رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
لا يوجد أروع من أن نتبع ونتابع السيد العظيم الجليل ربنا يسوع المسيح في جولاته على الأرض لخدمة البشرية، مظهرا عطف الله وحنانه ورحمته ومحبته للبشر المساكين. الشيء الذي جعله لا يكف عن الخدمة في كل مكان وفي كل زمان. لذلك يقول الرسول بطرس عنه "يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه" (أع10: 38). لقد شفى كثيرين من أمراضهم المتنوعة، وأطعم الجياع، وأحيا الموتى فكفكف الدموع المنهمرة بسبب الحزن، وذهب حيث المستعبدين بأرواح نجسة فحررهم إذ طردها من أجسادهم، وسعى نحو الخطاة ليخلصهم فقال للمرأة الخاطئة "مغفورة لك خطاياك...إيمانك قد خلصك. اذهبي بسلام". لقد عمل ولازال ويظل يعمل أيضا. إنه الرب المحب الذي يذهب لأجل الضال حتى يجده. (لو4: 40و41، مت14: 14-21، 15: 32-38، لو7: 12-16و48و50، 15: 1-4). لقد تتبعناه في جولات سابقة منها: جولة مع يسوع من كورة الجدريين إلى بيت يايرس، وجولة إلى صور وصيدا، وجولة إلى بيت عنيا، وجولة إلى أريحا، وجولة إلى مدينة نايين. ونحن الآن نتبعه في جولة جديدة من جولاته الكثيرة ألا وهي: جولة مع يسوع إلى السامرة إن كنا لا نقرأ عن معجزات صنعها الرب يسوع في السامرة باستثناء الرجل السامري الذي كان واحد من العشرة الرجال البرص الذين أتوا إلى الرب يسوع ووقفوا من بعيد ورفعوا صوتا قائلين "يا يسوع يا معلم ارحمنا". هذا الذي لما رأى أنه شفي رجع يمجد الله بصوت عظيم. وخر عند رجليه شاكرا له (لو17: 11-18). لكننا نقرأ عن أروع وأعظم المعجزات التي لا يصنعها آخر سواه، ألا وهي تغيير القلوب الفاسدة إلى قلوب جديدة، تغيير الحياة بجملتها من حال إلى حال، من النجاسة إلى القداسة، ومن الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن البؤس والشقاء إلى الراحة والرجاء، ومن العطش والجوع إلى الارتواء والشبع. وإن كنا نجول مع السيد في رحلة طويلة إلى السامرة ونتابع مواقف متعددة، ونرى مشاهد مختلفة، لكننا نكون أكثر تركيزا في حديثنا عن المرأة السامرية. هذه القصة المعروفة لكثيرين منا. إنها امرأة مسكينة تعيش الخطية في أردأ صورها، لكن الرب المحب ذهب إلى السامرة لأجلها وتقابل معها ومنحها التحرير والخلاص. إن الظروف التي تقابل فيها الرب مع هذه المرأة ملفتة للنظر، والحديث الذي كان بين الرب يسوع وبينها لهو حديث مهم جدا، وإن نتيجة هذا اللقاء رائعة تستحق منا التأمل والتمعن. من الملاحظ في قصة المرأة السامرية أن أسمها لم يذكر نهائيا، وإن كان الكثيرون يقولون عنها المرأة السامرية نسبة للمقاطعة والشعب الذي تنتسب إليه. لقد أشير إليها مرتين بالقول "امرأة سامرية" (يو4: 7و9) ومن هذه العبارة تتضح ديانتها وقوميتها، مثلها مثل الكثيرين قد حصلوا على الخلاص ولم تذكر أسماءهم، مثل المرأة الخاطئة في بيت سمعان الفريسي (لو7: 36-50) والمرأة الزانية التي أمسكت في زنا (يو8: 2-11). والمرأة المنحنية (لو13: 10-17). وذلك لأن الرب يسوع لم يأت ليفضح البشر وشرهم، لكنه جاء لكي يطلب ويخلص (لو9: 56، 19: 10). وأيضا لكي يستر الخطايا على أساس عمله الكفاري على الصليب (رو3: 25، 1يو1: 7). ولم يذكر اسمها أيضا لكي يضع كل واحد منا اسمه في هذه القصة لأنها قصة كل واحد منا. وإن كان اسم المرأة السامرية لم يعرف لكنها كانت مؤمنة مثمرة. لقد أتت بثمر كثير إذ آمن كثيرون بسببها، وإلى الآن لازالت تأتي بثمر كثير جدا لمجد الله، ولا يعرف أحد كم من الخطاة أتوا إلى المخلص بسبب قصة وشهادة هذه المرأة. في جولتنا هذه مع الرب يسوع نرى أن المرأة السامرية سألت الرب عدة أسئلة، لازال البشر يسألون ذات الأسئلة. لقد سألت الرب مباشرة فوجدت منه الإجابة الشافية. طوبى لمن يسأل الرب فيجد منه الجواب، فكل من يسأل غير الرب لا يجد إلا إجابات تشتت الأذهان، فلكل واحد رأيه. لقد جاءت ملكة سبا إلى الملك سليمان وسألته بمسائل، فأخبرها بكل ما كان في قلبها (1مل10: 1-3). أما نحن أمام من هو أعظم من سليمان بما لا يقاس (مت12: 42). لقد كانت أسئلة المرأة كالآتي:- · كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟ (يو4:9). · من أين لك الماء الحي؟ (يو4: 11). · أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب؟ (يو4: 12). · يا سيد أعطني هذا الماء؟ (يو4: 15). · يا سيد أرى أنك نبي، وكأنها تقول له هل أنت كذلك؟ (يو4: 19). · أين السجود الحقيقي؟ (يو4: 20-24). · هل أنت المسيا؟ (يو4: 25). وفي شهادتها عن المسيح لأهل مدينتها، قالت "هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت. أ لعل هذا هو المسيح؟ (يو4: 29). إنه شيء ممتع أن نتبع الرب يسوع في رحلته التي قادته إلى السامرة. لقد كان في أورشليم (يو2: 23)، ثم أتى إلى اليهودية (يو3: 22). ومن اليهودية ذهب إلى السامرة (يو4: 4). وقد أعلن السامريون أنه "مخلص العالم". هذه الرحلة تسير في ذات الخط الذي أوصى به تلاميذه بعد قيامته من بين الأموات "وتكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع1: 8). كما نراه أيضا في رحلة من السامرة والجليل إلى أورشليم والتي فيها دخل قرية وطهر عشرة رجال برص منهم الرجل السامري (لو17: 11-18). نبذة مختصرة عن السامرة السامرة: اسم عبراني معناه مركز الحارس. كانت السامرة عاصمة الأسباط العشرة لمدة طويلة. بنيت المدينة أو ربما أعيد إصلاحها أيام الملك عمري بن آخاب ملك إسرائيل على تل اشتراه بوزنتين من الفضة من رجل اسمه شامر الذي معنى اسمه مراقب أو حارس (1مل16: 24). ولأن المدينة كانت محصنة أطلق عليها "جبل السامرة" (عا4: 1، 6: 1) وكانت قائمة في وسط وادي خصيب (إش28: 1) وأصبح المكان بسبب جماله عاصمة المملكة الشمالية إلى وقت السبي، وأغلب الأحيان كان الملوك يقيمون فيها، وعند موتهم يدفنون فيها (1مل16: 28و29، 20: 43، 22: 10و37و51، 2مل13: 9.....). كانت السامرة من البداية مدينة وثنية، وبنى فيها الملك آخاب هيكلا للبعل (1مل16: 32). وكان أنبياء البعل وأنبياء السواري يأكلون على مائدة الملكة إيزابل زوجة الملك آخاب (1مل18: 19). وظلت العبادات الوثنية للبعل إلى وقت طويل. والسامرة أيضا هي اسم الإقليم الذي عاصمته مدينة السامرة وهو الذي امتلكه الأسباط العشرة. وعندما يقال السامرة يقصد بها مملكة إسرائيل (1مل21: 1، 2مل17: 24، إش7: 9، إر31: 5، حز16: 46). هذا بالانفصال عن مملكة يهوذا. إقليم السامرة يقع بين الجليل في الشمال واليهودية في الجنوب وكانت هذه حالتها وقت مجيء ربنا يسوع المسيح بالجسد. السامريون: هذه الكلمة وردت مرة واحدة في العهد القديم، ويعنى بها السكان الذين لهم صلة بالمملكة الشمالية (2مل17: 29). وفي كتابات العبرانيين المتأخرة التي جاءت بعد السبي كانت تعني سكان إقليم السامرة الذي يقع في وسط فلسطين (لو17: 11). وعندما سبي إسرائيل من أرضه إلى أشور (2مل17: 6)، أتى ملك أشور بقوم من بابل وكوث وعوا وحماة وسفروايم وأسكنهم في مدن السامرة عوضا عن بني إسرائيل فامتلكوا السامرة وسكنوا في مدنها (2مل17: 24). مع ملاحظة أنه من المستحيل عمليا نقل أمة بأكملها. وهكذا بقي جانبا كبيرا من السكان الأصليين. ونتيجة لذلك اختلط السكان الأصليين بمن أتوا بالزواج والمصاهرة، وهذا التصرف يعتبر جريمة لا تغتفر في نظر اليهود. وهؤلاء السامريون ظلوا يمارسون عباداتهم التي كانوا يمارسونها قبل مجيئهم إلى السامرة، ولم يتقوا الرب، فأرسل الرب عليهم السباع فكانت تقتل منهم، فأرسلوا إلى ملك أشور يستغيثون، الذي بدوره أرسل إليهم أحد الكهنة ليعلمهم فرائض إله الأرض. وجاء الكاهن وسكن في بيت إيل. لكن الكاهن لم يقدر أن يجعلهم يتركون عبادات أصنامهم، فكانوا يتقون الرب ويعملون لأنفسهم من وسطهم كهنة مرتفعات وكانوا يقربون لأجلهم في بيوت المرتفعات. كانوا يتقون الرب ويعبدون آلهتهم كعادة الأمم الذين سبوهم من بينهم. (2مل17: 25-33). وظلوا يمارسون هذه العبادة المزدوجة حتى سقوط أورشليم (2مل17: 34-44). وظل أسرحدون ينفذ الخطة التي نفذها جده سرجون (عز4: 2). وحدث أن اليهود ثاروا على عبادة الأوثان (2أخ34: 6و7) فتناقصت تلك العبادات. ثم ضرب الملك يوشيا الوثنية ضربة أخرى. وبعد عشرات السنين كان بعض السامريين يذهبون إلى الهيكل في أورشليم للعبادة أو للزيارة. وعندما عاد المسبيون من اليهود، جاء السامريون وطلبوا من زربابل أن يشتركوا معه في بناء الهيكل قائلين إننا كنا نعبد الرب إله إسرائيل منذ أيام أسرحدون (عز4: 2) ولكن زربابل رفض الطلب، فلم يطلب أهل السامرة الاشتراك في البناء مرة أخرى وانضموا إلى أعداء اليهود في تعطيل البناء، كما عملوا بعد ذلك على تعطيل بناء السور (نح4: 1-23) وكان قائدهم في هذه الحركة سنبلط الحوروني الذي صاهره واحد من بني يوياداع بن ألياشيب الكاهن العظيم وتزوج بابنته (نح13: 28). ويسجل التاريخ أنه بعدما أعاد عزرا بناء الهيكل في أورشليم، فإن السامريين أقاموا هيكلا سامريا على جبل جرزيم. وكان كهنة سامريون يقدمون عليه الذبائح وتسبب هذا في العداء الشديد بين اليهود والسامريين. وظل السامريون يعبدون ويقدمون ذبائحهم على هذا الجبل حتى مجيء الرب يسوع إلى أرضنا. (يو4: 20و21). وفي زمن المسيح لم تكن عقائد السامريين اللاهوتية تختلف عن عقائد اليهود، وكانوا مثلهم ينتظرون المسيا. لقد آمن كثيرون من السامريين بالمسيح نتيجة شهادة ومناداة المرأة السامرية التي أخبرت عنه في كل مدينتها. لكن العدد الأكثر آمنوا به بعد أن رأوه وسمعوه، وقد كانوا متأثرين جدا به حتى أنهم طلبوا منه أن يمكث معهم، فمكث معهم يومين. وخلال تلك الفترة القصيرة أثمرت كلمته في حياتهم (يو4: 28-30و39-42). لقد بدأ هؤلاء السامريون مسيرتهم الروحية بأن صدقوا كلام المرأة السامرية. ثم قبلوا وآمنوا بكلام المسيح نفسه. ولأنهم عرفوا وأدركوا أنهم خلصوا بكلام المسيح قالوا: "نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم". لقد كانت هذه شهادتهم الحية المبهجة. لم يكن إيمان السامريين محدود، لذلك لم يفكروا بأن المسيح هو مخلص اليهود والسامريين فقط، لكنهم قد أعلنوا بوضوح أنه "هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم". لقد كانت رؤيتهم أكثر اتساعا من رؤية التلاميذ أنفسهم. والسامريون أيضا قبلوا رسالة الإيمان بالمسيح عن طريق كرازة فيلبس المبشر بعد أن رأوا الآيات العظيمة التي كان الرب يجريها على يده. وآمن منهم كثيرون إذ صدقوا فيلبس وهو يبشر بالأمور المختصة بملكوت الله وباسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالا ونساء (أع8: 5و6و12). لقد كان العداء شديد بين اليهود والسامريين، وهذا ما نراه في:- 1- قول المرأة السامرية الذي قالته للرب يسوع بعد أن طلب منها لتعطيه ليشرب: "كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية. لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 7و9). 2- لما أراد اليهود أن يوقعوا على الرب يسوع أردأ الألفاظ قالوا له "ألسنا نقول حسنا أنك سامري وبك شيطان" (يو8: 48). 3- عندما ثبت الرب يسوع وجهه لينطلق إلى أورشليم لأنه قد تمت الأيام لارتفاعه، أرسل أمام وجهه رسلا. فذهبوا ودخلوا قرية للسامريين حتى يعدوا له. فلم يقبلوه لأن وجهه كان متجها نحو أورشليم. لقد رفض منهم نتيجة كراهيتهم لليهود وكراهية اليهود لهم، ولأنهم رأوه أيضا متجها إلى أورشليم. وبسبب رفضهم له قال اثنان من تلاميذه وهما يعقوب ويوحنا "يا رب أتريد أن نقول أن تنزل نار من السماء فتفنيهم كما فعل إيليا أيضا". فالسامريون رفضوا المسيح باعتباره يهودي، والتلاميذ باعتبارهم يهود يريدون نار من السماء تحرق السامريين. هذا هو التعصب الأعمى. لكن الرب يسوع المحب للجميع "التفت وانتهرهما وقال لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص" (لو9: 51-56). عندما أرسل الرب يسوع رسله في أول إرسالية لهم أوصاهم قائلا "إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" (مت10: 5و6). من هذه العبارة وبالتسرع في الحكم نتهم الرب يسوع أيضا بالتعصب ضد السامريين. لكن بالنظرة الثاقبة الصحيحة التي ترى كل شيء في وضعه الصحيح، نرى أن الرب يسوع باعتباره ابن داود حسب الجسد، والذي جاء ليقيم خيمة داود الساقطة، كان لابد أن يبدأ خدمته بين خاصته وهو يعلم أنه سيرفض وبعدها سيتجه لدائرة السامرة والأمم بل إلى كل العالم. "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله. أي المؤمنين باسمه" (يو1: 11و12). هذا ومن جانب آخر لا يمكن للرب أن يرسل تلاميذه باعتبارهم يهود إلى السامرة إلا بعد أن يذهب هو ويفتح الأبواب أولا مظهرا لهم بأن رسالته رسالة النعمة العجيبة التي تصل إلى الأدنياء بل وإلى كل الخطاة. ويهيئهم لهذا العمل العظيم. لقد بدأ في ذلك بإرسالهم ليشتروا طعاما من إحدى مدن السامرة. إنه شيء جديد بالنسبة لهم باعتبارهم يهود، لقد غير تفكيرهم وتقاليدهم، بل غير كيانهم. فكيف يمكن ليهودي أن يدخل مدينة أو قرية للسامريين ويبتاع منها طعاما قد لوثته أيدي هؤلاء القوم؟ وكيف يؤكل مثل هذا الطعام؟ لقد بدأت الحواجز العنصرية تمحى وتتلاشى. ولذلك في إرساليته الأولى لهم قال "...وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا". لكن بعد أن دخلها هو وفتح الأبواب وأزال الأحقاد، قال لتلاميذه بعد قيامته من الأموات "...وتكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع1: 8). وهكذا أصبحت السامرة من ضمن دائرة الكرازة. نعم إنه "محب للجميع"، ولم يأت ليهلك أنفس الناس بل ليخلص. لهذا السبب هو ينتظر بطول أناة على كل نفس لترجع إليه. وفي ذهابه إلى أورشليم اجتاز في وسط السامرة والجليل وفيما هو داخل إلى قرية استقبله عشرة رجال برص فوقفوا من بعيد ورفعوا صوتا قائلين يا يسوع يا معلم ارحمنا...وفيما هم منطلقون طهروا. فواحد منهم لما رأى أنه شفي رجع يمجد الله بصوت عظيم. وخر على وجهه عند رجليه شاكرا له. وكان سامريا. فأجاب يسوع وقال أليس العشرة قد طهروا فأين التسعة. ألم يوجد غير هذا الغريب الجنس. ثم قال له قم وأمض. إيمانك خلصك" (لو17: 11-18). في هذه الأعداد نرى أن الرب أعلن غنى نعمته للسامري الأبرص ومنحه التطهير كالآخرين تماما، وأيضا امتدحه إذ رجع إليه شاكرا ومنحه أعظم عطية ألا وهي الخلاص. إنه الرب يسوع المملوء نعمة وحقا، إن رفض لا يتضايق ولا يطلب انتقاما بل يقدم نعمته مرارا بطرق مختلفة. وإن قبله الناس فهو يخلص ويبارك "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). عندما قام ناموسي ليجرب الرب يسوع سائلا إياه عن ما يجب فعله ليرث ملكوت الله، قال الرب في جوابه له مثلا جاء فيه "إنسان كان نازلا من أورشليم إلى أريحا..." وفي المثل أظهر عطف السامري المسافر غريب الجنس تجاه هذا الإنسان المسكين الذي وقع بين اللصوص، بينما الكاهن واللاوي القريبين له اللذان كانا يجب أن يظهرا الرحمة والشفقة تجاهه، كل منهما لما رآه جاز مقابله. لكن هذا الغريب عمل له كل ما يلزمه ودبر له كل ما يحتاج مظهرا له نعمة بلا حدود. وهنا نرى ما عمله ربنا يسوع الذي أتى إلينا من قمة المجد مظهرا كل نعمة الله لنا نحن البشر الساقطين. ********************* الخادم المثالي والنموذج الرائع "تاركا لنا مثالا لكي تتبعوا خطواته" (1بط2: 21) "فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه. ترك اليهودية ومضى أيضا إلى الجليل" (يو4: 1-3). بدأت العبارة السابقة بالقول "فلما علم الرب"، يا له من اسم رائع "الرب"، هذا اسم من أسمائه الكثيرة من الأزل وإلى الأبد. لقد لقب به وهو في جسد الاتضاع (لو1: 38، 2: 11). وقاله سمعان بطرس عندما رأى معجزة السمك الكثير (لو5: 8). وأيضا قاله يوحنا وسمعان بطرس بعد قيامته من بين الأموات (يو21: 7و17). وكل من يؤمن به لابد أن يشهد بالروح القدس بذلك (1كو12: 3). وسيأتي اليوم قريبا الذي فيه يعترف كل لسان ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض أنه هو الرب (في2: 10و11). وويل لمن ينكر ذلك فإنه يجلب على نفسه هلاكا سريعا (2بط2: 1). لقد كان يوحنا المعمدان يعمد بمعمودية التوبة، وكان يكرز في برية اليهودية قائلا "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات" (مت3: 1و2و6). هذا هو أساس رسالته، لذلك قال عن نفسه "أنا صوت صارخ في البرية قوموا طريق الرب كما قال إشعياء النبي" (يو1: 23). لم يأت الرب يسوع برسالة المعمدان، ولم يأت ليمارس أية ممارسة ولم يذكر عنه ذلك، لكنه جاء كما قال عن نفسه "...لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). وقال "... أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10: 10). وقال أيضا "لأن ابن الإنسان لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مر10: 45). فهو لم يأتي لكي يعمد، لكن كان هذا ادعاء من الفريسيين عليه كما سمعوا، حتى أنه قيل "أن الفريسيين سمعوا أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ...". إن هذه الفئة من اليهود كثيرا ما تسببوا في حدوث قلق وانزعاج، فالرب يسوع لم يعمد أحد بل تلاميذه كما هو مكتوب "..مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه". لم يكن الرب يسوع من المحبين للإزعاج وحدوث المشاكل وعمل المقارنات. كما أنه لم يكن رجل التعصب والتحزب. لقد جاء لغرض سام ورائع ألا وهو إتمام عمل الفداء. لما رأى أن الفريسيين يوقعون بينه وبين رسوله الذي جاء ليعد الطريق أمامه، إذ قالوا "...أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا...ترك اليهودية ومضى إلى الجليل". إنه يحب السلام لأنه "رب السلام". "ترك اليهودية": لقد تركها لأنه لا يريد أن يخدم في أجواء مليئة بالمشاحنات والمنازعات. إنه "إله السلام" (في4: 9)، و"رئيس السلام" (إش9: 6). لقد ترك اليهودية ومضى إلى الجليل، إلى الجماعة المحتقرة والمسكينة والبائسة "جليل الأمم". لقد ترك كبرياء القوم ومضى إلى البؤساء "روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأشفي المنكسري القلوب. لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر. وأرسل المنسحقين في الحرية. وأكرز بسنة الرب المقبولة" (لو4: 17-19). وهنا نسأل هل كان هؤلاء الفريسيون يحبون يوحنا المعمدان؟ وهل كانوا مطيعين لرسالته؟. واضح لنا من كلمة الله أن هؤلاء كانوا كهيرودس الملك يهابون يوحنا المعمدان عالمين أنه رجل بار وقديس (مر6: 20). وكانوا يحترمونه خشية من الناس لأن يوحنا عند الجميع مثل نبي (مت21: 25و26) ولكنهم لم يقبلوا إرساليته، حتى أن المعمدان نفسه قال لهم "يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة..." (مت3: 7-9). عندما تحول البعض من تلاميذ يوحنا المعمدان عنه، ربما هذا أحدث ألما في نفسه أو على الأقل عند تلاميذه الباقين، مع أن يوحنا المعمدان عندما سمع أن الجميع يتركونه ويذهبون وراء الرب يسوع قال "من له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس. إذا فرحي هذا قد كمل. ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص. الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع. والذي من الأرض هو أرضي ومن الأرض يتكلم. الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع" (يو3: 29-31). لقد كان يوحنا فرحا لذهاب الجميع وراء الرب يسوع، لكن الرب يسوع كان يعرف ما يجوز في أعماق الإنسان. إنه يعرف جبلتنا، يعرف أننا بشر، أننا تراب نحن، لذا لابد أن يجوز شيء من الألم عندما يتخلى الجميع عنا. لقد اجتاز الرب يسوع في مثل هذا الموقف العصيب. فقال لتلاميذه في أسى "تتركونني وحدي" مع أنه كان يعرف أنه ليس لوحده "وأنا لست لوحدي لأن الآب معي" (يو16: 32). لقد تأثر الرب يسوع عندما تخلى عنه تلاميذه مع أنه كان يعرف أنه في الآب والآب فيه. والرسول بولس أيضا جاز في مثل هذا الظرف في وقت كان يحتاج فيه إلى وقوف من كانوا معه بجواره. قال "...الجميع تركوني. لا يحسب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقواني.." (2تي4: 16و17). إن الرب يسوع يقدر مشاعر الإنسان، يعرف مقدار الآلام التي نعاني منها في وحدتنا...لذا ترك اليهودية حتى لا يبدو أن هناك صراعا بينه وبين رسوله...لقد أراد أن لا يخدش كرامة ذلك الرجل العظيم ولا يجرح مشاعره. لقد أراد أن يؤكد أن المحبة هي لب الرسالة. وأن يعلمنا كيف يجب أن تكون علاقتنا البشرية كريمة راقية متسامية "وادَين بعضكم بعضا بالمحبة الأخوية. مقدمين بعضكم بعضا في الكرامة" (رو12: 10). الرب يسوع لا يقبل بأية صورة أن تكون مقارنة بينه وبين رسوله يوحنا المعمدان، ولا يريد نهائيا أن يقلل من قيمة رسالته لذلك ترك اليهودية حيث خدمة المعمدان ومضى إلى الجليل. وهنا نتعلم أعظم الدروس من النموذج الرائع والخادم المثالي ربنا يسوع المسيح، بأنه ينبغي أن يتوافر الاحترام المتبادل بين العاملين في حقل خدمة الرب. ولا تهان كرامة واحد لحساب آخر عن طريق إعطاء المجال وإتاحة الفرصة لعمل مقارنات بين خادم وآخر. فلقد أعطى الرب كل واحد رسالة محددة، وإرسالية معينة بحسب فكره الإلهي. ويجب أن نعلم أنه لا يوجد خادم مشابه للآخر بل كل واحد يكمل الآخر. فلا خدمة بلا منفعة ولا خادم بدون رسالة، لذلك من باب اللياقة والحكمة عندما يرى الخادم حدوث مقارنات بينه وبين الآخرين ينبغي أن يترك المكان ويذهب إلى مكان آخر بحسب إعداد الرب له. وليس ذلك فقط بل على الخادم عندما يرى حدوث مشاحنات بين أعضاء الكنيسة من جهة قبول رسالته من عدمها أن يترك المكان فورا ولا يتسبب في ازدياد حدة التوتر والمشاحنات "لأن ثمر البر يزرع في السلام" (يع3: 18). عزيزي الخادم...لنخدم في النور بعيدا عن المشاكل وحدوث الانزعاج ولنحترس من الجسد البغيض الذي فينا، والذي يحب التعالي والكبرياء ويحب أن يكون الأول كديوتريفس (1يو9). لقد سقط تلاميذ الرب يسوع في هذا الشرك "وداخلهم فكر من عسى أن يكون أعظم فيهم"، فبادرهم الرب يسوع بالعلاج فورا وقال لهم: "الأصغر فيكم جميعا هو يكون عظيما" (لو9: 46-48). لم يكن الرب من أرباب المشاكل وصانعي الخصومات. لقد قال الفريسيون إن يوحنا يعمد وأيضا يسوع يعمد، وكان من الامكان أن يدافع عن نفسه أو يبرهن على سلطانه، لكنه لم يفعل هذا أو ذاك بل ترك اليهودية ومضى إلى الجليل. إنه لا يحب المنازعات أو المجادلات "الذكي يبصر الشر فيتوارى" (أم22: 3). ألا نتعلم من السيد العظيم وما فعله هذا الدرس الرائع؟، وهو إذا ذهبنا إلى مكان ما لخدمة الرب، وشعرنا بل وتأكدنا أن رسالتنا غير مقبولة والأبواب مغلقة، فالأفضل أن نذهب إلى حيث يريدنا الرب حتى ولو إلى السامرة، وفي هدوء تام دون عمل أي انزعاج أو مشاكل. لقد حاول الرسول بولس ومن معه أن يتكلموا بكلمة الله في آسيا لكن منعهم الروح القدس. ثم حاولوا أن يذهبوا إلى بثينية فلم يدعهم الروح، إلى أن رأى الرؤيا الخاصة بمكدونية فذهبوا متحققين أن الرب قد دعاهم إلى هناك لتبشيرهم (أع16: 6-10). لقد رفض الرب يسوع من اليهود، لذلك يقول البشير يوحنا "فلما علم الرب يسوع أن الفريسيين (قادة الأمة) سمعوا أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا ترك اليهودية". يا لها من كلمات عجيبة إذ أننا لا نرى أي أحد يخبره بما حدث إذ لم يكن محتاجا لأي أحد أن يخبره بكل ما يحدث. فهذا الشخص الذي وضع نفسه وأطاع، لم يكن سوى "الرب والسيد". فهذا الذي قال عنه الفريسيون أنه نجار ومن الناصرة، لم يكن سوى "مسيح الله" الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا (كو2: 9). إن عبارة "علم الرب" تعلن عن أن الرب هو كلي العلم والمعرفة فلا شيء يمكن أن يخفى عليه أبدا. الذي علم هو الرب يسوع، العالم لسرائر الأمور لأنه هو الله المتجسد والقدير والعالم بكل شيء، والذي يعلم بكل ما تخفيه الصدور والذي قال له صاحب المزمور "يا رب قد اختبرتني وعرفتني. أنت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيد" (مز139: 1و2). لكن الفريسيين لم يروا فيه إلا يسوع المحتقر والمخذول من الناس (إش53: 3). إن روح الغيرة والتنافس تجعل الرب يسوع يمضي بعيدا. عندما أرسل الرب يسوع الأثني عشر تلميذا في إرساليتهم إلى مدن إسرائيل أوصاهم قائلا "وكل من لا يقبلكم فأخرجوا من تلك المدينة وانفضوا الغبار أيضا عن أرجلكم شهادة عليهم" (لو9: 5). وعندما أرسل السبعين قال لهم "وأية مدينة دخلتموها ولم يقبلوكم فاخرجوا إلى شوارعها وقولوا حتى الغبار الذي لصق بنا من مدينتكم ننفضه لكم. ولكن اعلموا هذا أنه قد اقترب منكم ملكوت الله" (لو10: 10و11). ولكن قبل أن يقول الرب لهم هذا الكلام وضع لهم مثالا وهو أنه إذ لم تقبل شهادته في اليهودية (يو4: 3) ترك اليهودية ومضى إلى أماكن أخرى. مما لا شك فيه أن خدمة الرب يسوع في اليهودية وتعميده لكثيرين عن طريق تلاميذه قد أغضب رؤساء اليهود غضبا شديدا، وربما كانوا قد بدأوا بالفعل باتخاذ خطوات لمنع انتشار هذا التعليم الجديد الذي يتعارض مع تعاليمهم، ولمقاومة هذا الشخص الذي وضح أن تأثيره على عقول وقلوب الشعب قد بدأ يهدد ويضعف سلطتهم. لقد عرف الرب يسوع كل هذا، ولأنه كان يعرف أيضا أن ساعته لم تأت بعد وأنه لازال لديه الكثير ليتمم، ليستطيع بعد ذلك أن يقول للآب "العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته" (يو17: 4) فاختار الرب يسوع أن يترك اليهودية من نفسه ويذهب إلى الجليل. تلك المنطقة التي كانت تبعد عن أورشليم وسلطة السنهدريم وتقع تحت حكم هيرودس. لقد كان شعور الفريسيين نحو المسيح شعورا عدائيا، وكأنه جاء ليؤسس له حزبا مع أنه لم يأت لأجل غرض مثل هذا ولم يفعل هذا، بل جاء لأجل فداء وخلاص الإنسان الهالك. لكن السؤال الهام هو كيف تصرف المسيح تجاه هذا العداء؟. إن الرب ذو حساسية ومشاعر لا يمكن أن يشابهه فيه أحد. هذا الذي كتب عنه "لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته..." (إش42: 2). رغم نعمته ومحبته فإنه عندما يشعر بالرفض وعدم القبول فإنه يتحول. هذا الشيء يفعله مع الخاطئ والمؤمن على السواء. لقد تركهم عندما رأى إصرارهم على احتقاره ورفضه وإن كان قد عاد إليهم مرارا "بسطت يدي طول النهار إلى شعب متمرد (معاند) سائر في طريق غير صالح وراء أفكاره" (إش65: 2). ولقد قال أيضا "ويل لهم أيضا متى انصرفت عنهم" (هو9: 12). في سفر نشيد الأنشاد نرى أن العريس الحبيب المجيد أتى من بعيد متخطيا كل ما يعطل وصوله إلى عروسه المحبوبة. لكن عندما قرع على الباب وجد منها الرفض وعدم الاهتمام. وللأسف هذا ما يحدث أحيانا كثيرة من مؤمنين. تقول العروس "قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه. قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما" (نش5: 3). إنها أعذار واهية قدمتها العروس لعريسها. لقد قرع عليها أولا مستخدما أروع العبارات "صوت حبيبي قارعا. افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي لأن رأسي امتلأ من الطل وقصصي من ندى الليل" (نش5: 2). الذي تحمل كل هذه الآلام، الذي رضي أن تمتلئ رأسه من الطل وقصصه من ندى الليل، لم ترد العروس أن توسخ رجليها لتفتح له الباب. يا له من كسل وعدم تقدير! ماذا كانت النتيجة لذلك؟ تقول العروس "حبيبي مد يده من الكوة فأنت عليه أحشائي. قمت لأفتح لحبيبي...فتحت لحبيبي لكن حبيبي تحول وعبر. نفسي خرجت عندما أدبر (عندما أعطاني ظهره) (نش5: 4-6). لقد كان المسيح مرفوضا من اليهودية، ومرفوضا أيضا من الناصرة هؤلاء القوم الذين أخذوه ليطرحوه من فوق الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه (لو4: 28و29). إنه مرفوض من هذا وذاك، ولكن هل مرفوضا أيضا من عزيزي القارئ؟. والآن يمكننا أن نذكر بإيجاز الأسباب التي جعلت الرب يسوع يترك اليهودية ويمضى إلى الجليل:- · ليوقف كلام وافتراء الفريسيين والمقارنات التي تسببوا فيها بين الرب يسوع ويوحنا المعمدان. · ليحفظ تلاميذه وتلاميذ يوحنا المعمدان من الخصومات والانشقاق والغيرة الأمور التي كان الفريسيون يريدون أن يوقعونهم فيها. · لحفظ كرامة ورسالة يوحنا المعمدان بدون مساس من أحد. لقد قال الرب يسوع لسامعيه عن المعمدان "أ نبيا. نعم أقول لكم وأفضل من نبي...الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان..." (مت11: 9-11). · ليعلمنا عمليا كيف نتصرف التصرف الحكيم عندما تحدث من الناس، حتى ولو كانوا مؤمنين، مقارنات بيننا وبين زملائنا في الخدمة. إنه الذوق الصالح الذي يريد الرب أن يعلمنا إياه. لقد فعل هذا ليكون لنا مثالا. · ليعلمنا أيضا بأن لا نتمسك بمكان ما حتى ولو كان نجاحنا فيه ملحوظا، بل لنذهب إلى الأماكن المحتاجة. في ذات مرة بعد أن صنع الرب يسوع العديد من معجزات الشفاء حتى أن كل المدينة (كفر ناحوم) اجتمعت على الباب عند البيت الذي كان فيه، قال له تلاميذه "إن الجميع يطلبونك" فكان جوابه "لنذهب إلى القرى المجاورة لأكرز هناك أيضا لأني لهذا خرجت..." (مر1: 32-34و37و38). وأيضا فيلبس المبشر الذي كان يكرز في مدينة من مدن السامرة واستخدمه الرب بطريقة رائعة وعجيبة حتى أن "كثيرون من الذين بهم أرواح نجسة كانت تخرج صارخة بصوت عظيم. وكثيرون من المفلوجين والعرج شفوا. فكان فرح عظيم في تلك المدينة" (أع8: 4-8). ورغم ذلك لكن ملاك الرب كلمه قائلا: "قم واذهب نحو الجنوب على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزة التي هي برية فقام وذهب..." (أع8: 26و27). لقد لحق فيلبس المبشر بالوزير الحبشي واستخدمه الرب في خلاص نفسه. · ليعلمنا أيضا الابتعاد عن الرغبة في الشهرة التي تقود إلى الكبرياء ونفور الآخرين. · ليعلمنا كيف يجب أن نتحفظ من روح التعصب واحتقار الآخرين حتى ولو اختلفوا معنا في الرأي. لنلاحظ القول "ترك اليهودية" التي كان فيها، "ومضى إلى الجليل"، واجتاز في السامرة التي لا يرغب أن يجتاز فيها أي يهودي. · لأنه كان يعلم التوقيت المناسب للوصول إلى نفس مسكينة ومحطمة وذو سمعة مشوهة بسبب خطاياها، ألا وهي المرأة السامرية. كان لابد أن يذهب إليها لأنه الراعي الذي يذهب لأجل الضال حتى يجده. لذلك ترك اليهودية وفي طريقه إلى الجليل كان لابد له أن يجتاز السامرة ليلتقي بها عند بئر سوخار. لقد ذهب إلى حيث لا يحب اليهود أن يذهبوا. ذهب ليلتقي مع من كانت تحتاج إليه. لقد ترك اليهودية ومضى إلى الجليل وكان لابد له أن يجتاز السامرة وذلك لأجل امرأة مسكينة مستعبدة لشهواتها تحتاج إلى من يحررها. ********************* رابح النفوس الحكيم "رابح النفوس حكيم" (أم11: 30). وأي حكيم مثل الرب الذي قال عن نفسه "أنا الحكمة أسكن الذكاء وأجد معرفة التدابير" (أم8: 12). فهو يعرف كيف يصل للنفوس، ومتى يصل إليها وبأي طريقة يتعامل معها. إنه يقبل الخطاة ويأكل معهم (لو15: 2)، وفي ذات الوقت يوبخ الفريسيين المرائين (مت23: 13-36). يصل إلى زكا العشار وهو فوق شجرة الجميز، وينتظر الخاطئة في بيت سمعان الفريسي (لو19: 1-10، 7: 36-50). يعرف الأسلوب المناسب لكل واحد من البشر لأنهم خليقته وصنعة يديه. يقول للمرأة الخاطئة "مغفورة لك خطاياك"، وفي ذات الوقت يوبخ سمعان الفريسي. ولأنه الرب العالم بكل شيء جاء في التوقيت المناسب عند بئر سوخار ليتلاقى بامرأة متعبة في حالة الإعياء والتعب بسبب الانغماس في أوحال شهواتها. لقد تعب هو ليريحها هي، لذا يذكر عنه "إذ كان قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر". هذا الذي قال ولازال يقول "تعالوا إليَ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت11: 28). بعد قيامته من الأموات ظهر لتلميذي عمواس وتظاهر لهما كأنه منطلق إلى مكان بعيد (لو24: 13-34). ربما عمل مع المرأة السامرية نفس الشيء، ربما أعطى لها ظهره حتى تنتهي من ملء جرتها دون أن تشعر بشيء متغير تجاهها. هذا درس يجب أن يتعلمه كل كارز بالإنجيل، بأن يعمل كل ما هو مريح للنفوس التي يتعامل معها. لقد وصل الرب يسوع إلى هذه المرأة في التوقيت الذي فيه باءت كل الأشياء التي كانت تسعى نحوها وتشرب منها بالفشل في إشباع نفسها. لقد وصل إليها هذا الشخص الذي في اليوم الأخير العظيم من العيد نادى قائلا "إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب" (يو7: 37) والذي قال "أيها العطاش جميعا هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا واشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنا..." (إش55: 1و2). يجب أن تكون المبادرة في التبشير من المبشر. إن الرب يسوع هو أروع مثال لنا في ذلك، فالذي بادر بالكلام طالبا هو الرب يسوع وبالتالي كان لابد للمرأة السامرية أن تجيب سواء إجابة صحيحة أم غير صحيحة، وبعدها واصل الحديث معها بالنعمة، فما كان على النعمة إلا أن تنتصر. بينما يذكر عن الرب يسوع أنه "تعب من السفر جلس..." يذكر "فجاءت امرأة من السامرة...لأن تلاميذه كانوا قد مضوا...". من الأشياء الرائعة المعلنة في إنجيل يوحنا عن المسيح أنه العالي المرتفع القدوس اسمه الكلمة الأزلي المعادل للآب والخالق لكل شيء الذي أتى في الجسد نراه ينفرد بالخطاة. فهو انفرد بنيقوديموس في يوحنا 3 وبالمرأة السامرية في يوحنا 4 وبالمرأة الزانية في يوحنا 8 وبالمولود أعمى في يوحنا 9 بعد أن طرده الفريسيون من المجمع (يو9: 35). إنه يريدهم ولا يريد من يتوسط بينه وبينهم. يريد أن يختلي بهم ليظهر ما بهم ويمنحهم ما عنده. إنه ينظف قبل أن يعطي، ولا يريد أحدا يعرف ما قال أو ما سمع لذلك يذكر "...لأن تلاميذه كانوا قد مضوا". لقد أرسل كل تلاميذه ليحضروا له طعاما. كان من الممكن أن يرسل واحدا أو اثنين منهم ليقوموا بهذه المهمة ويظل الباقون منهم معه، أو يرسل الجميع ويظل واحد أو اثنين منهم معه، لكنه أرسلهم جميعا لأنه هناك كلام لا يقال علانية على مسمع الناس. والشيء العجيب أن الرب ينتهي من الحديث مع هذه المرأة ويعلن ذاته لها ثم يأتي تلاميذه إلى المكان ويتعجبون من أنه يتكلم مع امرأة، ولكن لم يقل أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها. أما المرأة إذ كانت قد ارتوت في هذه اللحظة فتركت جرتها ودخلت المدينة لتخبر عنه. لم يتحدث الرب يسوع نهائيا مع التلاميذ عندما رجعوا إليه عن ما دار من حديث بينه وبين المرأة ولم يعرفهم نهائيا ما قالته من أسرار. يا له من مخلص حكيم. في الوقت الذي فيه أعلن للمرأة عن ذاته بأنه المسيا، جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة. لنلاحظ روعة الآداب المسيحية ولنتعلمها من هذا الشخص الفريد، ربنا يسوع المسيح. عندما تقابل مع شيخ يقول الروح القدس عنه "هذا جاء إلى يسوع ليلا" (يو3: 2) ولما تقابل مع المرأة السامرية تقابل معها في وضح النهار في ظهيرة اليوم. ألا نتعلم من بين السطور دروسا لأنفسنا؟ إذا كان السيد العظيم القدوس اسمه فعل هكذا أليس بالأولى نحن؟. يقول الرسول بولس "هكذا فليحسبنا الإنسان كخدام للمسيح ووكلاء سرائر الله. ثم يسأل في الوكلاء لكي يوجد الإنسان أمينا" (1كو4: 1و2). يجب أن نتعلم كيف نحفظ أسرار الذين نخدمهم والذين يأتمنونا بأسرارهم، وإلا فكيف يأتمنونا بعد ذلك؟ وإن فقدوا الثقة فينا فماذا بعد هذا وهل نصلح أن نكون خدام للرب؟. مرات كثيرة يأخذنا الحماس العاطفي ونحكي في عظاتنا عن أشياء لا ينبغي لنا أن نحكي عنها تحت عنوان اختبارات من واقع الحياة، وننسى أن أصحاب هذه القصص موجودين معنا فننشئ فيهم جراح عميقة، شفاءها يتطلب وقتا طويلا. لقد كشف الرب أعماق المرأة السامرية ماضيها وحاضرها، لكنه لم يقل لتلاميذه شيئا عنها. لقد بدأ معها وأكمل عمله معها وفي ذات الوقت حفظ سرها، لكنها هي التي تركت جرتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس "هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت" (يو4: 29). هذا ومن جانب آخر نرى أن الرب باعتباره الله المتجسد كان يعلم عن المرأة كل شيء ما فعلته وما تعمله وما ستفعله، ورغم ذلك لم يخاطبها بشيء عن ماضيها أو حاضرها لكنه جعلها هي تعترف بما هي فيه ولاسيما عندما قال لها "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى هاهنا". وهنا نرى درسا رائعا لنا سواء في العمل الفردي أو الخدمة المنبرية، بأن لا نجرح الآخرين أو نحتقرهم بسبب أخطائهم، لكن لنشجعهم ولنظهر لهم محبة الله المعلنة في صليب المسيح التي وحدها تستطيع أن تفتقدهم. أمامنا في قصة المرأة السامرية أروع نموذج ومثال لربح النفوس. لقد كان متأنيا وصبورا على هذه المرأة رغم معرفته بتفاصيل حياتها، معطيا لها وقتا للتعبير عما يجول في خاطرها وفي أعماقها. لقد انتظر طويلا مع أنها أرادت الهروب منه إلى أن اعترفت وأقرت بما أراد هو أن يصل إليه، ولم يتركها حتى منحها الراحة والارتواء. يمكننا أن نتعلم هذا الدرس من سيدنا الكريم. لا يمكننا أن نخدم خدمة صحيحة إلا إذا تعلمنا المسيح شخصيا. لا نكتفي بما نتعلمه عنه ومنه فقط لكن لنتعلمه هو شخصيا، هذا الشيء الذي لا يمكن أن يكون إلا بالشركة والعشرة معه، بالمكوث عند قدميه ومع كلمته طويلا. يمكننا أن نوجز ما فعله الرب يسوع مع هذه المرأة:- 1- أتى إليها حيث هي تكون. 2- تعب لأجلها فسار مسافة طويلة لوقت طويل لكي يصل إليها ليريحها. 