أبونا الراهب سارافيم البرموسي
مازال ينزف -2- بالحبّ ننتصر
قد يسأل البعض: لماذا نتألّم ونحن لم نفعل شيئًا؟؟ لماذا نُظلَم ونحن أبرياء؟؟ دعني أذكّرهم أنّ المسيح حينما تألّم ترك لنا مثالاً لنتبعه.. تلك هي دعوتنا.
بل إنّ أوريجانوس ومن بعده ديديموس الضرير يكتبان بلسان المُخلِّص:
القريب منّي قريبٌ من النار
والبعيد عنّي بعيدٌ عن الملكوت
وذلك لأنّ نيران الاضطهاد مازالت تلاحق ثوب المسيح أينما ذهب، ولكن تلك النيران تعلن قرب ملكوت الله.
لم تكن حياة المسيح قبل الصليب مقبولة عند جموع اليهود وقادتهم؛ فقد كان اليهود «يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ» (يو7: 1)!!! ولازال العالم آملاً في قتل صورته الحيّة في جسده: الكنيسة.
يا لقبح الشيطان الذي يرسِّخ عقيدة الموت في صميم الدين ليطلق الأيدي المغلولة بالضمير، حرّة، لسد منابع الطهر وإبكام أصوات الحقّ!!
كانت كلمات المسيح حبًّا فجازوه صلبًا. كانت نظراته بلسمًا فسقوه خلاًّ. كانت لمساته شفاءً فطعنوه كُرهًا. كانت صلاته لهم غفرانًا فجلدوه حنقًا. هذا هو يسوع وذاك هو الشيطان. حتى الآن نفس استرتيجيّة الشرّ سارية وفاعلة.. الشيطان يسعى ليبيد صوت يسوع في أعماقنا لئلا يصدح في العالم المحتضر فيشفى..
لأَنَّكُمْ لِهذَا دُعِيتُمْ.
فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا،
تَارِكًا لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِهِ.
الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ،
الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضًا،
وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْل.
الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ،
لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ الْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ.
الَّذِي بِجَلْدَتِهِ شُفِيتُمْ
(1بط2: 21-24)
جلدات المسيح شفاء للبشريّة، وألم المسيحيين إلهام واجتذاب لغير المؤمنين، ومجد للكنيسة عند استعلان ربّنا يسوع المسيح.
لم يتحوَّل المسيح قيد أنملة عن ملء الحبّ أمام طوفان البُغضة التي أحاطت به في كلّ موضعٍ حلّ فيه. جاء لخلاص العالم لا لإهلاكه. من المسيح نستلم دعوتنا؛ أنْ نصمد في الحبّ والغفران مهما كلّفنا الأمر. لأنّ المسيح أطلقنا في العالم لنملّحه.. لنحييه.. لنعيده إلى الله. والعالم يبقَى شريرًا حتّى يُلاقي المُخلِّص.. يبقَى مستبيحًا حتى يجالسه على بئر الحياة.. وقتها يتغيّر. لا نتعجّب أمام شرّ العالم، فتلك هي الطبيعة البشريّة بدون المُخلِّص. لنتخطّى ألمنا، ونعلنه حبًّا وغفرانًا وتجديدًا لإنسان العالم. تلك هي نصرتنا.. بل نصرة المخلِّص فينا..
إنّ الله يتدخّل ولكن ليس كما يترجّى البعض؛ فبينما يريد البعض النقمة الإلهيّة وإظهار بأس شعب الله من خلال إذلال المقاومين، نجد أنّ الله يعمل في اتّجاه آخر؛ يعمل على جذب الجميع إلى حضنه؛ المُضطّهِد والمُضطهَد. لكلٍّ مكانه في بيت الآب.
