للقمص أثناسيوس فهمي جورج
-
حياة الكنيسة في عصور الاستشهاد
بداية المخاض
لقد قال المسيح رب المجد لتلاميذه ”يُسلِّمونكُم إلى ضيقٍ ويقتلُونكم وتكونون مُبغضين من أجل اسمي. والذي يصبُر إلى المُنتهى ذاكَ يخلُص“ (مت 24: 9).
وبهذا يكون المسيح رب المجد قد أوضح طبيعة الحياة معه، ونوعية المِحن والضِيق الذي سينال كل من يشهد لإنجيله، ومن ناحية أخرى أظهر عِظَم مكافأة مُحبيه الذين حفظوا صبره وإيمانه ”اِفرحوا وتهللوا لأنَّ أجركم عظيم في السموات“.
لذلك نجد أنَّ التلاميذ بعد ما كرزوا بالمسيح قُبِضَ عليهم وقُدِّموا للمُحاكمات ”فلما سمعوا حنقوا وجعلوا يتشاورون أن يقتلُوهم“ (أع 5: 33)، ولكن التلاميذ ”ذهبوا فَرِحين لأنهم حُسِبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه“ (أع 5: 41).
لقد حلَّت التجربة الأولى بالكنيسة باستشهاد إستفانوس الذي سبَّب ألمًا عظيمًا للكنيسة، وضِيقًا وتشتيتًا للجميع... ولكن هذا التشتُّت أصبح بركة للعمل الكرازي، لأنَّ الذين تشتَّتوا جالوا مُبشرين بالكلمة..
ويُعد الشهيد إستفانوس رئيس الشمامِسة الذي رُجِمَ سنة 36 م (أع 8)، ويعقوب الكبير بن زبدي الذي قتلهُ هيرودِس بالسيف سنة 44 م. (أع 12: 2) من أشهر الشهداء.
وكأنما منح هذا الاستشهاد الكنيسة قوة لتمتد أُفقيًا وتفترِش أراضي جديدة تنضم لحساب الملكوت، وصارت شهادة الدم سبب بركة للكنيسة المُقدسة بعد أن أصبح دم الشهيد بِذار للإيمان بالمسيح، وبعد أن أصبح الضيق والتشتُّت كرازة وبشارة لاسم المسيح رب الكنيسة وعريسها.
ثم جاءت التجربة الثانية بقتل يعقوب بن زبدي أخي يوحنا الحبيب، إنه ثمن التبعية للمسيح والشهادة لاسمه العظيم القدوس لكي يتبارك ويرتفِع..
وهنا تعمَّق في وجدان الكنيسة الأولى أنَّ الاستشهاد ليس أمرًا استثنائيًا ولا جزءًا إضافيًا، بل ضرورة حتمية للإيمان المسيحي... فجميع الذين يعيشون بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون... ويقول لسان العِطر بولس الرسول، أنه يحمِل في جسده سِمات الرب يسوع، التي هي جروحه وآلامه المُخلِّصة المُحيية، لذلك يُوصي الكنائِس والمؤمنين أن يحملوا إماتات الرب حتى تظهر حياة يسوع فيهم (2كو 4: 10).
وبانتقال الرعيل الأول من التلاميذ والرسل، الذين استُشهِد غالبيتهم، تسلَّمت الكنيسة ذخيرة حيَّة من التعاليم والتقاليد التي تحِث المؤمنين على الشجاعة والصبر والجَلَدْ، وتحبَّب إليهم الموت لأجل اسم المسيح، فيستعذِبون الألم لينالوا المجد، بالاِتحاد بذبيحته بواسطة الاستشهاد.
وازدادت الشجاعة في بعض القديسين حتى صارت شوقًا وتلهُفًا إلى الاستشهاد، وانتقل الآلاف من دمنهور إلى الأسكندرية المدينة العُظمى لكي يستشهِدوا، والقديس أبا فام الجندي لمَّا دُعِيَ للاستشهاد، لَبَسَ أفخر ثيابه، وقال ”أنَّ هذا هو يوم عُرسي“.
والقديس أغناطيوس الأنطاكي، خاف أن تأخذ المؤمنين الشفقة عليه فيحرموه من حلاوِة الاستشهاد، بل وازدادت قيمة الاستشهاد لمَّا اكتشفت فيه الكنيسة كرامة تجعل صاحبها على مستوى كرامة الرسل، الذي وعدهم المسيح أنه متى جلس على كرسي مجده سيجلسُون على اثني عشر كرسي، وكان أول من أعلن هذه الكرامة الشهيد الأنطاكي أغناطيوس -أحد الآباء الرسوليين- عندما ذهب ليستشهِد وقال:
”لقد ابتدأت أن أكون تلميذًا للمسيح“
وأكَّد العلاَّمة أكليمنضُس السكندري، في أواخِر القرن الثاني، أنَّ الاستشهاد عقيدة راسخة في الكنيسة، ولم يعُد للكنيسة شرف أعظم من تقديم الشهداء للسماء، إذ ليس هناك ما يُعادِل كرامتهم..
ولمَّا تزايد عدد الشهداء، رأت الكنيسة أنَّ كلمة ”شهيد“ وحدها ليست كافية للتعبير عن كرامِة الذين دفعوا دمائِهِم ثمنًا للإيمان وغلبوا العالم بكلمة شهادتِهِم، فألحقت بها صفات أخرى مثل:
الكامِل - المغبوط - الطوباوي - السعيد... وغيرها من الألقاب التي أضفتها الكنيسة على شُهدائها.
وكان الشهداء يرون أنَّ الاستشهاد هو أقصر طريق يؤدي إلى الأفراح الأبدية.. إنها مجرد لحظات يكونون بعدها في أحضان آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب، في نور القديسين، حيث مجد إلهنا وحيث لا تقف أمامه خليقة صامته.
كانوا يرونه شَرِكة في آلام المسيح وفي موته، وأيضًا شَرِكة في مجده، لذلك كان كثير من الشهداء يرون أكاليلهم ومجد السموات وابن الله قائِم عن يمين العظمة، فكانوا يثقون بالإيمان بما أعدُّه الله لمُحبي اسمه القدوس..
لقد رأى هؤلاء الكاملون شُهداء المسيح، أنَّ الاستشهاد خير تعبير عن محبتهم لله وصِدق رجائهم الذي مَلَك على قلوبِهِم، فما كانوا يرون الموت إلاَّ انطلاقًا من سجن الجسد، بعد أن كشف لنا ربنا يسوع المسيح قائِد الشهداء وربهم عن أعماق مفهوم الاستشهاد الحقيقي، وبعد أن خرج غالِبًا ولكي يغلِب..