3- جلس منتظرا إياها بلا ملل أو قلق وانتظرها حتى أتت. فهو أتى قبل أن تأتي هي إليه 4- أتى في التوقيت المناسب وكان نحو السادسة، في وقت الظهيرة وفي وضح النهار. 5- عطش ولم يرتوي إلا بارتوائها. 6- لم يستخدم معها أية كلمة أو عبارة جارحة. 7- تأنى عليها ولم يتركها حتى حصلت على خلاصه وارتوت من نبعه فتركت جرتها. من الأقوال السابقة يمكننا أن نتعلم درسين هامين على الأقل:- الدرس الأول: هو أننا نحن البشر لم نذهب إلى الرب ولم نبحث عنه ولم نفكر حتى في خلاص نفوسنا، لكنه هو الذي أتى إلينا وبحث عنا "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة..." (1تي1: 15). "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد..." (يو3: 16). "ولكن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رو5: 8). "ولما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين هم تحت الناموس لننال التبني" (غلا4: 4و5). لقد تعب لنستريح نحن وعطش لنرتوي، وهو الآن ينتظر بطول أناة رجوع الخطاة إليه، فهو "يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة" (2بط3: 9). الدرس الثاني: يجب أن نتعلم كيف نتأنى على النفوس التي نقدم لها بشارة الإنجيل، ولا نفشل بل نثابر حتى تصل إلى المسيح المخلص. كما يجب أن نتعلم كيف نختار المكان المناسب والوقت المناسب لزيارة الأشخاص ولاسيما لو كانت عائلات. يجب أن يكون موعد الزيارة متفق عليه من قبل، والتوقيت مناسب ليس في وقت النوم أو في ساعة متأخرة بالليل حتى لا يحدث انزعاج، ويجب أن يكون رب العائلة متواجد وإن لم يكن متواجد فيجب اصطحاب مؤمن في الزيارة. يجب أن يقدم المسيح المخلص دون التدخل في أمور عقائدية أو استخدام كلمات وعبارات جارحة أثناء الحديث. لقد كان الرب يسوع يعرف كل تفاصيل حياة المرأة السامرية، ماضيها وحاضرها، فهو "يعرف الجميع. ولأنه لم يكن محتاجا أن يشهد أحد عن الإنسان لأنه علم ما كان في الإنسان" (يو2: 24و25). لكنه لم يتكلم معها بأية كلمة جارحة نهائيا بل أظهر لها المحبة والنعمة، أما هي فقد اعترفت له بخطيئتها (يو4: 17). لقد حدثها عن شخصه باعتباره عطية الله (يو4: 10). كان من السهل أن يكلمها عن ماضيها وحاضرها، ما فعلته وما تعيش فيه، لكنه لم يفعل ذلك. فهو لم يأت ليفضح ويكشف أسرار الناس لكنه جاء لخلاصهم وتحريرهم. لقد خاطبها بروح الوداعة والاتضاع ولم يخدش مشاعرها من قرب أو بعد. أنه يفهم أفكارنا من بعيد (مز139: 2) ومع ذلك لم يستخدم كلمة واحدة تسبب لها ألما، بل كان حلوا مميزا في كل حديثه "حلقه حلاوة كله مشتهيات" (نش5: 16). "انسكبت النعمة على شفتيه" (مز45: 2) "مملوءا نعمة وحقا" (يو1: 14). إن رسالة المسيح ليست هي رسالة التوبيخ ولا رسالة التهديد والتأنيب ولا هي رسالة التشجيع على عيشة الخطية وحياة البعد عن الله، لكنها رسالة الحب للبشر والنعمة التي تعطي بلا حساب خلاصا وارتواء وشبعا لأشر الخطاة. من الأمور الرائعة التي نلاحظها في هذه القصة ترفق الرب يسوع وصبره وطول آناته وتحمله إياها. الشيء الذي يريد الرب أن يعلمنا إياه وهو أن نترفق بالنفوس البادئة التي لا تزيد عن أنها أطفال. إن "رابح النفوس حكيم" (أم11: 30). لو أدركنا أننا دخلنا إلى دائرة النعمة بذات الكيفية التي يدخل بها الآخرين لترفقنا بهم. فالنعمة التي خلصت نيقوديموس المتدين هي ذاتها التي خلصت المرأة السامرية المنبوذة والمعروفة بشرها، وهي التي خلصتنا نحن أيضا. إذا لماذا لا نترفق بالآخرين ونصبر عليهم؟ ولماذا نحسب أنفسنا أفضل منهم؟. ********************* لقاءات فردية مع رب البشرية في إنجيل يوحنا "لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص به العالم" (يو3: 17) يتميز إنجيل يوحنا بالحديث عن لقاءات المسيح بالأشخاص. بينما البشيرين متى ومرقس ولوقا يظهرون في بشائرهم المقابلات الجماعية لذلك أينما نتجه نلمس الازدحام الشديد حول الرب. في إنجيل متى نقرأ "فتبعته جموع كثيرة من الجليل والعشر المدن وأورشليم واليهودية ومن عبر الأردن" (مت4: 25). وأيضا "ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل..." (مت5: 1، 8: 1). وأيضا "ولما رأى يسوع جموعا كثيرة حوله أمر بالذهاب إلى العبر" (مت8: 18). كما يتميز إنجيل متى بالمواعظ الجماعية ففيه تذكر موعظة الرب يسوع على الجبل (مت5و6و7)، وأيضا موعظة الويلات (مت23). وفي إنجيل مرقس نقرأ "وكانت المدينة كلها مجتمعة على الباب" (مر1: 33). وأيضا "ثم دخل كفر ناحوم أيضا بعد أيام فسمع أنه في بيت وللوقت اجتمع كثيرون حتى لم يعد يسع ولا ما حول الباب" (مر2: 1و2). وأيضا "ثم خرج إلى البحر وأتى إليه كل الجمع فعلمهم" (مر2: 13). وفي إنجيل لوقا نقرأ "ولما صار النهار خرج وذهب إلى موضع خلاء وكان الجموع يفتشون عليه..." (لو4: 42). وأيضا "وإذ كان الجمع يزدحم ليسمع كلمة الله..." (لو5: 1). وأيضا "ونزل معهم ووقف في موضع سهل هو وجمع من تلاميذه وجمهور كثير من الشعب من جميع اليهودية وأورشليم وساحل صور وصيداء الذين جاءوا ليسمعوه ويشفوا من أمراضهم" (لو6: 17). وأيضا "فلما اجتمع جمع كثير أيضا من الذين جاءوا إليه من كل مدينة..." (لو8: 4). وهكذا كلما نقرأ في البشائر الثلاثة نرى الازدحام الشديد حوله حيث يستعلن مجده الملكي في بشارة متى، وخدمته الجليلة لكل البشر في إنجيل مرقس، وأيضا لطفه وحنانه وغنى نعمته المتجهة إلى البائسين الساقطين في إنجيل لوقا. أما في إنجيل يوحنا رغم أن محبة الله معلنة فيه لكل البشر "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد..." (يو3: 16) لكننا نرى بوضوح مقابلات الرب يسوع مع الأفراد ومسئولية الأفراد من جهة قبولهم للرب يسوع من عدمه. ففي الأصحاح الأول نقرأ عن مقابلته مع أندراوس وأخيه سمعان، ونثنائيل وفيلبس (يو1: 40و42و45و47). وفي الأصحاح الثاني نراه في عرس قانا الجليل يقول "...وقدموا إلى رئيس المتكأ" (يو2: 8). وفي الأصحاح الثالث نقرأ عن مقابلته مع نيقوديموس معلم إسرائيل. وفي الأصحاح الرابع نقرأ عن مقابلته مع المرأة السامرية، وأيضا مقابلته مع خادم الملك الذي شفى له ابنه من بعد. وفي الأصحاح الخامس نقرأ عن لقائه مع مريض بركة بيت حسد (يو5: 1-9). وفي الأصحاح الثامن نقرأ عن مقابلته مع المرأة الزانية (يو8: 1-12). وفي الأصحاح التاسع نقرأ عن مقابلته مع المولود أعمى. وفي الأصحاح العاشر "...يدعو خرافه الخاصة بأسماء ويخرجها" وأيضا يقول "...وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني" (يو10: 3و14). وفي الأصحاح الحادي عشر نقرأ عن لقائه بمرثا ومريم للتعزية ورفع الأحزان بإقامة لعازر من الموت. وفي الأصحاح الثاني عشر نقرأ عن وجوده في الوليمة والعشاء الذي صنع له من مرثا ومريم ولعازر (يو12: 1-3). وبعد القيامة من بين الأموات نقرأ عن لقائه بمريم المجدلية ومع بطرس (يو20و21). إن كان البشير يوحنا سطر لنا العديد من لقاءات الرب يسوع الفردية، لكن أطول لقاء يسطره لنا في إنجيله هو لقاءه مع المرأة السامرية. وهذا اللقاء من أروع اللقاءات وأسماها، ليس لأنه فيه خلاص نفس فقط، لكنه لقاء الله المتجسد مع امرأة ساقطة تعيش في أوحال خطاياها. وهذا يمثل لقاءه مع البشرية التعيسة. يسوع المسيح الذي "فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا" (كو2: 9)، الله المتجسد يصل إلى الأرض ويتحدث إلى البشرية بالحب والحنان والنعمة. هذا ومن جانب آخر يبرز الروح القدس في بشارة يوحنا العبارات التي تظهر المسئولية الفردية. فيقول "لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يو3: 16)، "الذي يؤمن به لا يدان" (يو3: 18)، "الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية" (يو3: 36)، "الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن..." (يو5:24). "أنا هو نور العام من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو8: 12)، "أنا هو الباب إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى" (يو10: 9)، "أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو14: 6). لقد التقى الرب يسوع مع كثيرين لقاء فرديا ومنحهم الخلاص كما مر بنا. لكن الآن نتأمل في واحدة منها ألا وهي: لقاء الرب مع المرأة السامرية إن لقاء الرب يسوع بالمرأة السامرية لقاء حي لأنه لقاء رب الحياة مع امرأة ميتة روحيا بالذنوب والخطايا فأحيا ضميرها بل وأيضا منحها الحياة. يطلعنا الكتاب المقدس عن لقاءين حدثا مع المرأة: اللقاء الأول: وهو لقاء المرأة بالحية وهذا نراه في سفر التكوين الأصحاح الثالث. واللقاء الثاني: وهو لقاء المرأة بالرب يسوع وهذا نراه في إنجيل يوحنا. وكلا اللقاءين هما صورة للقاء البشرية مرة بالشيطان ومرة بالرب يسوع. في اللقاء الأول ذهب الشيطان إلى المرأة ودخل معها في حديث للإغواء والإغراء وانتهى بأن الإنسان صار عاريا وفي خجل، ونتائج الخطية وجراحها أصبحت واضحة عليه (تك3: 1-7). وفي اللقاء الثاني ذهب الرب يسوع إلى المرأة وأظهر لها ومن خلالها للبشر المحبة الإلهية العظيمة وصنع الفداء وما يستلزمه ستر الخطايا. ويمكن أن نرى اللقاءين في أقوال الرب يسوع، إذ قال "السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك" وهذا هو لقاء الشيطان بالبشرية التي امتلأت من ضحاياه. نفوس مسروقة وأخرى مذبوحة وأخرى هالكة. هذا هو اللقاء الأول. أما اللقاء الثاني نراه في قول الرب "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10: 10). فالمسيح دخل العالم فقيرا وخرج منه فقير. لم يأخذ من الأرض شيئا. إبراهيم عاش في الأرض غريبا، لكن عندما مات دفن في قبر ملكه، أما الرب يسوع عاش فقيرا وعندما مات دفن في قبر مستعار. لم يأخذ من العالم شيئا، لكنه أتى لأجلنا نحن. إنه أتى ليعطي الحياة ولقد شرح لنا الطريق الذي به يعطينا الحياة فقال "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف" (يو10: 11). إن لقاء الرب مع المرأة السامرية ما هو إلا صورة حية لمقابلات نعمة الله من خلال الرب يسوع مع الخطاة. إننا نرى:- 1- أن الرب يسوع أخذ ذمام المبادرة بالكلام مع المرأة فالبدايات دائما منه وليس من الخطاة. 2- أول كلمة قالها للمرأة "أعطيني" لقد وجه تفكيرها في الحال إلى النعمة، وفي ذات الوقت جعلها تنشغل بشخصه هو. 3- كان مواجها لها وجها لوجه طالبا معونتها بسؤاله منها ماء ليشرب. الشيء الذي يعطي لنا معنى أعمق من الماء، إنه يبحث عن إيمانها وثقتها لتنعش روحه. 4- لقد أظهر جحود المرأة الذي من خلاله ظهر العداء الذي في العقل والتفكير ضد الله. 5- لقد أكد لها عن جهلها لطريق الخلاص ومجده الأبدي. 6- أعلن لها عن الحياة الأبدية تحت تعبير رمزي رائع "الماء الحي". 7- أكد لها أن هذا الماء الحي يقدم لها كهبة مجانية في حال أنها تطلب منه ذلك وتأخذ مركز المستقبل لعطية الله. في لقاء الرب يسوع مع المرأة السامرية يمكننا التحدث عن أربعة أمور هامة هي:- 1- الماء الحي. 2- الضمير الحي. 1- المسيح الحي. 4- الإيمان الحي. أولا: الماء الحي لقد تعب الرب يسوع كثيرا وعطش وجاع لأجل راحة وارتواء وشبع امرأة ساقطة في خطاياها. ذهب ليلتقي بها على بئر سوخار. وهذه صورة مصغرة لما فعله لأجلنا، فهو لم يأت إلينا من مدينة إلى مدينة، لكنه جاء إلينا من قمة المجد الأسنى في أتضاع لا يوصف، فهو "الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله. لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في2: 6-8). لقد تعب كثيرا لأجلنا وتألم آلاما لا توصف ولا تحد بحدود ولاسيما آلام وتعب الصليب التي لا يقدرها أحد سوى الله وحده، وهذا كله في سبيل راحتنا نحن. لقد تعب لنستريح وعطش لكي نرتوي. لقد أتى إلى البئر قبل أن تأتي هي وجلس عليها منتظرا إياها. لقد أتى خصيصا لأجلها وعندما جاءت إلى البئر طلب منها قائلا "أعطيني لأشرب" فأرادت أن تغلق الباب في وجهه إذ قالت له "كيف تطلب مني لتشرب..." لكنه لم يمضي بل ظل قارعا وطالبا "هنذا واقف على الباب وأقرع" (رؤ3: 20). باله من شخص عجيب ومحب! كأنه يقول للمرأة أنا أظل بعطشي لكن أريدك أنت أن ترتوي. لقد قال لها "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا" (يو4: 7و10). ومن هنا يمكننا أن ندرك عطايا الله للإنسان:- · عطية الآب: أعطانا ابنه. · عطية الابن: أعطانا الروح القدس. قديما قال موسى رجل الله لله "أرني مجدك" فكان جواب الله له "لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر33: 18و20). فما بالنا في امرأة ساقطة تعيش في خطاياها ونجاستها تقف أمامه دون أن تعلم؟ وماذا لو قال لها أنا الله؟ أعتقد أنها كانت ماتت في الحال. إنه لم يكشف لها عن ذاته إلا بعد أن غيرها وملأ قلبها بالسلام. لنأت أولا إلى المسيح ونقبله مخلصا لحياتنا ثم نكتشف بعد ذلك من هو هذا الشخص العجيب صاحب الأمجاد العظيمة. لقد سألت المرأة السامرية الرب يسوع قائلة "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب"؟ وفاتها أنه أعظم من يعقوب والبئر التي تشرب منها، وأعظم من الكل وأعظم من الملائكة (عب1: 4). لم يجب الرب على سؤالها لكنه دخل معها مباشرة على احتياجها الخاص إلى الماء الحي لأنه يعلم أن الإنسان جاهل. قال لها "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا" بمعنى كل من يستمر في الشرب من الماء الذي تشربين منه يعطش أيضا، ثم قال "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه فلن يعطش إلى الأبد". وهذه العبارة تعني أيضا أن كل من يشرب مرة واحدة من الماء الذي يعطيه هو كفيلة أن تجعل الشخص لن يعطش إلى الأبد. إن الرب لا يريد أن يروينا فقط، بل يريد أن يصل بنا إلى الارتواء الكامل فنرفض مياه العالم القذرة، كيوسف الذي رفض الخطية والنجاسة (تك39: 7-12). ودانيال الذي جعل في قلبه أن لا يتنجس بأطايب الملك ولا بخمر مشروبه (دا1: 8). ماء العالم قذر، والعطش يجعل الإنسان يشرب من ماء غسيل الآخرين، لذلك يريد الرب أن يعطي ماء حياة مجانا. يبحث الإنسان عن الأمور العالمية لأنه عطشان، لكن متى ارتوى بالمسيح فأنه يرفض كل ماء غيره. لذلك دعي الله "نبع الحياة" (مز36: 9)، وأيضا "ينبوع المياه الحية" (إر17: 13)، والرب يسوع المسيح باعتباره الله المتجسد أعلن أنه يعطي الماء الحي الذي يروي عطش الإنسان إلى الله إلى الأبد ويعطيه مجانا (رؤ22: 17). لقد قال الرب يسوع للمرأة السامرية "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه أنا يصير فيه ينبوع ماء (أي يفيض على الآخرين) ينبع إلى حياة أبدية". وهنا بدأت المرأة تشتاق إلى تلك المياه فقالت "يا سيد أعطني من هذا الماء لكي لا آتي إلى ههنا لأستقي". لقد ذهبت بفكرها إلى المياه الطبيعية مرة أخرى. لم تكن تدرك ما تقول، لقد تقدمت في فهمها للأمور لكن أمامها الطريق طويل لذلك أكمل الرب تعامله معها بصبر، فدخل معها في الموضوع الثاني وهو لمس الضمير. ثانيا: الضمير الحي قال الرب يسوع للمرأة "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى ههنا" (يو4: 16). لقد عمل الرب لها بهذه العبارة ما يشبه الصدمة الكهربائية لضميرها. لقد كان ضميرها لازال حيا لكنه في ذات الوقت كان متبلدا، فكان هذا السؤال بالنسبة لها صدمة فاقت من خلالها فاستيقظ ضميرها. لقد نبه الرب ذهنها وحرك عاطفتها وأيضا تعامل مع ضميرها. ولأن ضميرها كان حيا فهي لم تكذب وفي ذات الوقت لم تقل الحقيقة كاملة. لقد قالت "ليس لي زوج". إنها أقصر عبارة بها تريد أن تنهي الحديث هروبا من الاعتراف بالخطية. وفي هذه اللحظة كانت الصدمة الحقيقية إذ قال المسيح لها "حسنا قلت ليس لي زوج". ربما عند هذه العبارة فرحت المرأة واعتبرت أن الحديث في هذه الأمور الحساسة والمحرجة قد انتهى، لكن الرب يسوع واجهها بالقول "لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق" (يو4: 17و18). لنلاحظ القول "كان لك" في الماضي، "والذي لك الآن" في الحاضر. إنه يعرف الأسرار ويظهرها. إنه الرب الذي قال "أنا الرب فاحص القلب ومختبر الكلى" (إر17: 10). لقد قال له صاحب المزمور "يا رب قد اختبرتني وعرفتني. أنت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيد. مسلكي ومربضي ذريت وكل طرقي عرفت" (مز139: 1-12). ثالثا: المسيح الحي إنه الرب الذي يسر بالغفران والمسامحة، فمتى كشفنا له قلوبنا فإنه يستر كل خطايانا من خلال دمه الكريم "ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية" (1يو1: 7). فهو الذي قال "لأني أكون صفوحا عن آثامهم ولا أذكر خطاياهم وتعدياتهم في ما بعد" (عب8: 12). إنه حي يكشف الخبايا ويعرف الخفايا لأن كل شيء مكشوف وعريان أمامه، وفي ذات الوقت يصفح ويغفر لكل من يقبل إليه. إنه الحي الذي "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" (يو1: 4) لذلك هو يستطيع أن يمنح الحياة ومنابع ارتواءها لكل من يؤمن به (يو3: 36، 5: 24و25). رابعا: الإيمان الحي رغم أن هذه المرأة كانت مندفعة لفعل الشر وعلى قدر ما كانت تبحث عن مياه ترويها، لكن جاء إليها السيد العظيم الذي يروي. لقد استيقظت فقالت له "أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي..." والرب يسوع قال لها "أنا الذي أكلمك هو" (يو4: 26). لنلاحظ القول "أنا هو" يعني يهوه وهذا حق فالرب يسوع هو الله يهوه بذاته. عندما قال لها "أنا هو" تغير الحال من الخطية والنجاسة إلى القداسة. لقد اندفعت بإيمان حي للشهادة فذهبت إلى المدينة وأخبرت الناس أنها تقابلت مع المسيح وعن النعمة التي حصلت عليها. ********************* اليهودية والسامرة والجليل "...ترك اليهودية ومضى إلى الجليل وكان لابد له أن يجتاز السامرة" (يو4: 3و4). من الملاحظ أن ترتيب البلاد في العددين السابقين هو اليهودية في الجنوب والجليل في الشمال وما بين الاثنين منطقة السامرة. فلكي يترك اليهودية ويأتي إلى الجليل كان لابد له أن يجتاز السامرة. من بداية خدمة الرب يسوع الجهارية، بدأ الفريسيون إعلانهم عن عداوتهم له. هذه العداوة كانت بسبب أن الرب كان يدين نفاق تعليمهم علنيا، وليس هذا فقط بل أن غيرتهم من الرب زادت جدا ولاسيما عندما أخذ الرب صورة القائد لحركة جديدة. كان يوحنا المعمدان ابنا لكاهن كان يخدم في الهيكل، لذلك رأى الفريسيون أنه قد يكون له الحق أن يعظ ولذلك أعطوه بعض الاعتبار. وأما الرب فرأوه ليس أكثر من مجرد ابن نجار. فمن هذا الذي يجعل من نفسه قائدا لبعض الناس؟. كما أن الرب يسوع كان من الناصرة، وهو الآن يعمل ويعلم في اليهودية! والمفروض كما كانوا يعتقدون أنه "لا يخرج من الناصرة شيء صالح"، و "أنه لم يقم نبي من الجليل" (يو1: 46، 7: 52). لقد نمت روح حقد وتذمر وغيرة عند الفريسيين لأنهم رأوا أن يسوع يعلم ويعمد تلاميذ أكثر من يوحنا المعمدان. لقد علم الفريسيون نوعية الناس التي ذهبت وراء تعليم وتعميد يوحنا المعمدان، وقد قالوا عن المعمدان أنه شبيه إيليا إذ كان يصرخ في البرية. ولكن الفريسيين تعجبوا إذ رأوا أن شهرة يسوع – الذي قالوا عنه أنه ناصري، من بيئة فقيرة – تفوق شهرة المعمدان وبالطبع لم يسمحوا بحدوث هذا على الإطلاق. كان اليهود يبغضون السامريين وهذا ما نلمسه في قول المرأة للرب يسوع "واليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 9)، وفي قول اليهود للرب يسوع "ألسنا نقول حسنا أنك سامري وبك شيطان" (يو8: 48). وبهذا القول كان اليهود يريدون أن يلحقوا بالرب يسوع أشد الإهانات. وبسبب هذا العداء كان اليهود يبذلون كل جهدهم ليتفادوا المرور بالسامرة فكانوا يذهبون من طريق بعيدة. لكن الرب يسوع في هذا الأصحاح يترك اليهودية ذاهبا إلى الجليل مجتازا بالسامرة. وفي هذه البلاد لنا الكثير من الدروس والعبر، وهذا ما نتحدث عنه الآن:- أولا: اليهودية:- في الأصحاحات الأربعة الأولى من إنجيل يوحنا نستطيع أن ندرك حالة الأمة اليهودية والتي تمثل حالة كثيرين من البشر أيضا:- 1- في الأصحاح الأول نقرأ عن رؤساء كهنة وكهنة عميان. لقد أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوا يوحنا المعمدان هل هو المسيح أم هو شخص آخر. ولقد أجابهم المعمدان قائلا "أنا أعمد بماء. ولكن في وسطكم قائما الذي لستم تعرفونه. هو الذي يأتي بعدي الذي صار قدامي الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه" (يو1: 19و26و27). بمعنى أن المسيح قائم وموجود في وسطهم لكنهم لا يعلمون عنه شيئا. 2- في الأصحاح الثاني نرى أمة تعيسة لا تمتلك الفرح الحقيقي (يو2: 3) ونرى أيضا هيكل الله وقد تدنس، فبدلا من أن يكون بيت للعبادة أصبح بيت للتجارة. وقال الرب يسوع "لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة" (يو2: 14-16). 3- في الأصحاح الثالث نرى سنهدريم ميت روحيا. ففي المقابلة بين الرب يسوع ونيقوديموس الرجل العظيم عند اليهود، رغم أنه معلم إسرائيل ورئيس لليهود، لكنه يجهل الموضوع الرئيسي الذي من خلاله يدخل الإنسان في علاقة مع الله ألا وهو الولادة الجديدة (يو3: 7). ولذلك قال الرب يسوع له "أنت معلم إسرائيل ولا تعلم هذا" (يو3: 10). فالمعلم والرئيس الذي يعتبر أعظم ما فيهم لا يعلم هذا الأمر. فرغم أن التوراة والأنبياء كانت عندهم لكن كانوا يجهلون هذا. لقد توارثوا المعلومات وتعلموها، لكن البرقع كان لازال على قلوبهم كما هو مكتوب "بل أغلظت أذهانهم لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق غير مكشوف الذي يبطل في المسيح" (2كو3: 14). لهذا السبب لا يمكنهم أن يفرقوا بين المعلومات وبين شخص المسيح الذي جاء إليهم وصار في وسطهم. لكننا نراه مضطهدا (يو3: 26) وشهادته مرفوضة (يو3: 32). 4- في الأصحاح الرابع نرى اضطهاد اليهود للسامريين. لقد ميز الرب شعبه القديم بإعطائه إياه البركات الأرضية وأيضا استأمنهم على كلمته (رو3: 2). وعلى الرغم من كمية النور الذي كان عندهم، إلا أنهم تعاملوا مع السامريين الذين كانوا يعيشون في الظلمة بمنتهى الأنانية. لقد كانت منطقة السامرة جزء من الأرض اليهودية وعاش السامريون في داخل حدود أرضهم، وهم أنصاف عبدة أوثان، وبالرغم من هذا لم يحب اليهود السامريين، ولم يهتموا بصحتهم الروحية، بل يذكر "لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 9). ومما يثبت تعالي اليهود أيضا على السامريين أن التلاميذ عندما رجعوا إلى حيث كان الرب يسوع تعجبوا لأنهم رأوه يتكلم مع امرأة سامرية (يو4: 27). من الكلام السابق يمكننا أن نرى من خلال اليهودية الكبرياء والغرور الديني والروح المتشامخة والنفس المتعالية. قال اليهود للرب يسوع "إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط. كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحرارا" (يو8: 33) بينما كانوا في تلك الأيام مستعبدين للرومان. وقالوا أيضا للرب يسوع "أبونا إبراهيم" بينما الرب يسوع قال لهم "أنتم من أب هو إبليس" (يو8: 39و44). وقالوا للمولود أعمى الذي صنع له الرب يسوع عيونا من الطين "أنت تلميذ ذاك (الرب يسوع) وأما نحن فإننا تلاميذ موسى. نحن نعلم أن موسى كلمه الله. وأما هذا فما نعلم من أين هو" (يو9: 28و29). وقالوا للرب يسوع " أ لعلنا نحن أيضا عميان. قال لهم يسوع لو كنتم عميانا لما كانت لكم خطية ولكن الآن تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية" (يو9: 40و41). وكانوا يفتخرون بأن عندهم التوراة ومنهم الأنبياء ولهم الآباء (رو9: 4و5، عب1:1)، لكن الرب يسوع قال عنهم "عميان قادة عميان" (مت15: 14)، وقال لهم "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون" (مت23: 14). لقد رأوا في أنفسهم أنهم ذرية إبراهيم وخلافة موسى والأنبياء، لكن يوحنا المعمدان قال لهم "يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي. فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم" (مت3: 7-9). إنها الكبرياء الدينية التي تحرم الإنسان من قبول الرب يسوع المسيح المخلص ومن التمتع بكل بركاته. ومما يؤسف له أن كثيرين من المنتسبين للمسيح اسما، حرموا أنفسهم من المسيح المخلص بسبب الكبرياء الدينية، وتمسكهم بما قد ورثوه من مبادئ دينية، حتى ولو كانت صحيحة، دون أن يعلنوا توبتهم عن شرورهم وقبولهم المسيح وعمله المبارك. ولأن أهل اليهودية كان لهم تدينهم كان لابد للرب أن يظهر شخصه لهم باعتباره موضوع العهد القديم، وأن كل الرموز وكل الطقوس والممارسات قد تحققت فيه أيضا، وهو غاية الناموس. وبالتالي لابد أن يكون قد أخذ مكانها كلها. ولذلك في الأصحاح الخامس من إنجيل يوحنا نراه يقف بجانب بركة بيت حسدا ويقول للمريض "أتريد أن تبرأ" (يو5: 6). ورغم أنه شفاه لكنهم بسبب التدين المصحوب بالكبرياء الدينية لم يقبلوه. لذلك ترك اليهودية ومضى إلى الجليل. ثانيا: الجليل:- الجليل تمثل العقلانية والجهل الديني مجتمعان معا. فالجليليون يعتزون بحكمتهم وثقافتهم، ودائما يستخدمون العقل في الحكم على ما يحدث أمامهم أو حولهم متكلين على حكمتهم الإنسانية وثقافتهم، الشيء الذي قادهم إلى الكبرياء والغطرسة، وهذا ما نلاحظه في تعامل أهل الناصرة- إحدى مدن الجليل- مع الرب يسوع. فرغم كل المعجزات التي صنعها أمامهم، لكنهم رفضوا قبوله، ولم يروا فيه سوى "النجار". لقد اختبر هناك "أنه ليس نبيا مقبولا في وطنه" (مر6: 3، لو4: 24). لقد قالوا "أ ليس هذا هو النجار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان. أو ليست أخواته ههنا عندنا. فكانوا يعثرون به. فقال لهم يسوع ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته. ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم. وتعجب من عدم إيمانهم." (مر6: 3-6). لقد أرادوا أن يطرحوه إلى أسفل الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه، أما هو فجاز في وسطهم ومضى. لقد ذهب إلى مدينة أخرى من مدن الجليل وهي كفر ناحوم وكان يعلمهم في السبوت، وكل ما ناله منهم هو أنهم بهتوا من تعليمه لأن كلامه كان بسلطان (لو4: 29-32). في الجليل لا نجد إلا الادعاء بكل معانيه، فهم يرحبون بالرب يسوع لا لأنهم آمنوا به، لكن لأنهم رأوا المعجزات التي صنعها والعجائب التي فعلها "فلما جاء إلى الجليل قبله الجليليون إذا كانوا قد عاينوا كل ما فعل في أورشليم في العيد" (يو4: 45). فالجليليون عقلانيون واليهودية متدينون. نوعان مختلفان تماما. وربنا يسوع المسيح ابن الله الحي لم يأت ليزيد من تدينهم ولا ليزيد من ثقافاتهم وعلمهم. ولكن الغرض الذي لأجله قد جاء كان لأجل خلاص الإنسان النجس الخاطئ الأثيم الهالك "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). ولذلك لابد له أن يجتاز السامرة. ثالثا:السامرة:- هذه المقاطعة تمثل شر الإنسان في عمقه مصحوبا بالادعاء الديني الكاذب، وهذا ما نراه في حياة المرأة السامرية التي كانت تعيش في مستنقع النجاسة وأيضا في قولها للرب يسوع "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب" (يو4: 12)، وأيضا في قولها للرب " آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه" (يو4: 20). لنلاحظ القول "آباؤنا... وأنتم"، مع أن الرب يسوع قال لها "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون" (يو4: 22)، ومع ذلك حياتهم مملوءة بالادعاء الكاذب. السامرة مقاطعة مرفوضة من اليهود وتعتبر نجسة وخارج حدود محلة إسرائيل، فهي تشير أيضا إلى الخطاة والأثمة. فهي لا يوجد فيها من الصفات ما هو ممدوح، ورغم ذلك جاء الرب يسوع إليها ودخل فيها ومكث لخلاص من فيها. ذهب الرب يسوع إلى السامرة وجلس على البئر منتظرا قدوم امرأة خاطئة من هذا الشعب النجس ولم يتركها حتى منحها الخلاص، وبسبب كلامها وشهادتها آمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين الذين سألوه أن يمكث عندهم. فمكث هناك يومان. هذا هو الوضع الصحيح الذي فيه يمكن للرب يسوع أن يظهر ذاته ويعلن عن محبته وغنى نعمته وعظمة رحمته. أما الجليل رغم أنه ذهب إليها لكنه لم يستطع أن يفعل ذلك لأنه كان يعلم، وقد شهد بذلك "أن ليس لنبي كرامة في وطنه" (يو4: 44). فهي لم تكن المكان الذي يستطيع أن يخدم فيه كما كان في السامرة التي نراه فيها يجلس على بئر سوخار ليستريح من تعبه ويروي ظمأه ويشبع قلبه بطعام خاص به. فلقد قال "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" حتى أن تلاميذه لما أتوا إليه بالطعام الذي اشتروه له وقالوا له "يا معلم كل". قال لهم "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو4: 31-34). لقد استراح وارتوت نفسه وشبع حتى أن التلاميذ قالوا بعضهم لبعض "أ لعل أحدا أتاه بشيء ليأكل" (يو4: 33). إن كنا نراه هكذا في السامرة، لكن بكل أسف نراه يدخل الجليل بكل تحفظ ولا يذكر عن مكان رحب به أو مكث فيه هناك كما فعل السامريون به. لقد عمل هناك في الجليل عملا رائعا أظهر من خلاله عظمة شخصه وغنى نعمته وقدرته الفائقة وسلطانه على المادة، فلقد صنع الماء خمرا (يو2: 1-11، 4: 46)، ورأوا وعاينوا كل ما فعل في أورشليم في العيد، لأنهم هم أيضا جاءوا إلى العيد (يو4: 45) لكنهم لم يؤمنوا به. إنه لم يجد في الجليل وفي اليهودية الطعام الذي يشبعه كما وجده في السامرة. لقد ذهب الرب يسوع إلى السامرة بدون تردد، ودخل الجليل بكل تحفظ، أما في اليهودية فلم يجد مكانا لنفسه، والسبب أن هناك أورشليم معقل التدين حيث يوجد الهيكل والأعياد والطقوس والبركة، هذه كلها كانت هناك، أما هو فلا مكان له بالنسبة لهم بل يعتبر دخيل والمطلوب منه أن ينسحب. من الكلام السابق يمكننا أن نتعلم دروسا عظيمة، فعندما نعلن عن احتياجنا إلى شخصه كما فعل السامريون الذين طلبوا منه أن يمكث عندهم (يو4: 40)، نراه يظهر لنا ذاته ويمتعنا بحضوره. أما عند بركة بيت حسدا فهو لا يمكنه أن ينتظر طويلا بل لابد أن يغيب عن الأنظار لأن هناك الادعاءات العقلية والدينية الكثيرة. إننا بدون القلب المنكسر والروح المنسحقة والنفس المحتاجة إلى شخصه لا يمكن أن تكون لنا شركة معه. فالتدين والادعاء والحكمة البشرية تحرمنا تماما منه. لقد وجد الرب يسوع قبولا له في السامرة لكن لم يجد هذا لا في الجليل ولا في اليهودية. لقد كان لكلامه تأثير عظيما على ضمائر السامريين في السامرة، لذلك لم يطلبوا أن يروا معجزة أو أية آية لذلك وجد الرب يسوع له هناك مكانا. أما في الجليل كان العقل يتحكم في كل شيء، فكانت المعجزات وصنع الآيات هو أساس الإيمان، حتى أن هيرودس حاكم هذه الولاية "كان يريد من زمان طويل أن يراه لسماعه عنه أشياء كثيرة وترجى أن يرى آية تصنع منه" (لو23: 8). وهناك أجرى الرب يسوع آيات وعجائب مظهرا من خلالها رحمته وقوته، ولكنه لم يمكث طويلا لأنه رغم أنه صنع معجزات كثيرة أمامهم لكنهم لم يتوبوا ولم يؤمنوا به. "حينئذ ابتدأ يوبخ المدن التي صنعت فيها أكثر قواته لأنها لم تتب. ويل لك يا كورزين. ويل لك يا بيت صيدا. لأنه لو صنعت في صور وصيداء القوات المصنوعة فيكما لتابتا قديما في المسوح والرماد. ولكن أقول لكم إن صور وصيداء تكون لهما حالة أكثر احتمالا يوم الدين مما لكما. وأنت يا كفر ناحوم المرتفعة إلى السماء ستهبطين إلى الهاوية. لأنه لو صنعت في سدوم القوات المصنوعة فيك لبقيت إلى اليوم. ولكن أقول لكم إن أرض سدوم تكون لها حالة أكثر احتمالا يوم الدين مما لك" (مت11: 20-24). أما في اليهودية فالتدين لم يعطه مكانا نهائيا. إن الرب يسوع يقترب من النفس البائسة والمكسورة والشاعرة باحتياجها وبثقل خطاياها ونجاستها، لكن الادعاء بالتدين مهما كانت صورته يجعله يبتعد بعيدا. فالإنسان المدعي يحكم في الرب ويزنه بموازينه. والادعاء الديني وبصفة خاصة الذي يعتمد على مشاهدة المعجزات والآيات المصنوعة يحول الإنسان عن نعمة الله ورحمته التي تريد خلاصه وهذا الأمر يحزن قلب الرب الذي جاء إلى الإنسان الخرب التعس لكي يخلصه. ********************* "...وكان لابد له أن يجتاز السامرة" (يو4: 4). حتمية المرور بالسامرة يمكننا أن نفهم العبارة السابقة بطريقة أخرى وهي أن الرب يسوع ليصل إلى الجليل كان لابد له أن يجتاز في هذا الطريق المار بالسامرة. مع أنه في امكانه أن يغير الطريق إلى طريق آخر كما كان يفعل اليهود. لكن لأنه كان يعلم أن هناك نفس يحبها قد قيدتها الخطية والشهوات العالمية تحتاج إلى من يحررها ويخلصها ويرفع عنها نير العبودية، ولم يوجد من البشر من يستطيع أن يفعل لها هذا، كان لابد له أن يذهب إلى هناك ليفعل لها هذا. لذلك قيل "وكان لابد له أن يجتاز السامرة". في ذات مرة مضى الرب يسوع إلى تخوم صور وصيداء وكان متعبا وكان يريد أن يستريح في بيت "وهو يريد أن لا يعلم أحد. فلم يقدر أن يختفي لأن امرأة كان بابنتها روح نجس سمعت به فأتت وخرت عند قدميه" (مر7: 24و25). لقد كان يريد أن يستريح، لكن عندما جاءت إليه المرأة المحتاجة إليه لم يستطع أن يختفي عنها لأنه محب للجميع وهو الراعي الصالح الذي يذهب لأجل الضال حتى يجده (لو15: 4). لم تذهب المرأة السامرية إليه، لكنه هو الذي ذهب إليها فهو يبحث عن النفوس في كل مكان. "كان لابد له أن يجتاز السامرة": إنها عبارة رائعة، جاءت في بعض الترجمات الإنجليزية بمعنى "كان محتاجا أن يجتاز السامرة". كان من الممكن أن يعبر إلى الجليل عن طريق البحر كما فعل في ذهابه إلى بعض الأماكن (مت15: 39)، أو عن طريق آخر بكيفية تمنعه من المرور بالسامرة، لكنه كان عطشانا لخلاص هذه المرأة المسكينة فذهب إلى هناك. ذهب إليها متعبا وعطشانا. مع أن اليهودية في الجنوب والجليل في الشمال وما بين الاثنين منطقة السامرة، ولكي يترك الرب اليهودية ويصل إلى الجليل كان من الطبيعي أن يجتاز السامرة. لكن الملفت للنظر هو عبارة "كان لابد له". أي أن هذا الأمر ضروري وحتمي. وهنا يمكننا أن نذكر الأسباب التي جعلت مرور الرب بالسامرة حتمي وضروري:- · جغرافيا: من المعروف أن اليهود لا يعاملون السامريين، وبالتالي لكي يصل اليهودي من اليهودية إلى الجليل كان لابد له أن يتخذ طريقا بعيدا عن السامرة. فكان يعبر نهر الأردن ويصل شرق النهر ويسير رغم الصعوبات التي تواجهه في طريق كان يطلق عليها في ذلك الوقت "برية". ثم عبور نهر الأردن مرة أخرى متفاديا المرور في المنطقة الوسطى التي تفصل اليهودية في الجنوب والجليل في الشمال. أما الرب يسوع فأراد أن يختصر الطريق لذلك "كان لابد له أن يجتاز السامرة". هذا السبب لا يعتبر سببا رئيسيا يجعل الرب أن يجتاز السامرة. · الطبيعة الإلهية: الشيء الملزم للرب يسوع ليجتاز السامرة، الأرض المعادية هو أن له طبيعة تختلف عن طبيعة كل البشر، له طبيعة الحب لأنه هو الله المحب فلابد أن تعلن هذه الطبيعة لكل البشر مهما إن كانوا. كان لابد أن يفتح أبواب الحب لشعب محتقر في عيني اليهود. · علمه باحتياج المرأة إليه بل وأيضا كل مدينتها: فكان لابد أن يصل إلى هناك ليلتقي بامرأة ساقطة تعيش في أوحال خطاياها تحتاج إلى من يخلصها. لم تكن هذه المرأة ذو شخصية مشهورة كملكة سبأ أو غيرها من المشهورات، بل كانت شهرتها بأنها تعيش في مستنقع الخطية والنجاسة. يا لها من محبة ونعمة ورحمة أن يجتاز القدوس البار لأجل امرأة خاطئة! إنه لم ينتظر أن تأتي إليه بل هو ذهب إليها، وذلك لأنها لم تقدر أن تأتي إليه بسبب صغر النفس وانحنائها بسبب الخطيئة. إنها كالمرأة المنحنية التي ربطها الشيطان فلم تقدر أن تنتصب البتة (لو13: 11). ربما يشعر الإنسان الخاطئ بمرارة الخطية في بادئ الأمر، لكن مع تكرارها يصاب بفقدان الشعور والحس، وبالتالي لا يشعر بالاحتياج إلى المسيح المخلص. لكن المسيح نفسه يعلم احتياج الإنسان إليه، لذلك لا ينتظر إلى أن يأتي إليه الخاطئ بل هو يذهب إليه بنفسه. يا لها من نعمة تفيض بالإحسان، إنه الرب المملوء نعمة وحقا الذي يبحث عن الإنسان ليمنحه الإحسان. · السبب الوظيفي: الرب يسوع باعتباره الراعي الصالح كان لابد أن يذهب لأجل الضال حتى يجده (لو15: 4). ولقد قال أيضا "...لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 13). لو فرض أننا أخبرنا المرأة السامرية بأن شخص عظيم جدا يبحث عنها، أعتقد أنها لا تصدق ذلك. فمن هذا الذي يبحث عن امرأة ساقطة؟! فماذا لو أخبرناها بأن الله العظيم المحب يبحث عنها؟ من المؤكد أنها تندهش من قولنا هذا، فكيف يبحث الله كلي القداسة عن امرأة في منتهى النجاسة؟. لكن هذه حقيقة لا جدال فيها، فإن الله جاء إلينا متجسدا من قمة المجد لأجلنا نحن الخطاة. لقد قال الرسول بولس "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (1تي1: 15). وقال الرب يسوع "لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم" (يو12: 47). وقال لزكا "لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). · لأنه الخالق المسئول عن خليقته: المرأة السامرية امرأة خاطئة ومنبوذة ومحتقرة عند كل يهودي، لكن كان لها تقديرها الخاص في عيني الرب يسوع الذي خلقها، لذلك "كان لابد له أن يجتاز السامرة". لقد كان مجبرا بدافع الحب لهذه المنطقة المرفوضة، وأيضا لأجل امرأة خاطئة يائسة لا يمكنها أن تأتي إليه لأنها حقيرة في عيني نفسها وفي أعين اليهود. لو تركها الرب لرغبتها لكانت تقول: أريد ولكن أنا لا أستحق لأني حقيرة ويائسة وفي حياتي ستة رجال. لكن الرب الذي خلقها ويعرف تكوينها وكيف يتعامل معها ذهب إلى السامرة خصيصا ليلتقي بها. · لأنه الطبيب الشافي: السامريون لم يكونوا يهودا بل هم أمم سكنوا في فلسطين وتعلموا من اللاويين وعرفوا شرائع الرب وفرائضه فتمسكوا بها وفي ذات الوقت تمسكوا بوثنيتهم، ولذلك "اليهود لا يعاملون السامريين" لهذا السبب كان اليهودي يأخذ طريقا آخر للوصول إلى الجليل حتى لا يجتاز السامرة. لكن الرب يسوع له كل المجد اجتاز، بل كان لابد له أن يجتاز السامرة. فهو الذي قال "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فاذهبوا وتعلموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة. لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 12و13). لقد اجتاز السامرة لأنه كان يعلم احتياج هذه المرأة المريضة بالخطية والمحتاجة إلى الشفاء من شخصه الطبيب الشافي مع أنها هي لا تعلم باحتياجها له. · ليرفع العداء بين الشعوب ويزرع الحب من جديد: لقد أنشأت الخطية العداء بين الله والناس، وليس ذلك فقط بل وتسببت في عداء الإنسان لأخيه. ولذلك قايين قتل هابيل أخيه (تك4: 8) وأبشالوم طارد أبيه داود (2صم15-18). لقد كثرت الحروب ومعها كثر الدمار في العالم. والوقيعة والبغضة صارت سمة البشر، فاليهود لا يعاملون السامريين. ويعتبر اليهود أن الأمم بالنسبة لهم كلاب. ومن يستطيع أن يصالح هذا مع ذاك؟! كان لابد له أن يجتاز السامرة ويرفع العداء الذي كان بينهم وبين اليهود. وهكذا كان لابد أن يجتاز إلى هذا العالم بل ويجتاز جثسيماني والجلجثة لرفع العداء ويصنع الله المصالحة بيننا وبينه من خلال موت المسيح على الصليب "الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه..."(2كو5: 19). ليس ذلك فقط بل وصنع الصلح والسلام بين البشر (أف2: 14-18). · ليأت بها باعتبارها من الخراف التي ليست من حظيرة إسرائيل: لقد قال مرة لليهود "ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آت بتلك أيضا فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد" (يو10: 16) وهذه المرأة السامرية تعتبر من تلك الخراف التي ليست من حظيرة إسرائيل والتي كان لابد أن يذهب ليأت بها من هناك. · للحصول على ما أعطاه له الآب: لقد كان يعلم أن هذه المرأة هي من ضمن الذين أعطاهم الآب له، لذلك ذهب بنعمة الآب التي تخلص الهالكين ليأت بها إليه. (يو6: 37-40، 10: 29، 17: 6). · ليعطي درسا خاصا لتلاميذه في الكرازة: من المعروف أن التلاميذ سيرسلهم الرب خلافة له ليكرزوا في كل العالم ولكل الخليقة، ولكي لا يحكموا في الأشخاص من ظاهر الأمور أعطاهم درسا عظيما بأن نعمته تستطيع أن تخلص أشر الخطاة. فحسب الظاهر والحكم في الأمور من خارجها لا يظن أحد أن امرأة سامرية ساقطة تحوز القبول وتحصل على خلاصه. لقد اندهش التلاميذ عندما رأوه يتكلم معها (يو4: 27) ولذلك قال لهم "ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد" (يو4: 35). إن كلمة "لابد" تعني الإلزام، ومن هنا نسأل: ما الذي ألزم الرب بذلك؟ ومن الذي ألزمه ليجتاز السامرة؟. من الواضح أن المحبة التي في قلبه تجاه الخطاة هي التي ألزمته أن يفعل ذلك. لذلك جاء إلى السامرة واجتاز كل الصعاب ليتقابل مع هذه المرأة الخاطئة. إنه "محب للعشارين والخطاة" (لو7: 34)، وإنه "يقبل خطاة ويأكل معهم" (لو15: 2). "كان لابد له أن يجتاز السامرة"، يمكن لكل واحد منا أن يقول ذات العبارة "كان لابد أن يأتي الرب يسوع من عند الآب متجسدا لأجلي، كان لابد أن يصلب بدلا عني، كان لابد له أن يجتاز جثسيماني والجلجثة، كان لابد أن يأتي إليَ أنا وينقذني ويمنحني خلاصه. لم يذهب الرب يسوع لنيقوديموس رئيس اليهود (يو3: 1) لكن جعله يأتي إليه، فقال الرب له "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يو3: 7). أما هذه المرأة الخاطئة فلقد ذهب هو بنفسه إليها، لذلك يذكر عنه "ترك، ومضى، واجتاز، وتعب، وجلس، وعطش، وطلب أن يشرب". لقد أتى الرب يسوع من اليهودية إلى السامرة لأجل امرأة ساقطة. هذه صورة رائعة لمجيئه من بيت الآب إلينا "وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد..." (1تي3: 16). "ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني" (غلا4: 4و5). لقد جاء إلينا من عند الآب "خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم..." (يو16: 28). لقد جاء لأجلنا خصيصا ليفتدينا نحن البشر الساقطين والغرقى في أوحال خطايانا. لم يكن مرغما في ذلك بل حبا لنا وفينا، وإعلانا لله لنا "الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر" (يو1: 18). ترد كلمة "يجتاز" مرارا عن الرب يسوع، وفي كل مرة كان يجتاز ليس كعابر سبيل، بل كان يجتاز ليصنع رحمة ويقدم إحسانا للبائسين المحتاجين إليه، ويظهر نعمة بلا حدود لبشر مساكين، فعلى سبيل المثال:- · "فدخل يسوع السفينة واجتاز إلى مدينته. وإذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحا على فراش" (مت9: 1و2). ولقد شفاه الرب بعد أن غفر له خطاياه. · "وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنسانا جالسا عند مكان الجباية اسمه متى. فقال له اتبعني. فقام وتبعه" (مت9: 9). وبالطبع غيره وجعله تلميذا له. · "وفيما يسوع مجتاز من هناك تبعه أعميان يصرخان ويقولان ارحمنا يا ابن داود" (مت9: 27) ولقد وهبهما البصر. · "واجتاز في مدن وقرى يعلم ويسافر نحو أورشليم" (لو13: 22). · "ثم دخل واجتاز في أريحا. وإذا رجل اسمه زكا... طلب أن يرى يسوع من هو... فقال له يسوع اليوم حصل خلاص لهذا البيت..." (لو19: 1-10). لقد اجتاز ووصل حيث توجد خرافه الضالة ليفتقدها ويشفي بؤسها ويسعدها، ولازال يجتاز في عالمنا هذا وطوبى لمن يلتقي به قبل فوات الأوان، لأنه سيأتي الوقت وذاك قريب فيه لا فائدة ولا مخرج بل يسمع الشخص هذا القول المرعب "...بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت حتى إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا" (لو16: 26). لقد أتى الرب يسوع ولازال يأتي. أتى إلينا في أتضاع لا يوصف "أخلى نفسه آخذا صورة عبد... ووضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في2: 7و8). لقد أكمل عمل الفداء وما يستلزمه خلاصنا. والآن يأتي إلى الخاطئ قارعا على قلبه مستخدما كلمته الحية الفعالة، مقدما له خلاصا ثمينا. ومن ترى يصغ لصوته؟. إن قرعات المحبة لازالت تدوي على المسامع، وهو على أتم الاستعداد ليخلص ويمنح الراحة والفرح. لقد قال عن شعبه القديم "أني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر وسمعت صراخهم من أجل مسخريهم. إني علمت أوجاعهم. فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين" (خر3: 7). وموسى يقول للرب "ها أنا آتي لبني إسرائيل...فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم" (خر3: 13). فهم لم يصرخوا إليه ولم يبحثوا عنه، لكنه هو الذي يسمع صرخة المسكين حتى لو لم تكن موجهة إليه. إن بره ورحمته هي لكل مسكين وكل بائس، لذلك اجتاز في السامرة وكان يعرض صلاحه ونعمته وفداءه وبركاته على كل من كان في السامرة. ********************* سوخار والضيعة "فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف وكانت هناك بئر يعقوب" (يو4: 5و6). في العددين السابقين نرى أمرين هامين هما:- 1- اسم المدينة ومعناها. 2- موقع الضيعة من المدينة. أولا: اسم المدينة: "سوخار". ومعنى هذا الاسم "مشتراة". يعقوب اشترى قطعة الأرض لأجل هذه البئر وحارب لأجلها ودافع عنها ثم أعطاها لابنه يوسف هدية (تك48: 22). من معنى الكلمة "سوخار" وكلمة "وهبها" في العدد الخامس، نرى رمزا جميلا للرب يسوع الذي ذبح واشترانا لله بدمه (رؤ5: 9) لكي يهبنا الحياة الجديدة والغفران والخلاص والأبدية السعيدة، فهو الذي "أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها...وهو مجروح من أجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا..." (إش53: 4-12). ولأننا عطية الآب له فهو يدافع عن هذه الحياة التي وهبها لنا أيضا بل ويحفظنا نحن أيضا فيها. لقد قال "خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد. ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد" (يو10: 27-30). وقال أيضا "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئا بل أقيمه في اليوم الأخير" (يو6: 38و39). قال الرب يسوع للمرأة السامرية "...لو كنت تعلمين عطية الله..." (يو4: 10). وكأنه يقول: أنا العين الذي يعطي المياه الحية والحياة الحقيقية، ليس مثل بئر يعقوب الذي اشتراها يعقوب بأمواله، بل البئر التي كان ثمنها حياة الرب يسوع التي بذلها على الصليب. البئر التي حارب الرب الشيطان لأجلها وانتصر عليه، لكي لا نحرم نحن من الارتواء بها. فالرب يقدم لنا نفسه. هذه هي عطية الله. إنه يعطي الخلاص ويعطي روحه القدوس. "وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلا إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ما حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. لأن الروح القدس لم يكن قد أعطي بعد لأن يسوع لم يكن قد مجد بعد" (يو7: 37-39). يقال أيضا أن كلمة "سوخار" معناها "السكارى"، وجميل أن يدور الحديث عن العطش والارتواء في مدينة السكارى الذين شربوا كثيرا حتى سكروا لأنهم خطاة هالكين ومري النفس. قال الحكيم "أعطوا مسكرا لهالك وخمرا لمري النفس" (أم31: 6). ثانيا: موقع المدينة: هذه المنطقة لها ذكريات خالدة في قلب كل يهودي فبالقرب منها ضيعة صغيرة اشتراها يعقوب أبو الأسباط (تك33: 18و19) وعلى سرير الموت وهب يعقوب هذه الضيعة لابنه يوسف (تك48: 22). وعندما كان يوسف في مصر أوصى من جهة عظامه بأن يدفن في فلسطين فنقل ودفن في ذلك المكان (يش24: 32). لذلك يذكر عن المدينة سوخار أنها "قرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه". وهنا نستطيع أن نرى عطية الآب لابنه، الابن المحبوب. لقد أعطى يعقوب لابنه المحبوب يوسف عطية ألا وهي "الضيعة". كذلك الآب السماوي يريد أن يعطي ابنه المحبوب ربنا يسوع عطية يعتز بها ألا وهي الكنيسة. يقول الرب يسوع للآب عن المؤمنين "كانوا لك وأعطيتهم لي" (يو17: 6). لقد ترك الرب يسوع اليهودية التي رفضته ثم اتجه إلى الجليل والتي حسب الظاهر قبلته لكن في الواقع قد رفضته أيضا. "فلما جاء إلى الجليل قبله الجليليون إذ كانوا قد عاينوا كل ما فعل في أورشليم في العيد. لأنهم هم أيضا جاءوا إلى العيد" (يو4: 45). لنلاحظ أن الرب يسوع قال في العدد السابق لهذا العدد "ليس لنبي كرامة في وطنه". فهم قد قبلوه لأنهم رأوا ما فعله، لكن سرعان ما رفضوه رغم كل ما فعل. لكن وهو مرفوض من اليهودية ومتجها إلى الجليل كان بينهما السامرة. وهنا نرى الرب يسوع قد جاء لليهود من حوالي ألفي عام لكنهم رفضوه "إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله" (يو1: 11). لكنه قال لهم "لأني أقول لكم أنكم لا ترونني من الآن حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب" (مت23: 39). بمعنى أنهم سيقبلونه في المستقبل وهذا ممثل في قبول الجليلين له (يو4: 45). وما بين تركه لليهودية وقبول الجليليون له كان لابد أن يجتاز السامرة. لقد كان متجها من اليهودية التي رفض منها إلى الجليل حيث يقبلونه في المستقبل وما بين الاثنين السامرة التي تمثل فترة النعمة ودخول الكنيسة. ما بين مجيئه لليهود من ألفي عام (إش9: 6) ومجيئه القريب كان لابد أن يجتاز السامرة، وفي السامرة تقابل مع المرأة السامرية. مكان اللقاء مهم لذلك يذكر أنه لما جاء إلى السامرة وصل إلى مدينة يقال لها سوخار التي معناها كما سبقت الإشارة "مشتراة" والرب يسوع لما جاء إلى العالم في مجيئه الأول اشترى العالم كله بموته على الصليب. ومن المثل الذي ذكره في إنجيل متى نرى أنه اشترى الحقل لأجل الكنز الذي كان فيه (مت13: 44). سوخار مدينة كبيرة لكنها قريبة من الضيعة. من الأمور المألوفة عند البشر أنهم يقولون الضيعة قريبة من المدينة وليس العكس، لكن هنا يقال أن المدينة قريبة من الضيعة. وهنا المدينة صورة للعالم الذي اشتراه الرب، قرب الضيعة الصغيرة التي لا يقول عنها أنه اشتراها بل "وهبها يعقوب ليوسف ابنه". يبدو أن الرب يسوع كان جالسا لكنه كان ينظر إلى الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه المحبوب، وهنا الضيعة ترمز إلى عطية الآب لابنه المحبوب ألا وهي الكنيسة، المؤمنون الذين كانوا للآب وأعطاهم لابنه المحبوب (يو17: 6). لقد قال الرب يسوع للآب "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم" (يو17: 24). لذلك كان الرب يسوع عند البئر وعيناه على الضيعة التي وهبها الأب لابنه في السامرة قرب المدينة التي يقال لها سوخار. جاء الرب يسوع إلى العالم متجسدا وعواطفه ومحبة قلبه متجهة إلى الكنيسة. كان يعلم أنه لابد أن يرفض من اليهودية، لكن كان لابد له أن يجتاز السامرة الساعة السادسة. ورقم ست (6) في كلمة الله له أهميته. ففي اليوم السادس قد ذهب إلى الصليب، وقضى عليه ست ساعات من الساعة الثالثة حتى الساعة التاسعة. وفي الساعة السادسة ترك من الله وصرخ وهو على الصليب "إلهي إلهي لماذا تركتني" ولماذا؟ والجواب لكي يمكن له أن يقترب من أمثال هذه المرأة. في الساعة السادسة مات المسيح، ترك من الله لكي يشتري الحقل كله ولكي يقتني القطعة التي وهبها له الله. لكي توجد الكنيسة كان لابد أن يذهب إلى الصليب. إنه مشبه بتاجر يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها (مت13: 45و46). لما تحدث الرب يسوع عن الكنز الذي في الحقل ذكر عنه، "كنز مخفي في حقل وجده إنسان فأخفاه ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل"، ولكن عند الحديث عن اللؤلؤة لم يذكر القول "فمن فرحه" ويقول "يشبه ملكوت السموات، ليس إنسانا وجد لؤلؤة، لكن إنسانا تاجرا يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن"، ولم يذكر القول "من فرحه" لكنه "مضى واشترى". لماذا لم يذكر القول "فمن فرحه"؟ لأنه في المثل الأول يتكلم عن العالم وإسرائيل، وفي المثل الثاني يتكلم عن الكنيسة التي لم تأتي في خطة عابرة، لكن أتى خصيصا لأجلها، فهي في المقاصد الأزلية. لذلك عيناه على الضيعة التي وهبها يعقوب لابنه يوسف. لقد قال الرب يسوع للمرأة السامرية "تأتي ساعة وهي الآن" (يو4: 23، 5: 25) وهي فترة النعمة الحاضرة التي فيها نسجد للآب بالروح والحق. لقد مكث في السامرة يومين ثم ذهب إلى قانا الجليل (يو4: 43) التي فيها حول الماء إلى خمر (يو2: 1) وكان هذا في اليوم الثالث، ووصل إليها مرة أخرى في اليوم الثالث أيضا. في اليومين في فترة النعمة نرى إعلانين عظيمين هما:- 1- السجود للآب (يو4: 25) 2- ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد (يو4: 35). ثم يقول "والحاصد يأخذ أجرة ويجمع ثمرا للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معا" (يو4: 36). فالاتجاه الأول السجود للآب والاتجاه الثاني أي بعد السجود التوجه للعالم للخدمة لجمع الثمر للحياة الأبدية. لما جاء السامريون إلى الرب قالوا للمرأة "إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو4: 42). إذا المسيح هو مخلص العالم، ليس بالمعجزات لكن بالإيمان. فهو لم يعمل ولا آية في السامرة. الآيات ليست للأمم لكن لليهود "لأن اليهود يسألون آية" (1كو1: 22). أما بالنسبة للأمم قال المسيح لتلاميذه بعد قيامته من بين الأموات "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (مت28: 19و20). لقد كانت الآيات في بداية الكنيسة في العصر الرسولي لأن الكنيسة كانت في بداية تأسيسها، والكرازة كانت لليهود أولا ثم الأمم (أع1: 8). فالآيات كانت لليهود، لكنهم تقسوا، (عب2: 3و4). لكن السامريين مع أنهم لم يروا آيات لكنهم سمعوا وآمنوا وهذا هو دور الكنيسة "الإيمان بالخبر والخبر بكلمة الله" (رو10: 17). إنها كلمة الله العظيمة الحية والفعالة (عب4: 12). يجب أن نلاحظ عطية الرب لنا في هذا الأصحاح هو الروح القدس الذي يتجه بنا إلى اتجاهين: الأول: إلى أعلى وهو السجود للآب بالروح والحق. وهذا هو الكهنوت المقدس (1بط2: 5). الثاني: أفقي وهو الخروج إلى العالم لنخبرهم بأن يأتوا ليتصالحوا مع الله (2كو5: 20) وهذا هو الكهنوت الملوكي (1بط2: 9). ********************* الله ظهر في الجسد "فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر وكان نحو الساعة السادسة" (يو4:6). لقد كانت المسافة طويلة والرحلة شاقة، لذلك "تعب يسوع من السفر" ولهذا السبب "جلس هكذا على البئر". هذه الأوصاف "تعب"، "جلس"، تظهر لنا الرب يسوع باعتباره ابن الإنسان. هذا لا يقلل من أنه هو بذاته الله. فهو الذي رآه إشعياء النبي في عظمة مجده وبهائه، إذ يقول "...رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل والسرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة. باثنين يغطي وجهه وباثنين يغطي رجليه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس رب الجنود مجده ملء كل الأرض. فاهتزت أساسات العتب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانا" (أش6: 1-4). يقول البشير يوحنا أن "إشعياء قال هذا حين رأى مجده وتكلم عنه" (يو12: 41). فالجالس على كرسي عال ومرتفع وكمالاته تملأ الهيكل هو نفسه الجالس على بئر يعقوب، وهو ذاته الذي قيل عنه "الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب" (إش40: 22). هذا هو الرب يسوع الذي نقرأ عنه في البشائر أنه تعب وعطش وجلس وجاع ونام وبكى واضطرب وصلى. كل هذه الأمور تعلنه لنا باعتباره الإنسان الكامل يسوع المسيح. وفي كل مرة يعلنه لنا الروح القدس بهذه الصورة، لابد أن يظهر أيضا لاهوته باعتباره ابن الله الوحيد. فبينما نقرأ عنه أنه نام على وسادة في مؤخر السفينة، نقرأ أنه قام وانتهر الريح وقال للبحر اسكت ابكم فصار هدوءا عظيما (مر4: 35-40). وإن كان يذكر عنه أنه تعب وجلس، نراه أيضا ينادي قائلا "تعالوا إليَ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت11: 28) وبينما يذكر عنه أنه ابن إبراهيم (مت1: 1) يقول عن نفسه لليهود "قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن" وليس كنت، وهذا يعني أنه دائم الوجود (يو8: 58). وبينما يقول "أبي أعظم مني"، نراه يقول "أنا والآب واحد" وأيضا "الذي رآني فقد رأى الآب" و "إني في الآب والآب في" (يو14: 28، 10: 30، 14: 9و11). وبينما نقرأ عنه أنه "صلى" ويقول عن الله "إلهي"، نقرأ عنه أنه قبل السجود من كثيرين ولم ينتهر أحدا منهم أو وبخه كما فعل بطرس الرسول مع كرنيليوس، والملاك مع الرسول يوحنا الحبيب (مت2: 11، 14: 23، يو9: 38، 20: 17، أع10: 25و26، رؤ19: 10، 22: 8و9). هذا هو يسوع الذي كتب عنه "لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض" (في2: 10). نعم إن الرب يسوع هو الله بكل كماله، وإنسان بكل معاني الكلمة، فهو صار مثلنا في كل شيء لكنه لم يشاركنا في كل شيء. فهو لا يمكن أن يصاب بالمرض أو بالضعف البشري مثلا لأنه يخلو من الخطية تماما، لكنه تعب وجلس وبكى... إلخ. في لقائه بالمرأة السامرية عند البئر نراه جالسا متعبا على بئر يعقوب. لكن في ذات الوقت نراه كاشفا الأسرار وعلام الغيوب وعارف الخفيات. فعندما قالت له المرأة "ليس لي زوج" قال لها "حسنا قلت ليس لي زوج. لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق" (يو4: 6و17و18). لقد كشف لها ماضيها وحاضرها. "تعب يسوع": مع أن العبارة "تعب يسوع" تحمل معنى التعب الجسماني لأنه إنسان بكامل صفات الإنسانية ما عدا الخطية، لكنها تعني أيضا المعنى الروحي وهذا تعب من نوع آخر. فكم تعب يسوع لأجلنا بسبب خطايانا. قال مرة لشعبه القديم "استخدمتني بخطاياك وأتعبتني بآثامك" (إش43: 24). بمعنى أنك تأخذ عطاياي وتستخدمها ضدي. لقد أعطى الله الصحة للإنسان، لكنه استخدمها في الشر والنجاسة، أعطاه العقل لكنه استخدمه ضد الله، وأعطاه المال والفكر والوقت لكنه استخدمها كلها في طرق معوجة وملتوية. ورغم ذلك يقول في العدد الذي يليه "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها" (إش43: 25) يا له من محب. "تعب يسوع": كان لابد أن يتعب لكي يلتقي بامرأة سامرية نفسها عطشى ليرويها، أتعبتها عبودية الخطية وهو يريد أن يحررها ويريحها. إن تعبه لأجل هذه المرأة لا يقارن مع التعب الذي تعبه لأجل كل البشر، التعب الذي لا يمكن لأي إنسان أن يصفه مهما سما في تفكيره. لقد أتى إلينا متضعا "أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في2: 6-8). لقد تحمل آلاما مريرة، هي آلام الصليب وعاره المشين. تحمل آلاما من البشر خلائقه الذين صنعتهم يداه، وآلاما من الله العادل الديان الذي استوفى كل حقوق عدله غير المحدود منه على الصليب، وهذا لكي يحرر كل من يأتي إليه واثقا وطالبا. لقد تعب وتألم في رحلته على أرضنا فكم عانى وتألم في كل أيامه. لقد تألم مجربا (عب2: 18). ومع أنه رب السموات والأرض، الذي به وله خلق كل شيء (كو1: 16)، لكنه على الأرض لم يكن له أين يسند رأسه (لو9: 58). لقد قاسى وعانى الكثير في رحلته على الأرض وختمت رحلته بالموت على الصليب موت اللعنة والعار. لقد قال بلسان النبوة "أحاطت بي ثيران كثيرة. أقوياء باشان اكتنفتني. فغروا عليَ أفواههم كأسد مفترس مزمجر. كالماء انسكبت. انفصلت كل عظامي. صار قلبي كالشمع قد ذاب في وسط أمعائي. يبست مثل شقفة قوتي ولصق لساني بحنكي وإلى تراب الموت تضعني. لأنه قد أحاطت بي كلاب. جماعة من الأشرار اكتنفتني. ثقبوا يدي ورجلي. أحصي كل عظامي. وهم ينظرون ويتفرسون فيَ..." (مز22: 12-17). ويقول أيضا "أما إليكم يا جميع عابري الطريق. تطلعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني الذي صنع بي الذي أذلني به الرب يوم حمو غضبه. من العلاء أرسل نارا إلى عظامي فسرت فيها..." (مراثي2: 12و13). لم يلتقي الرب يسوع بالمرأة السامرية صدفة، لكن اللقاء تم حسب ترتيبه الإلهي مكانا وزمانا. كان لابد له أن يجتاز السامرة وكان لابد أن يجلس على البئر في تمام الساعة السادسة. جلس على البئر منتظرا إياها، فهو يبحث عنها وإن كانت هي لم تفكر في البحث عنه. لقد بحث عن شاول الطرسوسي والتقى به وهو في الطريق إلى دمشق (أع9: 3-8) فهو الذي يذهب لأجل الضال حتى يجده (لو15: 4). إنه المحب الذي أحب الخطاة بمحبة بلا حدود، فهو يبحث عن كل واحد منا. لقد جلس على البئر منتظرا هذه المرأة لكي تأتي إليه فيلتقي بها لكي يخلصها ويرويها. هذه هي النعمة العظيمة الغنية والمحبة التي بلا حدود. فلا التعب والإعياء ولا حرارة الشمس الحارقة ولا العطش الشديد استطاع أن يوقف ينابيع نعمته أو يعطله من الذهاب إلى هذه المرأة الخاطئة التي كانت في احتياج شديد لنعمته وخلاصه. كانت الساعة السادسة وقت الظهيرة، وكان الرب قد تعب من السفر وجلس على البئر. والذي تعب هو الشخص العجيب الذي قال عنه إشعياء النبي "لا يكل ولا يعيا...يعطي المعيي قدرة ولعديم القوة يكثر شدة" وكذلك "منتظرو الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون" (إش40: 28-31). وأيضا مكتوب عنه "يغيث المعيي بكلمة" (إش50: 4). لقد جلس على البئر متعبا منتظرا امرأة مسكينة بائسة مرفوضة من شعبها بسبب خطاياها. لقد كان هو أيضا مرفوضا من شعبه بسبب كبريائهم وبسبب كماله المطلق وقداسته التي أمامها يوبخ شر الإنسان. لقد كانت المرأة محتقرة بسبب نجاستها ولأنها الظلمة بعينها أما هو محتقر لأنه النور الحقيقي. إنه مشهد رائع لقد التقى النور مع الظلمة والتقت القداسة مع النجاسة على بئر يعقوب. يا لها من نعمة تفيض بالإحسان فتجعل للخاطئ المسكين الهالك مكان. لقد التقى بها فأنار حياتها وحررها ورواها وأشبعها. ********************* جلوس الرب يسوع على البئر "الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب" (إش40: 22). من المبادئ الرئيسية التي تساعدنا على فهم المقطع المذكور هو أن نلاحظ المكان الذي حدث فيه الحدث المعين. الحدث وصفات المكان يعطيا لنا المفتاح لفهم المعنى المقصود، فمثلا عندما أخرج الرب بني إسرائيل من مصر يمكننا أن نرى معنى رائع. فمصر تشير إلى المكان الذي أنقذنا الرب منه ألا وهو العالم الحاضر الشرير. ويوحنا المعمدان كرز في البرية وهذا يشير إلى حالة الخراب الذي كان يعيش فيها إسرائيل في ذلك الوقت. والرب يسوع لما أراد أن يعلم بشرائع الملكوت صعد على الجبل وعلم بهذه التعاليم، وهذه تشير إلى عرشه وسلطته التي منها تصدر كل لوائح شريعته. عندما أعطى الأمثال التي علم بها جلس على جانب البحر ( في هذه الشواهد الكتابية: إش17: 12و13، حز26: 3، دا7: 2، رؤ17: 1و5. يمكننا أنا ندرك المغزى للبحر). الأمثال الأربعة الأولى في (مت13) التي تكلم بها الرب يسوع للجموع الغفيرة ترينا دائرة الاعتراف المسيحي كدائرة متسعة. لكن المثلين الواردين بعد ذلك يهتمان بشعب الرب الذي امتلكه لذلك نقرأ "حينئذ صرف يسوع الجموع وجاء إلى البيت. فتقدم إليه تلاميذه" (مت13: 36). عندما أراد الرب يسوع أن يعطي لنا صورة الخاطئ المسكين الذي أتى لخلاصه، شبهه بإنسان كان نازلا من أورشليم (مدينة السلام) إلى أريحا (مدينة اللعنة). وصوره أيضا بالابن الضال الذي ذهب إلى كورة بعيدة وابتعد عن أبيه وكان يشتهي أن يأكل من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله (لو15). في هذه الأماكن نرى وصف حالة الخاطئ التعيس. من الكلام السابق يمكننا أن نرى أهمية معرفة الأماكن التي تم فيها اللقاء وبالتالي يمكننا فهم العدد السابق الذي فيه يعلن مقابلة المخلص بالمرأة السامرية الخاطئة. عند بئر "سوخار" حيث يقدم الرب يسوع للمرأة "عطية الله" التي كانت تحتاجها. ولكي يعرفها احتياج نفسها العميق جلس على البئر. فالبئر صورة لشخصه المبارك والمياه التي فيها تشير إلى الخلاص الذي نجده فيه. من الشواهد الكتابية الرائعة التي تشير إلى ذلك وارد في (إش12: 3) "فتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص". الآبار في العهد القديم تعطينا ظلال عن المسيح وما نجده فيه وسنتحدث عن هذا في فصل قادم. إنه لأمر مدهش إذ نرى الرب العظيم الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب الذي ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن، يذهب إلى حيث توجد المرأة السامرية، ولقد سار مسافة طويلة ولوقت طويل حتى أنه "تعب فجلس هكذا على البئر" المكان الذي ستأتي إليه هذه المرأة لتستقي. "جلس": لقد ذكر عن الرب يسوع أنه جلس مرارا، وفي كل مرة كان في جلسته يظهر شيئا معينا. فلقد جاء عنه:- · يقول إشعياء النبي "في سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالسا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل" (إش6: 1) وهذا السيد هو الرب يسوع كما هو واضح في إنجيل يوحنا (يو12: 41). وهنا نرى جلوس الرفعة والجلال ولتقبل العبادة ولإظهار القداسة المطلقة. · "ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل. فلما جلس تقدم إليه تلاميذه. ففتح فاه وعلمهم..." (مت5: 1و2).وهنا نراه يجلس جلسته باعتباره السيد والمعلم. · "جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقي الجمع نحاسا في الخزانة" (مر12: 41). لقد جلس يلاحظ العابدين، جلس يراقب ويقيس ويعطي النتائج. · جلس في بيت سمعان الفريسي ليظهر ما في قلبه من تعصب وفي ذات الوقت يغفر للمرأة الخاطئة. (لو7: 36). · وعلى بئر سوخار "فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر" (يو4: 6). هنا نراه يجلس جلسة ليتعامل فيها معاملة فردية مع امرأة سامرية ساقطة في الخطية تحتاج إلى خلاصه. إنه جلس ليستريح فبعدما استراح في اليوم السابع من جميع أعماله (تك2: 2) نراه يعاود العمل مرة أخرى بعد سقوط الإنسان. لا يوجد أبشع من خطية الإنسان فهي تتعب الإنسان وتتعب الله. · جلس على جبل ليمتحن إيمان تلاميذه ولكي يقدم للجموع طعاما لإشباعهم (يو6: 3). · جلس في الهيكل ليعلم ولكي يظهر نعمته الفائقة في خلاص امرأة ساقطة أمسكت في زنا (يو8: 1). · جلس على جحش متمما ما كتب عنه بالأنبياء باعتباره ملك صهيون (يو12: 14). · جلس بعد أن غسل أرجل تلاميذه معلما إياهم من خلال ما فعله أروع الدروس (يو13: 12). · "وأما هذا فبعدما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة جلس إلى الأبد عن يمين الله" (عب10: 12). دلالة على كمال عمله المبارك (عب1: 3) وجلس شفيعا للمؤمنين (عب4: 14و16، 7: 25) وجلس منتظرا حتى توضع أعداءه موطئا لقدميه (مت22: 44). لقد جلس الرب يسوع على البئر ومن جلسته هذه نرى العديد من الأسباب التي دعت لذلك مثل:- 1- جلس ليستريح بعد تعب وجهاد ومشقة أسفار، إنها ليست استراحة ترفيهية وخاصة. مكتوب "ويل للمستريحين في صهيون والمطمئنين في جبل السامرة" (عا6: 1). لقد طلب الرب يسوع من تلاميذه أن يستريحوا، لكن هذا الطلب جاء بعد جولة خدمة شاقة فقال لهم "تعالوا أنتم منفردين إلى موضع خلاء واستريحوا قليلا" (مر6: 31). 2- جلس ليجدد نشاطه لأن خدمة عظيمة كانت تنتظره. إنه سيقوم بخدمة فردية وهذه الخدمة ستكون مفتاحا لخدمة كبيرة وجليلة في مدينة السامرة. إنها جلسة وقتية لإعادة النشاط وليست للراحة الدائمة التي ستكون في المجد. 3- جلس منتظرا إتمام خدمة لامرأة خاطئة تحتاج إلى خلاصه. إنها خدمة تطوعيه، خدمة المحبة المضحية. بينما هو جالس على البئر في هدوء، جاءت المرأة السامرية لتستقي ماء فنسي تعبه وبدأ في التعامل معها. لم تتوقع المرأة أنه يتكلم معها، لكنه لم يتكلم إليها فحسب بل حاول أن يرفع من معنوياتها فطلب منها قائلا "أعطني لأشرب". يا له من شخص عجيب وفريد، إنه الرب الذي كتب عنه "من مثل الرب إلهنا الساكن في الأعالي الناظر الأسافل في السموات وفي الأرض. المقيم المسكين من التراب والرافع البائس من المذبلة ليجلسه مع أشراف مع أشراف شعبه" (مز113: 5-8). 4- جلس على البئر منتظرا نفسا هو يعلم أنها جائعة وعطشى وتعيش في فراغ قاتل، وهو يريد أن يرويها ويشبعها ويسدد كل احتياجها. لا توجد مصادر للإشباع والارتواء غير الرب يسوع ولا يصلح أن يكون بجواره شيء آخر، فهو الباب للتائهين والقوة للضعفاء والدواء للمرضى والخبز للجائعين والنور للضالين والراعي الصالح الذي يقود الخراف إلى بيته الأمين. إنه يقدم نفسه للمرأة السامرية العطشى باعتباره الماء الحي الذي ينعش ويشبع ويروي. 5- جلس على البئر ليخدم خدمة فردية جاءت بنتائج مباركة. كان يجتمع حوله المئات والألوف لكن في هذه المرة يجلس مع امرأة ويتكلم معها عن أسمى الأمور. تكلم معها عن الارتواء الحقيقي والماء الحي والسجود الحقيقي وعن المسيا. لقد أظهر في جلسته هذه اهتمامه بالفرد كاهتمامه بالجماعة. وكم من أناس تقابلت معهم نعمة الله فرديا لكنهم هزوا العالم بأسره. لقد ربح أندراوس أخاه بطرس الذي وقف يوم الخمسين متكلما بكلمة الحياة فخلص ثلاثة آلاف نفس (يو1: 40و41، أع2: 37-41) وتقابل الرب يسوع مع شاول الطرسوسي واستخدمه بعد ذلك في بركة الكثيرين (أع9: 1-9و15و16). أحيانا كثيرة وخاصة في الفرص الانتعاشية نرغب في الازدحام وكثرة الحاضرين، لكن في هذا المشهد نرى الرب يسوع يذهب ويتعب ويجلس لأجل امرأة سامرية ساقطة. يا لها من حكمة، فهو يعلم أنه بسبب شهادتها مدينة كاملة تأتي وراءه. إن الرب يسوع يسير في كل رحلة من رحلاته بخطة إلهية رائعة ولسان حاله "أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت" (مز40: 8). ولما جاء تلاميذه بعد أن اشتروا طعاما قالوا له "يا معلم كل"، كان جوابه "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم... طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو4: 31-34). لقد شبع قلبه وارتوى من خلال خلاص نفس غالية على قلبه. لقد جاءت المرأة نازفة الدم قائلة في قلبها "إن مسست ولو ثيابه شفيت" (مر5: 28) ورغم الازدحام وكثرة الجمع لكن رتب الرب لها أن تلمس هدب ثوبه ونالت ما تريد. ولكي يوبخ الرب الجموع قال "من لمس ثيابي". فالجموع منشأ للزحام الذي يعوق وصول النفوس المحتاجة إليه، رغم ذلك نراه يسهل لها طريقة الوصول إليه. إن الرب يسوع لا يريد الازدحام قدر ما يريد نفوس تحتاج إليه. ********************* البئر ومعانيها لكل عبارة في كلمة الله مدلولها الخاص، ولم ترد كلمة أو عبارة إلا ويريد الروح القدس أن يعلمنا من خلالها درسا بل دروس. فالبئر في العهد القديم تعطي لنا رمزا جميلا عن المسيح وما نجده فيه. والآن نبحث في بعض الأسفار التي وردت فيها كلمة البئر لنرى وضوح هذه الرموز الرائعة التي تحدثنا عن ربنا يسوع المسيح الذي أعطى ماء الحياة للمرأة السامرية. ذكرت كلمة "بئر" في أسفار العهد القديم عدة مرات نذكر البعض منها وما ترمز إليه:- 1- "فقال أبرام لساراي هوذا جاريتك في يدك. افعلي بها ما يحسن في عينيك. فأذلتها ساراي. فهربت من وجهها. فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية. على العين التي في طريق أشور... فدعت اسم الرب الذي تكلم معها أنت إيل رئي. لأنها قالت أ ههنا أيضا رأيت بعد رؤية. لذلك دعيت البئر بئر لحي رئي." (تك16: 6و7و13و14). في هذه الأعداد نلاحظ الأمور الآتية:- أولا: عين الماء في العدد السابع تدعى البئر في العدد الرابع عشر. هذه البئر كانت المكان الذي عنده وجد ملاك الرب هاجر المرأة المسكينة المنبوذة. وهنا نرى أن المسيح هو المكان الذي من خلاله يتقابل الله مع الخطاة. لقد قال الرب يسوع "ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو14: 6). ثانيا: هذه البئر كانت في البرية، والبرية تشير إلى هذا العالم. البئر في البرية تصور لنا حالة القلب البشري بعد أن يلتقي بالمسيح. ثالثا: البئر هو المكان الذي عنده أعلن الله عن ذاته، لهذا السبب دعت هاجر اسم البئر "بئر لحي رئي". وهذا ما نراه في العهد الجديد أن المسيح هو الذي أعلن الله. قال الرب يسوع "الذي رآني فقد رأى الآب". 2- "فبكر إبراهيم صباحا وأخذ خبزا وقربة ماء وأعطاهما لهاجر... فمضت وتاهت في برية بئر سبع... وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت وملأت القربة ماء وسقت الغلام". في هذه الأعداد نرى:- أولا: أمامنا الآن المرأة المنبوذة مرة أخرى، والماء الذي في القربة التي كانت تحملها قد نفذ تماما مثلها مثل الابن الضال الذي "ابتدأ يحتاج" (لو15: 14). وهذا يرينا نفاذ كل الينابيع التي يستند عليها الخاطئ دون أن يرتوي. ثانيا: طرحت ابنها بعيدا عنها ليموت وجلست تبكي. إنها صورة للخاطئ المسكين في بؤسه ويأسه. ثالثا: فتح الرب عينيها لكي ترى "البئر" التي توجد على الدوام. وبالحكمة والتفكير العاقل نرى أن البئر تحدثنا عن ربنا يسوع الذي يريدنا الله أن نفتح عيوننا عليه فنرى فيه وحده خلاصنا. إنه الرب الذي فتح عينيها لتراه. إنه الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يتقابل مع بؤسنا ويأسنا واحتياجنا العميق. يقول الروح القدس "الأذن السامعة والعين الباصرة الرب صنعهما كلتيهما" (أم20: 12)، وأيضا "ونعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق" (1يو5: 20). 3- "فأخذ إبراهيم غنما وبقرا وأعطى أبيمالك فقطعا كلاهما ميثاقا. وأقام إبراهيم سبع نعاج من الغنم وحدها. فقال أبيمالك لإبراهيم ما هي هذه السبع نعاج التي أقمتها وحدها. فقال إنك سبع نعاج تأخذ من يدي لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذه البئر لذلك دعا ذلك الموضع بئر سبع. لأنهما هناك حلفا كلاهما" (تك21: 27-31). وهنا نرى أن البئر كانت مكان الميثاق والعهد (عدد27) والذي صدق عليه بالقسم (عدد31). ونقرأ في الرسالة إلى العبرانيين "وعلى قدر ما أنه ليس بدون قسم. لأن أولئك بدون قسم قد صاروا كهنة وأما هذا فبقسم من القائل له أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. على قدر ذلك قد صار يسوع ضامنا لعهد أفضل" (عب7: 20-22). 4- "ثم أخذ العبد عشرة جمال من جمال مولاه... وأناخ الجمال خارج المدينة عند بئر الماء وقت المساء... وقال أيها الرب إله سيدي..." (تك24: 10-12). إن كنا قد رأينا في الآبار السابقة مقابلة المخلص بالخاطئ ثم رأينا العهد والقسم يخبرانا عن الراحة العظمى، لكننا بدءا من هذه الأعداد يختص الكلام عن البئر بالمؤمنين فقط. ففي الأعداد السابقة نرى أن عند البئر مكان للصلاة، وهنا نرى المؤمن يطلب من الآب السماوي باسم المسيح الذي تحدثنا عنه البئر. 