمة" المُتجسد (يوحنا 1: 11)، وبفادي بني البشر (يوحنا 6: 53). على أن من لم يؤمن به يكون بمثابة من يحكم عليه "مَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد" (يوحنا 3: 18)، وينطق بالكذب ويُهلك الناس (يوحنا 8: 44)، ويموت في خطاياه (يوحنا 8: 24). وينغمس في الظلمات، لأن أعماله شريرة (يوحنا 3: 20)، ويسلم نفسه لإبليس " ولا يطيقَ الاستِماعَ إِلى كَلام يسوع" (يوحنا 8: 43-44). ويبلغ عدم الإيمان ذروته عندما ينبغي للعقل أن يستسلم للحكمة الإلهية التي تختار الصليب طريقاً للمجد (1 قورنتس 1: 21-24). فلمّا أعلن يسوع عن مصيره، أخذ بطرس في التوقف عن إتباع معلّمه، مما جعل "عثرة" أمام يسوع (متى 16: 23). ولما أتت الساعة، أنكره متشكَكاً كما سبق وأنبأ يسوع عن ذلك (متى 26: 31-35). ومع ذلك ينبغي للتلميذ أن يحمل هذا الصليب عينه (متى16: 24)، إذا ما أراد أن يشهد ليسوع "مَن شَهِدَ لي أَمامَ النَّاس، أَشهَدُ لَه أَمامَ أبي الَّذي في السَّموات" (متى 10: 32-33). وشهادته تنصبّ في الواقع على القيامة، وهي أمر يكاد لا يصدّق (أعمال 26: 8)، وقد أبطَأ التلاميذ أنفسهم طويلاً قبل أن يؤمنوا بها، من شدة عدم الإيمان في قلب الإنسان (مرقس 16: 1). إلا أن عدم الإيمان هذا، قد يغلبه الله الآب الذي هو منبع الإيمان، فيَخفي سر يسوع عن أعين الحكماء (متى 11: 25-26)، ويكشفه للأطفال الذين يعملون بمشيئته (متى 12: 46-50). ويكشف يسوع عن سر جاذبية الآب (يوحنا 6: 44)" وأَنا إِذا رُفِعتُ مِنَ الأَرض جَذَبتُ إِلَيَّ النَّاسَ أَجمَعين" (يوحنا 12: 32). إن عدم الإيمان، بحسب ما يُعلّم به بولس الرسول، لا بد وأن تتم السيطرة عليه يوماً. "وإذا كنا خائنين، يظل الله وفياً" (2 طيموتاوس 2: 13). فالوجود المسيحي هو اكتشاف مُتجدد على الدوام لسر يسوع القائم من بين الأموات كما قال يسوع لتوما الرسول "لا تكُنْ غَيرَ مُؤمِنٍ بل كُنْ مُؤمِناً" (يوحنا 20: 27). 2) الرفض بسبب قساوة قلب يسمّي الكتاب المقدّس السبب الآخر لرفض اهل الناصرة ليسوع " قساوة القلب". يعبّر عدم الإيمان عن تلك القساوة التي كان يتنبأ عنها أشعيا "غَلِّظْ قَلبَ هذا الشَّعْب وثَقِّلْ أُذُنَيه وأَغمِضْ عَينَيه لِئَلاَّ يُبصِرَ بِعَينَيه ويَسمَعَ بِأُذُنَيه ويَفهَمَ بقَلبه وَيرجعَ فيُشْفى" (أشعيا 6: 9-10). فالقساوة هي تصلّب الإنسان في انفصاله عن الله ويُسميها ايضا "عمى". وعبارة "قسى قلبه" معناه غلَظه، وصم الآذان، وأبقى الغشاوة على العين، بحيث يصبح الإنسان غليظ الرقبة، حجر القلب. فالقساوة صفة مميزة لحالة الانسان الذي يرفض أن يتوب، ويبقى منفصلاً عن الله. أمَّا مصادر القساوة فهي إمّا ان الله يُقسِّي القلب أي يسمح بتقسيته؛ فلا يكون الله هو مصدر الخطيئة، بل القاضي الذي يدينه. وإمّا الانسان يُقسِّي نفسه بنفسه فعندها يرتكب خطيئة. فعلى سبيل المثال، فإن كان فرعون لم يأذن لإسرائيل بالانطلاق، فذلك إمّا لأن الله قد قسَّى قلبه (خروج 4: 21)، وإمّا لأن فرعون قسّى نفسه بنفسه (خروج 7: 13-14) وبولس يؤكد بوضوح: " إن الله يَرحَمُ مَن يَشاء وُيقَسِّي قَلْبَ مَن يَشاء" (رومة 9: 18). وأمَّا سبب قساوة القلب فهو عدم الاستعداد لقبول يسوع. يقول يوحنا الانجيلي إن النور يُعمي القوم الذين ليسوا على استعداد لقبوله: "وإِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة. فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه. وأمَّا الَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله" (يوحنا 3: 19-21). ولا يمكن أن تزول قساوة القلب إلاّ بالتوبة. " إِذا سَمِعتُم صَوتَه فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم كما في مَريبة وكما في يَوم مَسَّة في البَرِّيَّة" (مزمور 8: 95). ولكن كيف يستطيع قاسي القلب أن يتوب؟ إن المؤمن يعرف أن الله يَقدر أن يُحطّم حتمية الشر، وأن يكشف طريق القلب كما يقول أشعيا النبي "لِمَ ضَلَّلتَنا يا رَبُّ عن طُرُقِكَ وقَسَّيتَ قُلوبَنا عن خَشيَتِكَ؟ إِرجِعْ إِلَينا مِن أَجْلِ عَبيدِكَ أَسْباطِ ميراثِكَ "(أشعيا 63: 17). فالكلمة الأخيرة مرجعها إلى الله وحده. لذلك قد تنبأ النبي حزقيال بأن قلب الانسان القاسي سيستبدل يوماً ما بقلب من لحم، وأن روح الله سيجعل مستطاعاً ما هو مستحيل عند الناس "أُعْطيكم قَلبًا جَديدًا وأَجعَلُ في أَحْشائِكم روحًا جَديدًا وأَنزِعُ مِن لَحمِكم قَلبَ الحَجَر، وأُعْطيكم قَلبًا مِن لَحْم، وأَجعَلُ روحي في أَحْشائِكم وأَجعَلُكمِ تَسيرونَ على فَرائِضي وتَحفَظونَ أَحْكامي وتَعمَلون بِها (حزقيال 36: 26-27). واخيرا يحثنا يوحنا الانجيلي أن نشاركه إيمانه بأن "يسوع هو المسيح، ابن الله" إذ اختتم إنجيله الطاهر "إِنَّما كُتِبَت هذه لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" (يوحنا 20: 31)، إذ بفضل الإيمان "بالكلمة" المتجسد نصير أبناء الله (يوحنا 1: 9-14). الخلاصة بعد ان عاد يسوع من كفرناحوم الى الناصرة اخذ يعلم في المجمع بكل حكمة وثقة، ولكن أهل الناصرة لم يروا فيه سوى نجار، عامل عادي ليس أفضل منهم، وهو كان واحدا نظيرهم. ورفضوه لأنه يغيظهم حيث كان الآخرون يتأثرون منه ويتبعونه. فأثار دهشتهم أولاً (مرقس 6: 2)، ثم أصبح لهم حجر عثرة للمستمعين (مرقس 6: 3). وبالرغم ان يسوع طّبَّق على نفسه المثل المأثور أنذاك "لا يُزدَرى نَبِيٌّ إِلاَّ في وَطَنِهِ وأَقارِبِهِ وبَيتِه" (مرقس 6: 4)، إنما لم يكن يسوع اول نبي يُرفض في وطنه، فقد سبق ان اختبر إرميا النبي رفض موطنه له، ورفض عائلته له (ارميا 12: 5-6). ولكن هذا الرفض لا يقلل من أهمية عمل رسالة النبي. فلا يلزم ان يكون الشخص محترما او مكرَّما من الآخرين ليكون مرسلا من الله. وكما اختبر الربّ يسوع الرفض وأعدّ الرسل لأنّ يتوقّعوا الرفض، هكذا تختبر الكنيسة اليوم سوء الفهم ولكّنها تواصل التبشير والتعليم والخدمة باسم الربّ يسوع لأنّ الكنيسة مدعوّة لأنّ تواصل خدمة الربّ يسوع، سواء كانت مقبولة أو غير مقبولة. وأن رفض اهل الناصرة ليسوع إعلانا مسبقا لما سيفعله الشعب اليهودي بيسوع. ولم يشأ يسوع ان يصنع المعجزات لعدم إيمان اهل الناصرة برسالته. لذلك توجّه يسوع الى قرى أخرى ساعيا وراء الذين يتجاوبون مع رسالته ومعجزاته. دعاء ايها الآب السماوي، انت يا من ارسلت ابنك الحبيب الى ارضنا ليعلمنا طرق الخلاص، أعطنا نعمة الايمان لكي تحل فينا قدرته الإلهية فلا ننغلق على ضعفنا ونرفض المسيح، بل ننفتح على هبة المسيح فنرى فيه ليس إنسانا فحسب، إنما نبيا مقتدراً ومسيحا مخلصا وإلها عظيما الذي يقودنا الى الطريق والحق والحياة. آمين الأب لويس حزبون - فلسطين |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
رفض أهل الناصرة يسوع |
وطن يسوع هو الناصرة |
رفض اهل الناصرة ليسوع المسيح ابن الناصرة (مرقس 6: 1-6) |
الناصرة ترفض يسوع ابن بلدها لماذا؟ |
مجيء يسوع إلى الناصرة وحده دون أن يصنع معجزة |