منتدى الفرح المسيحى  


العودة  

الملاحظات
  رقم المشاركة : ( 1 )  
قديم 16 - 05 - 2012, 07:59 PM
الصورة الرمزية Magdy Monir
 
Magdy Monir
..::| VIP |::..

 الأوسمة و جوائز
 بينات الاتصال بالعضو
 اخر مواضيع العضو
  Magdy Monir غير متواجد حالياً  
الملف الشخصي
رقــم العضويـــة : 12
تـاريخ التسجيـل : May 2012
العــــــــمـــــــــر : 58
الـــــدولـــــــــــة :
المشاركـــــــات : 51,017

قصـة إيفان أكسينوف








قصـة إيفان أكسينوف
إيفان ديمتريش أكسينوف، تاجرٌ في ريعان الشباب، يتمتع بثروة طيبة لأنه يمتلك منزلاً، فضلاً عن تجارته الواسعة التي يُديرها في محلين من المحلات التجارية التي تزهو بها مدينة فلاديمير. كان أكسينوف يتميز بجمال الطلعة، فقسمات وجهه تروق للعيون، وشعره المجعد يميل إلى الصُّفرة، يكتسب قلوب الآخرين لِمَا يتصف به من حب المرح فضلاً عن شغفه بالغناء. في أيام شبابه الأولى اعتاد الشراب، وتحت تأثير الخمر كان يثير الضجيج والصخب. وساعده على إدمان الخمر أن المال كان يجري بين يديه كثيراً وفيراً، إلاَّ أنه بعد الزواج أقلع عن معاقرة الخمر إلاَّ في فترات متباعدة.في أحد أيام الصيف، عقد أكسينوف عزمه على التوجُّه إلى سوق نيزني، وأخذ يودِّع أسرته استعداداً للرحيل، ولكن زوجته استمهلته بيدها وهي تقول: "إيفان ديمتريش، أرجو أن تستمع لي، دعك اليوم من الذهاب إلى هذا السوق. يمكنك أن تؤجِّل ذلك إلى يومٍ آخر". ثم نظرت في عينيه التي ارتسم عليهما التساؤل، واستطردت تقول: "لقد رأيتُ حلماً عنك، إنه حلم مُقبض".ولكن أكسينوف أجابها بمرحه المعهود، وفكاهته التي لا تُفارقه: "ها ها، أنت خائفة لئلا تزوغ عيناي في السوق، أو أرتكب بعض الحماقات. اطمئني، يا عزيزتي، لن أنحرف عن جادة الصواب".ولكن زوجته عادت في نبرات جادة تقول: "لا أعلم بالضبط ما سر هذا الخوف؟ كل ما أعلمه أن الضيق يملأ قلبي بسبب هذا الحلم. لقد رأيتك عائداً من المدينة، ولكنك عندما خلعت قلنسوتك، رأيت شعرك وقد خطَّه المشيب".وعاد أكسينوف يضحك، ويُعاتبها قائلاً: "إن هذه علامة الحظ السعيد. سوف أبيع كل ما عندي من البضائع، وأُحضِر لك بعض الهدايا من السوق".ثم أسرع يُقبِّل أطفاله، ومضى في طريقه. وبعد أن قطع مسافة ليست بقليلة، وقارب منتصف الطريق، التقى بأحد التجار من أصدقائه، ولم يُخْفِ عنه سروره برؤياه. وسارا سويّاً حتى بلغا أحد الفنادق، واعتزما أن يقضيا ليلتهما فيه. وبعد أن تناولا أقداح الشاي، ذهبا للنوم في حجرتين متلاصقتين.