5- "ثم رفع يعقوب رجليه وذهب إلى أرض بني المشرق. ونظر وإذا في الحقل بئر وهناك ثلاثة قطعان غنم رابضة عندها. لأنهم كانوا من تلك البئر يسقون القطعان والحجر على فم البئر كان كبيرا. فكان يجتمع إلى هناك جميع القطعان فيدحرجون الحجر عن فم البئر ويسقون الغنم. ثم يردون الحجر على فم البئر إلى مكانه" (تك29: 1-3). هنا يمكننا أن نرى التطابق بين هذه الأعداد والأعداد الواردة في (تك16). ففي تك16 نري لقاء المسيح بالخاطئ وهذا ما رأيناه عند البئر التي في البرية التي تصور لنا الخاطئ في بؤسه وفراغ حياته. لكن هنا في هذا المشهد نرى البئر موجودة في الحقل حيث المراعي الخضراء وحيث الراعي الصالح يقود خرافه. يجب أن نلاحظ أنه يوجد ثلاث قطعان من الغنم رابضة "عند البئر" وهنا نرى أنه في المسيح فقط يمكننا أن نجد الراحة والشبع. 6- "... فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان وجلس عند البئر. وكان لكاهن مديان سبع بنات. فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن. فأتى الرعاة وطردوهن. فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن" (خر2: 15-17). كما نعلم أن فرعون مصر هو صورة للشيطان باعتباره إله هذا الدهر (2كو4: 4) الذي يهاجم ويفكر في أن يحطم المؤمن. من فرعون هرب موسى- غالبا ما يسبب العدو اللدود للمؤمن رعبا ليجعله يجري بعيدا- لقد هرب إلى مديان وسكن هناك. نقرأ أولا عن موسى أنه "جلس عند البئر". شكرا للرب يوجد الشخص الوحيد الذي إليه نهرب لأنه مرفوض، الرب يسوع الذي هو البئر. إلى هذه البئر أيضا أتت بنات يثرون لتستقين ماء لكن الرعاة أتوا وطردوهن. كم من المدعين أنهم رعاة في هذه الأيام بتعاليمهم الكفرية طردوا الكثيرين بعيدا عن الرب يسوع. ورغم ذلك الرب يأخذ موسى هنا وهناك الذي ينهض ويساعد وينقذ أولئك الذين يرغبون حقيقة ماء الحياة. يجب أن نلاحظ أنه قبل أن نساعد الآخرين يجب أن نستريح أولا عند البئر لأجل أنفسنا كما فعل موسى. 7- "ومن هناك إلى بئر. وهي البئر حيث قال الرب لموسى اجمع الشعب فأعطيهم ماء. حينئذ ترنم إسرائيل بهذا النشيد. اصعدي أيتها البئر أجيبوا لها" (عد21: 16و17). من الكلام السابق نرى أن البئر تخاطب وكأنها شخص. لقد أصبحت موضوع الترنيم، إنها تستحضر التسبيح. أمر لا يحتاج إلى تفسير فالمسيح هو موضوع تسبيح المؤمنين. 8- "وكان يوناثان وأخيمعص واقفين عند عين روجل فانطلقت الجارية وأخبرتهما وهما ذهبا وأخبرا الملك داود. لأنهما لم يقدرا أن يريا داخلين المدينة. فرآهما غلام وأخبر أبشالوم. فذهبا كلاهما عاجلا ودخلا بيت رجل في بحوريم. وله بئر في داره فنزلا إليها. فأخذت المرأة وفرشت سجقا على فم البئر وسطحت عليه سميذا فلم يعلم الأمر" (2صم17: 17-19). هنا نرى البئر فيها المأوى والحماية لرجال الله من الأعداء. لنلاحظ أنه يوجد غطاء "على فم البئر" ولهذا السبب يوناثان وأخيمعص اختبأنا في البئر. هذا ما نراه في القول المكتوب عن المؤمنين "وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كو3: 3). يجب أن نلاحظ العبارة الختامية للعبارة السابقة "لم يعلم بالأمر" وهذا يعلن لنا أن العالم في جهل تام لمكانة المؤمنين ووضعهم في المسيح. 9- "فتأوه داود وقال من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب" (2صم23: 15) إن ماء بئر بيت لحم أشبع داود. 10- "اشرب مياها من جبك ومياها جارية من بئرك" (أم5: 15). هنا نرى البئر هي لنا ومن المياه الجارية نحن مدعوون لنشرب. كل هذه الأمور السابقة تفسر وتوضح لنا القول "..جلس يسوع هكذا على البئر" (يو4:6). توجد عبارة أخرى يجب أن نتأملها بإمعان، تعطي قوة للصورة السابقة التي تأملنا فيها لأنها تتحدث عن صفات ذلك الخلاص الذي وجدناه في المسيح "وكانت هناك بئر يعقوب" (يو4: 6). توجد ثلاثة أشياء لها علاقة بهذه الجزئية الخاصة بالبئر نحتاج أن نضعها في الاعتبار:- أولا: هذه البئر اشتراها يعقوب، وبأكثر دقة اشترى الحقل الذي فيه البئر (تك33: 18و19). كلمة سوخار الوارد ذكرها في (يو4: 6) تعني كما ذكرنا من قبل مشتراة. نعم هذه هي البئر التي اختيرت وصارت المكان الذي تكلم فيه الرب يسوع عن "عطية الله" مع المرأة، العطية التي لم تكلفنا نحن شيئا لأنها كلفته هو كل شيء. ثانيا: "قطعة الأرض" التي كانت فيها البئر أخذها بعد ذلك يوسف بعد أن تحررت بالسيف والرمح (تك48: 21و22). هذه هي نفس قطعة الأرض المشار إليها في (تك33: 18و19) والوارد ذكرها في (يو4: 5). الأموريون فكروا بأن يسرقوا من يعقوب بئره ولهذا السبب كان من الضروري الدفاع عنها. وهذا ما يفعله الروح القدس معنا عندما يحضر لنا الخلاص، ويفكر الشيطان رئيس هذا العالم أن يقاوم ويبعد البشر عن ذلك الخلاص فيستخدم الروح القدس سيف الروح الذي هو كلمة الله (عب4: 12). ثالثا: قطعة الأرض هذه التي اشتراها يعقوب وأمنها بسيفه ورمحه، أعطاها ليوسف (تك48: 21و22) فصارت له جزء من حق البكورية لأن يعقوب قال ليوسف "قد وهبت لك سهما واحدا فوق أخوتك". هذا كان من المفروض أن يعطي لرأوبين بكر يعقوب لكن بسبب سقوطه في الخطية مع سرية أبيه صارت ليوسف (تك35: 22، 1أخ5: 1). وهنا نرى أن المسيح الإنسان الثاني أخذ الميراث الذي أضاعه الإنسان الأول آدم بسبب السقوط في الخطية. يجب أن نضع أمامنا ثلاثة أشياء امتلكناها ألا وهي: البئر المشترى – البئر المملوك- البئر المبهج. ********************* التوقيت المضبوط "لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السموات وقت" (جا3: 1). لقد ذهب الرب يسوع إلى المكان الذي اعتادت المرأة السامرية أن تأتي إليه لتستقي ماء. ذهب قبل وصولها وفي التوقيت الذي لا يعرفه أحد غيرها. وصل عند البئر وانتظر قدومها. فهي لم تبحث عنه، لكنه هو الذي جاء خصيصا لأجلها باحثا عنها، فهو الذي "يذهب لأجل الضال حتى يجده" (لو15: 4). لقد كان ينتظرها بل كان يتتبع خطواتها حتى وصولها. رغم أن الإنسان يستخدم الكلام الجارح لمشاعر الرب "فيقولون لله ابعد عنا. وبمعرفة طرقك لا نسر. من هو القدير حتى نعبده وماذا ننتفع إن التمسناه" (أي21: 14و15). لكن الرب يسوع ينتظر طويلا لأجل الخطاة. فهو يقول "وجدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهرا للذين لم يسألوا عني" (إش65: 1، رو10: 20). فهو يفتش ويبحث عنا ولا يهدأ حتى يجدنا فيحملنا على منكبيه فرحا (لو15: 5). إن خلاصه ليس للذين غير مستحقين فقط بل أيضا وللذين لم يطلبوا (رو3: 11). لقد قال لتلاميذه "ليس أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم" (يو15: 16)، ويقول الرسول بولس عن الرب "الذي أدركني" (في3: 12). كل هذا يوضح لنا لماذا ذهب الرب إلى البئر قبل المرأة السامرية. لقد وجد واحدة لم تفكر فيه. هذا ما فعله مع إبراهيم الوثني (يش24: 3و14) لقد ظهر له إله المجد وهو في ما بين النهرين، وأظهر كل الحب ليعقوب بينما كانا هاربا من غضب عيسو أخيه (تك28: 10) وكان الأمر كذلك مع موسى عندما كان يعمل كراعي (خر3: 1و2). كل هؤلاء وجدهم الرب مع أنهم لم يفكروا فيه. وكان هكذا الحال مع زكا العشار الذي طلب أن يرى يسوع فصعد على شجرة الجميز، هذا قال له الرب "يا زكا أسرع وانزل لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك" (لو19: 5) وفعل كذلك مع شاول الطرسوسي وهو يطارد قطيع الرب (أع9: 3-6) وكذلك ليدية بياعة الأرجوان "ففتح الرب قلبها لتصغي إلى ما يقوله بولس" (أع16: 14) ونضيف على هؤلاء أيضا لمدح مجد نعمة الله أن الكاتب وربما القارئ كنا في ذات الاحتياج وربما لم تكن فينا رغبة للحصول على هذا الخلاص لكن الله في غنى نعمته لم يتركنا وسبيل حالنا بل بالنعمة تعامل معنا لذلك "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا" (يو4: 19). البشر يعلمون أنهم خطاة، لكن لابد أن يشعروا بالاحتياج إلى المخلص، والرب يطالب هؤلاء حيثما يكونوا بأن يتوبوا وإن لم يتوبوا فالدينونة على كل من لا يطيع (أع17: 30و31). يقول الرسول يوحنا "وهذه هي وصيته أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح" (1يو3: 23) أما إذا رفض الإنسان الإيمان فدمه على رأسه. الرب يسوع يقبل كل من يقبل إليه، والإنجيل يعلن أن الحياة الأبدية لكل من يؤمن به. باب رحمة الله مفتوح على مصراعيه الآن، لكن لا تظل الرحمة مرحبة إذا أحب الناس الظلمة أكثر من النور واستمروا في عنادهم حبا للظلمة ورفضهم للنور. "وكان نحو الساعة السادسة. فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء" (يو4: 6و7): هذا يعني ست ساعات بعد شروق الشمس وهذا التوقيت توقيت يهودي يقابله الساعة الثانية عشرة في وقت الظهيرة بالتوقيت الحالي لبلادنا. في منتصف النهار وفي أشد ساعاته حرارة مما يصيب الإنسان بالتعب والعطش. في هذا الوقت حيث الشمس الحارقة والتعب والعطش جاءت المرأة السامرية. لنلاحظ أن التوقيت الذي جاءت فيه مرتبط بحالتها الروحية، التعب والعطش. لقد اختارت هذا التوقيت ربما لأنه يخلو من الناس وبالتالي تكون البئر مهجورة من الناس. إنها تحاول أن تتحاشى عيون وألسنة الناس بسبب نجاستها وشرها الواضح والمعروف لهم. لكن في الحقيقة ذهبت إلى البئر في هذا اليوم وفي هذا التوقيت لأنها ساعة الله المحددة للوقت لتلتقي بالمخلص. إن الوقت محدد من الله وبحسب مشيئته. ذهبت في هذا التوقيت وهي لا تعلم أن الرب كان يجلس هناك في انتظارها واستقبالها. لقد جاء نيقوديموس للرب يسوع ليلا خشية من اليهود (يو3: 1). والمرأة السامرية ذهب لأجلها وتقابل معها ظهرا لأنه كان يعلم أنها تخجل من خطاياها. إن الخوف والخجل دخلا وسيطرا على حياة الإنسان من لحظة سقوط آدم في الخطيئة. هذا الذي عندما ناداه الرب الإله قائلا له "أين أنت"، كان جوابه "سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت" (تك3: 9و10). لنلاحظ القول "خشيت" وهنا نرى الخوف، والقول "عريان فاختبأت" وهنا نرى الخجل. في لقاء الرب يسوع مع نيقوديموس عالج وأنهى الخوف وفي لقائه مع المرأة السامرية عالج وأنهى الخجل. الساعة السادسة لا ترينا خجل المرأة فقط لكن نرى فيها أيضا دقة التوقيت الإلهي. فلم يكن ذهاب الرب إلى بئر سوخار في هذا التوقيت من باب الصدف، وكذلك مجيء المرأة إلى بئر سوخار لتستقي ماء في ذات الوقت. إنه التوقيت المعين من عند الرب. أخوة يوسف عندما جلسوا عند البئر وكانوا يتشاورون أن يقتلوا يوسف قائلين "هوذا هذا صاحب الأحلام قادم. فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار. ونقول وحش رديء أكله. فنرى ماذا تكون أحلامه". وبالفعل "أخذوه وطرحوه في البئر. وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء". لقد رتب الرب أن تجتاز قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد وجمالهم محملة ببضائعهم ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر. كما رتب الرب أن يجتاز رجال مديانيين تجار في ذات التوقيت. فسحبوا يوسف واصعدوه من البئر وباعوه للإسمعيليين بعشرين من الفضة. فأتوا بيوسف إلى مصر وباعوه لفوطيفار خصيَ فرعون رئيس الشرط. (تك37: 18-36) لقد كانت يد الرب وراء كل هذه الأمور لإتمام مقاصد إلهية في توقيت مناسب، هذه الأمور لا يدركها الإنسان. لقد تمم الرب وعده وما رآه يوسف من أحلام وأنقذ شعبه من الجوع (تك41: 37-44). فالأمور ليست صدفة بل تمت في وقتها الصحيح المدبر، والمرتب من قبل الرب الذي يمسك بالأمور وكلها خاضعة لسلطانه. "لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السموات وقت" (جا3: 1). فليس صدفة أن تنزل ابنة فرعون في النيل في نفس اللحظة التي يمر السفط الذي فيه موسى أمامها. فتأمر بأن تأخذه أمه وتربيه لها وتهتم به. ويتمم الرب بواسطته مخططا إلهيا رائعا في إنقاذ وتحرير شعبه. (خر2: 1-10). ولم تكن صدفة تلك الليلة التي فيها طار نوم الملك أحشويروش، وأحضر سفر أخبار أيام الملك وقرأ فيه عن مردخاي الذي عمل معه إحسانا عظيما، فيأمر الملك بتكريمه في وقت قد أعد له هامان العدو اللدود له صليبا ليصلبه عليه (أس6). "فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء"، يا لها من عبارة "لتستقي ماء"، هذا ما يشغل بالها فهي لا تفكر في شيء ولا ترى شيء إلا هذا الشيء "تستقي ماء". لقد نسجت هذا التوقيت في هذه الساعة في منتصف النهار لأنها امرأة ذات صفات تجعلها تتجنب الناس، لا تهتم في أن تلاقي أحد. المرأة لا تعرف المخلص ولا تتوقع المقابلة معه وليس لديها مجرد فكرة في أنها تتغير في ذلك اليوم. إنه آخر شيء تتوقعه. ربما قالت لنفسها أنه لا يوجد أحد عند البئر في هذه الساعة. إنها نفس يائسة، لكن كان يوجد شخص عجيب عند البئر كان ينتظرها، كان جالسا على البئر، يعرف كل شيء عنها، يعرف أنها في أشد الاحتياج إليه، وهو هناك متواجد ليخدمها. كان موجودا ليغلب جحود وعناد قلبها. لقد دعا نفسه ليصل بخلاصه إليها. إن "الساعة السادسة" ساعة حاسمة في حياة المرأة السامرية لا يمكن أن تنساها، لأن فيها قد تغيرت حياتها بمقابلة الرب يسوع معها. لنتعلم الدرس ولنعلم أن لكل شيء عند الرب وقت، وفي وقته يسرع به. ويعمل كل شيء حسنا في وقته. مرات كثيرة نصاب بالقلق والأرق ونشعر أن الرب قد نسينا أو تركنا (إش49: 14و15). ومرات نشعر بأن الرب لم يسمع لصلواتنا وننسى أن الرب في يده زمام الأمور ويعمل كل شيء لمجده في التوقيت المناسب، وفي ذات الوقت يعمل رضا خائفيه. لذلك نحتاج إلى حياة التسليم والاتكال على الله الحي الذي لا ينس ولا يترك ولا يهمل بل يعمل كل شيء في توقيته الصحيح. هو ........... وهي "طوبى لمن إله يعقوب معينه ورجاؤه على الرب إلهه" (مز146: 5). يمكننا أن نلخص قصة المرأة السامرية في كلمتين هما: هو...وهي:- أولا: هو:- قليلة هي القصص التي سردها البشيرون، والتي تظهر لنا شخصية الرب يسوع وصفاته كما تظهر لنا في قصة المرأة السامرية التي أتى إليها باحثا عنها ومتكلما إليها، فهذه القصة تظهر لنا شخص المسيح في ذاته وصفاته فهو:- · ابن الله الأزلي الأبدي الذي قال "...أنا والآب واحد" (يو10: 30). والذي قال "أنا فيَ الآب والآب فيَ" (يو14: 10و11). فهو "الإله الحق والحياة الأبدية" (1يو5: 20)، وهو "رب الكل" (أع10: 36)، "والكائن على الكل الله المبارك إلى الأبد" (رو9: 5)، الله الذي ظهر في الجسد (1تي3: 16)، الكلمة الأزلي الذي صار جسدا (يو1: 14). علام الغيوب وكاشف الأسرار (يو4: 18). · ابن الإنسان الذي تشارك معنا في اللحم والدم (عب2: 14)، والذي شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة (عب2: 17). تتميز بشارة يوحنا بأنها في الوقت الذي تؤكد فيه لاهوت ربنا يسوع المسيح، فإنها لا تغفل الجانب الإنساني في حياته، لذلك يذكر عنه في قصة المرأة السامرية أنه:- 1- تعب ليهب الراحة: تعب من السفر وجلس هكذا على البئر. لقد تعب ويريد أن يستريح مع أنه مريح التعابى (مت11: 28). لقد تعب باعتباره الإنسان يسوع المسيح، وهذا لا يقلل منه باعتباره هو الله. فهو الله وإنسان معا. لقد تعب ليريح المتعبين، لقد حمل أثقال خطايانا التي أحنت ظهورنا في جسده الكريم، وعلى الصليب دفع الحساب كاملا ليهب راحته لنا، وبراحتنا هو يستريح أيضا. لقد كان يجول يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس (أع10: 38) وفي صليبه يقول "العار قد كسر قلبي فمرضت..." (مز69: 20). لقد تعب لراحتنا ويستريح أيضا متى أراحنا "هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى توبة" (لو15: 7). 2- عطش ليروي: لقد قال للمرأة السامرية "أعطيني لأشرب" (يو4: 7)، وقال أيضا وهو على الصليب "أنا عطشان" (يو19: 28). لقد قال هذا وهو في مركز الاتضاع، هذا الذي نادى في اليوم الأخير العظيم من العيد قائلا "إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو7: 37و38). 3- صبر وتأنى عليها ليهبها الآمان: لقد جلس على البئر لا ليستريح من التعب فقط بل كان منتظرا إياها حتى تأتي. لقد كان انتظاره ليس في الوقت الذي تأتي فيه فقط فهو انتظر حتى جاءت، بل كان أيضا صبورا متأنيا في الكلام معها ليهبها الشعور بالأمان. 4- أظهر لها كل العطف والرقة والحنان: لنتصور معا ماذا لو كان شخص آخر غير الرب يسوع حتى ولو سمت صفاته الدينية والخلقية موجودا عند البئر، ترى ماذا يكون موقفه من هذه المرأة سيئة السمعة؟ هل كان يعطف عليها أو يعطها اهتماما وينظر إليها؟ أما كانت هي تخشاه وتهرب منه؟. لكن ها هي الآن أمام رب المجد الذي يعرف تفاصيل حياتها، فيعطف عليها ويظهر لها كل الحب مما يجعلها تطمئن إليه وتعترف بخطيئتها وتطلب منه الغفران وترى فيه المحب الألزق من الأخ. 5- حطم كل الحواجز العنصرية: فهو قد داس على العداوة التقليدية بين اليهود والسامريين وها هو يتحدث مع امرأة سامرية. ولقد حطم أيضا حواجز التفرقة بين الرجل والمرأة. فلقد كان التقليد اليهودي يحرم على أي واحد من الأحبار أن يحيي سيدة في الطريق أو يتحدث إليها. أحيانا كثيرة بسبب عدم الانتظار على النفوس، وعدم وجود طول الأناة ولاسيما مع الذين يتحاورون معنا في بعض المبادئ والحقائق المسيحية وإحساسنا بعدم موافقتهم على ما نقوله لهم وعدم قبولهم للبشارة نتركهم بتسرع يائسين دون فائدة وتضيع الفرصة دون أن نستكمل الحديث معهم ودون اتخاذ أي قرار. ثانيا:هي:- امرأة سامرية مسكينة تعيش في أوحال الخطية والنجاسة والشهوات العالمية. إنها امرأة مكروهة ومنبوذة من اليهود لأنهم لا يعاملون السامريين، ومكروهة من بني جنسها بسبب خطاياها. إنها محطمة داخليا بسبب الخطية ومحطمة خارجيا من الناس. ربما حاولت التخلص من خطاياها لكن الشهوة الجامحة كانت تتغلب عليها حتى أنها تزوجت بخمسة رجال والذي كان معها ليس لها. إنه عطش النفس وجوعها ومن يرويها ويشبعها؟. هذه المرأة تمثل البشرية العطشانة التي تجري وراء خداع وبريق وبطل وسراب هذا العالم، وراء ملذات وشهوات دنسة زائلة. إبليس رئيس هذا العالم يخطط في كل لحظة في كيف يخدع البشرية ويسقطها في ملذات وشهوات كثيرة ليبعدها عن الرب إلهها. لقد أغوى آدم وحواء قديما وفصلهما عن الله، ولازال يفعل حتى الآن مع نسلهما بذات الكيفية. لقد استعبد البشر وأبعدهم عن الله مصدر الراحة والارتواء ومصدر الحياة والشبع والفرح، وجعلهم يتمسكون بأشياء باطلة مثل الإدمان والتدخين ودنس ونجاسة هذا العالم تحت عنوان الحضارة والتكنولوجيا العصرية، وأصبحت النفس في خواء وفراغ عظيمين. لقد قال المسيح عن مياه العالم "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا"، لكن عن ما يعطيه هو قال "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 13و14). لقد صار العالم في عطش شديد نتيجة ابتعاده عن الرب، وهل يرجع إليه؟! وبالتأمل في حياة المرأة السامرية نرى:- 1- إنها عطشانة ولم تختبر الارتواء الحقيقي إلا بعد مقابلة الرب يسوع معها. 2- تتكلم بما لا تفهم: قالت للرب يسوع "كيف تتطلب مني لتشرب وأنت يهودي.." (يو4: 9). وذلك لأن اليهود لا يعاملون السامريين. من الواضح أنه من التقاليد المتبعة أنه لا يجوز لرجل التحدث مع امرأة في مكان منفرد حتى أن التلاميذ تعجبوا عندما رأوه يتحدث معها (يو4: 27). وفي قولها "كيف تتطلب مني" كأنها تقول له لقد تعديت الحدود، رجل يتحدث مع امرأة! وأيضا تخطيت حدود العداء فاليهود لا يعاملون السامريين. ولقد أظهر الرب يسوع عدم فهمها في قوله لها "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا" (يو4: 10). ثم سؤالها أيضا للرب "من أين لك الماء الحي. أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب يعلن أيضا عن جهلها يشخصه. وكأنه تقول له: هل تعترض على كرامة هذه البئر ومياهها التي تختلط بأروع التقاليد؟ ترى من تكون؟ هل أنت أعظم من أبينا يعقوب الذي لم يجد وسيلة لارتوائه هو وبيته ومواشيه إلا عن طريق هذه البئر؟ هل تدعي بأن لك سلطان أن تحمل مياها جارية تتفجر من الصخر؟ هل أنت أكثر حكمة وقوة وإعجاز من يعقوب؟ هذا هو الإنسان في جهله وعطشه وجوعه، وهذا هو الرب يسوع في محبته ونعمته. فمتى تقابل الإنسان مع المسيح صار كل شيء في وضعه الصحيح. رب سائل يسأل من يحتاج للآخر؟ هل هي المحتاجة إليه أم هو المحتاج إليها؟ واضح لنا أن كل منهما يحتاج للآخر. عندما جاءت إلى البئر طلب هو منها لتعطيه أن يشرب، ثم طلبت هي منه ليعطيها. هو طلب منها أولا وهي طلبت منه بعد ذلك. فهي عطشانة وتريد الارتواء وهو كذلك كان عطشان ويريد الارتواء. إن ارتواءه هو في ارتوائها هي. بمجرد أن ارتوت تركت جرتها ودخلت مدينتها. وهو أيضا ارتوى إذ رآها هي قد ارتوت. أعظم المعجزات "...وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل" (يو10: 10). مع أن الرب يسوع صانع العجائب، فكم صنع وعمل حتى أن الرسول يوحنا يقول "آيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه" (يو20: 30). "وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة فواحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة" (يو21: 25). لكن لم يذكر عنه أنه صنع ولو معجزة واحدة في السامرة. رغم ذلك يمكننا أن نقول أنه صنع أعظم معجزة أو أعجوبة. لقد تقابل بمحبته مع امرأة مسكينة خاطئة حطمتها الخطية وكسرت قلبها. شربت من آبار الشهوات والملذات لكنها لم ترتو. وبلقائه معها استطاع أن يغير الحياة بجملتها، فحولها من امرأة ساقطة إلى سفيرة له، شاهدة لعمل نعمته في حياتها. لقد قالت لكل مدينتها "هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت. أ لعل هذا هو المسيح. فخرجوا من المدينة وأتوا إليه" (يو4: 29). وهنا نسأل: لو حصلت هذه المرأة على الشفاء من مرض جسدي دون أن تشفى روحها ونفسها، فما قيمة هذا؟. إن شفاء الروح والنفس هو أعظم من شفاء الجسد من الأمراض بما لا يقاس. كم من أناس نالوا من الرب يسوع الشفاء من أمراض مختلفة، لكنهم ماتوا بأمراض أخرى. لكن من الجانب الآخر كم من أناس حصلوا على الخلاص من خلال قبولهم للرب يسوع مخلصا شخصيا لهم، منهم من هو مع المسيح الآن، ومنهم من هو لازال على قيد الحياة شاهدا لعمل نعمة الله في حياته. لقد عانى لعازر المسكين من الأمراض والبلايا "مضروبا بالقروح...والكلاب تأتي وتلحس قروحه" (لو16: 2-22) ومات بحالته هذه، لكن الآن هو يتعزى، بينما الغني الذي كان في كامل صحته وغناه وكان متنعما ومترفها هنا على الأرض، مات وهو الآن يتعذب له أكثر من ألفي عام. (لو16: 19و22-26). إن لقاء النفس مع المسيح هو أعظم لقاء، لذلك من المهم جدا أن يكون لكل واحد منا لقاء حقيقي مع شخصه المبارك. في لقاء الرب يسوع مع المرأة السامرية نرى لقاء وجلسة ما بين الرب يسوع والنفس. يمكننا أن نقرأ كتب كثيرة، لكن الأمر يتطلب لقاء وجلسة مع الرب يسوع لأنه لا يمكن أن تتغير الحياة إلا إذا حدثت هذه المقابلة والجلسة. جيد أن نجتمع معا لنعبد الرب لكن نحتاج أن نجلس مع الرب، الشيء الذي يتطلب منا الإصرار على هذه الجلسة. لا يمكن لأحد أن يهبنا ما نحتاج سوى الرب الذي يعلم كل شيء عنا. ربما جلست المرأة السامرية مع كثيرين، وربما شكت وبكت لمرشدين، لكنهم لم يفوا ولو بالقليل من احتياجها. لكن الرب يسوع وحده الذي ذهب إليها استطاع أن يفي كل احتياجها. لقد كانت المرأة السامرية مستعبدة، لكن لقاء الرب بها كشف كل شيء. إن وجودها أمام الرب جعلها تكتشف نفسها في خرابها وتكتشف المسيح في محبته وغنى نعمته وعظمة مجده. لم يتحدث الرب مع المرأة عن كل خطاياها، لكن وجودها أمامه جعلها تكتشف خراب طبيعتها وتشعر باحتياجها إليه وإلى الماء الذي يعطيه هو، لذلك قالت له "أعطني هذا الماء". إن وجودنا أمام المسيح يكشف الخطايا ويظهر الخفايا والأشياء التي انهزمنا منها والتي استعبدنا لها. اللقاء الحقيقي مع الرب يسوع يقود الشخص للبكاء والتوبة لأنه يكشف الإنسان على حقيقته أمام حضرة الرب مثل بطرس الذي أنكر الرب لا مرة بل مرات، لكن عندما وقعت أنظار الرب إليه خرج خارجا وبكى بكاء مرا لأنه تذكر ما قاله الرب له (لو22: 54-62). وكذلك إشعياء النبي عندما رأى الرب في عظمة مجده وبهائه، قال "ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود" (إش6: 5). لماذا لا نعرف أنفسنا في حقيقتها؟ لماذا يوجد فينا ادعاء أننا أفضل من غيرنا وكأننا نقول للرب مع سمعان بطرس "وإن شك الجميع فأنا لا أشك... ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك" (مر14: 29و31) لماذا لا نعرف ما نحن فيه من إثم وفجور وخطيه؟ الجواب لأنه لا يوجد لقاء حقيقي مع الرب يسوع. لقد جاءت المرأة الخاطئة إلى بيت سمعان الفريسي لأنها كانت تعلم أن الرب يسوع موجود هناك، وإذ جاءت باكية غسلت قدميه بالدموع. لقد كان لقاء حقيقيا لذلك سمعت منه أروع العبارات "مغفورة لك خطاياك... إيمانك خلصك. اذهبي بسلام" (لو7: 36-50). ولقد جلست مريم أخت مرثا ولعازر عند قدمي يسوع فوجدت كل راحتها وسلامها فيه (لو10: 39) ووجدت تعزيتها في شخصه (يو11: 32). لقد قال الرب يسوع للمرأة السامرية عندما التقى بها "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا" (يو4: 13). إن الحل لمشاكلنا وارتواء نفوسنا وشبعها، وملء الفراغ العميق الذي نعيش فيه ليس في الأشياء المادية المنظورة، لكن في الرب يسوع وحده الذي يروي ويريح. فهو الذي قال "تعالوا إليَ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت11: 28) وقال أيضا "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 14). لنلاحظ القول "ولكن" التي تميز ما يعطيه الرب عن ما يعطيه العالم. ولنلاحظ أيضا القول "أعطيه أنا" فهو يعطي ما لا يمكن للعالم أن يعطيه. والقول "لن يعطش إلى الأبد" يعني أن ما يعطيه المسيح يروي النفس ويشبعها. ********************* كيف تعامل الرب مع المرأة السامرية؟ "...لكنه يتأنى علينا وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة" (2بط3: 9). لقد قال الرب يسوع لزكا العشار "أن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). ولكونه قد جاء لكي يطلب ويخلص اتبع نفس الطريقة والكيفية (يطلب ويخلص) في التعامل مع المرأة السامرية لكي يحصل على منزل في قلبها. كانت المرأة السامرية من بنات الفساد والنجاسة، فقلبها لم يعرف ولم ينشغل بشيء سوى الملذات الجسدية وشهوات الزمان الحاضر، ولكن الرب ابتدأ معها مستخدما الطرق الآتية:- · ملأ قلبها بالثقة في شخصه: وهذا ما قد عملته المحبة الحقيقية التي كانت في قلبه تجاهها. فأظهر لها أنه محتاج بأن تعمل معه معروفا وتعطيه ليشرب، فقال لها "أعطيني لأشرب". لقد حصل على الثقة التي كان يطلبها وجعلها تشعر بالراحة والأمان في حضرته وأيضا امتلأ قلبها بالطمأنينة من نحوه. · جذب انتباهها إليه: لقد استخدم الثقة التي جعلها في قلبها لفائدتها الشخصية فأثار فيها غريزة حب الاستطلاع مستعملا في حديثه معها كلاما يشعرها أن الذي أمامها ليس إنسانا عاديا. · نبه ضميرها وأيقظه: فبعد أن علمت أن الذي تقف أمامه ليس إنسانا عاديا بدأت في الحال تخاطبه بالقول "يا سيد" دليلا على أن ضميرها قد تحرك داخلها وأن الموقف صار خطيرا. · بدأ في علاجها: عندما تحرك ضميرها في داخلها، بدأ يعالج أمرها بحكمته الفائقة، مظهرا لها حالتها الحاضرة بكل دقة وأمانة. فهو يلمس الضمير أولا وبعد برهة وجيزة يجعل هذا الضمير يبكتها على ما فعلت فتقع في اضطراب وحيرة. · طاردها بمحبته ونعمته: لقد حاولت المرأة أن تختبئ منه وتهرب كما فعل آدم قديما. فأتت بسؤال عن العبادة لعله يقوم مقام أشجار الجنة كما فعل آدم وحواء. ولكن الرب يسوع كان يتبعها إلى مخبئها ويجيب على سؤالها بصورة جعلت انتباهها يتوجه إليه أكثر، وتزداد دهشتها إلى أن رأت فيه المسيا المنتظر. · كشف لها عن ذاتها: إن أصعب شيء أن يعرف الإنسان ذاته. إنه يستطيع أن يبصر جيدا عيوب الآخرين، أما عيوبه تخفى عليه. لكن عند لقاء النفس بالرب يسوع ينظر الشخص إلى ما فعله، ينظر إلى نفسه ويرى حقيقتها ويدرك ذاته في نور الله الفاحص. لقد استخدم الرب معها طريقتين ليكشف لها عن ذاتها:- 1- قادها لتعترف أنها خاطئة: إن الرب يسوع كان قادرا على أن يكشف لها عن كل ما فيها وما فعلته. لكنه لم يفعل ذلك لأنه لم يأت ليفضح خطايا البشر، لذلك قال لها "اذهبي وادعي زوجك...". وهذا أمر طبيعي فأمام كل معلم لابد أن يكون رجل. أجابته قائلة "ليس لي زوج" ولما قالت هذا شجعها بالكلام الطيب. لقد أمسك الرب بشيء مضى في حياة هذه المرأة وابتدأ يمتدحها إذ قال لها "حسنا قلت...بالصدق قلت". كان الرب يعلم كل شيء عن هذه المرأة وهي كانت تعلم ما فيها وما فعلته، لكنه كان لابد أن يجعلها تعترف بهذا "كان لي...والذي معي"، فهو أعلن لها، وجعلها تعترف بهذا، لذا أعلنت الموافقة على كل ما قاله لها في قولها "أرى أنك نبي". 2- شجعها بأن يغفر لها خطاياها: فبعد أن قال لها "اذهبي وأدعي زوجك" قال لها "وتعالي إلى هاهنا". فبمجرد الاعتراف بخطايانا هو يغفر لنا "من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يقر بها ويتركها يرحم" (أم28: 13). لا يمكن للإنسان أن يعترف بخطاياه إلا إذا افتقدته نعمة الله. فأي إنسان يحاول الهروب من الاعتراف بما فعل، لكن عمل النعمة فقط في القلب يجعله يعلن ويعترف. لقد كانت هذه المرأة منبوذة من المجتمع ومن الناس ومن الأقارب، وغير مقبولة من الجميع. فكل من يقترب منها يخشى أن تشوه سمعته، لكن الرب يسوع اقترب منها وطهر حياتها وجعلها تقول للناس "...قال لي كل ما فعلت". مرة سألوا الواعظ الشهير مودي قائلين له "عندما تنتهي رحلتك وخدمتك للرب من على الأرض وترقد، ماذا تريد أن نكتب على قبرك؟ فكان جوابه: اكتبوا هنا يرقد أكبر خاطئ مخلص بالنعمة". · أعلن لها عن ذاته: إن هذه المرأة تختلف عن نساء كثيرات قابلهن الرب يسوع في جولاته، فبعضهن توسلن إليه وحصلن على ما يردن بطلبهن منه بتوسل، مثل حنة التي قضت لياليها وأيامها في أصوام وصلوات، والمرأة الخاطئة التي غسلت رجليه بدموعها، والمرأة الكنعانية التي صرخت وانتظرت لأجل ابنتها، وأرملة نايين التي حركت مشاعره بدموعها لأجل ابنها الشاب الميت. لكن هذه المرأة التي أمامنا لم تقدم له أي التماس، ولم تجر أي معجزة سوى تغييرها الروحي، ومع ذلك فقد كانت امرأة محظوظة ذلك لأن الرب يسوع أعلن لها أنه هو المسيا وهو إعلان لم يعلنه لتلاميذه بل تركهم يستنتجون بأنفسهم حقيقة لاهوته من أعماله العظيمة ومعجزات رحمته. فهذه المرأة كان لها امتياز في أنها كانت من ضمن الذين لم يطلبوه لكن وجد لها (إش65: 1). لقد قال لها "أنا هو" فوجدت فيه راحة لضميرها المضطرب وسلاما لقلبها الخائف وامتلأت بالسعادة، وكان هذا هو طعامه وشرابه وراحته هو. لقد تدرج الرب في التعامل معها فبدأ:- 1- طلبها. 2- كشف لها ذاتها. 3- كشف لها عن ذاته. 4- خلصها. 5- أطلقها في نور وفرح وحرية. وإذ تمم كل هذا يتهلل هو بالنتيجة ويفرح بها أكثر من تهللها هي. إن الرب يسوع لا يجد منزلا على الأرض إلا في الخاطئ المسكين الذي يأتي إليه بالقلب المنكسر. وهذا المنزل يحصل عليه لنفسه بقوة وعمل روحه في الداخل. إن صورة الله مشوهة عند الكثيرين من الناس، لكن الرب يسوع أظهر في مقابلته مع المرأة السامرية حقيقة المودة والألفة التي أظهرها مع العالم والتي سلكها ويسلكها مع أناس هذا الدهر. وبالتأمل في هذه الأمور الرائعة وتمعن النظر في شخصية المسيح المباركة تتغير كل تصوراتنا عن الله. فهو الذي افتقد الناس قبل حلول يوم الدينونة. لقد جاء الرب يسوع من قمة المجد. من عند الآب خرج لكي يعطي، جاء كي يطلب ويخلص وليس ليدين. فهو الذي كان يجب أن يظهر كالديان، لكنه قد ظهر أولا كالمخلص، آتيا بالنعمة التي لا تخلص فقط لكنها أيضا توجد ساجدين حقيقيين للآب. جاء مفتقدا قلوبا شريرة مقدما لها علاجا شافيا وكاملا. لقد أتى لا ليطلب منا سداد ما علينا من دين، بل أتى ودفعه هو على الصليب. والبشارة التي أتى بها هذا المخلص تتضمن مقابلة الخطاة بحسب ما يحتاجون إليه وليس المطالبة بالديون. يقول الرسول يوحنا في رسالته "ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصا للعالم" (1يو4: 14). فليس أمامنا سوى "مخلص" ولا يوجد موضوع آخر يبهج القلب وينشغل به سوى "المخلص". ومع أن الرب يكشف القلب وما فيه، لكن سرعان ما يخبر الشخص الذي يلتقي به بأنه خلص "إيمانك قد خلصك. اذهبي بسلام" (لو7: 50). وإذ قد دفع كل شيء فلا مكان للخداع أو الرجوع بالمطالبة. فيمكن لكل من وثق فيه وأتى إلى شخصه أن يذهب من أمامه بسلام وراحة قلب وبلا خوف من الخطية ونتائجها وعقوبتها طالما سمع منه هذا القول "اذهبي بسلام". لقد تعامل مع المرأة السامرية وتعامله معها يدل على النعمة في كمالها وسموها. ********************* لماذا تكلم الرب مع المرأة السامرية؟ "يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه. ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. لأن من يعرف فكر الرب أو من صار له مشيرا" (رو11: 23و24). عندما كان ربنا المعبود على أرضنا بالجسد كان غير متكلف، ولم يظهر بمظهر ليس مظهره ولم يلبس ثوب غير ثوبه. كان يمشي وبتعب، ويجلس ويصوم ويجوع ويأكل وينام ويصحو ويحزن ويكتئب ويدهش. قال عنه كاتب العبرانيين "مجرب في كل شيء مثلنا" (عب4: 15). كان إنسانا طبيعيا مثلنا تماما، كان بكل بساطة وتلقائية يتحدث ويتكلم بأعظم الأمور. مع أن العمق والبساطة لا يجتمعان معا. فالكلام عندما يكون عميقا لا يكون بسيطا وعندما يكون بسيطا لا يكون عميقا بل يكون سطحيا. لكن الرب يسوع جمع بين الاثنين، عمق الكلام وبساطته. فهو العارف الفاحص الفاهم والقادر على كل شيء. عندما كان هنا على الأرض تقابل مع كثيرين، تكلم مع البعض منهم بعمق شديد، وآخرين تحدث معهم في يسر وسهولة. لا يفكر فيما يريد أن يقول، فهو يعرف احتياج الروح، ويعرف أعماق النفس. عندما رجع التلاميذ من شراء الطعام تعجبوا من أن المسيح يتكلم مع امرأة، خاصة وأنها امرأة سامرية، لكنهم لم يقاطعوه. فقد كانوا يدركون أن معلمهم يعرف ماذا يفعل ولا يحتاج إلى مشورتهم. رغم ذلك كان الأمر بالنسبة لهم غريب حتى أنهم تعجبوا منه "كانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة" (يو4: 27). وهنا نسأل لماذا كانوا يتعجبون؟ وللجواب نقول:- · من المعروف أن الرب يسوع هو رب ومعلم، وكان في معتقد اليهودي أن الرب والمعلم لا يتحدث مع امرأة فهذا غير لائق بالمعلم، فالمعلم يجب أن يكون أمامه رجل. · في العصر الذي ولد فيه المسيح كان التقليد الشرقي يمنع حديث الرجل مع امرأة، ولأن المسيح ولد في هذا المجتمع، ومن المعروف أن المسيح يحترم التقاليد، فكيف يتصرف هذا التصرف؟ الأمر الذي جعل تلاميذه يتعجبون متسائلون "كيف يتكلم مع امرأة"؟. · غير مسموح أن يتكلم رجل مع امرأة في مكان منفصل وعلى انفراد. · كان المسيح رجل يهودي وهذه المرأة سامرية واليهود في ذلك الزمان لا يعاملون السامريين. فبهذا التصرف تخطى الرب حدود النظام اليهودي وفعل ما لا يجب فعله. · لأنها كانت امرأة خاطئة وربما كانت لها شهرة لارتباطها بالرجال. يجب أن نلاحظ أن الرب يسوع لم يتحدث مع المرأة السامرية لكنه جلس على البئر وعندما جاءت طلب منها طلبا "أعطيني لأشرب". فهو لم يتحدث معها لكنها هي التي تحدثت معه كثيرا. كما أنه لم يتكلم معها كلاما عفويا أو كلاما للمغازلة من الكلام الذي اعتادت أن تسمعه من كثيرين، لكن كان يكلمها ويحدثها بقوة الكلمة التي تخرج من فمه. لقد قال لها لو كنت تعلمين عطية الله...لطلبت أنت منه" (يو4: 10) وقال لها أيضا "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون" (يو4: 21). واضح لنا أن كلامه كان له سلطان على ضميرها، كما أن كلامه أثمر في حياتها. فهو لم يتحدث معها عن قصة ما أو حكاية جذابة، لكنه تكلم بكلام نافذ لأعماقها ومثمرا في حياتها. إنه لم يذهب صدفة لبئر يعقوب لكنه ذهب وهو يعلم لماذا ذهب. إنها مشيئة إلهية ومحبة بلا حدود لمسكينة تحتاج إلى محبته ونعمته المخلصة. ومن هنا نسأل لماذا تكلم المسيح مع المرأة السامرية؟ وللإجابة نقول:- 1- تكلم معها لأنه يحبها: فهو المحب للعشارين والخطاة (لو7: 34). وهي واحدة من أولئك. لا يعرف الحب إلا من هو المحبة ذاتها "الله محبة" (1يو4: 16) "لأنه هكذا أحب الله العالم..." (يو3: 16) أما نحن البشر لا نعرف كيف نحب إلا بعد أن نولد ثانية ونصير شركاء الطبيعة الإلهية لأن المحبة ليست من طبيعتنا الساقطة (1بط1: 3، 2بط1: 4). إن المسيح هو الله المتجسد ويعرف هذه المرأة جيد المعرفة، لم تخف عنه أسرارها وبواطن حياتها، ولذلك سار على قدميه المسافة الطويلة لكي يصل إليها. يقول الرسول بولس للمؤمنين "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2كو8: 9) ويقول أيضا "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة..." (1تي1: 15). مع أن المرأة السامرية كسرت إحدى الوصايا السامية وكسرتها بكل قوتها. لكنه تبارك اسمه إلى الأبد أحبها فذهب إليها. إنها مكروهة ومشبوهة من الجميع، ولقد تألمت من الأزواج ومن الناس ومن كلامهم الموجع. رغم ذلك فإن الشخص الوحيد الذي أحبها هو الرب يسوع والذي ذهب إليها خصيصا ليرويها ويريحها ويشبعها. إن كان الرب يسوع قد أحبها فهو يحبنا نحن، أنت وأنا وكل إنسان. فهل نستفيد من محبته؟ 