المسيح يطلب من يوحنا أن يعمده
"حِينَئِذٍ جَاءَ يَسُوعُ مِنَ الْجَلِيلِ إِلَى الْأُرْدُنِّ إِلَى يُوحَنَّا لِيَعْتَمِدَ مِنْهُ. وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" فَقَالَ يَسُوعُ لَهُ: " اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ". حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ. فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللّهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:13-17).
حان زمان ظهور المسيح ليباشر عمله الخلاصي، فامتزج مع الجمهور الفقير الكبير المحيط بالمعمدان في البرية. نظرهم يتقدمون ويعترفون للمعمدان بخطاياهم، وينالون منه المعمودية بالماء إشارة إلى المغفرة، ثم النصائح المناسبة لكل واحد. رأى رهبة هذا النبي الجديد واحترام الجموع وخضوعهم له، وسمع لهجة سلطته الروحية في كلامه، فتقدم المسيح إليه ليطلب أن يعمده، لكنه لم يقدم شرط المعمودية أي الاعتراف والتوبة. فكيف يعمّده المعمدان؟ لاحظ المعمدان أن يسوع مزيَّن بهيبة القداسة، فبدلاً من أن يطالبه بالتوبة، اعتبره أعظم منه وأطهر، ورفض أن يعمده وقال: "أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!" (متى 3:14).
كان يوحنا ذا مقام رفيع، لأنه من السلالة الكهنوتية الممتازة، ومن منطقة اليهودية أشرف أقسام الأرض المقدسة. ومع ذلك لا تتعجب من كلامه هذا، لأنه علم أن الذي يخاطبه هو المسيح الذي طالما نادى بقرب مجيئه، وأطنب في وصفه، وتشوَّق إلى رؤياه. لكن اعتراف المعمدان الصريح بأنه لم يكن يعرفه يجعلنا نُعجب أنه وجَّه كلاماً كهذا إلى نجّار مجهول من وطن حقير. لم يتذلل المعمدان أمام رؤساء البلاد، حتى ولا أمام الملك ذاته. قد سمعنا صوته بالأمس للرؤساء بين الجمهور قائلاً: "يا أولاد الأفاعي، من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟" فكيف يتذلل الآن أمام النجار الناصري، ويقول لهذا الشاب الغريب: "أنا محتاج أن أعتمد منك؟".
في قوله هذا أظهر أنه مع كل تقواه وغيرته ونجاحه في خدمة الدين وانتصاره للصلاح، وحياته التقشُّفية يشعر أنه خاطئ، ويفتقر إلى من يعمده هو بمعمودية التوبة. برهن تواضعه على عظمته، فإن التفوق في الشعور بالخطية يرافق دائماً التفوُّق في الصلاح. وكان جواب المسيح على اعتراض المعمدان بالرزانة والحكمة، كأنه معلم يخاطب تلميذاً له. قال: "اسْمَحِ الْآنَ، لِأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرٍّ" (متى 3:15).
لا بد من الوقوف تُجاه هذه العبارة، لأنها أول كلام حُفظ لنا من كلام المسيح عندما بلغ سن الرجولية، وهي القول الثاني فقط المدوّن من فمه العزيز. من قوله: "هكذا يليق" نعرف أن المسيح اعتمد لياقة لا وجوباً، واختياراً لا اضطراراً. فلم يقُل كما قال المعمدان: "أنا محتاج أن أعتمد منك". ولكنه طلب المعمودية ليشجع خدمة المعمدان، ويزيد تأثيره الحسن بين الناس، ويقوّي بقدوته تيار القادمين إليه ليسمعوا وعظه ويطلبوا معموديته، فيمكّنه بذلك أن يتمّم هذا القسم من رسالته، وهو تهيئة طريق المسيح.
كان في معمودية يوحنا معنيان (أ) أصغرهما يشير إلى التطهير من الخطية. وثانيهما وأكبرهما (ب) يشير إلى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد الذي سوف يقيمه المسيح، وإلى حياة جديدة يحياها المعتمد.
بالمعنى الأول، معنى التطهير من الخطية، يعتمد المسيح لا شخصياً بل نيابياً ورمزياً، فقد أخذ المسيح محل الخاطئ بعد أن اتّخذ شبه جسد الخطية... عند اليهود كان الطاهر يتنجس إن لمس ميتاً. ولما لمس يسوع جنسنا الخاطئ اعتُبر خاطئاً لأنه حسب كلام النبوة "أُحْصِيَ مَعَ أَثَمَة" (إشعياء 53:12) وهكذا اشترك في معمودية التوبة نائباً عنا. وبهذا المعنى قال الرسول بولس إن الله: "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لِأَجْلِنَا" (2 كورنثوس 5:21).
ولكن بالمعنى الثاني، معنى التخصيص لخدمة الملكوت الجديد، يعتمد المسيح جدياً وشخصياً، لأنه يدخل الآن في خدمته الجهارية الخلاصية في إنشاء هذا الملكوت والترأس فيه. كان غيره من المعتمدين يدخل على حياة جديدة بواسطة ما يناله، إلا أن حياة المسيح الجديدة تقوم بما ينيله للناس. وفي معموديته أخذ المسحة القانونية التي تتطلّبها وظائفه الثلاث: كنبي وكاهن وملك.
عمد يوحنا يسوع بالماء، وصعد يسوع للوقت من الماء عالماً بما لهذه الساعة من الأهمية الفائقة في مستقبل حياته الأرضية، ومستقبل تاريخ البشر. أما معظم أفكاره فكانت متَّجهة إلى غير هذه المعمودية. كان كابن الإنسان يعرف حاجته إلى معمودية الروح القدس كشرط ضروري في كل معمودية مسيحية ثابتة، فشعر في هذه الساعة بقرب الآب منه ورضاه التام عنه. ولذلك كان أمراً طبيعياً أن يصلي وهو صاعد من الماء بعد العماد.
ومن الاستجابة التي نالها عرفنا أن صلاته كانت لأجل حلول الروح القدس عليه.
لما قرع باب السماء بصلاته انشقَّت وانفتحت له. وحلَّ عليه الروح القدس حسب طلبه.
ويظهر أن يوحنا كان موعوداً بعلامة بها يعرف المسيح، لأنه قال: "الَّذِي أَرْسَلَنِي لِأُعَمِّدَ بِالْمَاءِ، ذَاكَ قَالَ لِي: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلاً وَمُسْتَقِرّاً عَلَيْهِ، فَهذَا هُوَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللّهِ" (يوحنا 1:33 و34). هذا الوعد كان سبباً كافياً لاتّخاذ الروح القدس هيئة جسمية، لأن المعمدان حالما شاهد ذلك عرف دون أدنى ريب أن هذا هو الذي قال عنه سابقاً إنه يأتي بعده، الذي كان قبله، الذي يعمد بالروح القدس.
ومع حلول الروح القدس على الابن الأزلي المتأنّس، سمع حالاً صوت الآب مستحسناً: " هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (متى 3:17). ثم تحقيقاً لإيمان المعمدان كان هذا الصوت ضرورياً لتحقيق الرؤيا وتفسيرها. وهذه هي أولى المرات الثلاث في تاريخ المسيح التي فيها سُمع صوت الله من السماء.
بمجيء هذا الصوت اجتمعت الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، على صورة جلية ومؤثرة للغاية، عند تكريس المخلِّص. وبناء على هذا الظهور في اعتماده، نرى يسوع يوصي تلاميذه أن يعمّدوا كل من يؤمن به "بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متى 28:19). ولم يقل "بأسماء" الآب والابن والروح القدس.