لم يكن من عادة أكسينوف أن يتأخر في النوم، لا سيما إذا كان على سفر، لأنه يُفضل الرحيل باكراً، حتى يستقبل هواء الفجر العليل البارد وهو يهب رقيقاً على الكون. ولهذا فقد استيقظ قبل الفجر بقليل، وأيقظ سائق عربته، وأمره بربط الجياد إلى العربة، ثم عَبَرَ الفندق واتجه إلى كوخ في مؤخرته اتخذه صاحب الفندق مقراً له، وأيقظ أكسينوف صاحب الفندق، ودفع ما عليه من حساب، ثم استأنف رحلته.وقطع ما يقرب من خمسة وعشرين ميلاً، ثم توقَّف قليلاً ريثما تنال الجياد شيئاً من الطعام في إحدى الحانات، ووجد مقعداً في مدخل الحانة جلس عليه، ثم نهض بخطوات متثاقلة لكي يأمر بكوب من الشاي. وفي هذه الأثناء، أخرج قيثارته وبدأ يُداعب أوتارها، وانسابت من بين يديه أنغام عذبة تستريح إليها النفس في هذا الهدوء الشامل.ولكن قطع هذا السكون، عربة تجرها الخيول، وتدوِّي أجراسها في أرجاء المكان. ما إن وصلت إلى الحانة، حتى وقفت وترجَّل منها ضابط يتبعه جنديان. واتجه الضابط مباشرة إلى أكسينوف، يسأله عن اسمه، وعن البلد التي أتى منها. ولم يفهم أكسينوف معنى لهذا. إلاَّ أنه أجاب أسئلة الضابط في بساطة، وختم جوابه قائلاً: "تفضل تناول معي قليلاً من الشاي". ولكن الضابط مضى يوجِّه اسئلته: "أين أمضيت الليلة السابقة؟ وهل كنت وحيداً؟ أم كان يُرافقك تاجر آخر؟ وهل رأيت هذا التاجر في الصباح؟ ولماذا تركت الفندق قبل الفجر"؟!واستبدَّت الحيرة بأكسينوف، وهو لا يجد تعليلاً لهذا التحقيق. ومع ذلك وصف للضابط كل ما حدث بالضبط. ولم يجد بُدّاً من أن يوجِّه سؤالاً للضابط لكي يفهم ما يدور حوله، فقال: "ولكن لماذا توجِّه لي كل هذه الأسئلة؟ كأنني لص أو قاطع طريق! إنني مسافر لبعض شئوني الخاصة، ولا أستطيع أن أفهم الدافع وراء هذا السيل من الأسئلة".وعند ذلك أشار الضابط إلى الجنديين اللذين يتبعاه، وهو يواصل حديثه مع أكسينوف: "إنني ضابط الشرطة في هذه المقاطعة، وأسألك هذه الأسئلة لأن التاجر الذي كنت تُصاحبه بالأمس، وُجِد قتيلاً في الفندق، وقد قُطِعَت رقبته. وعلى هذا تقتضي الإجراءات أن نفتش حقائبك".ودخل ثلاثتهم إلى الحانة، وقام الضابط ومعه الجنديان بفتح حقائب أكسينوف، وقلَّبوا محتوياتها. وفجأة صاح الضابط، وهو يُخرج سكيناً طويلاً حاداً، ويثبِّت عينيه على عيني أكسينوف: "لمَن هذا السكين"؟ ووقف أكسينوف مبهوراً، وفغر فاه عجباً ودهشة، وحملق بعينيه في السكين وهو لا يكاد يُصدِّق ما يراه. فقد كانت السكين مُلطَّخة بالدماء، والضابط يُخرجها من حقيبته. وسَرَت في أوصاله رعدة عنيفة، وأخذ منه الخوف والهلع كل مأخذ، ووقف مأخوذاً لا يقوى على النطق. وعاد الضابط يلحُّ في السؤال، وآثار الدماء واضحة: "كيف أنت"؟