نقرأ ما حدث لشهداء ليون بفرنسا (القرن الثاني الميلادي) في الرسالة التي أوردها يوسابيوس القيصري، والمرسلة من ليون Lyons وفيينا Vienne إلى فيرجيه Phrygia (177م)، حينما هاج الوثنيون على المسيحييّن وأعملوا فيهم القتل بمباركة الإمبراطور، نقرأ: “أجساد هؤلاء الذين ماتوا في السجن قد أُلقيت إلى الكلاب وظلّوا [الوثنيون] يراقبون بشغف اللّيل كلّه لئلا يجمع أحدنا شيئًا ليدفنه.. مزقت بقايا هؤلاء إلى قطع صغيرة بواسطة الحيوانات المفترسة. من تفحَّم منهم بالنار وضعوه في كومةٍ في مكانٍ عامٍ ليراها الجميع. حُرست رؤوس وجذوع الآخرين من قِبَل الجنود لضمان بقائها في العراء غير مدفونة لأيّام أخرى.. ظلّ بعضهم يضحكون ويقهقهون وهم يرفعون أصنامهم التي اعتبروها أنّها عاقبت هؤلاء الشهداء!!!”
وبدأوا يُشكِّكون المسيحيّين قائلين: “أين إلهكم؟ بما ساعدكم الإيمان الذي أحببتموه أكثر من حياتكم؟ لمدّة ستّة أيام كانت أجساد الشهداء موضع سخرية بكلّ طريقة ممكنة. وفي النهاية أُحرقت وصارت رمادًا وكنست من الأرض التي لم يعد عليها ذرّة واحدة منها لأنّهم كانوا يعتقدون أنّهم بذلك سوف يهزمون الله!! ويفوّتوا عليه فرصة أن يقيمهم ثانية!!!.. كان لسان حالهم يقول: ‘دعنا نرى إن كانوا سيقومون ثانية؟ وإن كان إلههم سيساعدهم؟ وإن كان يستطيع أن يخلِّصهم من أيدينا؟؟’.”
إنّ ما حدث في ليون القرن الثاني الميلادي حدث عند الصليب؛ «وَكَانَ الشَّعْبُ وَاقِفِينَ يَنْظُرُونَ وَالرُّؤَسَاءُ أَيْضاً مَعَهُمْ يَسْخَرُونَ بِهِ قَائِلِينَ: خَلَّصَ آخَرِينَ فَلْيُخَلِّصْ نَفْسَهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَسِيحَ مُخْتَارَ اللهِ» (لو23: 35).
يروي لنا القديس غريغوريوس اللاّهوتي -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- بكلمات مؤثِّرة ينتفض من هولها القلم، ما حدث مع الكاهن الشيخ مرقص، من أهل الرستن، إذ يكتب: “كان يُقاد ويُسحب سحبًا. يسحبه الأدنياء من كلّ سنٍّ، بل قُل من كلّ المراتب الاجتماعيّة العالية والدنيا. نساءً ورجالاً، شبابًا وشيبًا. الكلّ كانوا يتبارون ويبالغون في القوّة والقحة والفظاظة ضدّ إنسانٍ واحدٍ في ساحة الشهادة، يثبت ويصمد فيغلب مدينة بأسرها وحده. كانوا يجرّونه من ساحةٍ إلى ساحةٍ، يسحبونه بشعره، حتّى لم يبق منه عضوٌ سليمٌ من الألم والأذى. ولم تبق إهانة أو شتيمة لم تنصبّ عليه من أولئك الذين كانوا ينفذون فيه التعاذيب كما في ميترا. كان يُرفع مُعلَّقًا برجليه ويُنْخَس جسمه بأقلامِ قصبٍ حادّةٍ، تجعل مأساته لهوًا ولعبًا. جعلوا يضغطون جنبيه حتّى تتأذّى عظامه إلى حدّ التكسُّر، ويثقبون أذنيه بخيوطٍ صوفيّةٍ دقيقةٍ ويشرمونها شرمًا. ثمّ علّقوه عاليًا في سلٍّ ودهنوا السلّ وجسمه بالعسل والحلوى حتّى تلسعه النحل والزنابير، والشمس تنصبُّ عليه بأشّعتها المحرقة في وسط النهار. وهنا أيضًا شيءٌ يؤثِّر في الذكر والتسجيل، هو أنّ الشيخ، بل الفتى الشجاع في الجهاد، كان يصنع إشارة الصليب، ويمجّد الصليب، وكان يرى نفسه من عَلُ، كأنّه في قدّاسٍ، وليس في نكبةٍ وشدّة!!”.