2- تكلم معها لكي يخلصها ويحررها: كان من الممكن للرب أن يتكلم ويجلس مع الشريفات والنزيهات. لكنه تقابل مع هذه المرأة لأنه يريد أن يخلصها من خطاياها ويحررها من عبودية الشيطان. إنه لم يأت ليعلم تعاليم أو مبادئ، مع أنه علم وتكلم بما لا يستطيع آخر سواه أن ينطق به أو يعلم به لأنه هو المعلم الصالح، لكنه جاء أساسا "ليخلص الخطاة" (1تي1: 15). جاء لكي يخلص من الخطية وعقوبتها ويحرر من عبودية إبليس وينجي من دينونة الله العادلة ومن لعنة الناموس الشيء الذي كلفه أن يبذل نفسه بدلا عنا على الصليب. "فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا" (يو8: 36). إن اسمه "يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21). هذه المرأة كانت من ضمن خطة الرب يسوع، لقد كانت من ضمن البشر الذين أتى لأجلهم. "فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضا كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس. ويعتق أولئك الذين خوفا من الموت كانوا جميعا كل حياتهم تحت العبودية" (عب2: 14و15). 3- تكلم معها ليرويها ويشبعها: لقد ارتبطت هذه المرأة بخمسة رجال، واحد بعد الآخر والسادس الذي لها ليس زوجها، لكنها أخيرا التقت بالسابع، رب المجد القدوس اسمه، ربنا يسوع المسيح الذي استطاع وحده أن يروي ويشبع قلبها. لقد قال لها "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 13و14). لقد كانت هذه المرأة محتاجة ولم تجد أحد يقول لها ولو كلمة تشجيع أو يشاركها مشاكلها، لكن عندما التقى الرب يسوع بها وجدت كل ما تريد وأعطاها ما لم يعطه لها آخر. إنه المسيح الذي يشبع القلب الذي قال "أنا هو خبز الحياة. من يقبل إليَ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدا" (يو6: 35) وقال أيضا "...إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب..." (يو7: 37). على قدر ما يسعى الإنسان وراء آخر غير المسيح لا يجد إلا المواجع "تكثر أوجاعهم الذين أسرعوا وراء آخر" (مز16: 4) لذلك لنرجع إليه فنجد فيه الماء الحي الذي يروي وخبز الحياة المشبع. 4- تكلم معها ليخرج ما في داخلها: كانت هذه المرأة تعيش في مستنقع النجاسة والخطية ولم تفكر في يوم ما بأن ترجع إلى الله معترفة بخطاياها. وواضح لنا من أقوال الله أن "من يكتم خطاياه لا ينجح. ومن يقر بها ويتركها يرحم" (أم28: 13). كان لابد للرب يسوع أن يتكلم معها متأنيا إلى أن يقودها للاعتراف. لقد وصل معها إلى الطلب، قالت له "يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي"، عند هذا القول قال لها الرب يسوع "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى هاهنا" (يو4: 15و16). فكان جوابها "ليس لي زوج" لقد كان في جوابها اعتراف بالخطية، وإن كانت لم تعترف اعترافا كاملا لكن ساعدها للوصول إلى الحقيقة وأخرج ما هو خفي من داخلها. لذا قال لها "حسنا قلت ليس لي زوج. لأنه كان لك خمسة أزواج. والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق" (يو4: 17و18). 5- تكلم معها ليصحح مفاهيم خاطئة كثيرة في ذهنها: لقد ظنت أن المسيح الذي جلس على البئر هو مثل أي رجل يهودي، لذلك قالت له "كيف تطلب مني وأنت يهودي...واليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 9). وقالت له أيضا "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب" (يو4: 12). ولما كشف أسرار حياتها قالت "أرى أنك نبي". وإلى هذا الحد لم تقل القول الصحيح عن الرب يسوع فاستمر يتكلم معها إلى أن أدركت أن هذا هو المسيا، الأمر الذي جعلها تترك جرتها وتذهب إلى المدينة مخبرة، قائلة "إنسان قال لي كل ما فعلت. أ لعل هذا هو المسيح" (يو4: 28و29). هذا ومن جانب آخر لقد ظنت أن الارتواء الحقيقي هو في الشهوات والملذات، لكنه عرفها أن الارتواء الحقيقي في شخصه المبارك بل ورواها أيضا (يو4: 13و14). وأيضا كان لديها مفهوم خاطئ عن السجود فقالت للرب يسوع "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه" لذلك صحح الرب يسوع مفاهيمها فقال لها "...لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب...ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق..." (يو4: 20-24). 6- تكلم معها ليهدئ من نفسها ويطمئنها: ربما استغربت إذ رأت أن رجل في هذا التوقيت الذي تعودت أن تأتي فيه لتملأ جرتها وهي تعلم أنه لا يوجد عند البئر أي شخص في هذا التوقيت، وربما فزعت وارتبكت من هذا الشيء وخاصة عندما طلب منها "أعطيني لأشرب". ولذلك كان لابد من أن يتكلم معها ويسمعها حتى تهدأ فتأخذ قرارا صحيحا من جهته. لقد شعرت بالأمان في محضره وراحة في أن تتحدث معه حتى أنها سألت عن أمور هامة مرتبطة بالسجود، وعن قناعة مضت لتخبر بأن هذا هو المسيا. 7- تكلم معها ليستخدمها في إرسالية خاصة لا يصلح فيها أحد من تلاميذه: جيد للشخص الذي انهزم في مكان أن يتوج فيه، وجيد للمرأة السامرية أن تشهد وتستخدم من الرب بين الناس الذين جرحوها والمدينة التي تشوهت فيها سمعتها. لقد "تركت جرتها ومضت ودخلت إلى المدينة وقالت للناس إنسان قال لي كل ما فعلت". ربما كثيرون من المدينة لم يسمعوا عنها، لكنها أخبرت في كل المدينة وكانت النتيجة أن كثيرين من تلك المدينة آمنوا به. يا لها من نعمة عظيمة تستخدمها بعد أن خلصتها. لعلنا نذكر المجنون الذي حرره الرب يسوع من الأرواح الشريرة فبعد أن حرره أرسله إلى ذات بيته وقريته ليخبر بكم صنع الرب به ورحمه. (مر5: 19و20). ********************* المرأة السامرية وجهلها بالعطية عندما نقرأ المقطع الأول من هذه القصة المباركة، نرى التنازل العجيب للرب عن مجده، إذا يضع نفسه في مستوى هذه المرأة السامرية الخاطئة. ونرى في ذات الوقت الصبر العجيب وطول الأناة لهذا المخلص. إنه يدعو المخلوق الحقير ليطلب منه وفي ذات الوقت يعد بأن يعطيها الماء الحي. لكن بدلا من أن تأخذ العطية المباركة استمرت في المعارضة. رغم أن المشهد ينشئ في القلب اشمئزاز لكنه لم يتركها لتعاني من نتائج عنادها وتمردها. لقد صبر وانتظر عليها طويلا حتى كسبها لنفسه. لقد طلب الرب من المرأة السامرية أن تعطيه ليشرب، لكنها أعلنت رفضها لطلبه قائلة "كيف تتطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية. لأن اليهود لا يعاملون السامريين." (يو4: 9). إن العبارة "لأن اليهود لا يعاملون السامريين" لا تعني أنه لم يكن أي نوع من التعامل بين اليهود والسامريين، لأننا نرى أن التلاميذ ذهبوا ليبتاعوا طعاما من السامرة وهذا يدل على انه كان هناك بعض التعامل. لكن العبارة قد تترجم بمعنى آخر "لأن اليهود لا يطلبون معروفا من السامريين" أو "لا يستخدمون آنية يستخدمها السامريين"، إذا لماذا يريد يسوع اليهودي أن يستخدم إناءها الملوث ليشرب فيه ماء؟! لقد كانت طلبة الرب يسوع طريقا لفتح باب الحوار لكي يقدم لها الحق الخاص بالماء الحي. لقد كان ينتقي المدخل المناسب للشخص المناسب، فمثلا يقدم المشورة إلى واحد من شرفاء القوم من جهة ضرورة الولادة الجديدة، ويتكلم عن الماء الحي مع المرأة السامرية. عندما رفضت طلبه قال لها "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا" (يو4: 10). بهذه العبارة أعلن الرب يسوع أن هذه المرأة تجهل ثلاث حقائق هامة وهي: 1- من هو الذي طلب منها؟ 2- ماذا عنده ليقدم لها" 3- كيف تستطيع أن تقبل هي ما يقدمه هو؟ لقد كانت تجهل عطية الله ألا وهي ابنه المبارك يسوع المسيح. وأظهرت بخل الإنسان والأنانية التي سيطرت عليه. لم يطلب الرب منها شيئا نادر الوجود، بل طلب ما هو في متناول يدها، مياه من جرتها مأخوذة من بئر موجودة أمامها. لكن روح الحزبية والتعصب وروح الأنانية وحب الذات والدفاع عن الكرامة والمبدأ، كل هذه الأمور تصيب الإنسان بالعمى وعدم العطاء. لكن في ذات الوقت نرى أيضا كرم الرب وسخاءه "لو كنت تعلمين... لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا". إنه لا يكف عن العطاء لأن مبدأه "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أع20: 35). ليسأل كل واحد منا نفسه: هل يعلم عطية الله؟ لو كان كل واحد منا يعرف من هو عطية الله ما كان يعيش الهزيمة في الخطية والعطش واليأس والبؤس والهم. كثيرون يحضرون الاجتماعات وحياتهم عبارة عن ممارسات وقراءات، ولا يعرفون عن الرب يسوع شيئا ولا عن عطاياه، ولا زالوا متمسكين بالشهوات والملذات وحب الذات. إنهم يحتاجون أن يأتوا إلى المسيح ويعلموا أنه هو عطية الله. إن المرأة السامرية تشبه كثيرين منا، لا يشعرون باحتياجاتهم ولا يعرفون عطية الله لكنهم يدخلون في أسئلة ومناقشات ومجادلات قد تكون عقائدية أو فلسفية أو عقلانية. لقد كانت المرأة مستعبدة لكن لقاءها مع المسيح كشف كل شيء لها. من المعروف أن الشخص الذي يطلب هو المحتاج، والرب يسوع بدأ بالطلب منها. إنه يمد يده لأنه المحتاج. إنه يريد ويرجو أن يأتي إليه الإنسان الخاطئ. لقد قال "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى... لأني لم آت لأدعو أبرارا بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 12و13). وقال أيضا "بسطت يدي طول النهار..." (إش65: 2). إنه يمد يد المحبة والعطاء للإنسان، فهو دائما هو البادئ. عندما رأى الرب أنها أجابت بلغة الاستغراب "كيف تطلب مني.." قال لها "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطني لأشرب...". يا لها من عبارة قالها الرب للمرأة ولازال يقولها للبشر "لو كنت تعلمين". لو عرف الناس من هو يسوع لتغيرت أحوالهم واختبروا أروع وأجمل حياة على الأرض. لكن الإنسان في جهله طلب بصلبه "لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد" (1كو2: 8). لقد قال في يوم ما لمدينة أورشليم "لأنك لم تعرفي زمان افتقادك" (لو19: 44) وقال لملاك كنيسة لاودوكية "وأنت لم تعرف أنك الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان" (رؤ3: 17). لقد أصيب البشر بالجهل "لأن إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله" (2كو4: 4). "لو كنت تعلمين عطية الله...": إن الله هو العاطي، الله الذي يقدم ويريد أن يعطي، لكن الإنسان يتغافل عن عطية الله. العطية هي من الله والعاطي هو الله. يا له من أمر عجيب! الناموس يقول إن الله يطالب" (جا3: 15) ومعظم البشر يعرفون أن الله يطالب، لكن الإنجيل يقول شيئا آخر، يقول إن الله يعطي. أعطى ابنه الوحيد (يو3: 16). الناموس يقول "تحب الرب إلهك من كل قلبك..." والإنجيل يقول "لأنه هكذا أحب الله العالم...". الناموس يطالب الإنسان بأن يحب الله والإنجيل يقول أن الله يقدم المحبة، يا له من إله رائع. الناموس يقدم لنا الله المطالب بحقوقه، أما الإنجيل يعلنه العاطي على الدوام بسرور ويعطي على قياس نعمته التي تعطي من لا يستحق. فإن الله محبة، وإله كل نعمة (1بط5: 10، 1يو4: 16) فمهما كان عوز الإنسان واحتياجه فالله كفيل أن يعطي مجانا وبسخاء (يع1: 5، رؤ22: 17). "لو كنت تعلمين عطية الله": نرى في هذه العبارة أن الله هو الأساس لهذه العطية. "ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب"، من هو في ذاته؟ ومن هو في عظمة مجده؟ لو كنت تعلمين من هو الشخص الذي افتقر حتى إلى الاحتياج أن يشرب منك ماء، لو كنت تعلمين من هو هذا الشخص الفريد الذي حول الماء إلى خمر والذي قال "إن عطش أحد فليقبل إلي ويشرب. من آمن بي... تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو2: 1-12، 7: 37و38) لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا. نرى في العدد السابق أن الله هو العاطي والابن هو وسيلة وصول العطية والروح القدس هو العطية. لم يكن كلام الرب مفهوما أو مقبولا عند هذه المرأة. لذلك "قالت له المرأة يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحي". نعم "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالة" (1كو2: 14). ولقد تكلم أيضا مع نيقوديموس عن الولادة من فوق وكلامه كان غير مفهوم له، حتى أنه سأل قائلا "كيف يمكن للإنسان أن يولد وهو شيخ. أ لعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد". وكان جواب الرب له "المولود من الجسد جسد هو". لذلك ينبغي أن يولد الإنسان بطريقة وبكيفية أخرى، فهذه الولادة من فوق ومن الروح ومن الله. (يو3: 3-7). كما أن كلامه كان غير مفهوم للجموع التي قال لها "أنا هو خبز الحياة..." وأيضا "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء... والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يو6: 33و51). لقد كانت نتيجة هذا الكلام هو "فخاصم اليهود بعضهم بعضا قائلين كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل" (يو6: 52). هنا نلاحظ كم من المرات يفسر الإنسان كلام الرب بطريقة خاطئة مع أنه سهل وبسيط. توجد أدلة كثيرة تظهر أن المرأة تكلمت بجهل منها:- 1- قول الرب لها "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطني لأشرب لطلبت أنت منه...". وهنا نرى أنها مصابة بالعمى الروحي، فهي لم تستطع أن تدرك عظمة مجده الذي أعلنه لها. 2- سؤالها للرب "من أين لك الماء الحي". هذا يوضح لنا أنها تتعامل مع الأشياء المادية 3- قولها للرب "لا دلو لك والبئر عميقة". وهنا نرى تركيزها على الوسيلة وليس الغاية. 4- قولها للرب "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب" وفاتها أنه أعظم من الكل لأنه رب السماء والأرض. الذي به وله خلقت كل الأشياء. والخلاصة نراها تجهل نبع الماء الحي تماما. المرأة السامرية لم تعرفه أكثر من أنه رجل يهودي، ولم يكن لديها أية معرفة بأن هذا هو يهوه ذاته، إله السموات والأرض، ابن الله الحي. ربما يقول قائل أنها لم تتقابل معه من قبل، هذا حق، لكن هذا لا يعطيها عذرا. إن هذا قد حدث نتيجة العمى الروحي الذي جعلها لم تر فيه شيء من الجمال يجذبها إليه. كثير من الناس هم مثل هذه المرأة لهم معرفة عن الله أنه المطالب بحقوقه والديان، وقليلون يعرفونه بأنه المحب الذي يسر بالعطاء. إن الكثيرين مصابين بالعمى الذي منعهم من أن يأتوا إلى هذا الشخص العجيب الذي مات على الصليب لأجلهم والذي يستطيع أن يخلصهم من خطاياهم. بينما يقدم المسيح نفسه للمرأة السامرية بأنه الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يعطي "عطية الله"، لكنها تقول له "لا دلو لك" فهي كانت تجهل أن هذا هو الشخص الوحيد الذي أتى ليبحث عن الضال حتى يجده ليمنحه الخلاص. إنها صورة للإنسان الطبيعي المصاب بالعمى الروحي، فعندما يريد الرب أن يعلن له رحمته، عيناه تكون مغلقة عن محبة هذا الشخص العجيب، وبالتالي يحولها عنه. "يا سيد لا دلو لك" هذه العبارة تعلن عن كيف كانت هذه المرأة تفكر؟ لقد كان كل تفكيرها في البئر وفي الدلو، والغرض الذي لأجله قد أتت للبئر، أي أن كل مشغوليتها كانت بالعالم، ولم ينشغل عقلها بالمسيح ولا بعطية الله ولم تستطع أن تدرك الحب والنعمة واللطف الذي كان يملأ قلب الرب من نحوها والذي عانى مشقة السفر وأتى لخلاصها. الشيطان يسيطر على التفكير ويجعله منشغلا بهذه الأمور حتى ينصرف عن المخلص. إن أي شيء ننشغل به ويبعدنا بعيدا عن المخلص وخلاصه والحصول على الماء الحي، لهو شيء مؤذي حتى ولو كان بحسب الظاهر أمرا واجبا وقانونيا مثل العمل الزمني والعائلة والواجبات. كم من الرجال كل تفكيرهم في عائلاتهم وتدبير احتياجاتهم الزمنية، وكم من النساء كل اهتمامهن في منازلهن وترتيبها والأشياء الضرورية لها، بينما لا تفكير في المسيح ولا في خلاصه. أليس هذا ما ذكره الرب يسوع في مثل الزارع، إذ قال "وهموم هذا العالم وغرور الغنى وشهوات سائر الأشياء تدخل وتخنق الكلمة فتصير بلا ثمر" (مر4: 19). "يا سيد لا دلو لك" هذه العبارة توضح لنا شيئا آخر يقف عائقا بين الخاطئ والمخلص. لقد كان فكر المرأة مشغولا بالوسيلة أكثر من الغاية، مشغولا بالشيء الذي يسحب به الماء من البئر وليس مشغولا بالمسيح نفسه. هذا ما نراه في هذه الأيام فكم من الناس مهتمون بما يفعلون من مجهودات وأعمال ومنصرفون عن المسيح المخلص. لقد تحولوا تماما عن البشارة السارة، والشيطان لم يعطهم فرصة للتوبة والإيمان. إن المرأة السامرية تريد من الرب يسوع أن يعرفها ما هي الوسيلة التي بها يحصل على الماء. إنها تفترض أنه لا يستطيع أن يعطي الماء الحي بدون ما يكون معه الدلو لسحب الماء. وفي هذه الأيام كثيرون يتصورون أنهم لا يخلصون دون أن تكون نهضات روحية واجتماعات انتعاشية أو على الأقل في أماكن العبادة. ناسين أن الرب عندما يعمل ذلك يعمله بالاستقلال عن كل الوسائل التي يفكر الإنسان فيها. إنه يستخدم كلمته الحية في أي زمان وفي أي مكان. فخلق العالم كله لم يكلفه أكثر من كلمة "قال فكان أمر فصار". ولقد أمطر المن من السماء وأخرج ماء من صخرة الصوان، وزود العسل من جوف الأسد (خر16و17، قض14). "قالت له المرأة يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحي" لقد ظلت في عنادها وأكثرت من أسئلتها وكلما أجاب الرب على سؤال أتت بسؤال آخر. لقد أجاب الرب على سؤالها: "كيف"؟ بإخباره إياها عن "عطية الله"، و "الماء الحي". والآن هي تسأل "من أين لك الماء الحي"؟ فهي لا تعرف مصدر الماء الحي، كل ما تعرفه هو "البئر عميقة". هذا التعبير له معنى عميق ورائع – البئر عميقة – عمقها بعيدا عن متناول اليد، فمن أين لهذا الإنسان كيفية الحصول على الماء الحي؟ بمعنى كيف يمكننا أن نحصل على الحياة الأبدية؟ هل بحفظ الناموس؟ بالطبع لا. "لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرأ أمامه" (رو3: 20). هل بعمل صلاح ينبع من طبيعتنا البشرية؟. بالطبع لا. "فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَ أي في جسدي شيء صالح" (رو7: 18). هل بالحياة المملوءة بالعمل الصالح الذي يمكننا أن نعمله؟ وبالطبع أيضا لا. "إذ كنا بعد ضعفاء" (رو5: 6). إذا ماذا بعد هذا؟. إن هذا "الماء الحي" ليس مكافأة لحسن تفكيرنا، إنه "عطية الله" المجانية بالمسيح يسوع ربنا "أما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا" (رو6: 23). نعم البئر عميقة لكن المخلص نزل إلى هذا العمق قبل أن يعطي الحياة الأبدية للخطاة. إن الله يعلم إفلاسنا وعدم مقدرتنا على عمل شيء لذلك لا يطلب منا شيئا بل يعطينا الخلاص والحياة مجانا. إن عطية الله العظمى لا يمكن أن تصل إلينا إلا عن طريق ابنه ربنا يسوع المسيح. لا يكفي أن يكون الله له الرغبة المطلقة للعطاء، لكن كان يلزم أن يرسل ابنه المبارك ليكون هو طريق وصول العطية إلينا الأمر الذي جعل الابن الحبيب يضع نفسه حتى الموت موت الصليب. أما العطية الممنوحة هو الروح القدس الذي يروي النفس البائسة والعطشى. ********************* المرأة السامرية والآبار التي شربت منها "يروون من دسم بيتك (يا الله) ومن نهر نعمك تسقيهم. لأن عندك ينبوع الحياة" (مز36: 8) إن البشر جميعهم يعانون من العطش الشديد، لذلك يشربون من آبار متعددة، ولسان حال كل واحد منهم لعلي أرتوي من بئري. ففيهم من شرب من بئر محبة المال على قدر ما استطاع، لكنه لم يرتو، بل صارت محبته للمال أصل لكل الشرور وطعن نفسه بأوجاع كثيرة (1تي6: 10). وآخر شرب من بئر العلم وازداد فيه لكن لم يرتو، بل اختبر القول "من يزيد علما يزيد حزنا" (جا1: 18)، "والدرس الكثير تعب للجسد" (جا12: 12). وآخر شرب من آبار الشهوة والنجاسة فاكتشف في النهاية أن زهرة شبابه قد ذبلت بدون شبع وهو لم يرتو، بل ضاعت قوته في بيت غريب (أم5: 9-11). وآخر شرب من آبار العصر، من التكنولوجيا العصرية ومن المسلسلات والأفلام والأغاني والإنترنت وغيرها من الأمور العصرية، لكنه اكتشف أن نفسه لم ترتو بعد. إذا أردنا أن نأخذ مثالا لنا من واقع الحياة، فلنقرأ عن سليمان الحكيم والآبار التي شرب منها في سفر الجامعة، وماذا كان تقريره في النهاية. لقد قال الرب عن شعبه القديم "لأن شعبي عمل شرين. تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا، آبارا مشققة لا تضبط ماء" (إر2: 13) وقال الرب يسوع للمرأة السامرية "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا" (يو4: 13). لقد شربت المرأة السامرية من آبار كثيرة ولم ترتو من جميعها، لكنها في النهاية وجدت النبع الذي رواها. وإليك بعض الآبار التي شربت منها:- 1- بئر التزمت والتعصب:- لقد قالت المرأة للرب يسوع "كيف تتطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية. لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 9). يقول قائل: أن التعصب كان من اليهود ضد السامريين وهذا ما نستنتجه من قول المرأة. هذا حق، لكن لنعلم أن التعصب من طرف ينشئ رد فعل من الطرف الآخر فيتولد فيه التعصب أيضا. كما أن هذه المرأة لم تكن في زمن "أحبوا أعداءكم" (مت5: 44)، لكنها كانت في زمن "عين بعين وسن بسن" (مت5: 38). ولذلك من الطبيعي أن تظهر ما في قلبها تجاه اليهود، ولأنها ظنت أن الرب يسوع رجل يهودي، لذلك اندهشت وتعجبت من طلبه. فهو قد تخطى كل حدود العداوة، وكأنه بطلبه ماء ليشرب يطلب المصالحة. لذلك قالت له "كيف تتطلب مني وأنت يهودي". وحتى بعد الحوار الطويل، وبعد أن كشف لها ما في أعماقها، وبعد أن قالت له "أرى أنك نبي"، عادت تقول "آباؤنا سجدوا... وأنتم تقولون..." (يو4: 20). لازالت روح التعصب تسيطر على أفكارها. ولكي يحررها تماما من هذه الروح، أعلن لها عن الآب الطالب ساجدين حقيقيين، وأيضا أعلن لها عن ذاته باعتباره المسيا العجيب، فلم تعد تقول "آباؤنا... وأنتم"، لكنها قالت "إنسان قال لي كل ما فعلت أ لعل هذا هو المسيح" (يو4: 29). وبسبب شهادتها خرجت كل المدينة إليه، "فآمن به من تلك المدينة كثيرون...وسألوه أن يمكث عندهم. فمكث هناك يومين"، وبعدها لم يقولوا عنه "رجل يهودي" لكن شهد الكل قائلين "أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو4: 30و39-42). يا له من محب يتخطى كل أنواع التعصب والتحزب، ويرفع من داخل المرأة كل تعصب وعداء فيجعلها تتطلب منه قائلة "أعطيني من هذا الماء". ولقد أعطاها وروى نفسها وروحها فصارت لا سامرية بل مسيحية سماوية شاهدة له. 2- بئر القداسة الوهمية:- لقد قالت المرأة السامرية للرب يسوع "أنت يهودي (رجل) وأنا امرأة سامرية"، وبحسب العادات والتقاليد الاجتماعية ليس من اللياقة أن يتكلم رجل مع امرأة في مكان خلاء وليس من الحكمة والصواب أن يطلب رجل من امرأة، وكأنها في قولها السابق تعلن تمسكها بالتقاليد الموروثة وفاتها أن الذي يطلب منها يعلم ماضيها "كان لك خمسة أزواج"، وحاضرها "والذي لك الآن ليس هو زوجك"، وما يحدث في مستقبلها. يا له من أمر مدهش لم تعط أذنا صاغية ولم تلبي طلب القدوس تحت عنوان "كيف تطلب مني وأنت رجل... وأنا امرأة"، بينما كانت تعيش في النجاسة والفساد! يا له من ادعاء كاذب. كم من أناس يعيشون الخطية في أبشع صورها، لكنهم يظهرون أمام الآخرين في أروع وأقدس صورة. يخفون ما في باطنهم من شر وفساد تحت الادعاء الكاذب بالقداسة. مثلهم مثل المرأة الزانية التي بعد فعلها الخطية "أكلت ومسحت فمها وقالت ما عملت إثما" (أم30: 20). مثل هؤلاء يحتاجون إلى تعامل المسيح معهم كما تعامل مع المرأة السامرية. 3- بئر التدين المزيف:- مع أن هذه المرأة كانت تعيش في الخطية بأبشع صورها لكنها كانت متمسكة من الخارج بقشور التدين. قالت للرب يسوع "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب". فهي تعلم عظمة يعقوب أبو الأسباط. ومن جهة السجود قالت للرب يسوع أيضا "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل...". لقد كانت حياتها تدور حول محور "دنيا ودين". إن التدين كثيرا ما يعطل الأشخاص من الحصول على الخلاص لشعورهم أنهم لم يقصروا في فعل الواجب وما أوصى به الرب، وفاتهم أن العلاقة الصحيحة مع الله لابد أن تقوم بالولادة الجديدة، وهذا نراه في قول الرب يسوع لنيقوديموس المتدين ومعلم إسرائيل ورئيس اليهود "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يو3: 3). لقد تعامل الرب يسوع مع كثيرين من المتدينين مثل نيقوديموس وشاول الطرسوسي وليدية بياعة الأرجوان وكرنيليوس (يو3: 1-13، أع9: 1-22، 16: 11-15، 10: 1-44) فكان هؤلاء بركة عظيمة للآخرين. 4- بئر الجهل:- لقد كانت هذه المرأة تعيش في جهل عميق كما مر بنا في فصل سابق. فهي لا تعلم من هو يسوع الذي طلب منها ليشرب. ولقد احترم الرب إرادتها وأفكارها ولم يجرحها بكلمة واحدة، لكنه سار معها في طريقها حتى وصل في النهاية معها بالإعلان الصريح والصحيح عن شخصه، فقال لها "أنا الذي أكلمك هو" (يو4: 26). لقد جاء الرب يسوع من عند الآب لخلاص البشر وبذل نفسه على الصليب لأجلهم، وهو الآن يريد خلاص الجميع، فيذهب لأجل الضال حتى يجده (1تي2: 4و5، لو15: 4). لكن بسبب الجهل يحرم الكثيرون أنفسهم من نوال نعمة الخلاص. فجهل الطريق يحرم الإنسان من الوصول إلى الغرض. فرغم أن الرب يسوع قال "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو14: 6) والروح القدس قال "وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أع4: 12)، لكن الناس يبحثون عن طرق كثيرة للوصول إلى الله وخابت آمالهم ولم يصلوا بعد. لقد قال الرب عن شعبه القديم "أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم" (إش1: 3) وقال أيضا "قد هلك شعبي من عدم المعرفة" (هو4: 6). وقال للصدوقيين "تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله" (مت22: 29). ولا ننس أن الجهل نابع من القلب الفاسد وينجس الإنسان (مر7: 22و23). 5- بئر المعرفة المغلوطة:- لقد تكلمت المرأة مع الرب يسوع عن أمور كثيرة مثل: اليهود وتعصبهم، ويعقوب وعظمته، والأنبياء ومعرفتهم بالسرائر، وعن السجود، والمسيا ومجيئه. وفي حديثها معه كشفت ما لديها من معرفة مشوهة ومغلوطة. وإذ أدركت ذلك قالت له في نهاية الحديث "أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء" (يو4: 25)، وكأنها بعد هذا الحوار الطويل تريد أن تنتظر في عطشها وبؤسها وذل الخطية حتى يأتي المسيا، وفاتها أنها تقف أمامه. هذا هو الإنسان كلما اقترب الرب إليه أراد أن يبتعد أكثر تحت مسميات مختلفة من خلالها يريد الهروب من واقع الحياة. لكن الرب في محبته يظل يجاهد مع النفس حتى يصل بها إلى شخصه المبارك. عندما ذهب إلى مريض بركة بيت حسدا قال له "أتريد أن تبرأ"، والمريض بدلا من أن يقول له نعم، قال"ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء..."، رغم ذلك قال له الرب يسوع "قم احمل سريرك وامش" (يو5: 2-9). ادعاء المعرفة يقود الإنسان إلى العجلة في الكلام. وبقول الروح القدس "أ رأيت إنسانا عجولا في كلامه. الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به" (أم29: 20). المعرفة لوحدها لا تكفي، لقد جاء نيقوديموس للرب يسوع قائلا له "يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلما لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه" (يو3: 2)، ورغم هذه المعرفة التي لا غبار عليها لكن المسيح أعلن له عن احتياجه الشخصي، فقال له: "إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يو3: 3). 6- بئر الخطيئة والشهوات الرديئة:- لقد عاشت المرأة السامرية باذلة كل جهد لتروي نفسها العطشى فانغمست في الرذائل والشرور، فبدلا من الزوج خمسة أزواج، وبدلا من العيشة الصحيحة انغمست في الممنوع "والذي لك الآن ليس هو زوجك". إنها حقيقة خالدة أن "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا". ليس هذا هو اختبار المرأة السامرية فقط، بل هو حال كل البشرية. على قدر ما يبعد الإنسان عن الرب خالقه ومانح الحياة له، بقدر ما يزداد فراغه وعطشه ولا ترتوي النفس إلا بالرجوع إلى الله. 7- ينبوع المياه النقية الحية:- لقد قال الرب يسوع للمرأة السامرية "لكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 14). لقد شربت المرأة من عكار الخطية وفسادها ولم ترتو، لكن الرب المروي ذهب إليها بنفسه. وإن كان قد طلب منها ليشرب، لكن سرعان ما جعلها هي تطلب منه الماء الحي "يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي" (يو4: 15). إن الرب يعطي لكنه لابد أن يصل بالنفس إلى الشعور بالاحتياج، وهذا ما فعله مع هذه المرأة. كان من الممكن أن يعطي لها بمجرد أن التقى بها، لكنه كان لابد أن يصل بها لا إلى الشعور بالاحتياج فقط، بل وأيضا معرفة الحقيقة بأن العالم بكل شهواته لا يزيد عن مياه قذرة لا تروي. وإذ وصل بها إلى هذه القناعة قالت هي له "يا سيد أعطني هذا الماء"، عندئذ لم يتردد الرب في أن يعطيها ويرويها. لذلك لما رأت أنها قد ارتوت "تركت جرتها ومضت إلى مدينتها..."، لقد تركت البئر والجرة، والرجل الذي ليس لها. لقد تركت الكل، إنها لحظة التلاقي بالرب يسوع الذي قال "إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يو7: 37-31). ********************* المرأة السامرية وحاجتها للمياه الحية "البائسون والمساكين طالبون ماء ولا يوجد. لسانهم من العطش قد يبس. أنا الرب استجيب لهم. أنا إله إسرائيل لا أتركهم" (إش41: 17). من المعروف لنا أن الإنسان يتكون من روح ونفس وجسد (1تس5: 23). الإنسان يبذل كل جهده في سبيل أن يدبر احتياجاته الجسدية، فعمل ووفر لنفسه ما يوجد له حياة الرفاهية والراحة، وعمل جاهدا في توفير ما ينشئ السعادة له، لكنه نسي حاجة الروح. لقد قال الرب يسوع "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت4: 4). وكما أنه توجد بعض الأشياء الضرورية للحياة الطبيعية التي لا يمكن الاستغناء عنها، مثل: الهواء والماء والطعام والنور، هكذا أيضا توجد أشياء روحية ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها أعطيت لنا في شخص المسيح، فهو يعطي الحياة الجديدة (يو1: 12و13)، ويعطي الروح القدس (يو7: 37-39)، وهو خبز الحياة (يو6: 18) ونور الحياة (يو1: 4و5) وهو يعطينا أيضا ماء الحياة مجانا (رؤ22: 17). لقد أظهر الرب يسوع أنه محتاج لماء من هذه المرأة، مع أنها هي أيضا تحتاج إليه، وكأنه يقول لها "أعطيني ماء لأشرب وأنا أعطيك ماء يروي عطشك. أعطيني من مما عندك وأنا أعطيك ما هو عندي. يا له من مخلص رائع. لم يتحدث معها عن خطاياها وفجورها لكنه استخدم أرقى وألطف عبارات تعود أن يستخدمها مع الخطاة نظيرنا. لقد قال لعروسه "افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي..."، لكن كان جوابها له "قد خلعت ثوبي فكيف ألبسه. قد غسلت رجلي فكيف أوسخهما" (نش5: 2و3). إنه يظهر نفسه كالمحتاج إلينا لكن سرعان ما نكتشف أننا نحتاج إليه. "أعطيني لأشرب" هكذا قال لها، لكن جوابها كان قاسيا على اليهود لأنها تعلم أنهم يحتقرونها وبالرغم من أن ربنا يسوع كان فريدا من نوعه، لكنها قالت له "كيف تتطلب مني". يا لها من عبارة!! ورغم ذلك أظهر لها كل لطف وحنان. كم من المرات أغلقنا الباب في وجهه، وكم من المرات أعلنا الرفض له، لكنه لازال يقول "هنذا واقف على الباب وأقرع..." (رؤ3: 20). كم من المرات قرع ولم نبال به؟ ومع ذلك لم يتركنا ولم يرفضنا لكنه عاد وقرع. لقد أغلقت المرأة السامرية الباب في وجهه، لكن ظل قلبه مفتوحا لها. لو علم الرافضون ليسوع أنه هو الله المحب العاطي لطلبوا منه وترجو أن يعطيهم من فيض نعمته. لقد بذل جهده معها ليحولها من الأمور الأرضية إلى البركات السماوية. قال لها "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا". بمعنى لو شربنا من الماء الطبيعي فبعد فترة وجيزة نعطش ونطلبه مرة أخرى. وكذلك ماء البحر المالح كلما شربنا منه نعطش أيضا. هذا هو المعنى الطبيعي البسيط. لكن الرب كان يقصد معنى روحيا رائعا وهو إن ما يقدمه العالم من شهوات وملذات لا تزيد عن ماء مالح تتلذذ به النفس وقتيا لكن سرعان ما تعود النفس إلى عطشها مرة أخرى. ويمكن أن نفسر العبارة أيضا بأن "كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن" بمعنى "العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع" (جا1: 7و8). فكم من الناس يعذبون أنفسهم بالسمع والنظر والأفعال الأثيمة والقلب ليس بشبعان مثل لوط البار (2بط2: 8). كثيرون يموتون من العطش بينما الماء العذب بالقرب منهم. لقد قال المسيح "إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب". والذي يشرب من الماء الذي يعطيه الرب فلن يعطش إلى الأبد. وهنا نسأل ما هو الماء المروي؟ لقد تحدث الرب يسوع في الأصحاح السابع عن الروح القدس الذي يشبع ويروي النفس بالأشياء الروحية والأمور السماوية وبالرب يسوع نفسه. إنها "شركة الروح القدس". لقد كانت المرأة منشغلة كثيرا بمشاكلها المسببة لها قلقا وتعبا، فبينما كان الرب يتكلم معها عن الماء الروحي، كانت هي تتحدث معه عن الماء الموجود في البئر. مرات كثيرة يريد الرب أن يغير أشياء كثيرة فينا لكننا ننشغل بظروفنا أكثر من الرب. قالت المرأة للرب يسوع "لا دلو لك" لكن الرب قصد أن يعرفها أنه يعطي ماء من نوع آخر، لكنها لم تفهم بدليل أنها قالت له "يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي" (يو4: 15). لقد ظنت أنها مياه بدل مياه، لكن الرب كان يقصد شيء آخر. لقد سبق ووعدها بأنه سيعطيها لو طلبت منه "لطلبت أنت منه فأعطاك"، لذلك قالت له "أعطني" وهو من جانبه كان لا بد أن يعطيها لأن الله لا يغير ما خرج من فمه. لكن لنعلم أن الرب قبل أن يعطي لابد أن يعمل عملية تغيير وتنظيف وتطهير لذلك قال لها "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى ههنا". ويبدو لنا من هذا العدد أن الرب يريد العائلات كما يريد الأشخاص. "لا دلو لك والبئر عميقة ": أن هذه العبارة قالتها المرأة السامرية للرب يسوع، لكنها وصفت ما يقدمه العالم للإنسان دون أن تدري. فآبار العالم عميقة، والوصول إلى مياهها مكلف، وأين الإنسان الذي له دلو ليصل إلى هذه المياه؟ فكل ينطبق عليه القول "لا دلو لك والبئر عميقة". أما الرب يسوع فهو الماء والبئر والقريب من كل واحد منا وعلى أتم الاستعداد أن يهب ماء الحياة مجانا (رؤ22: 17). لكن كما قال هو عن شعبه"لأن شعبي عمل شرين. تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا، آبارا مشققة لا تضبط ماء" (إر2: 13). مياه العالم والماء الحي "يا الله إلهي أنت. إليك أبكر. عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء" (مز63: 1). لقد ذهب الرب يسوع إلى السامرة خصيصا ليتقابل مع المرأة السامرية التي كانت تشرب من مياه شرب منها الإنسان والحيوان. وهذا ما قالته هي عن مياه بئر يعقوب "شرب منها هو وبنوه ومواشيه". لقد كان الرب في كلامه معها رقيقا ولطيفا. فهو لم يجرح ولم يؤذي مشاعرها نهائيا. إنه "قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ" (إش42: 3). فهو رقيق العواطف وقلبه مملوء بالحنان. لقد قال "أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكن لهم أفضل" (يو10: 10) لقد جاء مملوءا نعمة وحقا. لقد تعامل مع المرأة السامرية بالنعمة، وفي ذات الوقت تعامل معها بالحق. لقد أظهر ما فيها من خطأ ليهبها الخلاص أيضا بالنعمة. من المعروف أنه يمكن للإنسان أن يعيش بدون طعام لمدة طويلة، لكنه لا يستطيع أن يعيش بدون ماء ولو لفترة قصيرة. والرب يسوع يستخدم من الماء كلاما مجازيا وروحيا، وهذا كان مفهوما عند اليهود. لذلك لم يستخدم الرب يسوع في حديثه تعبيرات غريبة عن عقلية اليهودي. وهذه المعاني تتكرر في الكتاب المقدس بعهديه. يقول صاحب المزمور "عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي" (مز42: 2). وفي سفر إشعياء نقرأ وعد الله لشعبه القديم "وتستقون مياها بفرح من ينابيع الخلاص" (إش13: 3). وأيضا "أسكب ماء على العطشان وسيولا على اليابسة" (إش44: 3). ويوجه الدعوة إلى العطاش قائلا "أيها العطاش جميعا هلموا إلى المياه" (إش55: 1). وفي العهد الجديد نقرأ قول الرب "أنا أعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانا" (رؤ21: 6). وأيضا "والخروف الذي في وسط العرش يرعاهم ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية" (رؤ7: 17). إن مياه العالم تختلف تماما عن الماء الحي، وهذا ما تعلمنا إياه كلمة الله، فالفروق كثيرة لكننا نذكر البعض منها:- أولا: مياه العالم وأوصافها:- 1- مياه العالم لا تروي وليس من السهل الحصول عليها: لقد قال بني قورح للرب "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي" (مز42: 1). في هذه العبارة نرى أن هؤلاء القوم لو وجدوا الارتواء في شيء غير الرب ما كانوا أعلنوا عطشهم للرب. ولقد قالت المرأة السامرية للرب يسوع "لا دلو لك والبئر عميقة". إن هذه العبارة لم تتحدث عن بئر يعقوب فقط، لكنها تتحدث أيضا عن بئر النفس في أعمق احتياجاتها. والتي على قدر ما نعطيها لكنها لا ترتوي. مرات كثيرة حتى ونحن نصلي لا نعرف ما نحن نحتاج إليه، فبئر النفس عميقة. يقول داود "داخل الإنسان وقلبه عميق" (مز64: 6). ف فالإنسان مثلا يحتاج إلى من يحبه، وأين المحبة الصحيحة المخلصة؟! إن بئر الحب العميقة فينا لا يمكن أبدا أن يملأها إلا المحب الحقيقي وحده ربنا يسوع المسيح. كم من أناس ينتحرون لأنهم لم يجدوا من يشبع جوعهم إلى الحب. 2- مياه العالم وقتية ولا تدوم: لقد قال الرب عن شعبه القديم "...تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا آبارا مشققة لا تضبط ماء" (إر2: 13). والأشرار "يحسبون تنعم يوم لذة" (2بط2: 13). لقد ذهب الابن الضال بعيدا عن أبيه بعد أن جمع كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة بحثا عن الارتواء، وبذر ما له بعيش مسرف، ولما أنفق كل شيء ابتدأ يحتاج (لو15: 11-16) لقد صار في عوز شديد لكل شيء لأنه فقد كل شيء. مهما سعى الإنسان وشرب من مياه العالم لكنها تنتهي بانتهاء الحياة. فالمال مثلا مهما ملك الإنسان منه سيأتي اليوم الذي فيه يتركه بالموت، أو إن طال به العمر ربما المال يتركه. أما الماء الحي الذي يعطيه المسيح يستمر وينبع إلى حياة أبدية. ويقول إرميا النبي عن مياه العالم أنها "مياه غير دائمة" (إر15: 18). 3- مياه العالم رديئة: قال أهل أريحا لرجل الله أليشع عن المدينة "هوذا موقع المدينة حسن... وأما المياه فرديَة..." (2مل2: 19).ولقد قالت المرأة السامرية عن بئر يعقوب "شرب منها هو وبنوه ومواشيه" (يو4: 12). إنها مياه شرب منها الإنسان والحيوان. 4- مياه العالم تكلف: يقول الرب "أيها العطاش جميعا هلموا إلى المياه والذي ليس له فضة تعالوا اشتروا وكلوا هلموا اشتروا بلا فضة وبلا ثمن خمرا ولبنا. لماذا تزنون فضة لغير خبز وتعبكم لغير شبع" (إش55: 1و2). إن إبليس الكذاب الماكر يظل يخدع النفوس ويغريها. لقد قال الرب يسوع عنه "السارق لا يأتي إلا ليسرق ويذبح ويهلك" (يو10: 10). إنه يدفع الإنسان لوهم بأغلى الأثمان. يكذب على الإنسان ويدفعه للشرب من مياه العالم، لكن لا توجد مياه بلا ثمن. وكأنه يقول للإنسان اشرب كيفما شئت لكن ادفع الثمن: مرض، سجن، تعب نفسي ومعنوي، انهيار مادي واقتصادي، ضياع الصحة وغيرها. لقد شرب شمشون من مياه العالم وطال زمن شربه لكنه دفع حياته. وداود مرنم إسرائيل الحلو دفع ثمنا عظيما لهذه المياه. يكفي أنه كان "يعوم في كل يوم سريره بدموعه" (مز6: 6). لقد جفت حياته الروحية وكان يطلب من الرب قائلا "رد لي بهجة خلاصك" (مز32: 3و4، 51: 12). 5- مياه العالم مالحة ومرة: مثل مياه مارة التي عندما شرب منها بنو إسرائيل تذمروا قائلين "ماذا نشرب" (خر15: 22-24). ومثل أمنون الذي أزل ثامار أخته بالخداع، وبعد سقوطه معها في الخطية كانت نفسه مرة حتى أنه أبغضها أكثر من الحب الذي أحبها به" (2صم13: 1-15). هكذا تفعل الخطية مع الناس. 6- مياه العالم لا تملأ النفس ولا تفي بالاحتياج: يقول الحكيم "كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن. إلى المكان الذي جرت منه الأنهار إلى هناك تذهب راجعة". وأيضا "العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع" (جا1: 7و8). مياه العالم حتى وإن كانت حلوة المذاق لكنها لا تروي (أم9: 17). 7- مياه العالم لا تصلح للأبدية: لا يمكن لمياه العالم أن تروي النفس البشرية لا في هذه الحياة، ولا حتى في الأبدية. فالغني بعد أن مات ودفن ورفع عينيه وهو في الهاوية وهو في العذاب، طلب ولو قطرة ماء يبرد بها لسانه لأنه معذب في اللهيب، لكن هيهات فمن ذا الذي يستطيع أن يصل بهذه القطرة إليه؟ (لو16: 24). ثانيا: الماء الحي الذي يروي:- الماء الحي الذي يعطيه الرب يسوع هو وحده الذي يروي النفس، بل ويجعل فيها أيضا أنهار ماء حي والسبب لأنه يكون داخل الإنسان وليس خارجه. يقول الرب يسوع "يصير فيه" أي في داخله. إن أفراح العالم تأتي إلى الإنسان من الخارج ثم تعود إلى الخارج. أما فرح الرب ينبع من الداخل ويعلن في الخارج لكنه يعود إلى الداخل ويدوم حتى ولو في داخل السجون (أع16: 25). إن كلفة الماء الحي بالنسبة للإنسان العطشان هي "ومن يعطش فليأت. ومن يرد فليأخذ ماء حياة مجانا" (رؤ22: 17). لقد دفع المسيح ثمنه كاملا من خلال موته على الصليب. لقد قال وهو على الصليب "أنا عطشان" (يو19: 28). إن الصخرة التي أخرجت ماء لارتواء الشعب القديم لم تخرج هذا الماء الحي إلا بعد أن ضربت بالعصا التي في يد موسى رجل الله (خر17: 6). قال الرسول بولس عن هذا الشعب "وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا. لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح" (1كو10: 4). المسيح لكي يروينا كان لابد له أن ينزل كل عرقه ودمه، ولذلك بعد أن أسلم الروح ومات طعنه الجندي الروماني بالحربة في جنبه فخرج دم وماء (يو19: 34) لذلك له الحق وحده أن ينادي قائلا "إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب". في سفر الجامعة يعلن الحكيم أن البحر مياهه مالحة وبالتالي لا تروي، وهذه صورة للنفس البشرية. "كل الأنهار تصب في البحر، والبحر ليس بملآن". تأتي إلى النفس البشرية مياه كثيرة من العالم، لكن كلها مياه مالحة لا تروي. كل الأنهار تصب في كيان الإنسان المالح ولكن ليس بملآن. فكل من يعمل الخطية يزداد فيها. لا يمكن أن يملأ النفس ويرويها إلا المسيح وحده. المرأة السامرية حاولت أن ترتوي من خلال ابتعادها وانحرفها وانحدارها وانغماسها في العالم لكنها لم ترتوي. لازال الشيطان يحاول بكل قوته أن يخدع البشر فيعرض عليهم أشياء يوهمهم بأنها تشبع القلب ويحث على الإكثار منها، تكنولوجيا العصر والأفلام والإنترنت ومحبة المال والطمع والجشع والانغماس في الملذات والشهوات ووسائل الترفيه والتسلية المختلفة الأشكال ويظل القلب خاوي وفارغ إلى أن تلتقي النفس بالمسيح المشبع والمروي. إن قصة هذه المرأة ليست هي قصة نقرأها، لكنها قصة كل واحد من البشر يعيش اليأس ويعاني الفراغ والعطش بعد البحث الطويل عن الارتواء، إلى أن يصغ إلى صوت الله المحب ويلتق بالمسيح المخلص. كل قلب يجول هنا وهناك للارتواء والشبع لا يجدهما إلا في المسيح الذي لا ينتظر حتى نطلب بل هو الذي يأتي إلينا بخلاصه العظيم. إن كان الروح القدس يقدم لنا المسيح في بداية إنجيل يوحنا باعتباره "النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان" (يو1: 9). "الله الكلمة" و"الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب" (يو1: 1و18)، لكنه هنا في الأصحاح الرابع نري جلال ومجد وعظمة شخصه في مقابلته للبشر، بل وأيضا عظمة النعمة في عطاياها ممثلا في مقابلته للمرأة السامرية. لقد تحدث الرب يسوع مع المرأة عن نوع آخر من الماء الذي يعطيه هو، لا يمكن الأخذ منه إلا إذا انتهى من أمامها الماء الأول الذي تشرب منه. في العهد القديم لم يرسل الرب لشعبه المن السماوي إلا بعد أن فرغ منهم طعام مصر الذي خرجوا به من هناك. وفي عرس قانا الجليل أيضا لم يحول الماء إلى خمر إلا بعد أن انتهوا من "الدون" حتى أن رئيس المتكأ تعجب من هذا. ففي العادة يقدم الجيد ثم الدون، لكن حدث العكس فلما انتهوا من الدون ظهر الخمر الجيد، فالرب دائما عنده الجيد لكن لا يظهر إلا إذا انتهى الأول. في هذه القصة نرى أن نداء النعمة ونبعها الجاري قد تدفق ووصل إلينا. فيسوع المسيح ابن الله الحي الذي سار في طريق الصليب وتحمل ضربة العدل الإلهي وسيفه فتفجرت المياه الحية للعطاشى، وأصبح من حقه أن يهبهم ماء الحياة مجانا، هو ذاته الذي قال للمرأة "أعطيني لأشرب"، وعلى الصليب طلب ذات الطلب إذ قال أنا عطشان (يو19: 28). المرأة لم تعطه ليشرب وعلى الصليب أيضا لم يشرب. المرأة السامرية هي التي شربت وكذلك نحن الذين نتيجة عمله المبارك شربنا وارتوينا. الرب يسوع شخص عظيم جدا وعطاياه ثمينة جدا، ولا يمكن أن نتعامل معه بشيء من الخفة والاستهتار. لذا نرجو من القارئ العزيز أن لا يسمع أو يقرأ عنه وكأنه يقرأ أو يسمع عن رواية ما. إنه يتعامل معنا بجدية، أنت لازلت على قيد الحياة لذلك في امكانك أن تشرب دون أن تتكلف شيء. لكن إذا تعاملت مع كلامه بشيء من الاستخفاف يضيع الوقت وتكون النتيجة سيئة، الطرح في بحيرة النار والكبريت حيث لا ماء ولا يستطيع أحد أن يصل بالماء إليك (لو16: 20-26). لقد قال الرب يسوع للمرأة "اذهبي وأدعي زوجك" وهنا نرى كما أن الزوجة تحتاج إلى المياه الحية هكذا الزوج أيضا فلا فرق بين الزوج والزوجة. يحدثنا الروح القدس في كلمة الله عن أمور حية:- · المسيح الحي "إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم" (عب7: 25). · الولي الحي "أما أنا فقد علمت أن وليي حي والآخر على الأرض يقوم" (أي19: 25). · الكلمة الحية "لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين" (عب4: 12). · الطريق الحي "فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع. طريقا كرسه لنا حديثا حيا..." (عب10: 19و20). · الرجاء الحي "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي... ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات" (1بط1: 3). · الحجر الحي "...الذي إذ تأتون إليه حجرا حيا..." (1بط2: 4). · الماء الحي "...لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا" (يو4: 10). واضح لنا من الكلام السابق أن المسيح وكلمته وروحه هو الحي والذي يحيي ويروي. ********************* المرأة السامرية والاعتراف بالخطية "من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يقر بها ويتركها يرحم" (أم28: 13). الشخص الذي التقى بالمرأة السامرية هو الله الحي الكلمة المتجسد ربنا يسوع المسيح (يو1: 1و4و14). ولأنه هو حي، فكلمته أيضا "حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته" (عب 4: 12). ولأن كلمته حيه فهي تفتح القلب وتحيي النفس، ولذلك عندما قال للمرأة "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى ههنا" (يو4: 16). وكأنه يقول لها اذهبي وتعالي كما أنت بخطاياك ولا تخف عني شيء، تعالي مكشوفة واخلعي رداء التستر والبر الذاتي والادعاء الكاذب. أن الرب يسوع لا يهبنا الغفران والخلاص إلا إذا جئنا إليه كما نحن، لا نخف عنه شيء. نأتي إليه بصدق ونضع كل عيوبنا قدامه وبالتالي كلها تسقط ونتحرر منها. إن اللقاء مع الرب يسوع يغير متى كشفنا له كل شيء. قال الرب يسوع للمرأة السامرية "...وتعالي إلى ههنا" بمعنى تأتي حيث يوجد هو. إذا لنأتي بكل خطايانا عند قدميه وفي محضره ونطرحها ونثق فيه أنه سيبعدها عنا إلى الأبد. بمجرد أن قالت المرأة للرب "ليس لي زوج"، على الفور أشار الرب إلى خطيئتها إذ قال لها "حسنا قلت ليس لي زوج. لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق" (يو4: 17و18). لقد قالت "ليس لي زوج"، إنها إجابة بها شيء من الصدق لكنها لم تعلن الحقيقة كاملة. لقد كان لها خمسة أزواج والذي لها الآن ليس هو زوجها. لم يسألها الرب يسوع عن الخمسة أزواج هل طلقت الواحد بعد الآخر أم أنهم مات الواحد بعد الآخر؟ فهو يعلم عنها كل شيء ولذلك قال لها "حسنا قلت. كان لك... والذي لك الآن...". لقد كشف ماضيها التعيس وكشف أيضا حاضرها الأكثر تعاسة لأنه هو الله الذي يعلم كل شيء. لم يتكلم معها عن أخطائها، لكنه تكلم عن بصيص من الصراحة "حسنا قلت"، يا لها من نعمة رائعة نابعة من قلبه المملوء نعمة وحقا التي لا تجرح ولا تفضح لكنها تغفر وتستر. لقد عاشت الخطية في أبشع صورها ومع ذلك لم ترتو. لكن جاء إليها الشخص الذي متى ملك الحياة بقوة روحه القدوس يجعلها ترتوي وتشبع، وبالتالي لا تبحث عن ارتواء بعيدا عنه. أنه يسوع المسيح الذي يربطنا معه بعلاقة روحية سماوية. إنه يقدم نفسه لها ولكل نفس لم تشعر بالارتواء والاكتفاء قائلا: هل تقبلينني فتمتلئ حياتك بالاكتفاء والبهجة والشبع والارتواء؟. بعد أن كشف الرب يسوع للمرأة ماضيها وحاضرها أمامها كصفحة مقروءة، قالت له "أرى أنك نبي" (يو14: 19). وبدلا من أن تعلن عن احتياجها إلى شخص المسيح المبارك وخلاصه الثمين، حاولت الهروب منه، ومن الحديث معه عن واقع حياتها إلى موضوع آخر، فبدأت تسأل عن السجود (يو4: 20). إنه أمر يثير التعجب، فمع أنها ساقطة في أوحال الخطية، وبدلا من أن تبحث عن خلاص نفسها وكيفية الرجوع إلى الله الحي بتوبة صادقة، نراها تتحدث عن أسمى الموضوعات الروحية، السجود والمسيا. يا لها من خدع شيطانية ومباحثات غبية من ورائها الهروب من أمام الرب يسوع ومن أمام الضمير المبكت. لقد دخلت المرأة في هذه المناقشة لكن الرب يسوع لم يوضح لها أين السجود الحقيقي فقط بل وضح لها أيضا لمن نسجد. إنها تشبه كثيرين من المسيحيين الذين يعيشون الخطية في أبشع صورها وفي ذات الوقت يتحدثون عن العبادة والسجود. مع أنه من باب اللياقة ينبغي التوبة أولا وقبول الرب يسوع في الحياة ثم بعد ذلك يكون من السهل فهم السجود في معناه الصحيح الذي يقود إلى ممارسة عملية صحيحة. لقد قالت المرأة للرب يسوع "آباؤنا... وأنتم..." (يو4: 21و22) هذه هي مشغوليتها. إن كثيرين يهلكون بسبب "نحن... وأنتم". يا لها من مضيعة للوقت. لنتذكر أن أهم شيء هو أن نخلص. مرات كثيرة يضيع الوقت وتنتهي الفرصة بسبب أسئلة لا فائدة منها بل تسبب ضيقا وخصومات بدلا من أن نبحث عن خلاص نفوسنا، وننسى القول المكتوب "والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها عالما أنها تولد خصومات" (2تي2: 23) وأيضا "...غير نافعة وباطلة" (تي3: 9). كثيرون يتحدثون في هامش المسيحية ويجهلون الحقيقة وهي أن يسوع هو المخلص. يقاوم الشيطان عمل الله في قلب الإنسان، ففي العدد التاسع عشر تقول المرأة للرب يسوع "أرى أنك نبي"، وفي العدد العشرين تقول "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه". يا لها من مراوغات دينية من قلب مملوء بالخطية دون التفكير في أعظم وأروع عطية!. الإنسان بطبيعته متدين لكنه يرفض إنجيل نعمة الله. عندما طلب الرب يسوع من المرأة أن تدعي زوجها وتأتي إليه لتشرب، حاولت بكل قوتها أن تهرب منه ومن الحديث معه لذلك لم تقل الحقيقة كاملة، فأجابت قائلة له "ليس لي زوج". وهنا مدحها الرب وشجعها بالقول "حسنا قلت ليس لي زوج.. هذا قلت بالصدق". إنها تشبه الابن الضال الذي "وإذ كان لم يزل بعيدا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله" (لو15: 20). إنها نعمة الله ومحبته العجيبة التي تتجه إلى الإنسان الساقط المسكين. لم يترك الرب المرأة حتى قادها إلى الاعتراف بخطيئتها "من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يقر بها ويتركها يرحم" (أم28: 3). "ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران" (إش55: 7). إنه اعتراف مصحوب بتوبة حقيقية. مهما كانت طريقة إخفاء الخطيئة، لكن الرب يعلم كل شيء. لذلك إما أن نحضر خطايانا أمام الرب ونعترف بها ليغفرها وإما تحضرنا خطايانا أمامه للدينونة. كل من لا يقر بخطاياه ويتركها لابد أن تكشف في يوم الدينونة أمام الجميع، ويدان فاعلها بسببها "ويدان الناس بكل ما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم" (رؤ20: 12). كل الأعمال، ما يفعل في المخادع ينادى به على السطوح، والذي يعمل في الظلام والخفي والكلام الذي لا يسمع به أحد ينادى به على جميع المسامع. ولكن الذي يقر بخطاياه ويتركها يرحم. يطرحها الرب في أعماق البحر، ولا يعود يذكرها فيما بعد (مي7: 19، عب8: 12). يمكن للإنسان أن يخفي خطاياه من أمام أعين البشر، الأهل والأقارب، لكن لابد أن تفضح وتستعلن أمام الله. قال داود للرب "...أنت عرفت جلوسي وقيامي. فهمت فكري من بعيد. مسلكي ومربضي ذريت وكل طرقي عرفت. لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها. من خلف ومن وقدام حاصرتني وجعلت علي يدك. عجيبة هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيعها" (مز139: 1-6). نعم إن الرب يعلم كل شيء عنا فهو "يعرف خفيات القلب" (مز44: 21). ********************* المرأة السامرية صورة لكل البشرية "البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية" (أم14: 34) إن المرأة السامرية هي أروع صورة للبشرية بعد السقوط في الخطية سواء كانوا أفرادا أو جماعة، في صفاتها وفي مقابلة الرب معها. أولا: في صفاتها هذه المرأة تتصف بصفات هي ذات صفات البشر مثل:- أولا: هذه المرأة يملأها الخجل والشعور بالعار والخزي: وذلك بسبب الخطية والنجاسة وعدم مقدرتها على إشباع نفسها. لقد جربت خمسة أزواج وعاشت مع سادس ليس زوجها وهؤلاء جميعا لم يستطع واحد منهم أن يشبعها ويرويها. لذلك لازالت تبحث عن الرجل الذي تشتاق أن يملأ فراغها وفي امكانه أن يشبع قلبها. هذه هي صورة البشرية في مختلف أدوارها وحضاراتها المتنوعة، حتى في هذا العالم الحاضر رغم كل ما اكتشفه واخترعه لم يجد شبعه وارتواءه بعيدا عن المسيح. لا المال ولا الجمال ولا الشهوات ولا الانغماس في الملذات ولا التكنولوجيا العصرية وغيرها استطاعت أن تملأ فراغ الإنسان أو توجد له الشبع والارتواء. إن جميع الاختراعات وما يسمى سبل الراحة والرفاهية لم تشبع فراغ الإنسان ولم توجد له الارتواء. لقد فشلت البشرية في إشباع وتسديد احتياجاتها بدون المسيح. ثانيا: إنها امرأة عطشانة: لقد جاءت بجرتها لكي تملأها وتشرب. هذه هي البشرية مصورة بامرأة ممسكة بجرة لكن البئر عميقة. لقد استقى البشر من أنهار كثيرة مثل نهر العلم ونهر الملذات حتى أصبحوا في عيافة للملذات ولا زالوا عطشى. لقد جاء الرجل الحقيقي المشبع والمروي لعطش الإنسان. إن وصوله للمرأة ليس أمرا سهلا، فلكي يصل إليها قيل عنه "تعب يسوع من السفر...". لقد جاء الرب يسوع لكي يروي البشرية، ولأجلها قد تعب كثيرا، لذلك يقول الروح القدس "من تعب نفسه يرى ويشبع" (إش53: 11). كل من أراد أن يرتوي بعيدا عن الرب يسوع الذي جاء إلى العالم لأجل هذا الغرض، يتم فيه القول "تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارا آبارا مشققة لا تضبط ماء (إر2: 13). لقد تعب وجلس على البئر إلى أن أتت المرأة، ولأنه البئر الحقيقي والماء المروي لم يتركها دون أن ترتوي. هكذا كل من يقبل إلى الرب يسوع ويؤمن به. قال الرب يسوع "...إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو7: 37و38). إن العالم يسأل: هل يقدر المسيح أن يروي ظمأ القلب؟ وينتظر جوابا لا نظريا لكن عمليا يراه في مؤمنين قد ارتووا منه بالفعل عندما تقابلوا معه. فلوط البار مثلا لا يمكن أن يعطي جوابا بنعم، ولا جيحزي أيضا. لكن إبراهيم ودانيال وبولس والسامرية يمكن أن يقولوا نعم. ثانيا: في لقاء الرب معها إن لقاء الرب مع المرأة السامرية إنما هو صورة رائعة للقائه مع كل واحد من البشرية. إنه لقاء عجيب ومجيد فيه نرى ماذا يقول الله للبشر وماذا يقول البشر لله. كيف يفكر الله تجاه البشر وكيف يفكر البشر تجاه الله. إن ما فكرت فيه وتكلمت به المرأة السامرية للرب يسوع هو ما تفكر فيه وتتكلم به البشرية تجاه الله. وجواب الرب يسوع للمرأة وأسئلتها هو جواب الله لأسئلة البشرية. لقد تكلم الرب يسوع مع المرأة سبع عبارات وكذلك المرأة تكلمت مع الرب يسوع سبع عبارات. أولا: العبارات التي قالها الرب يسوع للمرأة السامرية:- 1- العبارة الأولى: أعطيني لأشرب (يو4: 7): هنا نقطة بدء العمل الإلهي لنعمة الله، فكيف يطلب هذا الشخص العظيم من امرأة ساقطة؟! يا لها من نعمة معلنة "أعطيني" بها يجذب انتباه الخطاة إليه. "أعطيني لأشرب" ماذا يعني المخلص بهذا التعبير؟ من المؤكد أن تفكيره كان يرمي إلى شيء أعظم من الماء. إن العالم بالنسبة له لا يزيد عن أرض جافة ومعطشة والشيء المنعش له فقط هو في خدمة الخطاة المساكين المحتاجين لنعمته وبرجوعهم بالإيمان إليه. "أعطيني لأشرب" هذه أول عبارة، أخذ الرب يسوع فيها المبادرة في الكلام مع المرأة السامرية، فطلب منها أن تعطيه ليشرب. وهذا أمر طبيعي فالبدايات دائما هي من الله. فالرب هو الذي يذهب ويبحث عن الخطاة ليهبهم الخلاص. الإنسان خاطئ ولا يبحث عن الله بل يهرب منه، يعرف كيف يخطئ وكيف يخاصم وكيف يعادي، لكن الرب يعرف كيف يبحث وكيف يعالج وكيف يصالح وكيف يحرر ويخلص من الخطية والشيطان. يعلن الكتاب المقدس "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصالحة. أي أن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم وواضعا فينا كلمة المصالحة" (2كو5: 18و19). من إنجيل لوقا نعرف أن الرب يسوع باعتباره الراعي الصالح يذهب لأجل الضال حتى يجده، والروح القدس يستخدم سراج الكلمة مفتشا باجتهاد عنه، والآب المحب كان مترقبا في شوق رجوع ابنه الذي ابتعد عنه (لو15). وهنا نرى أن البداية هي دائما من الله. إن الذي قال للمرأة أعطيني لأشرب في سلطانه أن يعمل كل شيء، هذا الذي هو مركز المجد السماوي، لكنه على الأرض في مركز الاتضاع يعيش في عالم الخطية والألم. هذا الشخص العجيب موضوع مسرة الآب يتحمل إنكار الخطاة له وافتراءهم عليه. في ملء نعمته جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله. الخطاة والعشارون تقابلوا معه أما الفريسيون فنفروا منه. إنه يعمل كل ما يحركنا لنطلب منه العطية المجيدة الذي وحده يمتلكها. لقد تحدث مع المرأة السامرية بالنعمة الفائقة وبالتأني والصبر قادها خطوة بعد خطوة. لقد لمس قلبها وحرك ضميرها وأيقظ نفسها لتشعر باحتياجها الشديد. الماء يكلمنا عن الارتواء والإنعاش، والرب يسوع طلب من المرأة قائلا "أعطيني لأشرب". وهنا نسأل: هل الله يطلب ارتواء وإنعاش من الإنسان؟ وهل عند الإنسان الكفاءة ليقدم ما ينعش الله؟. نعم إن الله يطلب إنعاشا من الإنسان لأنه صنعة يديه وله تقديرا خاصا لديه. عندما خلق الله السموات وجندها، والأرض وكل ما فيها، لم يقل إلا كلمة "لأنه قال فكان هو أمر فصار" (مز33: 9)، لكن عند خلق الإنسان قال الله "نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا" (تك1: 26)، وقال أيضا "لذاتي مع بني آدم" (أم8: 31)، وقال أيضا "...ولمجدي خلقته وجبلته وصنعته" (إش43: 7). مع أن الرب يكره الخطيئة لكنه يحب الإنسان رغم كل خطاياه. إنه يحب الإنسان ويبحث عنه، لذلك أتى إليه متجسدا ومتضعا واحتمل الصليب بكل آلامه "لأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل وبه الكل وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يكمل رئيس خلاصهم بالآلام" (عب2: 10). إن إلهنا العظيم مكتف بذاته ولا يحتاج إلى مخلوق, لكن بسبب محبته العظيمة عنده رغبة عميقة وعطش شديد للإنسان. لقد قال للمرأة السامرية "أعطيني لأشرب" ومع أنها لم تعطه لكنه ارتوى والدليل على ذلك لما جاء تلاميذه رأوا عليه علامات الشبع والارتواء حتى أنهم قالوا "أ لعل أحد أتاه بشيء ليأكل" (يو4: 33). فهو أكل طعاما آخر هم لم يعرفوه. لقد قال لتلاميذه "لي طعام آخر لآكل لستم تعرفونه أنتم... طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو4: 32و34). هذه هي أول عبارة من الرب وجهها للمرأة السامرية وللبشرية أجمع وكأنه يقول أنا أحبكم وأريد أن أرتوي بكم. "أعطيني لأشرب" صورة بليغة جدا تكشف لنا عن اشتياق الرب للنفس البشرية فهو يحبها قبل رجوعها. "أعطيني لأشرب" لكن كيف تستطيع مسكينة يائسة وبائسة مصابة بالعمى الروحي وخاطئة أن تعطيه؟ إنها لا تستطيع. فيجب أن تسأله أولا، بل يجب أن تقبله قبل أن تعطيه. 2- العبارة الثانية: "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا" (يو4: 10): في هذه العبارة يعلن الرب يسوع أن الله لا يريد أن يأخذ من الإنسان، لكنه يريد أن يعطيه. وهذه العبارة يمكن أن تترجم هكذا "لو كنت تعلمين أن الله هو العاطي"، الله الغني عن الأخذ. إن كان الله يبحث عنا فهو يريد أن يعطينا. فهو الذي يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شيء (أع17: 25). حتى الإنسان الذي لازال يعيش في شره وبعده عن الله، الله لا يحرمه من عطاياه. لقد قال لتلاميذه "أبوكم منعم على غير الشاكرين والأشرار" (لو6: 35). إن عظمة الله في تقديره للإنسان تعلن من خلال أمور عديدة. فهو قد خلقه من تراب الأرض لكنه نفخ في أنفه نسمة حياة فصار نفسا حية (تك2: 7). وخلقه على صورته "على صورة الله خلقه" (تك1: 27). واهتم به فغرس له جنة ووضعه فيها (تك2: 8). وقال الرب الإله ليس جيدا أن يكون لوحده فأصنع له معينا نظيره. فصنع له حواء (تك2: 18و21و22). ليس ذلك فقط بل تجلت عظمة الله ومحبته في أروع صورها من خلال إرسال عطيته للبشر مع ابنه المحبوب وليس عن طريق ملاك أو أي شخص آخر. إن شفاء النفس وارتواءها هو في الله وحده وليس في شيء آخر سواه. يقول الرب يسوع للمرأة "لطلبت أنت منه" وكأنه يتوسل إليها لتطلب. يوجد في أعماق الإنسان فراغ ومن ترى يملأه؟ لا يستطيع أي شيء في هذا العالم أن يملأ هذا الفراغ إلا الروح القدس فقط الذي فيه كل الكفاءة ليعمل ذلك، لأجل هذا يقول الرسول بولس "امتلئوا بالروح" (أف5: 18). لا نظن أن الرب يدعونا لنرجع إليه ليأخذ منا شيئا، فنحن لا نملك شيئا، لكنه يدعونا لكي يعطينا. الداعي هو الآب، والعطية هو الروح القدس، والذي يصل بالعطية إلينا هو الابن. فالله في ثالوث أقانيمه يبحث عن الإنسان ويريد أن يسعده. لقد كانت الخطوة الأولى: أن الله يعطي ولا يطالب، وهذا الأمر كانت تجهله المرأة السامرية بل واليهود أيضا لأنهم تحت الناموس الذي يعلن أن الله يطالب الإنسان. أما الخطوة الثانية: "ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب". إنها أمام الله الذي ظهر في الجسد ربنا يسوع، الذي وقف في الثغرة لصالح الإنسان العاجز والضعيف والميت، والذي أعلن لنيقوديموس أن الله أعطى أسمى ما عنده "حتى بذل ابنه الوحيد" (يو3: 16). قال الرب يسوع للمرأة السامرية "لو كنت تعلمين (إن الله يعطي)" ولو كنت تعرفين "من هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب". وهنا نرى أن الآب يعطي ولا يطالب، والابن الذي أرسله يعطي ماء حيا. لقد استطاع الرب أن يضعها في مركز المستقبل للعطية بدلا من أن تعطي، ولاسيما عندما أظهر لها أنه على أتم الاستعداد أن يعطيها إذا هي أخذت موقف المحتاج، لذلك قال لها "لطلبت أنت منه فأعطاك". إن كثيرين يحرمون من نعمة الحياة والعطية لا لأنهم عملوا شرا أكثر من غيرهم بل لأنهم يجهلون عطية الله ومن هو العاطي. يجهلون شخص المسيح تماما من هو في ذاته وماذا فعل؟. لقد قال الرب عن شعبه "هلك شعبي لعدم المعرفة". "لو كنت تعلمين.."، إنها تجهل مثلها مثل أي إنسان آخر، فجميعنا بحسب الطبيعة الساقطة نجهل ما هي "عطية الله"، نجهل من هو العاطي ونجهل النعمة التي بها يعطي، نجهل خلاصه الثمين والحياة الأبدية والمياه الحية التي يريد أن يهبها لنا. 3- العبارة الثالثة: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 13و14): في هذه العبارة يعلن الرب يسوع عن ثلاث حقائق هامة هي: · نفس الإنسان في عطش: "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا"، فالنفس في عطش مستمر. مكتوب "للعلوقة بنتان هات هات" (أم30: 15) هكذا الإنسان دائما يعلن عن احتياجه ولا يكف عن ذلك. لقد خلقنا الله في احتياج مستمر، لكن المشكلة تكمن في كيف يسدد هذا الاحتياج؟ وكيف يملأ هذا الفراغ؟. · ممتلكات الإنسان لا ترويه: لا يمكن لنفس الإنسان أن ترتو ولو امتلك كل ما هو على الأرض، لهذا السبب يبحث في الكواكب الأخرى كالقمر لعله يملأ فراغه، ولكن هذا مستحيل. إن صنعة الله لا يملأها إلا الله. لقد قال سليمان الحكيم "الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" (جا2: 11). فكل ما امتلكه سليمان الحكيم لم يشبع نفسه. · كفاءة ما يعطيه الله: "لكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد". ربما الماء هنا على الأرض يبرد لسان الإنسان من الحر للحظات، لكن في الأبدية لا يجد ما يرويه أو يبرد لسانه. هذا ما قاله الغني وهو في العذاب بعد موته لإبراهيم "ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب" (لو16: 24). لكن الماء الذي يعطيه الرب يسوع يروي إلى الأبد. ليس ذلك فقط، لكن يقول: "بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية". فهو يحول الإنسان من محتاج إلى معطاء. قال المسيح "من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس" (يو17: 38و39)، وفي هذه العبارة أيضا يحدثنا عن ثلاث حقائق، الأولى: الله يشتاق إلى نفس الإنسان. والثانية: الله هو العاطي. والثالثة: حقائق عن الإنسان والعالم والروح القدس. لقد أعلن الرب يسوع أنه هو لا سواه يهب الماء الحي الذي كل من يشربه لا يعطش إلى الأبد. هنا نرى جلال اللاهوت في اتحاده مع أسمى أهداف المسيا المنتظر. فهو ينبوع المياه الحية (مز36: 9، رؤ22:1، إر17: 13، إش49: 10). 4- العبارة الرابعة: "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى ههنا" (يو4: 16): بهذه العبارة كشف الرب يسوع النقاب عن ما في باطنها، وأعطاها أن تواجه حياتها بنفسها. لقد كشف لها حقيقة حياتها، انحلالها وتعاسة حالها. إن أعظم معجزة في المسيحية هي أنها تقدم للإنسان إعلانا مزدوجا: فهي تعلن أمجاد وقداسة وعدالة الله، وتعلن أيضا في محضره حالة الإنسان التعيسة واحتياجه الشديد إلى محبة الله ونعمته المخلصة. إن العبارة تنشئ فينا هذا التساؤل: ما هي علاقة الماء الحي بالزواج والزوج؟. وبالنظرة السريعة نقول أنه لا توجد علاقة, لكن الرب قصد أن يظهر لنا من خلالها أن هذه المرأة تصورت أنه في إمكانها أن تملأ فراغ النفس من خلال الزواج والأزواج، فابتدأت بالواحد حتى وصلت إلى الخامس. وإذ لم تجد ما يشبع ويروي قلبها اتجهت إلى السادس الذي قال الرب يسوع عنه "والذي لك الآن ليس هو زوجك." (يو4: 18) لكن ظل الفراغ متسع إلى أن كلمها الرب عن الماء الحي الذي يملأ فراغ النفس "لأن عندك ينبوع الحياة" (مز36: 9). 5- العبارة الخامسة: "حسنا قلت ليس لي زوج. لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق" (يو4: 17و18): من هذه العبارة نرى أن قلب الرب يسوع امتلأ بالسرور بهذه المرأة لأنها أقرت واعترفت بالفراغ الذي تعيشه وأعلنت فشلها في إشباع نفسها. وكأنها تقول له لا يوجد ما يملأ فراغ قلبي. لذلك قال لها "حسنا قلت". إن كل من يعترف بأنه لا يوجد ما يملأ فراغ نفسه لابد أن يقول الرب له "حسنا قلت". إن الاعتراف بالخطيئة كما ذكرنا من قبل يقود إلى الإقرار بالفراغ. يصعب على الإنسان الاعتراف بالخطية لكن الله يعمل في النفس ليجعل الطريق للاعتراف سهلا، مثل آدم الذي قاده الرب للاعتراف. وهنا أيضا في هذه القصة ساعد المرأة وأعانها حتى اعترفت بخطيئتها. لقد شوه الشيطان صورة الله أمام الإنسان بأفكار خاطئة. لقد صور له أن الله قاسي يسر بعذاب الإنسان، لكن الله ليس هكذا، فهو يظهر الخطأ ويساعد الإنسان على أن يوافق ويقر بذلك وهو من جانبه يغفر. لقد قال العشار في صلاته لله "اللهم ارحمني أنا الخاطئ"، وكان الجواب الإلهي "أنه نزل إلى بيته مبررا دون ذاك" (لو18: 13و14). إنه الله الذي قال له موسى "من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب" (ميخا7: 18). إن الرب لا ينتظر من الإنسان الخاطئ أكثر من القول "أخطأت" (2مل18: 4، 1أخ21: 8، مز41: 4، 51: 4). لقد قال الابن الضال عند رجوعه لأبيه "...أنا أهلك جوعا. أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك" (لو15: 17و18)، والأب رحب به بمجرد أنه قام وجاء إلى أبيه ولم يقل له أي كلمة تعيير أو عتاب، مع أن الأب كان فاهما ذلك. فبمجرد أن قال الابن "أخطأت" قال الأب لعبيده "أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه. واجعلوا خاتما في يده وحذاء في رجليه" (لو15: 21و22). إنه يغفر لأنه يسر بالغفران. 6- العبارة السادسة: "يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب... ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق..." (يو4: 21-24): في هذه العبارة نرى أن الرب بعد أن كشف للمرأة ماضيها وحاضرها، فكرت في من يكون هذا الشخص، فقالت "أرى أنك نبي". وفي هذه العبارة اعتراف ضمني بالموافقة على كل ما قاله لها من جهة خطاياها، وكأنها تقول له "أنت تعلم كل شيء" (يو16: 30). المرأة الخاطئة التي جاءت إليه وهو في بيت سمعان الفريسي بكت وذرفت الدموع، ومع أنها لم تتكلم كلمة واحدة لكنه غفر لها خطاياها لأنه كان يعلم ما في قلبها ويعلم لماذا جاءت إليه. لقد قال لها "مغفورة لك خطاياك" (لو7: 48). وكذلك زكا العشار طلب أن يرى يسوع من هو، والرب كان يعلم ما يفكر فيه، لذلك جاء إليه خصيصا وبات في بيته وقال له "اليوم حصل خلاص لهذا البيت" (لو19: 9). فالرب يعلم كل شيء ويريد بل ويسر أن يغفر. لقد حاولت المرأة السامرية الهروب من الرب يسوع ومن واقع حياتها إذ رأت أن أسرارها قد كشفت، فطلبت منه معرفة مكان السجود الحقيقي، لكن الرب حولها تماما عن السامريين واليهود إلى شخصه المبارك والسجود للآب. لقد قال لها "لا في هذا الجبل ولا في أورشليم" لكن حيث يوجد المسيح، هذا هو الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. 7- العبارة السابعة: "أنا الذي أكلمك هو" (يو4: 26): وأيضا تترجم هذه العبارة هكذا "إني أنا هو. هذا الذي يكلمك" وفيها يعلن الرب للمرأة عن ذاته بالقول "أنا هو" وهي تعني "أنا يهوه". لقد صارت المرأة في محضر الله وصار الرب يسوع معلنا لها. لقد بدأت في محضر رجل يهودي لا تريد أن تعطيه ماء وانتهت بأنها قد صارت في محضر الله، وصار الله معلنا لها. لقد بدأ بالقول "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب" وانتهت القصة بالقول "أنا هو". إنه يعلن عن ذاته بالقول "أنا هو" وهنا نرى أروع الإعلانات بأن الرب يسوع هو المسيا الذي كانت تنتظره، وهو أيضا يهوه. لقد نسي آساف ذلك عندما خرج من المقادس، لكنه عندما رجع قال للرب "من لي في السماء ومعك لا أريد شيئا في الأرض" (مز73: 25). ثانيا: العبارات التي قالتها المرأة السامرية للرب يسوع:- في إنجيل لوقا نرى النعمة في عظمتها، فالابن الضال عند الخنازير في أوحال خطاياه ونجاسته، وأيضا يعيش في بؤس وشقاء وجوع وحرمان، لكن لما بدأ في الرجوع إلى أبيه وجد أن أبوه كان في انتظاره "وإذ لم يزل بعيدا رآه أبوه فتحنن وركض" (لو15: 20). فالأب كان دائما ينتظر رجوع ابنه إليه. إنه يشتاق لرجوع ابنه الضال. لا يوجد أروع من نعمة كهذه. وفي لقاء الرب يسوع للمرأة السامرية قال لها "أعطيني لأشرب". إنها أشواق الرب للنفس البشرية لأنه يحبها. لا يعرف قيمة النفس البشرية ويراها في وضعها الصحيح إلا الرب يسوع وحده الذي أوجدها في الإنسان وفداها بموته على الصليب وسفك دمه الكريم. لقد قالت المرأة في لقائها مع الرب يسوع سبع عبارات وهي ذات اللغة التي يتكلم بها أي إنسان يعيش على الأرض، وهي كالآتي:- 1- العبارة الأولى: "كيف تتطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية. لأن اليهود لا يعاملون السامريين" (يو4: 9): وهنا نرى المرأة ومعها كل إنسان تقول للرب يسوع: هل ترغب في التعامل معي؟ بالخطيئة عاديناك، ووصاياك لم نطيع وتمردنا عليك وعصيناك، وقلنا لك "ابعد عنا "، هل تقبل أن تصل إلينا وتتصالح معنا رغم العداء الشديد بيننا وبينك؟ هل ترضى أن تمد يدك إلينا وتضعها في أيادينا الملوثة بالخطية؟. إن المرأة السامرية تتعجب في كيف يرغب الرب في واحدة مثلها! وهذا ما حدث معنا نحن أيضا، فكل واحد منا يقول: كيف يقبلني الرب أنا الأثيم؟ أنا أعرف ماضيَ التعيس وكم من الخطايا والرذائل أنا فعلت. إنها مفاجأة مذهلة لزكا العشار الذي كان كل ما يريده أن يرى يسوع لكن الرب يسوع قال له "أسرع وانزل. لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك" (لو19: 5). إنه أمر يدهشنا جدا فبعد أن عملنا الشر والفجور وانغمسنا في بحور النجاسة والإثم يأتي رب المجد من عند الآب ليخلصنا!! نعم "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد..." (يو3: 16). لم يهان الله من كل الخليقة التي خلقها مثلما أهين من الإنسان الذي قال عنه "لمجدي قد خلقته وجبلته وصنعته" (إش43: 7). لذلك لا غرابة إن كان الإنسان يستغرب من أن الله يحبه رغم التعدي عليه، فيسأل: هل الله يرضى ويرغب أن يقبل مثلي؟ لقد أجاب الرب يسوع بأروع كلمات بأنه ليس يريد أن يقبل فقط، لكن إلى أي مدى يحب، فقال للمرأة "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطني لأشرب". إن الله في محبته العظيمة ضحى بوحيده الابن الأزلي والذي سر بأن يسحقه بالحزن لأجلنا. "الله الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين" (رو8: 32). إننا لا نستغرب عندما نقرأ أن "الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا" (2بط2: 4)، وكذلك عندما نقرأ عنه أنه لم يشفق على العالم القديم في أيام نوح الذي أهلكه بالطوفان، وفي أيام لوط حيث أحرق ورمد مدينتي سدوم وعمورة بالنار والكبريت بسبب الفجور والإثم. لكننا نندهش جدا عندما نقرأ "الله الذي لم يشفق على ابنه"، مسرة قلبه، القدوس البار، والذي لم يعرف خطيئة. إن المرأة السامرية ترى أن معاملة رجل يهودي لها بهذه الكيفية لهي أعظم نعمة. إنه يحب الخاطئ ويرغب في رجوعه ويسر بأن يقبله. إنه تعب من السفر لأجل الوصول إليها. "كان لابد له أن يجتاز السامرة"، ليست حتمية جغرافية لأنه كان من الممكن له أن يصل من اليهودية إلى الجليل سائرا على الهواء كما سار على الماء ذاهبا للتلاميذ في الهزيع الرابع من الليل (مت15: 25) لكن كان لابد له أن يجتاز السامرة. إنه جاء خصيصا لأجل الخطاة ولذلك لا يستصعب أمر غفران خطايانا. إنه الشخص الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة (1بط2: 24). لنلاحظ إلى أي مدى بلغ عطاء الله للبشرية. 