وفتح أكسينوف فمه يحاول الكلام، ولكن الكلمات ماتت على شفتيه، ولكنه تمتم متلعثماً: "أنا، لا أعلم، ليست ملكي"!!وعاد الضابط يُشدِّد الخناق على أكسينوف قائلاً: "في هذا الصباح وُجد التاجر في فراشه، وقد قُطِعَت رقبته. وأنت هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يرتكب هذه الجريمة البشعة. كل الدلائل توجِّه أصابع الاتهام إليك. كان البيت مقفلاً من الداخل، ولم يكن في الداخل آخر سواك. ثم هذه السكين الملوثة بالدماء وجدناها في حقيبتك ووسط أمتعتك. وهوذا وجهك وسلوكك ينمان عليك! يحسن بك ألاَّ تراوغ، وأن تعترف. كيف قتلته؟ وكم من المال سرقت منه"؟وأقسم أكسينوف أنه لم يفعل شيئاً من ذلك، وأنه لم يَرَ التاجر بعد أن تناولا الشاي معاً، وأن معه ثمانية آلاف روبل (وهي العملة الروسية)، هي ملكه الخاص. أما السكين فلا يعرف عنها شيئاً. كـان صوتـه يرتعش، وعَلاَ وجهه شحوب شديد، وارتعدت فرائصه خوفاً، كأنه هو المذنب الجاني.ولم يكن في كل ما قاله أكسينوف ما يُقنع الضابط ببراءته، وهو يرى الأدلة دامغة ضده. فأصدر أمره إلى الجنديين بإحكام الوثاق حول أكسينوف وإيداعه في العربة. وبينما كان الجنديان يربطان قدمي أكسينوف إلى بعضهما، ويقذفان به إلى داخل العربة؛ رفع أكسينوف يُمناه ورسم علامة الصليب على وجهه، وانهارت قواه، وانخرط في البكاء بصوت مرتفع.صودر ما كان معه من بضائع وأموال، وأُرسل إلى أقرب مدينة، حيث أودعوه السجن. وبدأت سلسلة من التحقيقات المضنية، تناولت أخلاقه وسلوكه في (مدينته) فلاديمير. وقد شهد زملاؤه، التجار والجيران وغيرهم من سكان المدينة، أنه اعتاد في سالف الأيام أن يشرب الخمر، وأن يُسرف في الوقت والمال. ولكنه كان رجلاً طيباً دمث الأخلاق والطباع. ولما حان وقت المحاكمة، وُجِّهت إليه تهمة قتل التاجر وسرقة عشرين ألف روبل


كانت زوجته في يأس مُطبق، وانتابتها الحيرة، لا تعلم أيهما تُصدِّق! كان أطفالها ما زالوا في طور الطفولة المبكِّر، وأحدهم كان رضيعاً. أخذتهم جميعاً، ويممت وجهها شطر المدينة، حيث كان زوجها خلف أسوار السجن. في بادئ الأمر، لم يُسمح لها برؤيته، ولكنها - بعد توسُّل وإلحاح - حصلت على إذن من السلطات المختصة، فدخلت لزيارته. وما كادت ترى زوجها في ملابس السجن القاتمة، يرسف في الأغلال والسلاسل، سجيناً بين اللصوص والمجرمين، حتى غامت عيناها، وسقطت - من هول الصدمة - على الأرض مُغشياً عليها، ولم تسترد وعيها قبل فوات وقت طويل.