مثل تلك الأمثلة أكّدت بقوّةٍ، كما كتب القديس غريغوريوس، أنّ:
مُلكُ المسيح لن يتوقّف
ولو جُنّ الأعداء ضدّه
لقد كتب أحدهم متهكِّمًا ومُتعجِّبًا: “ربنا موجود!!” بعد حادث الإسكندريّة. وكأنّه يقول: كيف هو موجود وهو غير قادر على حمايتكم.. حقًا إنّ ربنا نحن المسيحيين موجود، لا ليدخل في صراع مع الفانين على أجساد مآلها للتراب.. إنّه ليس كآلهة اليونان يتصارع على بسط نفوذه بإراقة الدماء وإرهاب باقي الآلهة.. إلهنا لا ينفعل ولا يستشعر خطرًا ولا يُفاجَئ بالأحداث، لأنّه عالم بكلّ شيءٍ وهو يتعجّب من رغبة البشر في وضعه داخل عالمهم بقانونهم القائم على منطق الغاب: البقاء للأقوى!!
إلهنا يقف على شاطئ نهر الحياة ليتسقبل محبّيه ويورثهم ملكوتًا لا يزول..
لا يمكن لبشرٍ أن يضع للمسيح طريق الخلاص وطريقته؛ فهو الإله العالم بكلّ شيء.. الإله فوق الزمني..
إن كان خلاص المسيح لأبنائه دائمًا بوقف الألم، سيتوقّف معه المجد!! إن وهب لأحبّائه راحة على الدوام، سينضب سرّ الصليب!!
فلنتخيّل أنّ الله قد أوقف الألم عن الكنيسة منذ نشأتها، هل كنّا سنحتفل بشهادة بولس وصلب بطرس وتمزيق مرقص وتقطيع مارجرجس وحرق بوليكاربوس والتهام الوحوش لإغناطيوس.. لقد أحبّوا الضيق والشهادة لينالوا المجد، ومن إيمانهم استلهمنا قوّة حياة وقوّة موت لنصمد وسط ضيقات العالم الحاضر. إنْ طالبنا الله بوقف طَرْقَات الألم عن أبناءه فرّغنا كنائسنا من قدّيسيها ورجالها الأشدّاء الذين ذبحوا أجسادهم طواعيّة بحبّ الثالوث قبل أن يذبحها أعداءهم. كلُّ الإنجيل قائم على سرّ الموت والقيامة.. سرّ الألم والمجد.. إنّه سرّ المسيح المائت / القائم. هل نبحث عن إنجيلٍ آخر؟؟ أم نريد إنجيلاً مُجمَّلاً بنقوش الذهب نقرأه في أوقات فراغنا معتقدين أنّنا بذلك مؤمنون!!!
أؤمن بالشمس ولو كانت غير مشرقة!
أؤمن بالمحبّة وإن كنت لا أشعر بها!
أؤمن بالله ولو كان صامتًا!!
(عن نقشٍ لسجينٍ على جدار زنزانته)
صمت إلهنا بلاغة أبديّة، وجهالته في عين الآخرين حكمة علويّة، وضعفه في نظر البعض هو محبّة متأنيّة.. فهل نفهم لغته وحكمته ومحبّته؟؟
إن أحببنا المسيح، أحببنا حياته وجراحه وموته وقيامته ومجده.. إن أحببنا المسيح دعوناه ليسكن فينا ليضع هو قواعد سكناه.. محبّتنا له لا تُجزِّئه إلى مسيح القدرة والقيامة واللُّطف والمعجزات والتعاليم السامية، ومسيح الألم والإهانة والصلب والقبر.. هو مسيحٌ أوحد.. إلهٌ أوحد.. إنْ قبلناه قبلنا طريقته ليُحرِّرنا من ذواتنا؛ فخلاص المسيح لنا يكمن في تحريره لنفوسنا وإعدادها لملكوته..