2- العبارة الثانية هي "لا دلو لك والبئر عميقة. فمن أين لك الماء الحي" (يو4: 11): في هذه العبارة نرى تساؤلا آخر من الإنسان ألا وهو: إن الرب يرغب في قبولي والتصالح معي، لكن هل يقدر أن يشبع ويروي نفسي ويملأ فراغ قلبي العميق؟ فالبئر عميقة ولا دلو له. بمعنى أنه لا يمكن أن يصل إلى أعماق الإنسان. لقد قالت المرأة هذا وهي لا تعلم أن هذا هو الذي قال "روح الرب عليَ لأنه مسحني لأبشر المساكين. أرسلني لأشفي المنكسري القلوب. لأنادي للمأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية..." (لو4: 18و19). لقد كان جواب الرب للمرأة مظهرا عظمة إمكانياته، وكأنه يقول لها: ليس في قدرتي أن أروي عطشك فقط، بل أقدر أن أجعلك أيضا مصدر لارتواء الآخرين. يقينا لابد أن يملأ الرب فراغ النفس، وهذا ما فعله مع كل الذين آمنوا به ولازال يعمل. فهو يقدر مهما كانت الصعاب. يستطيع أن يتعامل مع شاول الطرسوسي المتدين ويتعامل مع المرأة الخاطئة أيضا، فمهما كان شر الإنسان وعجزه التام، لكنه يقدر أن يخلص إلى التمام (عب 7: 25). إنه يخلص في كل مكان وفي كل زمان. لقد خلص اللص التائب وهو في آخر لحظات حياته على الأرض. إنه يقدر أن يخلص. لقد كشف الرب يسوع للمرأة السامرية إمكانياتها في القول "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا"، وكشف لها أيضا إمكانياته في القول "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 13و14). لقد أجاب الرب عن سؤالين هامين لهذه المرأة ولكل سائل مثلها: السؤال الأول: هل الرب يقبل؟. والسؤال الثاني: هل الرب يقدر؟. وكان الجواب نعم إنه يقبل ويقدر. وهذا ما نراه في معجزة تطهير الأبرص وأيضا في معجزة تحرير الولد الذي كان به روح نجس. فالأبرص قال للرب "إن أردت تقدر أن تطهرني" (مر1: 40). فهو يؤمن أن الرب يسوع يقدر أن يطهر، لكن كان السؤال في أعماقه: هل يرغب ويريد نجس مثلي؟ ولذلك تحنن الرب يسوع عليه لأنه كان يعلم بكل ما يفكر فيه في أعماقه، و"مد يده ولمسه" قبل أن يقول له "أريد فاطهر". وكأنه يقول له: لو ابتعد عنك الجميع خوفا من أن يتنجسوا منك بلمسهم إياك، لكنني أنا أقترب منك لأني أرغب في قبولك لأني أحبك وأريد تطهيرك. أما أبو الولد الذي كان بابنه روح نجس قال للرب يسوع "إن كنت تستطيع شيئا فتحنن علينا وأعنا" (مر9: 17-22). فهذا الرجل كان يؤمن أن قلب الرب يسوع مملوء بالحنان والشفقة، لكن في أعماقه تساؤلا وهو: هل يقدر الرب أن يحرر ابني؟ ولذلك قبل أن يحرر الرب الولد من الروح النجس، قال للأب "إن كنت تستطيع أن تؤمن. كل شيء مستطاع للمؤمن. فللوقت صرخ أبو الولد بدموع وقال أومن يا سيد فأعن عدم إيماني" (مر9: 23و24) وعندئذ حرر الولد من الروح النجس. فالأبرص يقول: هل يقبل. وأبو الولد يقول هل يقدر؟ والرب قد أجاب على كليهما. 3- العبارة الثالثة:"يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي" (يو4: 15): وفي هذه العبارة نرى أن الإنسان دائما يفكر في العطايا المادية لا الروحية، مع أن العطايا المادية لا يمكن أن تشبع أو تروي ظمأ الإنسان. إنها المياه العالمية التي شربت وتشرب منها الناس والبهائم. هذا ما قالته المرأة للرب عن بئر سوخار "شرب منها يعقوب وبنوه ومواشيه" (يو4: 12). لقد قالت المرأة للرب يسوع: "يا سيد أعطني هذا الماء"، فكل تفكيرها كان في الماء الذي في البئر. لقد طلبت هذا الطلب لسببين، الأول: لكي لا أعطش. والثاني: ولا آتي إلى هنا لأستقي. فهي لا تزال عطشى، وأيضا عبرت عن الإعياء الجسدي والأدبي والملل من المجيء اليومي لتستقي. إن الرب يسوع يعطي المياه الروحية التي تروي، إنها عطية الروح القدس المروي والمعزي. العطايا المادية لا يمكن أن تروي النفس، فالمال مثلا يمكن لنا أن نشتري به ما نحتاج إليه جسديا، لكن لا يمكن أن يوجد لنا الراحة النفسية أو الفرح والسلام الدائم والحقيقي. العطاء الروحي الذي يعطيه الرب لنا هو فقط الذي يملأ الفراغ الإنساني. قال الرب يسوع "اطلبوا أولا ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت6: 33). فهو يشبع القلب بشخصه أولا بالروح القدس ثم يعطي الماديات بعد ذلك. لقد بدأ الرب الحديث مع هذه المرأة بالقول "أعطيني" وانتهى هذا الحديث بأن المرأة قالت له "أعطيني". لقد عرف كيف يجذب النفس دون أن يجرحها حتى تشعر بالاحتياج. إنه رابح النفوس الحكيم. يا لها من عطية رائعة! عندئذ قالت له المرأة "يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى ههنا لأستقي" (يو4: 15). هذه هي أول طلبة وأول كلمات تنبع من قلبها "أعطني". لقد قالت للرب أول مرة "كيف"، ثم في المرة الثانية قالت "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب"، لكن في هذه المرة قالت له "أعطني هذا الماء". لقد سمعت المرأة عن الله المعطي، والابن الذي جاء متجسدا ليمكنه أن يقول لها "أعطيني لأشرب"، والروح القدس الذي هو الينبوع الذي ينبع إلى "حياة أبدية" الناس لا يمانعون في أن يعطيهم الرب شيئا أو كل شيء، بشرط أن يترك الينابيع الخاصة بهم دون إبعادها. بمعنى أن يترك الرب هذه الينابيع ليشربوا منها وليعطهم بجوارها!! من السهل جدا أن نقول للرب "أعطيني" على أن نظل متمسكين بما عندنا!! إنها رغبة ليست صحيحة، ولا يمكن أن الله يعطي لشخص مثل هذا إلا إذا تنازل الإنسان عن الينابيع العالمية وكل مصدر للارتواء غيره. 4- العبارة الرابعة: "ليس لي زوج" (يو4: 17): لقد قال الرب يسوع للمرأة "اذهبي وأدعي زوجك" في هذه العبارة نرى شيئين: الأول هو الإقرار بحالتها، والثاني هو الإقرار بفشل المصادر البشرية الأرضية التي اعتمدت عليها في ارتواء نفسها والتخلي عنها. لا يمكن للإنسان الخاطئ أن يأتي إلى الرب إلا بعد أن يقر أن كل شيء غير الرب سراب. إن الآبار التي ينقرها الإنسان لنفسه هي آبار مشققة لا تضبط ماء. (إر2: 13). هل نعترف بأننا لم نجد راحة بعيد عن المسيح؟ هل نقر أن الشيء الذي كنا نظن أنه يروينا فشل في ذلك؟ هل بانكسار قلب نقر ونعترف بذلك ونتحول عن خرنوب الخنازير وشهوات العالم ونأتي إلى الرب؟. لقد أجابت المرأة بإجابة رائعة إذ قالت "ليس لي زوج". لقد دخل الرب يسوع معها في التحدي بأن تستدعي أي زوج قد أشبع فراغها العاطفي والنفسي، فكان إقرارها بأن لا شيء يستطيع أن يروي النفس لذلك قالت له "ليس لي زوج". في الأصحاح الرابع من إنجيل يوحنا نرى العالم في فجوره والرب يسأل البشر هل وجدتم ما يشبع قلوبكم؟ والإجابة لا يوجد. وفي الأصحاح الخامس نرى البشر تحت الناموس قريبين من الله، لكنهم في حالة العجز التام، ممثلين بمريض بركة بيت حسدا ولسان حالهم "بينما أنا آت ينزل قدامي آخر" (يو5: 7). لقد قال الرب للمريض "أتريد أن تبرأ"؟ فكان جوابه "ليس لي إنسان". لقد قالت المرأة السامرية "ليس لي زوج"، وقال مريض بركة بيت حسدا "ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء". لا يوجد أروع من أن نقول للرب "ليس لي" وعندئذ يصير الرب لنا كل شيء (رو8: 31، عب13: 6). لقد اعترفت المرأة وأقرت بأنها في فراغ عميق "ليس لي زوج". إنها تعترف أنه بالبعد عن الرب لا يوجد شبع أو ارتواء. يجب أن يعترف الإنسان بالخطية، هذه مطالب الله العادلة. لا يمكن للرب أن يمتع الخاطئ بالخلاص إلا إذا اعترف بخطاياه. "اعرفي فقط إثمك أنك إلى الرب إلهك أذنبت..." (إر3: 13). الرب لا ينتظر من المرأة اعتراف تصغه هي لنفسها، لكن هو صاغه وينتظر منها المصادقة، لذلك قال لها "كان لك خمسة أزواج..." وينتظر منها المصادقة. لقد قال الرب لآدم "أين أنت" ثم قال له "هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها". الله لم ينتظر أكثر من مصادقة الإنسان على ما قاله له. الله لا يريد من الإنسان تقرير عن ما فعل، لكن ينتظر من الإنسان المصادقة على تقريره هو، لأن الله يعرف الإنسان أكثر من معرفة الإنسان لنفسه. الابن الضال في رجوعه لأبيه عمل لنفسه تقريرا يقول فيه لأبيه "أخطأت إلى السماء وقدامك". هذه العبارة رائعة لكنه وضع بعد ذلك تقريرا لا لزوم له إذ قال "ولست مستحقا بعد أن أدعى لك ابنا. اجعلني كأحد أجراك" (لو15: 19). في الحقيقة هو لا يستحق أن يكون أجيرا أو عبدا بل بحسب شريعة الله وأحكامه يستحق الرجم (تث21: 18-19) ولذلك لم ينتظر له أبيه حتى ينطق بما قرر أن يقوله، ولما أدخله البيت وعمل له كل ما يلزم قال "ابني هذا كان ميتا"، فهو لا يستحق أن يكون أجير لكنه يستحق الموت. الله لا يريد من الخاطئ تقريرا أو تشخيصا فهو في استغناء عن ذلك تماما، فهو فاحص القلب ويقول في تقريره عن قلب الإنسان "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه. أنا الرب فاحص القلب ومختبر الكلى" (إر17: 9و10). متى اعترف الإنسان فهو يعترف ببعض الأخطاء، لكن تقرير الله "إن كل الرأس مريض وكل القلب سقيم" (إش1: 5). لقد قال الرب للمرأة "كان لك..."، ومن المؤكد متى رجع الإنسان إلى الله يكشف له الرب حالته فيدرك أن "الجميع زاغوا وفسدوا معا. ليس من يعمل صلاحا ليس ولا واحد". 5- العبارة الخامسة: "أرى أنك نبي" (يو4: 19): في هذه العبارة نرى أن المرأة تعلن الموافقة على كل ما قاله الرب يسوع لها وهذا ما يريده الرب منا أن نقر ونعلن أنه "ليس لي". لقد كان عند اليهود معرفة بأن النبي يعرف ويعلم حالة القلب. عندما جاءت المرأة الخاطئة إلى الرب يسوع وهو في بيت سمعان الفريسي، قال سمعان "لو كان هذا نبيا لعلم من هذه المرأة التي تلمسه وما هي. إنها خاطئة" (لو7: 39). لهذا السبب أيضا قالت المرأة السامرية للرب يسوع "أرى أنك نبي"، وبمعنى آخر إن كل ما قلته عني هو حقيقة. لقد عرفت أن رسالته رسالة نبي من خلالها أدركت ما هي الخطية وما هي نتائجها؟ وعرفت أن علاجها هو عنده هو فقط. لقد جعل الرب لآدم أمر المصادقة سهلا، لكن آدم قال لله "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت". فبدلا من أن يصادق على تقرير الله أراد أن يبرر نفسه فألقى اللوم على الآخرين. وهكذا كان الحال مع قايين الذي قتل أخيه. لقد قال للرب "ذنبي أعظم من أن يحتمل" وكأنه يقول لله هذا القصاص ظلم فأنا لا أستحق هذا. للأسف إن كثيرين من الناس يسلكون ذات الطريق، طريق قايين، وعندما نتكلم عن نار جهنم يقولون هذا ظلم، ماذا فعلنا حتى تكون النهاية هكذا؟! 6- العبارة السادسة: "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه" (يو4: 20): في هذه العبارة عرضت المرأة مشكلة جديدة وهي: أين تذهب بعد ذلك لتسجد وآباؤها قالوا أن السجود في هذا الجبل (جبل جرزيم)، والمسيح الذي تقف أمامه قد كشف لها ماضيها وحاضرها وهو بحسب تفكيرها رجل يهودي، واليهود يقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه؟ لذلك تلتمس منه أين تذهب لتقدم الذبيحة؟. وكأنها تريد أن تقول أنا علمت أني إنسانة خاطئة وهالكة وأريد أن أطلب الغفران، لكن أين أطلبه في هذا الجبل أم في أورشليم؟. إن كثيرين مثل هذه المرأة، وصلوا إلى معرفة أنفسهم لكنهم يبحثون عن الطوائف وأنواعها!! لقد قال الرب يسوع للمرأة "يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب...ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 21-24). عندما قال الرب يسوع لها "اذهبي وأدعي زوجك" قال لها أيضا "وتعالي إلى ههنا". لو انتبهت إلى قوله هذا لعلمت أنه لم يدعها إلى هذا الجبل ولا إلى أورشليم لكن يدعوها إلى شخصه المبارك، "إلى ههنا" حيث يوجد هو. لنلاحظ القول "ههنا" والقول "الآن". هنا: حيث يوجد المسيح، فهو الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه. "تعالي إلى ههنا" إن الرب موجود حسب وعده "وحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم" (مت18: 20). "هنا والآن" حيث تسمع بشارة الإنجيل، وأنت في محضر الرب وأمامه. عندما تسمع وفي المكان الذي تسمع صلي إلى الرب قائلا "اللهم ارحمني أنا الخاطئ" وستجد صليب المسيح أمامك ودمه الكريم يطهرك من كل خطية ومن هذه اللحظة تخرج إنسانا جديدا هاتفا بالقول "الذي أحبنا وقد غسلنا بدمه من خطايانا وجعلنا ملوكا وكهنة لله أبيه" (رؤ1: 5). 7- العبارة السابعة: "أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء" (يو4: 25): لقد وصل الرب بهذه المرأة إلى الشعور والرغبة العميقة للارتباط بشخصه المبارك. هذا هو عمل الله في النفس. ليس رغبة لمكان ما أو اشتياق إلى تعاليم أو حقائق أو عقائد تخص المسيح لكن الاشتياق إلى شخصه. في العبارة السابقة التي تكلمت بها المرأة مع الرب يسوع كأنها تسأله قائلة: هل أنت المسيا؟ وهنا أعلن الرب ذاته لها بالقول "أنا الذي أكلمك هو" وهنا حدث التغيير العظيم، فتركت جرتها وكأنها تقول لا أريد شيئا بعد أن عرفت يسوع. لقد تركت جرتها ومضت لمدينتها مخبرة قائلة "هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت. أ لعل هذا هو المسيح" (يو4: 29). وهذه كانت آخر العبارات التي تكلمت بها. وفي هذه العبارة نرى دور الإنسان بعد الخلاص. يجب أن نذهب لكل الناس وأن نخبرهم بأخبار الإنجيل السارة، نكرز بالمسيح المحب لكل العالم. لقد كان لبشارتها تأثيرا عظيما فالمدينة كلها خرجت إلى الرب يسوع. هذه هي قصة كل شخص التقى الرب يسوع به، وليتها تكون قصة القارئ العزيز أيضا. إن الرب يريد منا شيئين:- الأول: الإقرار بأنه لا يوجد شيء في العالم يشبع ويروي قلب الإنسان. الثاني: قبول إقرار الله عن حالة الإنسان والاعتراف بأنه لا يوجد ما يروي النفس إلا الرب يسوع وحده. إن لم نقر الآن بذلك هنا في حياتنا على الأرض، سيقررها كل من يرفض في هاوية العذاب ويكون لسان حاله مع الغني "أرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب" (لو16: 24). ********************* إنجيل النعمة وجهل الإنسان "فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره" (2كو8: 9) مع أن الرب يسوع هو الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخراف (يو10: 11) وهو الذي "يذهب لأجل الضال حتى يجده" (لو15: 4) لكنه قال للمرأة السامرية "أعطيني لأشرب" (يو4: 7) فكان جوابها له "كيف تتطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية" (يو4: 9). لقد بدأ الرب بالطلب منها، لكنها لم تعرف كيف تعطي. وبالفعل كان الرب عطشانا لنوعين من الماء:- 1- ماء يروي العطش الطبيعي باعتباره الإنسان الذي تعب في السير لمسافة طويلة. 2- ماء يروي نفسه التي كان بها عطش أعمق بكثير وهو أن هذه النفس تولد من جديد، وتحصل على الحياة الأبدية وتصير من ضمن خرافه الخاصة. إنجيل يوحنا يقدم المسيح باعتباره ابن الله (يو1: 18). الكلمة الأزلي الذي حل بيننا وأخذنا منه نعمة فوق نعمة. هذا الذي ظهر في الجسد مقتربا من البائسين. لذلك ترد قصة المرأة السامرية في هذا الإنجيل، والروح القدس له قصد من ذلك. وهو أن يعلن لنا الله المحب، صاحب القلب المملوء بالرحمة والحنان مشفقا على البؤساء والمساكين، وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة (2بط3: 9). لذلك أرسل وحيده مملوءا نعمة وحقا. طريقا وحيدا للخلاص وبابا وحيدا للدخول فيه (يو10: 9). فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس (يو1: 4). قال عن نفسه "أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي" (يو14: 6). إنه كلي الجلال والعظمة، هذا الشخص الذي اقترب إلى النفوس البائسة ولازال يقترب منها حتى الآن. كل نفس لازالت على قيد الحياة تشكر الرب لأجل طول آناته وصبره عليها وهو يقترب إليها بمياه الحياة. أولا: إنجيل المسيح لكل البشر قال الرب يسوع للمرأة السامرية "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا" (يو4: 10). إن هذه العبارة هي الإنجيل المقدم من الرب لكل البشر، وفيها نرى الرب لا يريد أن يأخذ من الإنسان، بل يريد أن يعطيه. وفي هذه العبارة نرى أربعة أمور هامة هي:- 1- عطية الله "لو كنت تعلمين عطية الله" "لو كنت تعلمين عطية الله"، يا لها من عبارة تعلن عن مشاعر رقيقة ومحبة غامرة متدفقة من قلبه. وفيها نرى أيضا أن الله يسر بالعطاء أكثر من الأخذ. كثيرا ما شوه الشيطان جمال الإنجيل، وصورة الله أمام الإنسان، فصوره وكأنه يريد أشياء كثيرة منا. لقد ذهب الشيطان للعبد وجعله يفكر السوء في سيده، فلما جاء سيده ليحاسبه قال العبد له "يا سيد عرفت أنك إنسان قاس تحصد حيث لم تزرع وتجمع من حيث لم تبذر" (مت25: 24). من أعلمه هذا؟!. الإنسان في جهله يظن أن الله يريد أن يأخذ منه، لذلك يعلن الله في كلمته أن الخلاص "ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد" (أف2: 9)، وهنا المقصود الأعمال الصالحة في نظر الإنسان حتى لا يفتخر بها. 2- طلب العطية "لطلبت أنت منه" مع أن محبة الله للجميع وخلاصه مقدم لكل البشر، لكن لا يحصل عليه إلا من يطلب. لنلاحظ القول "لطلبت أنت منه". "أنت" أي أنه شخصي ولا يجوز لواحد أن يطلب بدلا عن آخر بل كل واحد يطلب لنفسه، وأيضا "منه" من الرب شخصيا ومباشرة. أنه تلاقي فردي وشخصي، الرب والمرأة السامرية، الرب ونيقوديموس وهكذا. يذكر عن الأبرص الذي أتى إلى الرب يسوع "فأتى إليه أبرص يطلب إليه جاثيا" (مر1: 40). ويذكر عن قائد المئة "ولما دخل يسوع كفر ناحوم جاء إليه قائد مئة يطلب إليه" (مت8: 5) لنلاحظ تكرار كلمة "إليه"، فكل منهما جاء إلى يسوع وليس لآخر سواه وكل منهما طلب مباشرة إليه. 3- العطاء الإلهي "فأعطاك" الأمر لا يتطلب مصارعة ودموع وصراخ وتوسل، لنلاحظ القول "لطلبت أنت منه فأعطاك". كثيرا ما يتعطل الإنسان من الطلب وبالتالي لا يأخذ، فواحد يزعم أنه جيد الصفات وهو لا يحتاج إلى الخلاص، وآخر يشعر أنه أردأ البشر ولا يستحق شيء من الرب. فالبعض يعتمد على البر الذاتي والاستحقاق الشخصي، والبعض الآخر يشعر بالمذلة وعدم الاستحقاق، وهذه تقود إلى البر الذاتي أيضا. بمعنى أن مثل هذا الشخص يريد أن يقول: عندما أحسن من حالي وأغير من حياتي أكون أهلا ومستحقا لهذا الخلاص. يا له من بر ذاتي!! بينما يقول الرب "هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (إش1: 18). كما أنا آتي إلى فادي الورى مستعجلا إذ قلت نحوي أقبلا يا حمل الله الوديع لقد قال الرب يسوع "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى...لأني لم آت لأدعو أبرار بل خطاة إلى التوبة" (مت9: 12و13). لقد "جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك" (لو19: 10). 4- نوعية العطاء "الماء الحي" لقد شبه الرب الخلاص بالماء الحي، وإليك بعض المشابهات:- 1- الماء عطية من عطايا الله. الإنسان بكل حكمته وعلومه التي يفتخر بها لا يستطيع أن يكون الماء أو يصنعه لنفسه. الماء يعتمد في وجوده على الله فقط. هكذا الخلاص أيضا هو عطية الله للإنسان (أف2: 8و9). أساسه موت ربنا يسوع المسيح على الصليب وقيامته ومانحه هو الله للإنسان (إش45: 22، أع4: 12). 2- الماء ينزل من السماء (ماء المطر) فهو ليس من نتاج الأرض بل يأتي من فوق، هكذا الخلاص أيضا هو من عند الرب. أساسه موت ربنا يسوع المسيح على الصليب وقيامته ومانحه هو الله للإنسان (إش45: 22، أع4: 12). 3- الماء يعطى من الله بدون مقابل من الإنسان والرب يقدمه مجانا لكل البشر، هكذا الخلاص أيضا يقدمه الله لكل البشر بدون مقابل لأنه لا يمكن للإنسان أن يقدم لله مقابل لأجل خلاص نفسه وإلا لا يصير عطية من الله. 4- الماء لازم وضروري للحياة فهو ليس شيء للترف بل ضروري للحياة الطبيعية وبدونه لا يقدر الإنسان أن يعيش. هكذا الخلاص أيضا ضروري وأساسي للحياة الروحية والعلاقة مع الله وبدونه الإنسان هالك. 5- الماء يحتاج إليه الجميع بدون استثناء، وكذلك الخلاص هو احتياج كل البشر عال ودون، رجل وامرأة، شاب وشابه، شرير ومتدين، إنه احتياج الكل بدون استثناء. يحتاج إليه المتدين مثل نيقوديموس، ويحتاج إليه الشرير المنبوذ مثل المرأة السامرية. 6- كل العمليات الحيوية في جسم الإنسان تدخل فيها المياه، وهو يروي وينعش ويشبع، هكذا الخلاص الذي نجده في المسيح أيضا له تأثيره في كل الحياة الخارجية من جهة السلوك، والحياة الداخلية من جهة الأفكار والنيات والدوافع. وهذه الأمور تتغذى بفعل وعمل الروح القدس في داخل الإنسان. "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2كو5: 17). 7- الحصول على الماء سهل، وليس مثل أشياء كثيرة لكي نحصل عليها لابد من التعب، هكذا الخلاص المقدم لنا من الله يقدمه لنا الله ولا ينتظر منا إلا أن نقبله. الرب "يعطي ماء الحياة"، كم هو مبارك هذا، ماء الحياة مجانا وبدون مقابل. إنه هبة وهذه الهبة يمكننا الحصول عليها من المسيح فقط. نعم العطية عظيمة والعاطي أعظم. ثانيا: جهل الإنسان عن الإنجيل قال الرب يسوع للمرأة السامرية "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا" (يو4: 10). فكانت إجابة المرأة على قول الرب إعلانا لجهل عظيم، إذ قالت له "يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك هذا الماء. أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب" (يو4: 11و12)، وهنا نستطيع أن نقول أن إنجيل المسيح مقدم لها لكنها كانت تجهله. لقد كان كل تفكيرها في الماء الحرفي، إنه قلب مغلق. لذلك تكلمت عن ثلاثة أشياء:- 1- "لا دلو لك": إنها مشغولية بالطريقة والكيفية. الأمور المنظورة والوسيلة التي هي تعرفها للحصول على الماء ألا وهو "الدلو". إن الله لا يحد بطريقة معينة، فهو ليس طرقه كطرقنا ولا أفكاره كأفكارنا (إش55: 9). إن الرب يريدها أن تنظر إليه لا إلى الدلو. إن كثيرين مشغولين بالدلو، مشغولين بأمور كثيرة في هذا العالم، لذلك لا تأتي كلمة الله معهم بنفع مع أنهم يسمعونها كثيرا. لقد قال الرب يسوع في مثل الزارع "هموم هذا العالم وغرور الغنى وشهوات سائر الأشياء تدخل وتخنق الكلمة فتصير بلا ثمر" (مر4: 19). هذا هو الدلو الذي يخنق الكلمة. 2- "والبئر عميقة": يقال أن بئر سوخار عميقة جدا، لكن توجد بئر أعمق منها بكثير. الرب يتكلم عن بئر الماء الحي، والمرأة تحتاج إلى ماء حي للحياة لكي تحيا، وهذه البئر عميقة وهي لا تعرفها ولا تقدر أن تصل إليها، ولكن محبته لها تجعله ينزل في هذه البئر ويقدم لها ماء الحياة مجانا. لقد قدم الرب يسوع خلاصه لنا لا على طبق من الفضة أو الذهب، لكن من خلال موته على الصليب وسفك دمه الكريم. في سفر المزامير نرى البئر العميقة التي نزل إليها المسيح فيقول "خلصني يا الله لأن المياه دخلت إلى نفسي.غرقت في حمأة عميقة وليس مقر. دخلت إلى أعماق المياه والسيل غمرني. تعبت من صراخي. يبس حلقي. كلَت عيناي من انتظار إلهي". ويقول أيضا "نجني من الطين فلا أغرق. نجني من مبغضي ومن أعماق المياه. لا يغمرني سيل المياه ولا يبتلعني العمق ولا تطبق الهاوية عليَ فاها" ثم يقول "العار قد كسر قلبي فمرضت. انتظرت رقة فلم تكن ومعزين فلم أجد. ويجعلون في طعامي علقما وفي عطشي يسقونني خلا" (مز69: 1-3و14و15و20و21). 3- "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب": إنها تجهل شخصه المبارك. ربما فكرت في العطية التي قال لها عنها، وربما حدث تشويش في ذهنها، لكنها لم تفكر في العاطي نفسه ولذلك قالت له "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب" وفاتها أنه رب وإله إبراهيم واسحق ويعقوب، وإنه أعظم من يعقوب وسليمان ويونان وأعظم من الهيكل ومن موسى ومن يشوع وأعظم من الملائكة بل وأعظم من الكل (مت12: 6و41و42، عب1: 4، 3: 3، 4: 8-10). ولكن للأسف عينيها لم تر ذلك، ورغم ذلك كان الرب قي غنى نعمته وطول آناته يتحمل كل ما تقوله عنه وله. ثالثا: الماء الذي لا يروي والماء المروي لقد قال الرب يسوع للمرأة "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا ولكن الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 13و14). وبهذه الكلمات التي قالها الرب يسوع للمرأة السامرية يريدنا أن نتنحى عن كل ماء العالم، من مال وجاه وجمال وشهوات وملذات. كل شيء لا يمكن أن يروي. "كل من يشرب...يعطش أيضا". لقد قال سليمان الحكيم "كل الأنهار تجري إلى البحر والبحر ليس بملآن...العين لا تشبع من النظر والأذن لا تمتلئ من السمع" (جا1: 7و8). هذه حقيقة واقعية. لقد شرب الغني من مياه الغنى وكان يتنعم كل يوم مترفها، لكنه مات عطشانا ورفع الرب الستار عنه أبديا فهو يطلب قطرة ماء تقدم له لا ليروي ظمأه لكن ليبرد لسانه لأنه معذب في اللهيب (لو16: 19-26). إنها حقيقة لا يشبع القلب ولا يروي النفس إلا الرب يسوع وحده. إن كلمة "لن" في القول "...فلن يعطش إلى الأبد"، للنفي المطلق. ولقد وردت هذه الكلمة في إنجيل يوحنا مرارا. قال الرب يسوع "...فلن يرى الموت إلى الأبد" (يو8: 51) والمقصود هنا الموت الأبدي. وقال أيضا "...لن تهلك إلى الأبد" (يو10: 28). نعم "لن يعطش إلى الأبد...لن يرى الموت إلى الأبد...لن تهلك إلى الأبد". إن الرب يسوع هو "أبو الأبدية" (إش9: 6)، إنه أبو كل ما هو أبدي، فالحياة التي يمنحنا إياها هي الحياة الأبدية، والطعام المشبع لنا "باق للحياة الأبدية" وأيضا "إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (يو6: 51)، والماء الذي يعطيه مروي ومنعش إلى الأبد. "ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد...". ذلك هو الروح القدس الذي يعطيه الرب يسوع للمؤمن، ويعطيه ليكون ينبوع تمتع إلهي، ويصبح قوة للسجود. وهو الذي يصوغ ويشكل الشركة والعلاقة الدائمة بين المؤمن والآب والابن، وهذا أكبر وأكثر من نوال الحياة الأبدية التي تكلم بها الرب مع نيقوديموس. إنه روح التبني، ولذلك فهو في المؤمن ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية. هو مصدر إنعاش إلهي في داخل نفس المؤمن، وهو الذي يقود إلى الفرح في المسيح، ويسمو بالنفس إلى ما هو سماوي. يجب أن نلاحظ أن الرب لا يقول أن هذا الينبوع ينبع إلى "الحياة الأبدية" بل "إلى حياة أبدية" وذلك لأن وجود هذا الينبوع في المؤمن يبرهن على امتلاك المؤمن للحياة الأبدية التي هي شرط نوال الروح القدس والتي حصل عليها بالإيمان بالرب يسوع. رابعا: الماء الحي يتطلب تنظيف الإناء الرب لا يعطي الماء الحي إلا بعد أن ينظف الحياة أولا، وهذا ما فعله مع هذه المرأة. لقد كشف أسرارها ووصل بها إلى الاعتراف بخطاياها ولاسيما عندما قال لها "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى ههنا" (يو4: 16). إن ربنا يسوع المسيح مملوء نعمة وحق، فهو يريد بهذا السهم يخترق قلبها. لا يمكن لأي إنسان أن يأتي إلى الرب ويستفيد من نعمته إلا إذا نخسته كلمة الله في داخله فيدرك أنه إنسان خاطئ لا يستحق. لابد أن يشعر الإنسان أولا بخطاياه. "اذهبي وأدعي زوجك" عبارة ليست للتأنيب فقط، لكن يقول"وتعالي إلى ههنا". يا لها من نعمة تسر بالعطاء. "اذهبي... وتعالي" إنه ذات الشخص الذي نادى قائلا "إن عطش أحد فليقبل إليَ ويشرب" (يو7: 37) وأيضا "تعالوا إليَ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت11: 28). لقد بدأ الروح القدس بعمله في الداخل وفي هذا المشهد لا تستطيع أن تكذب فقالت له "ليس لي زوج". هذا هو الندم والتوبة والاعتراف بأنها لا تستحق أن يعطى لها الماء الحي. إن الرب يسوع قال "فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر1: 15). لا يمكن أن يعطي الرب هذه النعمة على عسم، فلابد من التوبة والإيمان معا. لكون الرب يحبها ويريد أن يعطيها المياه الحية كان لابد أن ينظف الداخل أولا. خامسا: إشراق النور الإلهي لقد بدأت المرأة بالاعتراف وساعدها الرب على ذلك فقال لها "حسنا قلت ليس لي زوج.كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك. هذا قلت بالصدق" (يو4: 17و18). لقد شجعها الرب وكشف لها ما في قلبها وأظهر لها الأشياء المخفية، أن هذا كان بينه وبينها. فهو يكشف الأخطاء والعيوب للشخص أمام عينيه ثم يسترها ويغفرها، ولكن لا يكشفها أو يظهرها أمام الآخرين حتى إن كانوا مؤمنين. فهو لم يحكي مع تلاميذه عنها شيئا، بل وقبل أن يتكلم معها أرسلهم ليشتروا طعاما. نحن لا نعلم هل كان زوجها يموت وتتزوج بآخر، أم أنها كانت تطلقه وتتزوج بآخر، أم كانت تعيش مع رجل بعد الآخر إلى أن وصلت للرجل الذي كان معها وهو ليس زوجها وقت حديث الرب معها. لكننا نعلم أن نور الإعلان الإلهي كشف ما هو مخفي عن الأنظار. إن كلمة الله التي نصغي إليها تكلمنا عن أمور معينة في حياتنا، وتكشف هذه الأمور التي لا يعلمها أحد إلا الله وحده. أمام ما قاله الرب للمرأة قالت له "أرى أنك نبي". لقد تدرجت المرأة السامرية في معرفة الرب يسوع، فقالت له في بداية اللقاء "أنت يهودي" ثم قالت له "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب"، ثم قالت له "يا سيد" ثم قالت "أرى أنك نبي" وأخير عرفته أنه المسيا ونادت به. إنجيل يوحنا يظهر الرب يسوع باعتباره " النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان" (يو1: 9) والذي قال فيه عن نفسه "أنا هو نور العالم"، وأيضا "مادمت في العالم فأنا نور العالم" (يو8: 12، 9: 5). لذلك لا غرابة إن يكشف ويظهر الخفايا في النور. فيظهر ماضي وحاضر السامرية (يو4: 17و18) وأيضا يظهر خطايا وخفايا المشتكين على المرأة الزانية والطالبين برجمها (يو8: 6-9) إنه لم يذكر خطايا المرأة لكنه جعلها هي تعترف بها وتتركها لذلك غفر لها، أما أولئك الذين أظهر لهم خطاياهم هربوا من أمامه ولم يبق واحد منهم، هؤلاء لم يستفيدوا من نعمته. ********************* المرأة السامرية والسجود "اعبدوا الرب بفرح. ادخلوا إلى حضرته بترنم" (مز100: 2) بعد أن تحدث الرب يسوع مع المرأة السامرية عن حياتها وحالتها في الماضي "كان لك"، والحاضر "والذي لك الآن"، استطاعت أن تدرك من هو هذا الشخص الذي تقف أمامه. إنه شخص غير عادي، إنه كاشف الأسرار وعلام الغيوب، فتحدثت معه عن السجود وكيف وأين يمارس؟. وهنا نسأل لماذا سألت المرأة عن السجود؟ والإجابة كما نراها:- 1- ربما سألت لكي تهرب من واقع حياتها التي تعرف أنها مشينة. 2- وربما سألت لكي تهرب من الرب يسوع لئلا يكشف لها أكثر مما تكلم به من سرائر دقيقة لا يعلم بها أحد غيرها. 3- وربما سألت عن مكان السجود لأنها أرادت أن تقدم عن خطاياها ذبيحة. 4- وربما سألته كنبي يعرف الحقيقة فيخبرها عن أين تسجد السجود الحقيقي. 5- وربما سألته لأنه أثر في حياتها ورأت فيه الخلاص. على أية حال مهما كان السبب لكنها سألت قائلة "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه" (يو4: 20). والرب يسوع قد أجاب لها موضحا الفروق العجيبة بين أنواع السجود، فقال عن:- أولا: سجود السامريين: أنه مرتبط بالمكان "جبل جرزيم". وأنه سجود بلا معرفة، مبني على الجهل وعلى الخرافات "أنتم تسجدون لما لستم تعلمون". كما أنه سجود موروث من الآباء "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل". ثانيا: سجود اليهود: إنه مرتبط بالمكان "أورشليم حيث يوجد الهيكل". وأيضا سجود مصحوب بالمعرفة "نحن نسجد لما نعلم". يجب أن نلاحظ القول "نسجد لما نعلم" وليس "لمن نعلم" والفرق لغويا كبير جدا. "ما نعلم" تشير إلى غير العاقل بينما "من نعلم" تشير إلى العاقل. فإن الله كان مستورا تحت الأنظمة الكهنوتية والذبائح إلى أن مات المسيح على الصليب وشق الحجاب من فوق إلى أسفل وصار المؤمنون قريبين بدم المسيح (أف2: 13، عب10: 19-22). لذلك المؤمن يعرف من يعبد وليس ما يعبد. وأنه أيضا سجود مرتبط بالطقس وبالأنظمة. ثالثا: السجود الحقيقي: وهو غير مرتبط بالمكان ولا بالزمان "تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم". سجود يقدم للآب "تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب.." سجود بالروح والحق. والآن وبإيجاز يمكننا أن نتحدث عن: السجود الحقيقي لقد أصبح السجود الحقيقي من لحظة مجيء ربنا يسوع المسيح إلى العالم غير مرتبط بمكان ولا بالزمان. لقد قال الرب يسوع "وحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي هناك أكون في وسطهم" (مت18: 20). ماذا كنا نفعل لو كان السجود في أورشليم؟ من منا يستطيع أن يتمتع بالسجود؟. لقد جاء الرب يسوع من السماء ودفع حساب خطايانا. لقد صار الذبيحة التي قدمت لأجلنا، فاستطاع بأن لا يريحنا فقط من أثقال خطايانا، بل وأراحنا أيضا من الذهاب إلى هنا وهناك. وأصبح لاثنين أو ثلاثة يجتمعون إلى اسمه حق التمتع بشخصه مقدمين السجود. يمنح الرب الخلاص أولا ثم يأتي بعد ذلك السجود عرفانا بالجميل والإحسان. فبعد أن طهر العشرة الرجال البرص رجع واحد منهم وهو غريب الجنس، كان سامريا، ليقدم للرب الشكر والسجود. لذلك قال الرب معاتبا "أليس العشرة فد طهروا. فأين التسعة. ألم يوجد من يرجع ليعطي مجدا لله غير هذا الغريب الجنس". (لو17: 15-19). السجود الحقيقي يقدم من المولودين من الله لله، ويقدمونه باعتبارهم أولاد له وهو أبيهم، والآب طالب مثل هؤلاء الساجدين. الآب لا يطلب سجود حقيقي لكنه يطلب ساجدين حقيقيين ومن صفات سجودهم يجب أن يكون بالروح والحق. أولا: سجود بالروح: يقول الرسول بولس "لأننا نحن الختان الذين نعبد الله بالروح ونفتخر في المسيح يسوع ولا نتكل على الجسد" (في3: 3). هناك فارق بين :في المسيح"، "وبالمسيح". الأولى تعني مركزنا ومقامنا "إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (2كو5: 17). والثانية تعني انتسابنا للمسيح. وعبارة "لا نتكل على الجسد" تعني لسنا مثل الناس الذين يعبدون عبادات شكلية. مكتوب "أما الرب فهو الروح" (2كو3: 17)، ويقول الرب يسوع للمرأة السامرية "الله روح" (يو4: 24)، وهذا يبرهن على أن الرب يسوع هو الله. "وحيث روح الرب هناك حرية" (2كو3: 17) بمعنى أن الروح القدس يقود من يعبد، وبمعنى آخر أن الروح القدس يصلي فينا وهذا هو معنى الصلاة بالروح والسجود بالروح. فالروح القدس يقود العابدين في التسبيح والسجود والصلاة والخدمة وكل أجزاء العبادة (1كو14: 14و15). يقول الرسول بولس "أصلي بالروح وأصلي بالذهن أيضا" وهذا يعني أن الذهن يفهم ما يقوله. ويقول أيضا "...عبادتكم العقلية" أي العاقلة أو المفهومة (رو12: 2) ويقول أيضا "أرتل بالروح وأرتل بالذهن أيضا". وهنا نسأل: كيف نسجد بالروح؟: من لحظة الحصول على الخلاص والولادة الجديدة يختم المؤمن بالروح القدس (أف1: 13) وبعدها مطلوب منه أن يمتلئ بالروح (أف5: 18) وعندئذ عندما يصلي أو يسبح أو يخدم فكل شيء يكون بالروح. مع ملاحظة أن الروح يشفع فينا بأنات لا ينطق بها (رو8: 26). لقد أجاب الرب يسوع على المرأة السامرية بأن السجود لا في جبل جرزيم ولا في أورشليم، بل هو شخص يقدم حياته للرب يسوع، يقدم كل كيانه ونفسه لله "لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 23و24) والسجود الروحي يتبعه الاحترام لله حتى بالجسد المادي، فمثلا لا يجوز أن أسجد لله بالروح وأنا نائم، ما لم يكن الشخص مريض ولا يستطيع أن يجلس أو يقف. إن كان الله روح فهو لا يحد بالزمان أو بالمكان، وإن كان الله روح فالذبيحة التي تقدم له ينبغي أن لا تكون ذبيحة مادية، ينبغي أن نقدم له ذبيحة النفس الحية. فالتقدمات المادية والذبائح الحيوانية والتقاليد الحسية كلها تقصر عن إرضاء الله. إن التقدمات التي تسر قلب الله دون سواها هو ما يقدمه الروح القدس من قلب عملت فيه نعمة الله واغتسل بدم المسيح. فالعبادة الحقيقية هي العبادة تحت قيادة الروح القدس، وهي العبادة التي تصل بالإنسان إلى الشركة المباركة مع الله. إن العبادة الحقيقية تعتمد على لقاء روح الإنسان بالله. سجود بالروح: هذا تعبير يدل على تغيير طابع السجود، فلن يكون السجود بعد بطريقة بشرية أرضية يتمشى مع أفكار الإنسان الطبيعي على الأرض. في مكان محدد على الأرض، وذبائح من كل ما تنتجه الأرض. ولهذا السبب فإن الساجدين الحقيقيين ينبغي أن يقتربوا إلى الله بمعرفة كاملة عن من هو الله، وما هي طبيعته؟. "الله روح" وبالحياة الجديدة التي ننالها بالولادة من الله (يو3: 5-8) يمكن للساجد أن يقترب من الله بطريقة روحية. ثانيا: سجود بالحق: مكتوب "الرب قريب لكل الذين يدعونه. الذين يدعونه بالحق" (مز145: 18). الرب لا يخدع أبدا فهو يعرف من هو الذي يطلبه، وماذا يطلب منه، ولماذا يطلب؟. "الناموس بموسى أعطي أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا" (يو1: 17). فنحن نقترب إلى الله من خلال النعمة ونعبد بالحق ونتكلم بالروح لأن الله روح. لقد أعلن الرب يسوع لنا المفهوم الصحيح للسجود والساجدين الحقيقيين، الأمر الذي يجهله الكثيرون لا من الذين لم يختبروا خلاص المسيح فقط بل يجهله أيضا كثير من المؤمنين المخلصين. فالسجود ليس هو ذكاء الإنسان أو خلفية علمية أو دينية، لكنها مسألة نعمة من الله. إن كل عطايا الله لنا هي من دافع محبته الشديدة لنا ومن غنى نعمته. إنها نعمة في الخلاص وأيضا نعمة في فهم الحق لأن "...