ولما أفاقت، جذبت أطفالها إليها، وجلست بالقرب من زوجها، تحدِّثه عما يجري في بيتها، وتسأله عمَّا حدث له. فأخبرها بكل شيء، لم يترك شاردة أو واردة إلاَّ رواها. ثم سألته زوجته: "وماذا يمكننا أن نفعل الآن"؟ وأجابها قائلاً: "يجب أن نرفع إلى القيصر التماساً، حتى لا يسمح بالقضاء على رجل بريء".ولكن زوجته أخبرته أنها قدَّمت هذا الالتماس بالفعل، ولكن مصيره كان الرفض، وطأطأ أكسينوف رأسه ولم يُحِر جواباً، وأطال النظر إلى الأرض.وعادت زوجته تقول:- "ألم أقل لك؟! لم يكن ذلك الحلم عبثاً أو أضغاث أحلام. لقد رأيت الشيب يُكلِّل رأسك. أَلاَ تذكر؟ كان يجب ألاَّ تخرج في ذلك اليوم المشئوم".ثم مرَّت برفق على رأسه وهي تقول:- "حبيبي فانيا، قُل لزوجتك الحقيقة، هل أنت حقاً الذي فعلت هذا الأمر"؟فأجابها:- "حتى أنتِ أيضاً تشكِّين فيَّ"؟!وعند ذلك أقبل أحد الحرَّاس، وفي فظاظة وغلظة، أعلن لهم أن موعد الزيارة قد انتهى، فودَّع أكسينوف أسرته، لآخر مرة.وعندما غابوا عن عينيه، أخذ يسترجع كل ما دار من أحاديث. وعندما تذكَّر أنَّ حتى زوجته قد راودها الشك في أمره، قال لنفسه: "يبدو أنه لا يمكن لأحد أن يعرف الحقيقة إلاَّ الله وحده. له وحده أرفع شكواي، ومنه وحده أنتظر الرحمة".وبعد ذلك عزف أكسينوف عن كتابة الالتماسات، وفَقَدَ الأمل تماماً. ولم يجد أمامه طريقاً لراحة النفس سوى الصلاة والتضرُّع لله.وأخيراً، صدر عليه الحُكْم بالجلد والنفي إلى المناجم. وبعد أن تمَّ جلده بالسياط، والتأمت الجروح التي نجمت عنها؛ اقتادوه مع غيره من المحكوم عليهم بالسجن إلى سيبيريا.وقضى هناك ستاً وعشرين سنة، واستحال شعره أبيض كالثلج، ونمت لحيته واستطالت وغزاها المشيب. وتسللت من قلبه روح المرح، فتقوس ظهره وانحنى، واعتاد أن يمشي في بطء وتثاقل. لا يتكلَّم إلاَّ في القليل النادر. ولم ترتسم على شفتيه ابتسامة قط، ولكنه انصرف في أكثر الأحيان إلى عزائه الوحيد: الصلاة.وتعلَّم أكسينوف في السجن صناعة الأحذية، واستطاع بها أن يكسب القليل من المال، اشترى به كتاب "سِيَر القديسين"، وداوم المطالعة في هذا الكتاب، كلما سمح الضوء بذلك في السجن المُعتم. وفي أيام الآحاد كان يحث خُطاه إلى كنيسة السجن، حيث يقرأ الرسائل، ويشترك في إنشاد الألحان الكنسية بصوت رخيم، فقد كان صوته ما زال محتفظاً بجماله.وأُعجبت سلطات السجن بأكسينوف، بسبب وداعته. كما احترمه زملاؤه المساجين وأحبوه حتى أطلقوا عليه "الجد" تارة، ولقب "القديس" تارة أخرى. وكلما أرادوا أن يطلبوا شيئاً لأنفسهم من المسئولين، كان أكسينوف هو مندوبهم المتحدث باسمهم. وإذا حدث خلاف بينهم، أو نشب عِراك، كان يلجأ المختصمون إليه حتى يفصل في منازعاتهم، ويردُّ المياه إلى مجاريها.