لم يُهدِّد المسيح صالبيه بنار تنزل من السماء لتبيد الأعداء، بل حينما كانت تلك طلبة تلاميذه قال لهم: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا!. لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ» (لو9: 55، 56). روح الله يغفر للمسيئين لأنّه يوجِّه البصيرة للمجد. أمام المجد تُنسَى الإساءة بل وتصبح تلك الإساءة عينها قوّة تضرُّع من أجل الأعداء!!!
يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ
الربّ يسوع (لو23: 34)
يَا رَبُّ لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ
الشهيد إستفانوس (أع7: 60)
حينما كان اليهود يرجمون يعقوب البّار، نادى واحد من الكهنة قائلاً: “قفوا ماذا تفعلون، إنّ البّار يُصلِّي من أجلكم”. وقتها لم يحتمل الشيطان، فتقدَّم أحد الشباب وضربه بهرّاوة خشبيّة على رأسه لئلاّ يُصلِّي!!!
لقد صدر حكمٌ بالإعدام على شخص مسيحي في رومانيا، أثناء الثورة الشيوعيّة، وقبل التنفيذ سُمح له بمقابلة زوجته، فكانت كلماته الأخيرة لهم كما يلي: “لا بد لك أن تعرفي أنّي أموت وأنا أحبّ هؤلاء الذين يقتلونني. إنّهم لا يعلمون ماذا يفعلون. طلبتي الأخيرة لكم أن تحبّوهم أنتم أيضًا. لا تكن هناك مرارة في نفوسكم من جهتهم لأنّهم يقتلون الشخص الذي تحبّونه.. سوف نلتقي في السماء”. لقد أثّرت هذه الكلمات في ضابط البوليس السرّي الذي حضر اللّقاء، وفيما بعد أصبح مسيحيًّا بل وسُجِنَ من أجل الإيمان.
لقد أرسل القديس إغناطيوس الأنطاكي رسالة إلى أهل أفسس قبيل استشهاده، قال فيها:
صلّوا بلا انقطاع من أجل الآخرين
لأنكم تقودونهم إلى الربّ على رجاء التوبة
افسحوا لهم المجال ليتثقّفوا في مدارس أعمالكم
واجهوا غضبهم بالوداعة
وتبجُّحهم بالدّعة
وشتائمهم بالصّلاة
وضلالهم برسوخ الإيمان
وفظاظة أخلاقهم بدماثة الطبع
ولا تردّوا لهم شرّهم بشرٍّ
كونوا لهم أخوة بالرّحمة
ولنحاول أن نتشبّه بالسيّد
ولنتبارى في حمل الظلم والمهانة والاحتقار
وفي تعليق من أحد الأصدقاء، قال: “مقولته تلك لم تُقَل أثناء تأمُّل روحي في زاوية هادئة، ولكنّها قيلت وسط صليل سيوفٍ، وصراخ يموج باللّعنات والشتائم”. وكان تعقيبي على كلماته أنّ هذا يثبت أنّها كلمات الروح، وتعليمه لكلّ مسيحي.
أن نغفر تلك فرصّة للتعليم كما يراها القديس غريغوريوس اللاّهوتي، إذ يقول: “فلنسمو ونرتفع عن أولئك الذين ظلمونا. ليتضّح للملأ ماذا يُعلِّم الشيطان للوثنيّين، وماذا يُعلِّمنا المسيح، وكيف يربينا المسيح. أجل لنغتنم الفرصة للتعليم”. بذلك تتحوّل آلامنا، بالغفران، إلى كرازة بالإنجيل.
تلك الرؤية المسيحيّة “فوق قدرات البشر”؛ قد يصرخ البعض!!! بالفعل هي كذلك، ولكن النعمة النابتة من مرارة الألم ترفع قدراتنا فوق إمكانيات الجسد والنفس المحدودة. الحبّ المسيحي لا منطقي لأنّه يفوق المنطق. الحبّ المسيحي لا يعرف إلاّ الغفران من فوق الصليب وسط شماتة وهزء وسخريّة الأعداء. لا نلومن الأعمى على تهكّمه على لاواقعيّة النور.. هو لا يعرف النور لأن الظلمة هي موطنه.. لا نستطيع أن نغفر للأعداء بقرارٍ، ولكن بتضرُّع وصراخ لروح الله.
