فالرب قبل أن يُنادي بحمل الصليب مهد إليه بإنكار النفس
لذلك علينا أن نُدرك أنه بدون إنكار النفس تستحيل التبعية تحت أي بند أو شرط آخر، فينبغي أن نُكرس قلبنا لهُ ولا نعرف أنفسنا بعد بحسب الجسد، بل نعرفه في حياتنا الشخصية كملك لهُ السيادة الكاملة بسلطان، وذلك بكونه إلهاً حياً لهُ المُلك والسلطان الأبدي وحضوره حضوراً مُحيياً، لذلك فأننا نخضع لهُ – بالتقوى والمحبة – خضوعاً كاملاً، وذلك مثل العبد لإرادة سيده والابن الطائع لأبيه، ومن أجله نحسب أنفسنا كغنم للذبح: «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ» (رومية 8: 36)، وهذا هو سرّ الثبات في التوبة وضبط المسيرة الروحية كلها والسلوك بالطهارة والثبات في الحق وحياة القداسة وظهور ثمر غرس كلمته في قلبنا.
فالمسيح الرب سار نحو الصليب – بخطوات ثابتة واثقة – حسب التدبير والمشيئة بدون أن يتملص أو يهرب أو يتذمرّ، بل كان مُصراً إصراراً على تتميم مشيئة الآب بطاعة كاملة حتى النهاية، أي حتى الموت موت الصليب، فأن كان بحسب الخليقة العتيقة آدم سقط في عدم الطاعة، أتى المسيح الرب من السماء مرتدياً إنسانيتنا، ليُطيع الآب ويفعل ما يُرضيه بصفته بكر الخليقة الجديدة: حِينَئِذٍ قُلْتُ: هَئَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِ الْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي. أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ. وَشَرِيعَتُكَ فِي وَسَطِ أَحْشَائِي (إِنَّ مَسَرَّتِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَتَكَ الصَّالِحَةَ يَا إِلَهِي، وَشَرِيعَتُكَ فِي صَمِيمِ قَلْبِي). (مزمور 40: 7 – 8)
والصليب على هذا المستوى ليس نوع من أنواع الألم الطبيعي المُلازم للحياة الفانية كجزء لا يتجزأ منها، ولا هو قضية رفض من جهة مبدأ نتمسك به أو عقيدة نعتنقها وكانت سبب رفض ومقاومة الناس لنا لأننا لا نتوافق مع أفكارهم ولا نُرضيهم، لأن الصليب أن لم نعي واقعيته في حياتنا المسيحية الحقيقية الواقعية، فلن يصير سوى مجرد مصيبة من ضمن مصائب الحياة اليومية، أو تجربة من تجارب الحياة وضيقتها التي يراها جميع الناس بلا استثناء بسبب عامل الموت والفساد الذي سرى في البشرية مثل النار في الهشيم، أو نراه على أساس انه مرض جسدي يعترينا ونُصبِّر أنفسنا عليه، بكوننا نرى أن هناك عجز في الشفاء، لذلك نقول – مستسلمين لواقع – أنه صليبنا.
فالصليب الذي يتحدث عنه الرب هو رضا القبول الكامل الواعي لمشيئة الله وتتميمها للنهاية بالموت لبلوغ القيامة، لأنه لم توجد القيامة بدون الصليب، فالموضوع ليس قناعة العقل قسراً أو التواء للحقائق بسبب ضعفنا النفسي، فنصور الضيق أو المحنة العادية التي نمر بها على أنها صليب علينا أن نقبله خاضعين خانعين مقتنعين جبراً أو استسلاماً، لكن الصليب – في واقعه – هو معرفة مشيئة الله بدقة والسير فيها بوعي وإدراك عالي بحكمة وتدبير حسن بكل رضا وطاعة بأمانة للنهاية: لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ. هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضاً مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِيناً إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ؛ كن صادقا وأمينا معه فتنال في كل حين بغيتك. (رؤيا 2: 10؛ سيراخ 29: 3)
+ اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ، الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ، لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ. مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَاراً. (نشيد 8: 6 – 7)
طبعاً هناك درجات متتابعة في الصليب مُعلنه في إنجيل خلاصنا، أن لم نعيها فلن نسير – أبداً – باستقامة في طريق الرب، ولذلك علينا الآن أن نشرح بالتفصيل قصد الرب كما هوَّ واضح في العهد الجديد، دون زيادة أو نقصان، لنستطيع أن نعي طريقنا المسيحي الأصيل لنسير فيه بكمال وعينا ونحيا مسيحيين بالصدق والحق عارفين مشيئة الله وتدبيره الحسن في حياتنا، مع الحذر من معرفته بفلسفة الفكر وقناعتنا الشخصية، أو بمنطوق النظريات والأفكار الإنسانية المقنعة ولا حسب الدراسات اللاهوتية الحديثة ولا حتى القديمة، ولا بمجرد انفعالات نفسية، لأن بطبيعتها متقلبة، لأن القلب نجيس ومخادع، أخدع من كل شيء فمن يعرفه؟.