وانقطعت أخبار الأسرة تماماً عن أكسينوف، ولم يعرف حتى إذا كانت زوجته وأولاده على قيد الحياة، أم عبثت بهم أيدي الزمن وصل إلى السجن فريق جديد من المحكوم عليهم. وعندما حلَّ المساء، اجتمع المساجين القدامى مع زملائهم الجُدُد، يتعرَّفون عليهم، ويسألونهم عن المدن والقرى التي أتوا منها، والجرائم التي اقترفوها وحُكِم عليهم بسببها. وفي وسط هذه الجماعة، جلس أكسينوف على مقربة من النزلاء الجُدُد، ينصت إليهم، بينما أخلد هو إلى الصمت ونكَّس رأسه. وبين هؤلاء الضيوف، كان أحدهم طويل القامة، قوي البنية، وإن كان قد تخطَّى الستين من العمر، وقد نمت في وجهه لحية قصيرة حليقة قد غمرها الشعر الأبيض. أخذ هذا النزيل يتحدث إلى الآخرين عمَّا ارتكبت يداه، وأدَّى إلى القبض عليه.- حسناً، أيها الأصدقاء، كل ما فعلتُ أني أخذتُ حصاناً قد رُبط إلى عربته، فقُبض عليَّ، واتُّهمتُ بالسرقة. قلتُ لهم إني أخذتُ الحصان، لأني كنتُ في حاجة إلى الوصول إلى بيتي بأقصى سرعة، وكان في نيَّتي أن أُطلقه حتى يعود إلى صاحبه مرة أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان سائق العربة صديقاً لي، وهذا يؤكِّد أن كل شيء على ما يرام، وليس في الأمر جريمة ما. ولكنهم عزفوا عن سماع أقوالي، وأصروا أني سارق ولص مع أنهم فشلوا في الاستدلال على كيفية السرقة ومكانها. ومع ذلك، فالحقيقة أني قد أتيتُ هنا بعدل. لقد ارتكبتُ في يومٍ من الأيام ذنباً لم يكتشفه أحد، ولكن كان يجب أن أكون هنا منذ وقتٍ طويل. أما الآن فقد اقتادوني إلى هنا بلا ذنب ولا جريرة - ثم نَدَتْ عن صدره زفرة عميقة وهو يقول - إيه!! إنكم تحبون الأكاذيب التي أرويها لكم. في الواقع قد جئتُ إلى سيبيريا من قبل، ولكني لم أمكث طويلاً.ورفع أحدهم صوته متسائلاً: مِن أي بلد أنت؟واتجه بنظره نحو السائل وهو يقول: من فلاديمير. أسرتي منها، واسمي مكاري ويدعونني أيضا "سيمنتش". وما كاد أكسينوف يسمع اسم مدينته، حتى رفع رأسه، ووجَّه الحديث إلى السجين الجديد: قُل لي يا سيمنتش، هل تعرف شيئاً عن أحد التجار في فلاديمير، يُدعى أكسينوف؟ وهل هناك أحد من أسرته على قيد الحياة؟ - طبعاً أعرفهم. إن عائلة أكسينوف من الأثرياء، وإن كان أبوهم قد قُضِي عليه بالسجن في سيبيريا. يبدو أنه خاطئ مثلنا تماماً! وأنت أيها الكهل العجوز، ما الذي أتى بك إلى هنا؟ولما كان أكسينوف لا يستهويه الحديث عن نكبته، فقد آثر عدم الاستطراد في الكلام، فاكتفى بالتنهُّد وهو يقول: من أجل آثامي وخطاياي، قضيتُ حتى الآن ستاً وعشرين سنة في السجن.





