دانيال الذي عرف كيف يفتح ويغلق
سفر دانيال
إذا أردت أن تعرف مقدار عظمة إنسان
لا تسل عن ماله وثروته
لا تسل عن علمه وثقافته
لا تسل عن مقامه ومكانته
لا تسل عن أصله ونسبته.. بل سل عن إيمانه
فالرجل العظيم هو رجل الإيمان حتى ولو كان إيمانه بمقدار حبّة خردل.
سرّ عظمة جورج مولر ـ الإيمان
بالإيمان امتدّت يداه إلى ينابيع الغنى فارتوى وأروى
سرّ عظمة مارتن لوثر ـ الإيمان
بالإيمان حقق نصراً عظيماً فخلُص وخلّص
سرّ عظمة إبراهيم ـ الإيمان
بالإيمان تغرّب وتجرّب. وبالإيمان تبارك وبارك
سرّ عظمة أخنوخ ـ الإيمان
بالإيمان سار مع الله.. وأرضى الله.. فنقله الله
وكذلك هو سرّ عظمة دانيال ـ التلميذ الذي كان الربّ يحبّه في العهد القديم. لذلك لا غرابة إن رأينا دانيال مع الرعيل الأول من رجال الإيمان الذين شرّفهم الوحي بتدوين أسمائهم على لائحة الشرف المعروضة في الفصل الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين. فمع أنه لم يذكر باسمه، غير أنّ الوحي عناه هو بالذات حين قال:
"بالإيمان سدّوا أفواه أسود.. "
فهو عملاق من عمالقة الإيمان
وبطل من أبطال الاتّكال
وكوكب من كواكب الثقة
وطود من أطواد اليقين
وإليك الآن أيها القارئ مظاهر الإيمان في حياة هذا الشاب البطل.
1- دانيال صَبَر: لقد صبر صامتاً صامداً أمام الأحداث التي قُدّر له أن يجتازها.
لم يتذمّر، ولم يتأفّف، ولم يشكَ بل وضع يده على فمه لأنّ الربّ قد فعل. وكان يؤمن أنّ الربّ الذي لم يتركه لن يتركه أبداً..
اختبر الذلّ بعد المجد ـ سموّ الأمير صار أسيراً ذليلاً
اختبر التّعب بعد الرّاحة ـ سار مع لا يقلّ عن 1500 كيلومتراً
اختبر الجوع بعد الشبع ـ عومل كأحد المسبيين الأسرى
اختبر الحزن بعد الفرح ـ لقد سخروا منه وهزؤوا به
اختبر الفراق وما أمرّه ـ ترك أهله وأحبّاءه ومعارفه ووطنه
اختبر العداء بعد الصّداقة ـ فكم من مؤامرة حيكت ضدّه
لكنّ دانيال صبر على الرّغم من هذه جميعها. لماذا؟
لأنه آمن بصحّة كلمة الله.. لأن الله قال بتشتيت شعبه إن لم يطيعوه،
لأنّه أدرك أن كلّ الأشياء تعمل معاً للخير.. فلولا بابل لما عرفنا دانيال،
لأنه عرف كيف يأخذ إلهه معه.. عكس الكثيرين من الشبان اليوم.
2- دانيال صمّم: لم تكن حياته على الهامش كبعض المؤمنين الذين تتقاذفهم التيارات بل كان رجل عزمٍ وتصميم.
كان صاحب مبدأ وعقيدة لا يحيد عنهما. فقد صمّم أن يكون أميناً للربّ (والأمانة من الإيمان). تعهّد بذلك مرة وإلى الأبد. ولولا تصميمه هذا لانجرف مع التيار. فما أكثر المغريات في بابل لا سيّما لشاب في مقتبل العمر كدانيال.. إلاّ أنه نبذها نبذ النواة وضرب بها كلّها عرض الحائط.
لم تغره بابل بأبراجها العالية، وهياكلها العظيمة، وتماثيلها الفخمة، وملاهيها ومسارحها وجنائنها المعلّقة، وأنهارها السلسبيلة.
لم تغره مباهج الأمور الدنيوية بما فيها من جاه ومال وسلطان.
لم تغره الأكثريّة.. بل آثر أن يكون بجانب الحقّ ولو كان مع الأقليّة.
لم يغره مديح الناس.. بل كان يفضّل الموت على أن يخون الربّ.
لم يغره طعام الملك ومشروبه.. لأنهما كانا ضدّ شريعة إلهه.
لم يغره مسكنه الجديد ولا اسمه الجديد ولا عمله الجديد ولا لغته الجديدة.
آثر الانفصال عن العالم وما فيه ليكون على اتّصال دائم بإلهه وأميناً له. وقد صمّم أن يكون أميناً أيضاً لرفاقه. كان يدرك أن الفتيان الثلاثة مرتبطون به، وأن نهجهم في الحياة سيكون على غرار نهجه سيّما وأنّه كان أكبرهم وقائدهم. لهذا اتّخذ موقفاً جازماً وحازماً إزاء الخطية والعالم. نعم لقد أظهر أمام رفاقه:
شجاعةً نادرة
وإيماناً رائعاً
ومحبةً عظيمةً
وكانت النتيجة أن رفاقه تحدّوا الملك بعد أن تحدّاهم الملك.
3- دانيال صلّى: كان يصلّي ثلاث مراتٍ يومياً سواء وُجدت أزمات أم لا..
وكان إذا صلّى يهزّ عرش الله من قوّة الإيمان.
صلاة التصميم: لا شكّ أنه عندما جعل في قلبه أن لا يتنجّس بأطايب الملك.. صلّى شيئاً كهذا: "أتعهّد يا إلهي أن لا أخالف شريعتك وإرادتك ولو كلّفني ذلك حياتي". وقد نفّذ تصميمه هذا ولم يخشَ أمر الملك.
صلاة طلب المعرفة: طلب من الملك وقتاً لكي يتمكّن من تعريفه السرّ. وذهب وأخبر رفاقه بالأمر. فجثا الفتيان الأربعة على ركبهم وأمسك كلّ منهم بقائمة من قوائم العرش الأربع وراحوا يهزّونه من حرارة صلواتهم، وإيمانهم بالإله القيوم. وما كان من الربّ إلاّ أن استجاب وكشف السرّ لدانيال المحبوب.
صلاة لأجل أصدقائه: أصدر الملك أمره بطرح الفتيان الثلاثة في أتون النار. ومع أن دانيال كان في "باب الملك" لكنه لم يتوسّط لرفاقه عند الملك. ولماذا يذهب إلى الملك وهناك ملك الملوك؟ هم دخلوا أتون النار وهو دخل أتون الصلاة. وأستطيع أن أرى دانيال رافعاً يديه إلى السماء ويقول "يا ربّ قف إلى جانبهم ونجّهم". وإذا بالربّ ينـزل ليتمشّى بينهم وينقذهم من موتٍ أكيد".
صلاة التحدّي: حاك أعداؤه مؤامرةً ضدّه لكي يقضوا عليه. وظنّوا أنهم نجحوا في خطّتهم. لكنّ دانيال الذي كان قلبه ثابتاً على الربّ، لم يعبأ بهم. فراح وفتح نوافذه وقلبه نحو أورشليم.. وصلّى.. فكان نصيبه مع الأسود. لكنّ الربّ نجّاه وأنقذ حياته. وهل نسي الربّ أمناءه؟
إن الذي يعرف كيف يفتح نوافذ الصلاة يستطيع أن يغلق أفواه الأسود.