اِفْرَحُوا كُلَّ حِينٍ
«اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا»
(في4: 4)
من غياهب سجون روما يكتب الرسول بولس رسالة الفرح لإخوته في فيلبي؛ ليكون كلامه عن الفرح ليس مجرد كلمات وعظ من شخص تعلَّم بعض الحقائق أو قرأها في مكان ما، ولكن تعبيرًا عن اختبار يحياه وسط أصعب الظروف.
في الإصحاح الأول يُوضِّح الرسول كيف استطاع أن يرى ما أبهج قلبه حتى في ظروف سجنه المؤلمة فيقول: «ثُمَّ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيل». أي أنه عندما وجد الكرازة باسم الرب يسوع قد ازدهرت بسبب سجنه، ملأ الفرح قلبه فقال: «بِهذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضًا» (في1: 12-18).
وفي الأصحاح الثاني يؤكِّد الرسول أن إيمان إخوته وثباتهم في الرب، وتمثلهم بالرب يسوع في اتضاعه العجيب، هو مصدر فرحه، ويحثهم أن يفرحوا.
وفى أول الأصحاح الثالث تأتى الوصية في صيغة أمر «أَخِيرًا يَا إِخْوَتِي افْرَحُوا فِي الرَّب» (في3: 1)، ويكشف سر الفرحّ الحقيقي الذي يكمن في هذه الكلمة الرائعة «فِي الرَّب». ثم يعود الروح القدس ويؤكد بقوة على هذه الوصية - التي هي في الوقت ذاته امتياز حقيقي للمؤمن - ففي الأصحاح الرابع يقول: «اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ»، ويُضيف: «وَأَقُولُ أَيْضًا: افْرَحُوا» (في4: 4).
وقد يتبادر إلى الذهن تساؤل في محله، هل هذه الوصية مُمكنة التنفيذ عمليًا في وسط عالم مليء بالاضطرابات، وتحت ضغوط رهيبة يُعاني منها كل البشر، ولا سيما المؤمنون الأتقياء، سواء على المستوى الشخصي، أو على المستوى العام في البلاد التي يعيشون فيها؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول:
أولاً: لا يمكن أن الله المُحب، كلي المعرفة، الذي يعرف جبلتنا، أن يُعطينا وصية لا نستطيع أن نحياها. إذًا لا بد أن نثق أننا نستطيع بنعمته أن نفرح في كل حين.
ثانيًا: لا بد أن نعرف ما هو الفرح الذي يتكلَّم عنه الكتاب المقدس. بالتأكيد ليس هو مشاعر الانفعال والمتعة المؤقَّتة، بسبب حدوث أمر مُفرح، أو ربح مادي زمني، لكنه الفرح بما لنا في الرب.
ثالثًا: لا بد أن نلاحظ أن الروح القدس في الأصحاح نفسه يُعطينا خطوات عملية، لو اتبعناها سوف نستطيع أن نستمتع بحياة الفرح الدائم.
1. هو أولاً يُقرر حقيقة لا بد أن تملأ قلب وعقل كل مؤمن، وهي أن «الرَّبُّ قَرِيبٌ» (في4: 5). وكلمة «قَرِيبٌ» يمكن أن تعني قَرِيبٌ مكانًا؛ أي أنه بجواري في كل الأحوال، ولا يتركني أبدًا بحسب وعده الكريم: «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت28: 20). لكن أيضًا من الممكن أن تعنى قَرِيبٌ زمانًا، وهي تقرِّر الحقيقة التي تملأ قلب كل مؤمن حقيقي بالفرح العظيم، أن مجيء الرب ليختطف كنيسته قد اقترب جدًا.
2. يعطينا الرسول طريقة عملية للتعامل مع الهموم التي يعرف أنها سمة العالم في كل زمان فيقول: «لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ». إذن ماذا نفعل؟ يُجيب: «بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ، مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ». ونتيجة إلقاء الهموم والأحمال على الرب بالصلاة ستُعلم طلباتنا أمام الله، وستكون موضع اهتمامه وتقديره. ثم يقدِّم وعدًا رائعًا أن «سَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ».
3. وأخيرًا يُعطينا الرسول الوسيلة المثلى كي نتمتع بالفرح في كل الظروف فيقول: «أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَق، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا» (ع8). لقد قال أحد علماء النفس المعاصرين: ”إن حالتك النفسية لا تحدِّدها ظروفك، بل تحدّدها أفكارك في وسط هذه الظروف». وإذا ما استطاع المؤمن أن يحتفظ بقلبه منشغلاً بهذه الأمور السامية، التي لا تتوافر إلا في شخص الرب يسوع، كلمة الله المتجسد، وفي الكتاب المقدس، كلمة الله المكتوبة، سيختبر الفرح الحقيقي في وسط كل الظروف، وسوف نكون بالفعل نورًا في عالم يزداد كل يوم اضطرابه وأحزانه وظلامه.
• فرحنا بمستقبلنا المجيد ومكافأتنا، خير مُعين لنا وسط آلام الزمان الحاضر.
• إن كان المسيح هو كل شيء لي في أبهج أيامي، سيكون هكذا لي في أكثرها ظلمة.