وعاد السجين يسأل: وما هي هذه الخطايا؟ واكتفى أكسينوف بقوله: حسناً. لابد وأني كنتُ أستحق ذلك. وأَبَى أن يزيد على ذلك حرفاً واحداً، ولكن رفاقه تكفَّلوا بالكلام بدلاً عنه. فأخبروا السجين الوافد بتفاصيل الأحداث التي أدَّت إلى هذا المصير الحزين: قَتَلَ أحد المجرمين تاجراً، ووضع السكين وسط أمتعة أكسينوف، فصدر عليه هذا الحُكْم الرهيب. وعندما سمع مكاري سيمنتش كل هذا، أطال النظر إلى أكسينوف، وربت بيده على ركبتيه، وقال له في دهشة: حقاً! إن هذا الأمر عجيب وغريب! كم بلغت من العمر الآن أيها الشيخ؟وبدأ الزملاء يسألونه عمَّا أدهشه في قصة أكسينوف، ومع أن سيمنتش لم يُحِر جواباً عن ذلك، إلاَّ أنه لم ينفك عن ترديد هذه العبارة: إنه لأمر غريب حقاً، أن نتلاقى - يا أولادي - في هذا المكان.وتحركت كوامن الأشجان عند أكسينوف، وأخذ يسأل نفسه عمَّا إذا كان هذا الرجل يعرف القاتل الحقيقي. ولهذا بادره بقوله:- سيمنتش، ربما قد سمعت شيئاً عن هذا الموضوع، أو لعلك رأيتني من قبل؟- وكيف لا أسمع؟ لقد امتلأت الدنيا بالشائعات، ولكن هذا حدث منذ زمن طويل، وقد نسيت ما سمعت.- لعلك سمعت عمَّن قتل التاجر؟! وضحك مكاري سيمنتش وهو يقول: لا شك أن القاتل هو الذي ضبطوا السكين في حقائبه! لو كان هناك آخر خبَّأ السكين هناك، على رأي المثل، ليس هناك لص إلاَّ ويُقبض عليه. كيف يمكن لإنسان أن يضع سكيناً في حقيبتك، مع أنها موضوعة تحت رأسك؟ مثل هذا العمل كان لابد أن يوقظك.ولم تَفُت أكسينوف كلمات السجين، وأيقن في نفسه أنه هو القاتل. كيف عرف أن القاتل خبَّأ السكين في حقيبته؟! ومن أين يعلم أن الحقيبة كانت تحت رأسه؟! ثم نهض وانتحى بعيداً، يطلب الهدوء والعزاء في الصلاة.في هذه الليلة، لم يغمض له جفن. فقد شعر بالتعاسة تُخيِّم عليه، وتراءت أمام عينيه الصور والذكريات والأوهام. تذكَّر صورة زوجته وهو يودِّعها عندما همَّ بفراقها إلى السوق، تمثَّلها أمام عينيه حية بلحمها وعظمها، رأى وجهها وعيناها شاخصتان إليه، سمعها تتكلَّم وتضحك. ورأى أطفاله، ما زالوا صغاراً تماماً، أحدهم يتدثر بردائه، والآخر يسند رأسه الصغير إلى صدر أُمه، ثم تذكَّر نفسه في غابر الأيام، مرحاً طروباً. تذكَّر كيف جلس في مدخل الحانة يعزف على قيثارته سعيداً خالياً من الهموم، ثم أُلقي القبض عليه، ورأى المكان الذي جُلِد فيه، والجلاَّد يحيط به المتفرجون. القيود والأصفاد والمساجين، عبرت أمام عينيه السنوات الست والعشرون التي قضاها في السجن، والشيبة التي كلَّلت هامته قبل الأوان. عندما تذكَّر كل هذا، أحسَّ بكأس الشقاء تفيض تعاسة على كيانه كله، حتى استبدَّت به رغبة إلى التخلُّص من الحياة!ثم عاد يُفكِّر كيف كان هذا الوغد هو السبب في كل ما حلَّ به من شقاء وأحزان. وغَلِي الغضب في صدره على مكاري سيمنتش، واجتاحت قلبه رغبة عارمة في الانتقام، حتى ولو أدَّى ذلك إلى القضاء عليه.وعاد من جديد يُردِّد الأدعية والصلوات طوال الليل، ولكنه لم يستطع أن يردَّ السلام إلى قلبه العاصف. وعندما بدأ النهار، لم يقترب إطلاقاً من مكاري، بل لقد تحاشى النظر إليه أيضاً.