تَوَكَّلُوا عَلَى الرَّبِّ إِلَى الأَبَدِ لأَنَّ فِي يَاهَ الرَّبِّ صَخْرَ الدُّهُورِ
إش26: 4
ولعلّ هناك في عصرنا الحالي مَنْ يرى في الغفران الإنجيلي حياديّة ماسخة لا تلائم عصر الانتفاضات الشعبيّة وصراخ الحناجر بأفظع الكلمات طلبًا لحقٍّ مُهدر ودمٍ نازف!!!.. إنه فرار من الصليب!!!
إنّ حضور الله كان ملموسًا جدًّا أثناء التعذيب
من أجل تلك البلايا
أحببنا نفوس الصين أكثر،
وصلّينا لمن كانوا يُعذِّبوننا
امرأة مسيحيّة ممّن تألموا من أجل المسيح في الصين
تلك صلاة نيقولاي فليميروفيتش، الأسقف الصربي الذي تكلّم بشجاعة ضدّ النازية، فأعتقل إبّان الحرب العالميّة الثانية، إذ يقول:
الأعداء قادوني إلى عناقك أكثر مما فعل أصدقائي
أصدقائي ربطوني بالأرض
فيما أعدائي حلّوني من الأرض وبعثروا كل مطامحي الدنيوية
أعدائي قد غرّبوني عن الحقائق الدنيوية
وجعلوني طارئًا ومقيمًا في هذا العالم غير مرتبط به
كما يجد الحيوان المُطارَد مخبئًا أكثر أمانًا من الحيوان غير المُطارَد
كذلك أنا، لأحمي نفسي من أعدائي
وجدتُ ملاذًا مأمونًا عندما التجأت إلى هيكلك
حيث لا الأصدقاء ولا الأعداء يقدرون على تهديد نفسي
لذا يا ربُّ بارك أعدائي ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضًا
ليس أنا، بل بالأحرى هم، مَنْ اعترف بخطاياي أمام العالم
لقد جلدوني عندما تردّدت أمام الجلد
لقد عذّبوني كلّما حاولت تجنُّب العذابات
لقد وبّخوني في حين أنّي تملّقتُ نفسي
لقد ضربوني فيما كنتُ أمدح نفسي من الجهل
فبارك أعدائي يا ربُّ ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضا
في كلّ مرةٍ قدّمتُ نفسي على أني حكيم كانوا ينادونني بالأحمق
في كلّ مرةٍ تقدّمت بها مثل قويٍّ، كانوا يسخرون منّي وكأني قزمٌ
كلّما تمنّيت أن أقود آخرين، كانوا يدفعونني إلى الخطوط الجانبيّة
كلّما حاولت أن أُغني نفسي، كانوا يمنعونني بيدٍ من حديد
كلّما فكّرت بأني سوف أنام بسلامٍ، كانوا يوقظونني
في كلّ مرةٍ كنت أحاول أن أبني بيتًا لحياةٍ مديدةٍ هادئةٍ،
كانوا يطردونني منه ويهدمونه
في الحقيقة، إنّ أعدائي قد حلّوني من هذا العالم
ومدّوا يديّ لألامس هُدب ثوبك
لذا، بارك أعدائي يا ربُّ ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضًا
باركهم يا ربُّ وكثّرهم! كثّرهم واجعلهم أكثر قساوة عليّ
ليكون جريي إليك بلا رجعةٍ
ليتحطّم كلّ رجاء بالإنسان، كما تتحطّم شبكة العنكبوت
ليحكُم السلام المُطلَق على نفسي
ليصير قلبي قبرًا لأخويّ الشريريْن: العجرفة والغضب
فأخبِّئ كلّ كنوزي في السماوات
وأصير مؤهَّلاً للتحرُّر إلى الأبد من وَهْم الذّات
الذي أسرني في الشبكة المميتة لهذه الحياة الخادعة
الأعداء علّموني، ما يتعلّمه المرء بصعوبةٍ،
أنّ ما من عدو للإنسان في هذا العالم إلاّ نفسه
وأنّ الإنسان يكره أعداءه عندما يفشل في معرفة أنّهم ليسوا أعداء
بل أصدقاء قساة وبلا قلبٍ!!