ومضى أسبوعـان على هذا المنوال، لم يستطع خلالهما أكسينوف أن يذوق طعم النوم خلال ليالي القلق الطويلة. ولم يُبارحه ذلك الشعور الماضي بـالمرارة والتعاسة، تتنازع نفسه نوازع مختلفة حتى بـدا له أنه لا يعرف ماذا يفعل.وفي إحدى الليالي، بينما كان أكسينوف يجول حول السجن، استرعى التفاته أن بعض التراب يتدحرج خارجاً من تحت أحد الألواح التي يرقد عليها المساجين، فتوقَّف قليلاً حتى يستجلي حقيقة الأمر. وفوجئ بمكاري سيمنتش يبرز من تحت اللوح الخشبي، ونظر هذا إلى أكسينوف، وقد ارتسمت على وجهه علامات الرهبة والخوف.وحاول أكسينوف أن يمضي في طريقه دون النظر إليه، ولكن مكاري، أسرع إليه وأمسك بيده وهو يعترف أنه حفر حفرة تحت جدار السجن، وأنه يتخلَّص من التراب الذي يحفره بإخفائه داخل حذائه الطويل، ثم يُلقيه كل يوم في الطريق الذي يقتادون فيه المساجين إلى عملهم، ثم ختم اعترافه قائلاً:- كل ما أرجوه، أيها العجوز، أن تكتم هذا السر، فتهرب معي أيضاً. أما إذا راح لسانك يهذي بما رأيتَ، فأنت تعرف العقاب الذي يحل بمَن يرتكب مثل هذه الجناية: الجلد حتى يُفارق السجين الحياة. إذا حدث هذا فلابد أن أقتلك أولاً!وسَرَت في عروق أكسينوف موجة من الغضب، وهو ينظر إلى عدوه، ولكنه نَفَضَ يده بعيداً عنه وهو يقول:- لم تَعُد بي أدنى رغبة في الهرب، وليس بك حاجة أن تقتلني، لقد فعلتَ ذلك منذ زمن بعيد. أما عن سرِّك، فقد أفشيه أو لا أفشيه، كما يوجِّهني الله.وعندما اقتيد المساجين إلى العمل في اليوم التالي، لاحَظ الحرَّاس أن أحدهم يُلقي بعض التراب من حذائه. وفي الحال بدأ تفتيش السجن تفتيشاً دقيقاً. وسرعان ما اكتشفوا الحفرة، وأتى مأمور السجن، وأشرف على التحقيق مع جميع النزلاء بحثاً عن الجاني. وأنكر الجميع علمهم بأي شيء، والذين منهم كانوا يعرفون الحقيقة لم يفصحوا عنها، لأنهم يعرفون العقاب الرهيب الذي يحل بمكاري: الجلد المؤلم حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة.وفي محاولة أخيرة لمعرفة الحقيقة، التفت المأمور إلى أكسينوف - الذي كان موضع ثقة الجميع لأمانته - وقال له: إنك رجل عجوز صادق. قُل لي أمام الله: مَن حفر هذه الحفرة؟كان مكاري سيمنتش منتصب القامة، كما لو كان الأمر لا يعنيه إطلاقاً، عيناه لا تُفارقان وجه المأمور، لا تبدر منه بادرة تدل على الاهتمام بالموضوع، حتى أنه لم يلتفت كثيراً نحو أكسينوف.مضت فترة ليست بالقصيرة، لم يستطع أكسينوف خلالها أن ينطق بحرف واحد. كان يفكر: لماذا أتستر على هذا الشقي الذي حطَّم حياتي؟ دَعْه يدفع الثمن الذي يستحقه إزاء ما قاسيته أنا، ولكن لو تكلَّمت، سيُجلد حتى الموت، ومَن يدري فقد تكون ظنوني غير صحيحة، ثم ما الفائدة التي تعود عليَّ من موته؟ وعاد المأمور يسأل: حسناً، تكلَّم يا شيخ، وقُل الصدق: مَن الذي حفر تحت الجدار؟ونظر أكسينوف إلى مكاري سيمنتش، ثم أجاب:- لا أستطيع أن أتكلَّم، يا سيدي، إن الله لا يريدني أن أبوح بشيء، افعل بي ما شئت، هأنذا بين يديك.وحاول المأمور أن يستدرجه إلى الاعتراف، ولكنه أَبَى أن يزيد حرفاً واحداً عمَّا قال، ولهذا تقرر حِفظ الموضوع.في تلك الليلة، بينما كان أكسينوف راقداً في فراشه كالمعتاد، وقد بدأت تأخذه سِنة من النوم، لمح في طيات الظلام شبحاً يتقدَّم نحوه في حذر وهدوء، حتى وصل إلى فراشه وجلس إلى جواره، وحملق أكسينوف في هذا الشبح.وعرف فيه شخص مكاري، فابتدره في صوت أجش: ماذا تريد مني بعد كل هذا الذي فعلته، لماذا أتيتَ هنا؟ولم يتكلَّم مكاري، وأخلد إلى الصمت، وخيَّم عليهما سكون قاتل تعلَّقت فيه الأنفاس. ولكن أكسينوف قطع هذا الصمت قائلاً: ماذا تريد؟ اذهب عني وإلاَّ دعوت الحرَّاس! وانحنى مكاري سيمنتش، واقترب بوجهه من أكسينوف، ثم همس بصوت تقطعه حشرجة مخيفة: إيفان ديمتريش، سامحني واصفح عني!- عن أي شيء؟- أنا الذي قتل التاجر، وأخفى السكين في أمتعتك. كنتُ على وشك أن أقتلك أنت أيضاً لولا أني سمعت ضجيجاً في الخارج، فأخفيتُ السكين في حقيبتك، ثم هربت من النافذة.وصمت أكسينوف، ولم يعرف ماذا يقول. أما مكاري فقد انزلق من حافة الفراش، وركع على الأرض وهو يتشبث بثياب أكسينوف قائلاً:- إيفان ديمتريش، سامحني، اغفر لي من أجل محبة المسيح. سأعترف بجُرمي ويُطلقون سراحك وتعود إلى بيتك.- سهل عليك أن تتكلَّم، أما الألم والمعاناة فقد قاسيتهما هذه الست والعشرين سنة، والآن أين يمكن أن أذهب؟ زوجتي ماتت، وأطفالي نسوني، وأصبحت غريبـاً عليهم. ولا أريـد أن أكون لهم عـاراً. يـا صديقي ليس لي مكان أذهب إليه.ولم ينهض مكاري، بل ضرب رأسه على الأرض، ينتحب ويقول: إيفان ديمتريش، سامحنى. إن الجلد بالسياط أهون بكثير من النظر إليك. رغم خطيتي أشفقت عليَّ ولم تَبُح بجُرمي. من أجل خاطر المسيح سامحني أنا الشقي. ثم بدأ يجهش بالبكاء.ولما سمع أكسينوف بكاءه، لم يستطع أن يُقاوم رغبته في البكاء، فأجاب مكاري بصوت تُبلِّله الدموع السخينة، وتقطعه الزفرات:- الله يسامحك. مَن يدري فربما كنتُ أكثر منك شرّاً.وبعد تلك الكلمات أحس قلبه يخفق بالسلام والهدوء، وزايلته تلك الرغبة التي اضطرمت في صدره شوقاً إلى أسرته وبيته. ولم تَعُد به رغبة إلى مفارقة السجن أو نزلائه، فقد أحبهم وأحبوه. كان ينتظر فقط ساعة الرحيل.+++ ورغم كل محاولات أكسينوف لكي يثني مكاري عن عزمه في الاعتراف بجريمته، فإن هذا الأخير أصر على عزمه، واعترف فعلاً بجريمته، وسارت إجراءات العفو عن أكسينوف السجين في مجراها. وأخيراً، صدر قرار الإفراج عنه، وتردَّد صداه بالفرح بين النزلاء جميعاً وذهبوا لكي يُقبِّلوه ويُهنئوه، ووجدوه راقداً في فراشه بسلام. إذ أنه كان قد مات منذ لحظات
رد مع اقتباس
إضافة رد


الانتقال السريع

قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً
الموضوع
القديس قسطنطين أكسينوف
إيفان فونج
إيفان الرابع
إيفان بافلوف
قصـة واقعيـة


الساعة الآن 07:43 AM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024