فعلاً، من الصعب عليّ أن أخبر مَنْ الذي نفعني أكثر من الآخر
أو آذاني أكثر من الآخر: الأعداء أم الأصدقاء
فبارك أعدائي يا ربُّ ولا تلعنهم! فأباركهم أنا أيضًا
إنّ الإنجيل وكلماته ووعوده عزاء حقيقي للنفس المجروحة وقوّة دافعة للواقع المتلعثم في الخطيئة والإثم. لم يعدنا المسيح بجنائن بل بدماء. لم يترك أرضنا إلاّ من فوق صليب ليعلن أن الصليب هو خنجر العالم لطعن المسيحيين الحقيقيين..
ليست تلك مطالبة بمغفرة خياليّة ومناداة بُحبٍّ حالم، فالحب يتولّد كما بمخاض، يخرج ومعه صديد الكراهيّة العفنة. فالحبّ الحقّ يصارع في تلابيب القلب حتّى ينتصر. يخرج كلمات لا تطاوعها المشاعر حتى يتحوّل إلى مشاعر توجِّه الحياة. لن نستطيع أن نلتقي النعمة وقلوبنا سوداء.. لن نستطيع.. من لا يحمل صليبه لا يقدر أن يكون تلميذًا للمُخلِّص.. قد يريد ويشتهي ولكنّه لا يقدر، ذاك هو تعبير المسيح نفسه. في الحقيقة نحن لا نملك خيارًا؛ فقبول الغفران والحبّ لتسكن النعمة أو الاصطدام بعنفوان الكراهيّة ليملك الشيطان.. لا خيار ثالث.
لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ:
بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ.
بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ
إش30: 15
ولكن الغفران هو مرحلة تتجاوز قبول الألم.. هل يطالبنا الإنجيل بعدم الأنين أثناء الألم؟؟؟
الإنجيل لا يُسفِّه ألمنا البشري ولا يُكمِّم صرخات قلوبنا أمام أنهار الدماء، ولكنّه يُعطي الطريق لتجاوزه. فقط بالنعمة نتجاوز الألم، ذاك هو الطريق الأوحد. وطريق النعمة: القلب النقي.
ذاك هو المحكّ الحقيقي الذي ننحصر في أركانه الآن؛ كيف نغفر ونحب وسط أعاصير الكراهية المحيطة بنا ووسط رائحة الموت التي تملأ أنوفنا ووسط مذاقة الغضب التي تستوطن حناجرنا. تلك هي التجربة؛ إن نجونا بالحبّ صرنا مسيحيين على شاكلة المسيح.. على صورته الوديعة، وإن قيُّدنا بالكراهيّة صرنا صورة للشيطان بقبحه.
اسبني يا ربّ فأصير حرًّا
أجبرني على تسليم سيفي فأكون منتصرًا
أغوص في مخاوف الحياة حين أقف وحدي
احبسني بين ذراعيك فيشتدّ ساعدي
جورج ماثيسون
ليت النعمة تعبر بنا تلك التجربة المريرة لنكون مشابهين صورة ابنه متجدّدين على شاكلته، لنعلنه كما هو للعالم، لعودة العالم إلى الله.
سنطرح أمامك كلّ “لماذا” تدور في عقولنا
سنذيبها في لهب الإيمان
سنغرقها في مياه الحب
سنطرحها في أعماق النسيان
سنجعلها تجثو أمامك لتصير “نعم” و“حقًا” و“ليكن”
سنجعلها تقول:
آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ
رؤ 22: 20