مخلصنا الله يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون" (1تي2: 4و5). لا يكتفي بالخطوة الأولى "يريد أن جميع الناس يخلصون"، بل ويتقدم للأمام في الثانية "وإلى معرفة الحق يقبلون". لقد قال الرب للمرأة "يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب...ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون..." (يو4: 21-23). لنلاحظ أن عبارة "تأتي ساعة" ذكرت مرتين في هذه العبارة، وكلمة "الآن" تعبر عن إعلان جديد لم يعلن من قبل، يعلن لأول مرة لامرأة خاطئة. لقد تكلمت المرأة عن الآباء وسجودهم "آباؤنا سجدوا في هذا الجبل"، لكن ماذا ينفع سجود الآباء أولئك الأبناء؟. كم من أناس حتى الآن يفتخرون بالآباء ولكن ماذا عنهم؟للأسف هذه النغمة متوفرة في المسيحية، لكن الرب يسوع قال لها "يا امرأة" إنها كلمة احترام وتوقير، لقد قالها لأمه في عرس قانا الجليل "ما لي ولك يا امرأة" (يو2: 4) وهنا قالها للمرأة السامرية. إنها أدبيات سامية وراقية يجب أن نتعلمها من الرب يسوع. "تأتي ساعة" إنها ساعة النعمة في الوقت الحاضر. السجود اليهودي طبقا لما هو معلن، فهو سجود بالحق لكن ليس بالروح، فهو سجود طقسي جسدي. أما سجود السامريون لا بالروح ولا بالحق، لكن السجود الآن فهو بالروح والحق لذلك يقول عنهم الساجدون الحقيقيون. الآب طالب ساجدين وليس سجود، فهو لا يفرح بما نقوله وما نقدمه من ذبائح قدر ما يفرح بنا نحن الساجدين الذين نتقيه ونخافه في داخل وخارج اجتماعاتنا. إذا رجعنا إلى المزمور المئة والثالث نجد في العددين الأولين نوعين من مباركة الله. في العدد الأول نرى السجود لله لأجل ما هو في ذاته "باركي يا نفسي الرب وكل ما في باطني ليبارك اسمه القدوس" ثم يأتي الشكر "باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته" وفي الأعداد التالية يعدد الحسنات. النعمة التي تخلص الخطاة وتكسو العاري وتبرر الفاجر الأثيم والتي تعطي للأموات بالذنوب والخطايا حياة أبدية والتي تعطي العطشان من ينبوع ماء الحياة مجانا هي ذاتها التي توجد الساجدين للآب. لقد تكلم الرب يسوع مع المرأة عن السجود الحقيقي. إنه تعليم جديد بالنسبة لها. إنه تكلم خلاف ما تعلمته وما يعلم به اليهود "لا في هذا الجبل ولا في أورشليم". تعلمت عن السجود المسيحي بالروح والحق. السجود بالروح بالمقارنة بالسجود الطقسي في العهد القديم، والسجود بالحق بالمقارنة بالسجود المزيف الذي في السامرة، فهم يسجدون لما لا يعلمون، فهم لا يعرفون الله ولا خلاصه ولا يعرفون المخلص. فأساس السجود هو "لأن الخلاص من اليهود" فهو يكلمها عن نفسه، فهو هذا الخلاص. لما دخلت أمه به إلى الهيكل وهو بعد طفل، أخذه سمعان الرجل البار على ذراعيه وبارك الله وقال "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عينيّ قد أبصرتا خلاصك..." (لو2: 29و30). وقال عنه المعمدان "ويبصر كل بشر خلاص الله" (لو3: 6). فهو الخلاص وفيه ومنه الخلاص. وكأنه يقول للمرأة أنا أمامك هو الخلاص والمخلص وبالتالي تعرفين السجود الحقيقي. لقد وردت كلمة "ينبغي" في الأصحاحين الثالث والرابع من إنجيل يوحنا أربع مرات كالآتي:- 1- "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يو3: 7) وهذا يتم بعمل الروح القدس في النفس البشرية "المولود من الروح هو الروح" (يو3: 6). 2- "...هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان" (يو3: 14) وهذا يختص بأقنوم الابن بأنه لابد أن يرفع على الصليب لكي يعطي الخلاص والحياة الأبدية. 3- "وكان لابد له أن يجتاز السامرة" ليتعامل مع النفس ويرجعها إليه ويعمل بنعمته فيها. 4- "الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 24). وهذه تختص بالآب الذي يطلب ساجدين حقيقيين. مما سبق يتضح لنا الترتيب الرائع، فنرى الولادة الجديدة والخلاص المؤسس على موت الرب يسوع ثم السجود الحقيقي. فلا يمكن أن يكون سجود حقيقي إلا بعد أن يولد الإنسان من الله ولادة جديدة. كل ما يقدمه المولود من الله من سجود وعطايا وعبادة وتسبيح وكل ما يقدمه من خدمة روحية ومادية لله مقبول لأنه نابع من عمل الروح القدس في قلب مغتسل بالدم. في الأربع مرات التي ذكرت فيها كلمة "ينبغي" نرى الله في ثالوث أقانيمه وعمل كل أقنوم في الإنسان ولأجل الإنسان. فالولادة هي من الروح القدس، والفداء والتعامل مع النفس تممه الابن والآب طالب ساجدين حقيقيين. لقد أعلن الرب يسوع للمرأة السامرية طابع السجود والساجدين وكيفية السجود بالروح والحق. سجود بالحق أي بالتوافق مع ما أعلنه الله عن نفسه (أف1: 17) وأن المؤمن باعتباره ابن يقف أمام أبيه. فالمؤمنون الحقيقيون لا يعرفون الله باعتباره الرب يهوه فقط، بل باعتباره إلههم وأبيهم أيضا، ولذلك لهم روح التبني (غلا4: 6). لقد سأل بيلاطس الرب يسوع قائلا: "ما هو الحق"؟ إنه لم يعرف أن الشخص الواقف أمامه للمحاكمة هو الحق. إن الحق هو ما قد أعلنه الله عن ذاته، والابن هو الذي أعلن الله. نبذة مختصرة عن السجود السجود ليس هو سماع عظة، أو خدمة تقدم للآخرين أو شهادة عن نعمة الله المخلصة وليس هو الكرازة بالإنجيل أو خدمة التعليم أو الصلاة. الفرق بين الخدمة والسجود: هو أن الخدمة هي ما يقدم إلينا من الآب بواسطة الابن في قوة الروح القدس مستخدما مؤمنين أعطاهم الله مواهب لهذا الغرض، ولكن السجود هو ما يقدم من المؤمن متجها إلى فوق، إلى الآب بقوة الروح القدس وبواسطة الابن. الفرق بين الصلاة والشكر والسجود: الصلاة هي انشغال النفس بما تحتاج، والشكر هو انشغال النفس بما أخذت من بركات، أما السجود هو انشغال النفس بالله نفسه. يمكن أن نصلي ونشكر ونسجد في وقت واحد، ولكن ليس هذا يعني أن الصلاة والشكر هما سجود. · قالوا عن السجود: 1- فيضان القلب الشاكر تحت تأثير نعمة إلهية وهو شيء تلقائي ينبع من الداخل ويفيض من قلب مملوء إحساسا بعظمة الله وإحسانه (مز45: 1). 2- سكيب النفس المستريحة في محضر الله، بمعنى أن الساجد مدرك ومستمتع بيقين قبوله الكامل أمام الله بيسوع المسيح. 3- انشغال القلب لا بحاجاته ولا حتى ببركاته ولكن بالله ذاته. 4- تفجر قلب قد عرف الآب كالمعطي والابن كالمخلص والروح القدس كالساكن الكريم. 5- هو التفاعل الداخلي للطبيعة الجديدة في علاقة سامية مع الله نتيجة التمتع بالفداء. إسرائيل لم يعبدوا الرب في مصر التي لم يوجد فيها إلا الأنين والصراخ والمذلة (خر2: 23و24). لم يعبدوا الرب إلا بعد أن عبروا بحر سوف "حينئذ رنم موسى وبنو إسرائيل هذه التسبيحة للرب وقالوا. أرنم للرب" (خر15: 1). لنلاحظ أن هذه ترنيمة المفديين. إن التعبير عن الفداء لم يرد في هذا السفر حتى نصل إلى هذا الأصحاح (خر15: 13). لا يمكن أن يقدم السجود إلا من المولودين من الله، فهؤلاء يمكنهم أن يقدموا سجودا لله، سجودا روحيا وعقليا بالابن وبقوة الروح القدس. وقد استخدم الرب يسوع عبارة "الماء الحي" لكي يصف الحياة التي يمنحها لكل من يؤمن به (يو4: 13) هذا الماء الحي يدخل إلى المؤمن بالولادة الجديدة (يو3: 5) وينبع به بالسجود (يو4: 14) ويفيض فيه في الخدمة (يو7: 37-39). كلمة سجود مترجمة من كلمة يونانية (بروسكنيو) لها عدة معاني منها: تقديم الاحترام، يجثو، يسقط على وجهه، يجثو لله، يسجد (مت2: 2و11، 4: 10) أول مرة ذكرت كلمة سجود في الكتاب المقدس وردت في سفر التكوين، قالها إبراهيم لغلاميه اللذين رافقاه مع اسحق ابنه إلى جبل المريا (تك22: 5). السجود ليس شيئا رخيصا حتى يقدم بلا تفكير أو بلا مبالاة، ودون إدراك بأنه يتضمن التضحية والبذل. فالسجود هو تقديم أغلى وأفضل ما نملك لله، ليس اسحق فقط بل وأكثر. لقد تحدث الرب يسوع مع المرأة السامرية عن السجود في نقاط محددة منها:- 1- مكان السجود: لقد قال لها "لا في هذا الجبل (المكان الذي كان يسجد فيه السامريون) ولا في أورشليم (المكان الذي يسجد فيه اليهود) تسجدون للآب". بمعنى آخر لم يعد السجود محددا بمكان معين على الأرض، مهما كان تاريخه عظيما، ومهما كانت مبانيه فخمة. فبالرغم من أن خيمة الاجتماع في البرية، وهيكل سليمان في أورشليم قد أقيما بموجب أمر إلهي، ونظام العبادة مرتب من الله، والموافقة من الله كانت بحلول السحابة، إلا أن الله قد استغنى عنهما لأنهما لم يكونا سوى أشباه وظلال للحقيقية لابن الله المتجسد (خر40: 34، 1مل8: 10و11، عب9: 22و28). فالله لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي (أع17: 42). "فبيته نحن" وهو يسكن في وسط اجتماعات قديسيه في أي مكان يجتمعون فيه باسم الرب يسوع (مت18: 20، عب3: 6). 2- هدف السجود: "الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب" (يو4: 22). عندما ظهر الرب يهوه لشعبه في العهد القديم بقداسته وجلاله ومجده وقدرته وعدالته في سيناء امتلأوا خوفا وخشية. وبينما هم وقوف من بعيد يرتعشون قالوا لموسى "تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت...أما موسى فاقترب إلى الضباب حيث كان الله" (خر20: 19و21). وهنا نرى الله وهو يعطي الناموس الذي هو مطالب قداسته العادلة وكأنه على بعد ساكنا في الضباب ومنشأ خوف في قلوب بني إسرائيل. بمقارنة الكلام السابق بما قد أعلنه المسيح عن هدف السجود المسيحي، إنه الآب، وهو نفس الإله الذي ظهر في سيناء لشعبه القديم، لأنه الله غير المتغير، وهو لازال القدوس البار العادل كما كان دائما ولا يزال من الأزل وإلى الأبد. لكنه الآن معلن بواسطة ابنه الحبيب، وفي صورة مختلفة باعتباره الآب، وهي كلمة تدل على القرب والإعزاز والعاطفة والحنان وطول الأناة والاحتمال والعطاء والنعمة غير المحدودة. الخليقة تعلن قدرة الله الأزلية وحكمته (رو1: 20). والناموس يعلن عن قداسة الله وبره وعدله وحقه (خر20: 1-17). لكن الرب يسوع أظهر وأعلن لنا قلب الله، القلب الممتلئ بالمحبة التي لا تحد بحدود والتي اتجهت إلى الذين لم يكونوا مستحقين لها. يجب أن يتذكر كل مؤمن بأنه أعطي من أبيه السماوي أن يأتي ليقدم السجود. 3- علاقة الساجد: إن الساجدين الحقيقيين يسجدون للآب، فهؤلاء هم أولاد الله، ولدوا منه روحيا، وهم كهنة لله، ولهم الكهنوت المقدس لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح، وأيضا لهم الكهنوت الملوكي ليخبروا بفضائل من دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب (1بط2: 5و9). بعمل الروح القدس يولد الإنسان ولادة جديدة فيصير شريك الطبيعة الإلهية، ويصير واحد من عائلة الله، فلا غرابة إذ يمتلئ قلبه بالحمد والفرح (1يو3: 1، 2بط1: 4). لم يعد الأمر كما كان مع الشعب القديم مجرد عبادة وطنية لشعب أرضي، لكنه السجود الفردي لأولاد الله المولودون منه "بالإيمان بالمسيح يسوع" (غلا3: 22، يو1: 12). 4- صفة السجود: لابد أن يكون السجود بالروح والحق (يو4: 24) فهو سجود روحي وليس مادي مرئي كما كان في العهد القديم الذي قام على أساس تقديم الذبائح بواسطة كهنة بشر، لكن الآن سجود روحي بواسطة الروح القدس ورئيس الكهنة العظيم ربنا يسوع المسيح الذي "أكمل إلى الأبد المقدسين". الذي وإن كان قد مات لكنه قد قام وهو حي "بقوة حياة لا تزول"، ومن ثم له "كهنوت لا يزول" (عب7: 23-27). لقد انتهى كهنوت هرون بكل طقوسه وذبائحه عند الصليب، والحجاب المشقوق يعلن بشهادة واضحة عن ذلك. فالشيء الذي أبعد البشر عن محضر الله انتهى بذبيحة المسيح الذي "أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عب9: 26). فلم يعد السجود شيئا يقدم باليد بل بالقلب وللقلب. "ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح". 5- وقت السجود: "ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب" (يو4: 23). كان سجود الشعب القديم محددا بمناسبات ومواسم وأعياد وأماكن، ويظهر يوم السبت بوضوح في مجد عبادتهم. لكن هنا يوضح الرب يسوع أن السجود لم يعد مرتبط بأيام وشهور وأوقات وسنين، لأن هذه الأمور ترتبط بعهد الناموس (غلا4: 10). والعهد الجديد لا يعطي يوما مقدسا أكثر من يوم آخر، ولم يعد السجود محددا بيوم في الأسبوع أو بوقت معين في يوم ما، فللمؤمن الحق أن يقدم السجود للآب في أي وقت وفي أي يوم. 6- القوة على السجود: "الذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" (يو4: 24). كل خاطئ يثق في المسيح بأنه مخلصه الوحيد ويقبل عمله الكفاري الذي تممه بموته على الصليب، يسكن فيه الروح القدس الذي يختمه إلى يوم الفداء (أف1: 13، 4: 30). والروح القدس يعطي المؤمن قدرة على تقديم السجود للآب وللابن سجودا قلبيا وعقليا بوقار وبإخلاص. ومن هنا نستطيع أن نقول أنه يوجد أمران ضروريان للسجود وهما كلمة الله التي في أيدينا وروح الله الذي في قلوبنا الذي ينبغي أن نمتلئ منه (أف5: 18). 7- أهمية السجود: "الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين" فأهمية السجود نجدها في رغبة الآب في طلب الساجدين الذين يسجدون له بالروح والحق. لقد كان اليهودي العابد يذهب إلى أورشليم طالبا يهوه، لكن الآن في زمن النعمة الآب يطلب الساجدين الحقيقيين. لذلك يجب أن نسجد له ولنتذكر دائما أن:- - الله نور: لذلك يجب أن نكون صادقين. (1يو1: 5) - الله محبة: لذلك يجب أن نكون أمناء. (1يو4: 8و16) - الله نار: لذلك يجب أن نكون على حذر. (عب12: 29) - الله روح: لذلك يجب أن نكون مخلصين. (يو4: 24) سؤال جائز: رب سائل يسأل هل نسجد للآب ولا نقدم السجود للابن؟ والجواب على هذا السؤال هو أنه يجب أن نسجد للآب وللابن أيضا بالروح القدس. أولا: ينبغي أن نسجد للآب بسبب: 1- ما هو: والعهد الجديد يعلن عن الآب في عدة صور:- - الآب القدوس (يو17: 16) فهو يحب البر ويكره الإثم (عب1: 9). - الآب البار (يو17: 25) ويعنى ببر الله كماله وتوافق صفاته. - أبو المجد (أف1: 17) والمجد هو السمو المعلن الذي أعلنه لنا الله في ابنه، ودونه لنا الروح القدس في الكتاب المقدس (2كو4: 6). - أبو الأنوار (يع1: 17) فالله نور (1يو1: 5، أف5: 13) لذلك كل شيء "مكشوف وعريان" لأنه "معروف عند الله كل أعماله منذ تأسيس العالم" (عب4: 13). - أبو الرأفة (2كو1: 3) وهو إله كل تعزية وهو يترأف على خائفيه (مز103: 13) فهو يعرف ضعف شعبه وما يخيفهم وحاجتهم دائما للنعمة المقوية والمشجعة. - أبو الكل (أف4: 6) وهذا لا يعني أبوة الله لكل البشر وأن كل الناس أولاده، لكن كل المؤمنين لهم "إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم". - أبو ربنا يسوع المسيح (2كو1: 3، أف1: 3، 1بط1: 3) فهو ليس أبا للعائلة المفدية كلها فقط لكنه أيضا أبو ربنا يسوع المسيح المكتوب عنه "الابن الوحيد" أي الفريد الوحيد من نوعه. 2- ما عمله فهو: - قد أحبنا (يو3: 16) محبة أبدية (إر31: 3) ومعلنة (رو5: 8) وظاهرة (1يو4: 9) وممنوحة (1يو3: 1) ويؤمن بها (1يو4: 16) ومبادرة (1يو4: 9) ولا انفصال عنها (رو8: 38و39) - قد قدم أغلى ما عنده، ابنه الوحيد، العطية التي لا يعبر عنها (1يو4: 4و14). - قد اختارنا في المسيح (أف1: 3و4). - قد خلصنا بنعمته (كو1: 12و13). - قد باركنا بكل بركاته (أف1: 3). - قد جعلنا أولاده (يو1: 12، 2كو6: 18، كو1: 21، 1يو3: 1) وبالتالي ندعوه "أبا الآب" (رو8: 15). - أعطانا إمكانية السجود له (يو4: 23و24). ثانيا: ينبغي أن نسجد للابن (عب1: 6، رؤ5: 8و13، في2: 10) ينبغي لنا أن ندرك أن كل أقنوم في ذات الله له كل الألوهية ومساو للآخر في كل شيء. لذلك توجد أدلة كثيرة تؤكد السجود للابن منها: · الآب أصدر مرسوما يقول فيه "ولتسجد له كل ملائكة الله" · وفي حياته على الأرض كابن الإنسان قبل السجود من الناس: وهو بعد صبي صغير (مت2: 11)، وأثناء خدمته (مت8: 2، 9: 18، 14: 33، 15: 25، مر5: 6، يو9: 28) وعند قيامته (مت28: 9و17) وعند صعوده (لو24: 52) وهو الآن يقبل السجود في السماء (رؤ5: 9و10و12و13) وأعلن أنه سيقبل السجود في المستقبل (في2: 10). وتحدث عن كرامته المساوية لكرامة الآب (يو5: 23، قارن يو14: 10و11). ونسجد للابن بسبب: 1- ما هو: - إنه ابن الله وبهذا الصورة هو مساو للآب (يو1: 1، عب1: 8). - هو خالق كل الأشياء (كو1: 8و16، يو1: 3) - هو المعلن للآب (يو1: 18، 14: 11، عب1: 3). 2- بسبب ما عمله: - تجسده (1تي3: 16، إش9: 6). - قداسته وطاعته الكاملة (يو17: 4، مت3: 17، يو8: 29، عب5: 18). - ذبيحته الكفارية لأجلنا (عب2: 9). 3- بسبب ما يعمله الآن: - فهو يدافع ويشفع في شعبه (عب7: 25، 1يو2: 1) - رئيس الكهنة الذي يحضر سجودنا إلى الآب ( عب 8: 1- 3) - رأس الكنيسة التي هي جسده ( أف 1: 22و23، 4: 15و16 ) 4- بسبب ما سوف يفعله في المستقبل: فهو لابد أن يأتي لاختطاف المؤمنين ليكونوا معه كل حين ( أع 1: 10و11، يو14: 1-3، 1تس4: 13-18، 1كو15: 51-58). ********************* المرأة السامرية والمسيا أولا: المرأة السامرية وانتظارها للمسيا "قالت له المرأة أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي. فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء. قال لها يسوع أنا الذي أكلمك هو" (يو14: 25و26). متى دخل الرب يسوع إلى الحياة، ورفعت الخطية التي تحجب الرؤية عن معرفة ابن الله، تنفتح العين لمعرفته. وهذا ما حدث مع المرأة السامرية. فبعد أن كشف الرب يسوع لها ماضيها "كان لك..."، وحاضرها "والذي لك الآن..."، قالت له "يا سيد أرى أنك نبي". لنلاحظ القول "أرى"، لقد استطاعت أن ترى بعد أن فتح الرب قلبها وعينيها الداخلية. لقد سقطت القشور التي كانت تحجب الرؤيا، مثلها مثل شاول الطرسوسي الذي سقطت عنه القشور فأدرك أن المسيح الذي يضطهده هو ابن الله المحب والمخلص. مع ملاحظة الفارق فلقد سقطت من شاول قشور التعصب، أما المرأة السامرية سقطت منها قشور النجاسة والخطيئة. موسى رجل الله بعد أن فتحت عيناه لمعرفة مجد ابن الله، جاء عنه هذا القول "بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون. مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية. حاسبا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة" (عب11: 24-26). لقد كشف الرب يسوع خباياها وأسرارها لذلك قالت له "أرى أنك نبي"، فمتى تحرر الإنسان من الخطية ونير العبودية يستطيع أن يدرك الأمور الحقيقية ويكتشف الأشياء الجوهرية. لقد كان عند المرأة السامرية معرفة عقلية عن المسيا وفي ذات الوقت كانت تعيش في الخطية. وهكذا أيضا إلى الآن في المسيحية كثيرين عندهم معرفة عقلية ذهنية عن الحقائق المسيحية ولكن في باطنهم تعيش الخطية والأمور الشهوانية. لقد قال الرب عن شعبه القديم "هذا الشعب يكرمني بشفتيه أما قلبه فمبتعد بعيدا عني" (إش29: 13، مت15: 8، مر7: 6). وقال أيضا "وللشرير قال الله ما لك تحدث بفرائضي وتحمل عهدي على فمك. وأنت قد أبغضت التأديب وألقيت كلامي خلفك. إذا رأيت سارقا وافقته ومع الزناة نصيبك...هذه صنعت وسكت. ظننت أني مثلك. أوبخك وأصف خطاياك أمام عينيك. افهموا هذا يا أيها الناسون الله لئلا أفترسكم ولا منقذ" (مز50: 16-22). هؤلاء إن لم يتوبوا ويرجعوا إلى الرب بكل قلوبهم، سيأتي اليوم الذي فيه يقولون "يا رب يا رب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا شياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (مت7: 22و23). في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا يعلن عن سبعة أسماء للرب يسوع وهي: الكلمة، الله، النور الحقيقي، الابن الوحيد، حمل الله، المسيا، ابن الإنسان. وفي الأصحاح الرابع قال للمرأة السامرية "إني أنا هو" هو يهوه والمسيا، مشتهى كل الأمم ومشتهى النساء (حجي2: 7، دا11: 38). لقد قالت المرأة للرب "أنت يهودي"، ثم قالت "أرى أنك نبي"، ثم قالت "أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي" هذا هو الذي يرشد إلى الصحيح. في إنجيل يوحنا لم يعلن الرب يسوع ذاته إلا لاثنين فقط مع أنه صاحب الأمجاد. أعلن ذاته باعتباره المسيا لامرأة سامرية نجسة بعد أن تعامل معها وطهرها. وأعلن ذاته باعتباره ابن الله أيضا لأعمى منذ ولادته بعد أن خلق له عيونا من الطين. (يو4: 26، 9: 35-38). عمل النبي ليس معرفة ما هو خفي فقط، لكن أيضا يلمس الضمير وهذا ما عمله الرب يسوع مع المرأة السامرية. إن الرب لم يأت ليدين ولذلك لم يتكلم معها عن الدينونة مع أنه الديان، لكنه أظهر لها نعمة غنية فقد قال لها "لو كنت تعلمين عطية الله"، يا لها من نعمة تفيض بالإحسان وتصل لامرأة بحسب حكم الناموس تستحق الرجم بالحجارة. "الله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم. بل ليخلص به العالم" (يو3: 17). ومن هنا كان لابد أن يتجاوب مع المرأة ويعلن لها أنه المسيا والمسيح مخلص العالم (يو4: 42). لقد كان الرب يسوع ينتقل مع السامرية من إعلان إلى إعلان آخر أسمى. فقد حدثها أولا عن الله الذي يعطي، وعن الابن الذي جاء من السماء متضعا فطلب منها ليشرب، ثم تكلم معها عن الماء الحي بالمقارنة بماء بئر يعقوب، ثم من الينبوع الذي يملأ حياة المؤمن فينبع ويتدفق إلى حياة أبدية، إلى اختبار فيضان هذه الحياة، ثم إلى إعلان شخصه باعتباره الإله العظيم وبه توزن الأعمال، ثم قادها إلى الآب الذي يطلب ساجدين، وأخيرا إلى شخصه باعتباره المسيا مشتهى الإيمان. ثانيا: المرأة السامرية والإخبار بالمسيا "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر16: 15). "فتركت المرأة جرتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت. أ لعل هذا هو المسيح. فخرجوا من المدينة وأتوا إليه" (يو4: 28و29). في وقت حصار السامرة من الآراميين، إنما نتذكر أولئك الرجال الأربعة البرص الذين كانوا خارج المدينة في الوقت الذي كانت فيه محاصرة، وكان من فيها في جوع شديد، لكن جاءهم أولئك البرص يحملون بشرى الخلاص العجيب، ويحدثونهم عن فرار كل الجيوش المحاصرة لهم وعن الطعام والخير (2مل7). وأيضا خادمة مسكينة في بيت نعمان السرياني القائد العظيم، هذه الفتاة المسبية استخدمها الرب لتوصيل الخبر السار لهذا القائد فكانت سبب شفائه من البرص عند أليشع. (2مل7: 3-16، 5: 2و3) وأيضا أكثر تلاميذ الرب كانوا صيادي سمك. إنه يستخدم آنية ضعيفة في ذاتها ليصير فضل القوة لله لا منا. إن طرق الرب تختلف عن طرقنا فهو يستخدم فتى بسيط يرعى غنم أبيه اسمه داود لقتل جليات الجبار (1صم17). ويزود عبد عبراني اسمه دانيال بالحكمة أكثر من المجوس والسحرة الكلدانيين (دا2). وهنا نحن أمام امرأة منبوذة، كانت في نظر مجتمعها أسوأ من أولئك الرجال البرص. كانت نفسها مجدبة، في حالة عطش شديد، لكن التقى بها المخلص وتعامل معها، وعندما أعلن لها عن ذاته بأنه هو المسيح، المسيا، كان هذا الإعلان له تأثيره الشديد على حياتها ففعلت الأمور الآتية:- 1- تركت جرتها. 2- مضت إلى مدينتها وأخبرت عن تغيير حدث لحياتها أجراه المسيا فيها. كانت تشهد أنه "قال لي كل ما فعلت". 3- نادت قائلة "أ لعل هذا هو المسيح" وبمعنى آخر "أليس هذا هو المسيح"؟. عندما كلمها الرب يسوع عن الماء الحي قالت له "لا دلو لك والبئر عميقة"، ولكن عندما أعلن لها عن ذاته أنه هو المسيا وتعرفت به، تركت البئر والمياه التي فيها، والجرة التي تريد أن تملأها، لأنها قد وجدت فيه هو المياه الحية والارتواء الحقيقي. لقد تحولت تماما عن الجرة والبئر والمياه التي فيها ولم تعد مشغولة بها لأن كل مشغوليتها أصبحت بشخص المسيح معطي المياه الحية. إن الشيء الذي ترك تأثيرا عجيبا في هذه المرأة هو أنها في الوقت الذي اكتشفت فيه أن الشخص الذي تقف أمامه هو المسيح وهو الله يهوة، اكتشفت أيضا أنه الله المحب. هذا هو أعظم اكتشاف. إنه لشيء عجيب، أن الله بالرغم من أنه يرى ويعرف ما فينا من إثم وضلال وفساد، لكنه يحبنا محبة شديدة. إنها المحبة التي تتأنى وترفق. إنها المحبة التي تستر كل الذنوب، والتي تحتمل كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء. إنها محبة الله العجيبة. لقد انصهرت تلك النفس من شدة المحبة، فلم تستطع أن تصمت بل ذهبت لتخبر من في المدينة. نعم إن الرب عندما يتلاقى مع النفس الخاطئة يعمل بها عجبا. ربما فكرت هذه المرأة بأن الله بعيد جدا عنها، لا يهتم ولا يبالي بها، لذلك فضلت حياة البعد عنه، وإذ بها تراه يذهب لأجلها باحثا عنها، ويتحدث إليها بكل لطف، ويطرق باب قلبها بكل رقة. عندما أدركت هذه المرأة من هو يسوع ومحبته، تركت جرتها وذهبت لتذيع الخبر دون حرج أو خجل، أخذت تحكي قصتها للجميع. لقد نادت وأخبرت وكثيرون آمنوا من خلال كرازتها. لقد استطاعت بعد الاختبار أن تنادي لكل مدينتها، فأتوا إلى المسيح بسببها. لم تتعلم في إحدى كليات اللاهوت، ولم تدرس الكتاب المقدس باللغات الأصلية التي كتب بها، ولم تتحدث عن ما سمعته من الرب يسوع عن المياه الحية والسجود، ولم تتحدث عن أمور يكثر فيها الجدل، لكنها أعلنت عن اختبارها وعن شخص تعرفت به. إن الحديث عن ما يعمله الرب يسوع فينا وعن شخصه، هو الحديث الذي يحرك القلب ويؤثر في الضمير ويدفع الإنسان ليذهب إليه. مجنون كورة الجدريين بعد أن حرره الرب يسوع من الأرواح الشريرة استطاع أن يخبر بيته وأهله وعشرة مدن (مر5: 19و20). وكذلك الفتاة المسبية التي من السامرة في أيام أليشع، استطاعت أن تشهد لنعمان السرياني، أعظم قائد عسكري في عصره، عن عظمة إلهها وبسببها طهر من برصه. لقد تدرجت المرأة السامرية في معرفتها للرب يسوع. فبعد أن قالت له "أ لعلك أعظم من أبينا يعقوب"، وكل فكرها وحديثها كان عن هذا الماء الموجود في البئر، لكنها لما ارتوت تركت جرتها وذهبت إلى مدينتها تتكلم عن شيء آخر أغلى وأثمن من الماء. لقد خرج السامريون من المدينة وأتوا إلى السيد "وسألوه أن يمكث عندهم، فمكث هناك يومين" وكانت النتيجة "فآمن به من تلك المدينة كثيرون". لنلاحظ لم يقل أن كل المدينة آمنت به. لا يوجد في الكتاب المقدس مغالاة أو مبالغة كاذبة. هناك نفوس مختارة "لأن كثيرون يدعون وقليلون ينتخبون" (مت20: 16). لقد سمعوا من المرأة كلمة الخبر "فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد أنه قال لي كل ما فعلت" (يو4: 39). لكن كان لابد من لمسة تصل إلى القلب، ولا يستطيع أحد أن يجريها إلا الرب يسوع وحده. عندما مكث معهم استطاع أن يلمس قلوبهم فخرجوا بهذا الإيمان والاختبار المجيد "أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم". لقد سمعوا من المرأة السامرية وعرفوا أن هذا الشخص العجيب هو "المسيح"، لكنهم لما أتوا إليه بل ومكث معهم اكتشفوا أنه "المخلص" الذي كانوا يحتاجون إليه. لذلك قالوا للمرأة السامرية "إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن. لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو4: 42) كان من المتوقع أن أهل المدينة بعد أن أتوا إلى الرب يسوع وتمتعوا به، تتغير نظرتهم لهذه المرأة ويتولد فيهم الشعور بالامتنان والشكر لها. هذا شعور طبيعي لكل من آمن بالرب يسوع تجاه من تعرف على الرب من خلاله. حتى أن الرسول بولس ذكر هذا للغلاطيين فقال لهم "لأني أشهد لكم أنه لو أمكن لقلعتم عيونكم وأعطيتموني" (غلا4: 15). لكننا في هذه القصة نسمع من السامريين هذا القول "إننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن"!! إنه من الضروري أن يكون الإيمان مبنيا على علاقة شخصية مع الرب يسوع، لكن هذا لا ينفي فضل الذين استخدمهم الرب في توصيل الرسالة. كان من المفروض أن تقال كلمة شكر لهذه المرأة من هؤلاء القوم، لكن رغم قبولهم للرب يسوع وإيمانهم به لم تتغير نظرتهم لتلك المرأة. للأسف حتى بعد الإيمان تبقى فينا أمور غير مقبولة وفريسية متعالية وطبقية بغيضة. تبقى فينا نظرة ثابتة بالنسبة للناس فنذكرهم وهم في أسوأ مواقفهم ونذكر لهم عيوبهم وأخطاءهم. يذكر الرب يسوع أنه في أيام نوح كان الناس "يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون" (لو17: 27). ليس في هذا خطأ، فهذه الأمور موجودة في حياة كل البشر، لكن الخطأ هو أن نعيش لنأكل ونشرب. لقد كان طابع الحياة في أيام نوح هو الأكل والشرب والزواج، كلها لإشباع حواس جسدية حسية. ولكون الإنسان كل مشغوليته في هذه الأمور فهذه هي الخطية. لكن المرأة السامرية لما ارتوت روحيا تركت جرتها. لقد كانت خجلة لأنها جاءت في وقت غير مناسب، لكن بعد خلاصها لم تخبئ خطاياها بل قالت لأهل المدينة "هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت. أ لعل هذا هو المسيح. فخرجوا من المدينة وأتوا إليه". في مطلع حديث الرب مع المرأة السامرية قال لها "اذهبي وأدعي زوجك وتعالي إلى ههنا". لقد أجابت المرأة على الرب بخصوص الزوج إذ قالت "ليس لي زوج" لكن بقي شيء واحد وهو "وتعالي إلى ههنا" وها هي قد أتت، لا مع من هو ليس زوجها، بل مع أهل مدينتها. إنها لم تقل لهم "اذهبوا وانظروا" بل "هلموا (معي) انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت". لقد اعترفت بأنها فعلت، وأهل المدينة قد أتوا إليه ليروا كيف توصل إلى أسرارها وأعماق حياتها الخاصة. إنه يعرف عنها كل شيء، إنه المسيح الذي يعلم ويخبر بكل شيء. في كرازة المرأة لمدينتها نرى نموذجا رائعا للشهادة والكرازة بصورة صحيحة. لقد كانت هناك خطوات ثلاثة لإيمان أولئك السامريين:- 1- الشهادة والكرازة: وهذه الخطوة تتطلب شخص يأخذ هذا الدور. وهذا ما فعلته المرأة السامرية. فكما يقول الوحي المبارك "فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بلا كارز؟..." (رو10: 14و15). ومن هنا نلاحظ أن رسالة الإنجيل يجب أن تصل للنفوس عن طريقنا نحن المؤمنين. إن المرأة دعمت شهادتها لا بدراسات لاهوتية ولا بنظريات فلسفية بل باختبارها الشخصي من قلب مختبر ونفس قد ذاقت حلاوة الخلاص. 2- الرغبة والتشوق: وهذا ما فعله السامريون. لقد أعلنت المرأة لهم لمحة من جلاله وأمجاده، فإذ بهم يشتاقون إلى التعرف عليه أكثر فأكثر فأتوا إليه وطلبوا منه أن يمكث معهم فمكث يومين. 3- تسليم الحياة بجملتها للرب: لقد اكتشف السامريون في المسيح مخلصا للعالم لذلك آمن به كثيرون منهم. لم يترك الرب المرأة إلا بعد أن اعترفت بخطاياها ومنحها الخلاص، وغير حياتها. نتيجة لذلك تركت جرتها ومضت لتخبر في مدينتها. فالإخبار يأتي بعد التغيير. لقد حاصرها الرب بمحبته ورحمته ونعمته فغيرها، فصارت من امرأة خاطئة وبائسة إلى امرأة شاهدة عن نعمته ومحبته ورحمته وشخصه المجيد. لقد حولها من امرأة تجري وراء الشهوات والملذات العالمية إلى امرأة جديدة تجري وراء النفوس لتخبرهم عن محبة وخلاص الرب يسوع. لقد تلاشى عار الخطية وخجلها وواجهت الناس ولم تعد مكسوفة من ماضيها بل مختبرة وشاهدة عن كيف حررها المسيح. إنها مبشرة رائعة انطلقت ببساطة لتتكلم عن اختبارها وكيف تعامل المسيح معها. لقد صدقوا ما قالته وخرجوا إلى الرب يسوع. لقد مضت إلى المدينة لا لتفعل الخطيئة بل لتخبر بالمسيا. لقد تركت جرتها ومضت وهنا نرى التوبة مع ترك الخطيئة. ليسأل القارئ العزيز نفسه هل عندما رجع إلى الرب ترك الجرة التي كان يشرب منها؟ هل ترك الخطيئة المحببة وغيرها وذهب ليخبر الآخرين بالمسيح؟. لقد أمر الرب يسوع التلاميذ أن يذهبوا إلى العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مر16: 15). ولقد قال الرب يسوع للرجل الذي كان مجنونا بعد أن حرره "اذهب إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم كم صنع الرب بك ورحمك. فمضى وابتدأ ينادي في العشر المدن كم صنع به يسوع..."(مر5: 19و20). لقد ذهب وأخبر باختباره الحي في دوائر حددها الرب يسوع له "في بيته، وأهله ثم العشر المدن". أما المرأة السامرية فاقت عنهم، فذهبت وأخبرت كل المدينة دون أن يطلب الرب يسوع منها ذلك والسبب لأنها أحبت الرب يسوع من كل قلبها. يا له من إيمان حي عامل بالمحبة يحولها من امرأة شريرة إلى قديسة، ومن امرأة تجري وراء الشر والنجاسة إلى امرأة تجري لنقل الأخبار السارة لكل مكان في مدينتها. الرجل الذي كان أبرص بعد أن طهره الرب قال له"لا تقل لأحد شيئا" لكنه ذهب وخبر (مر1: 44و45) وهنا نسأل ماذا عني وعنك عزيزي القارئ؟. لقد قالت المرأة السامرية للناس "هلموا انظروا..."، وقال الرب يسوع لأندراوس والتلميذ الذي كان معه عندما سألاه أين يمكث "تعاليا وانظرا" (يو1: 39) وقال فيلبس لنثنائيل عندما أخبره عن المسيح "تعال وانظر" (يو1: 46). وماذا نحن نقول للناس؟. لم يضع الرب يسوع أمامها قوانين معينة مثل: لا تذهبي للرجل الذي ليس هو لك، أو صومي وصلي وغيرها من النصائح. ومع أنه لم يقل لها شيء من مثل ذلك، لكنها ذهبت لتخبر كل مدينتها بقوة المسيح الداخلية التي امتلكتها وبعمل النعمة الواضح فيها. لقد فعلت كل شيء تلقائيا شهادة للرب وحبا له. ذهبت لتبشر بإيمان حي. لم تكن المرأة ذو معرفة روحية، لكننا نرى غيرتها وشهادتها، والرب استخدم هذه الشهادة البسيطة وجاء كثير من الناس عند البئر ليروا يسوع. لقد تركت جرتها عند البئر عندما أسرعت إلى المدينة وذلك لأنها:- 1- حصلت على الماء الحي في داخلها. وأصبحت مكتفية به. 2- ربما لأنها كانت تنوي الرجوع مرة أخرى إلى الرب لتقدم له خدماتها. 3- ربما كانت تفكر أن الرب يسوع والتلاميذ قد يحتاجون إلى الماء ليرووا ظمأهم لذلك تركتها لهم. 4- تركتها حتى لا تعوقها في الذهاب إلى المدينة لتخبر الناس عن المسيح. 5- تركت جرتها كعربون على عودتها، ليس فقط للماء الطبيعي ولكن أيضا لتأخذ من المزيد من الماء الحي الذي وجدته في المسيح. ********************* الطعام المشبع والحصاد أولا: الطعام المشبع لقد ذهب تلاميذ الرب يسوع إلى المدينة "ليبتاعوا طعاما" وعادوا إليه بعد إتمام هذه المهمة، ووجدوا سيدهم يتكلم مع امرأة سامرية، لقد تعجبوا من هذا، لكن لم يقل أحدا ماذا تتطلب أو لماذا تتكلم معها. وذلك لأنهم سمعوا المخلص يعلن عن ذاته للمرأة بالقول "أنا... هو" ع26. إن هيبة الرب وقعة عليهم والنعمة أيضا حققت الانتصار المجيد في خلاص هذه السامرية الشريرة. لقد انتقلت من الظلمة إلى نور الله العجيب، ونتيجة لذلك مضت لتخبر الآخرين بالأخبار السارة التي وصلت إلى قلبها. في هذا الوقت الذي فيه مضت لتخبر تركت الرب والتلاميذ لوحدهم. لقد عادوا إلى الرب في الوقت الذي فيه قد أنهى الرب الحديث مع المرأة، ورأوا التأثير الواضح على المرأة نتيجة حديثه معها. لقد رأوا شيئا مخالفا للعادات والتقاليد اليهودية بأن "اليهود لا يعاملون السامريين". لقد رأوا أن ابن الله قد أتى إلى العالم في محبة عجيبة، مملوءا نعمة وحقا، وأن هذه الأخبار السارة يجب أن تنقل إلى كل العالم. إن هذا الدرس كان صعبا على التلاميذ باعتبارهم يهود، لكن الرب في صبره غير المحدود غير مفاهيمهم تماما. لقد ترك التلاميذ سيدهم جالسا على البئر متعبا من الرحلة الطويلة وكان في جوع وعطش، ومضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاما. وعندما رجعوا لم يجدوه منزعجا أو في إعياء، بل في غاية القوة والانتعاش. لقد وجد ما ينعشه من طعام هم لا يعرفوه. لقد وضعوا أمامه ما قد اشتروه ودعوه ليأكل "وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين يا معلم كل. فقال لهم أنا لي طعاما لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو4: 31و32) لم يقصد الرب بهذه العبارة توبيخهم بل كان يريد تنويرهم أكثر. لقد كان كل تفكيرهم في الأمور المادية لكن الرب تكلم معهم عن الأشياء الروحية. لقد تكلم مع المرأة عن الماء الذي يروي، وتكلم مع التلاميذ عن الطعام المشبع، لكن لا المرأة فهمت ماذا يريد أن يقول ولا التلاميذ أيضا فكل كان محور تفكيره في الماديات وليس الروحيات. إن كلمة "طعام" استخدمها كتعبير تصويري للطعام الذي أشبع قلبه وأنعش روحه. إنه طعام "لم يعرفه" تلاميذه. لقد اكتشفوا أن الذي يعطي عطايا الله هو نفسه أيضا يأخذ، ففي منحه البركات للآخرين هو نفسه يبارك. إن السلام والفرح من ضمن المكافآت التي تأتي إلى من يعمل مشيئة الله. الخادم المطيع يمتلك "طعام ليأكل". إن هذا الشيء من ضمن أساسيات الخدمة التي يريد الرب أن يعلمها للتلاميذ. "فقال التلاميذ بعضهم لبعض أ لعل أحد أتاه بشيء ليأكل" ع33. إن قولهم هذا يؤكد عدم إدراكهم للأمور الروحية، وأن كل مشغولية عقولهم بالأمور المادية أكثر من أمور الله. لقد عرفوا القليل جدا عن علاقة المسيح بالآب، لذلك تحول كل تفكيرهم إلى السؤال من هو الذي أتى بالطعام إليه ليأكل؟. إن هذا الأمر يجهله الإنسان تماما إلى أن يتعلم من الله. لقد أعلن الرب لهم عن طعامه فقال لهم "طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله" (يو4: 34). وهنا نسأل ماذا يعني الرب بهذا القول؟ وماذا يرمي القول "أعمل مشيئة الذي أرسلني" هو طعام له؟ وما هو عمل الآب؟ وكيف يكمل المسيح هذا العمل؟. إن الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب منا تفكير في قول الرب في العدد السابق بالارتباط بالأعداد التي قبلها. ربما وضع الرب كل هذه الأمور أمام تلاميذه ليعرفهم الأساس الصحيح للخدمة الصحيحة ومن ضمنها الطاعة الكاملة المطلقة لله في كل شيء. العبد لابد أن يعمل مشيئة سيده. لقد أعطى الرب يسوع نفسه مثالا ونموذجا رائعا. لم يقل الرب يسوع في العدد السابق "طعامي أن أعمل مشيئة الآب"، بل قال "أعمل مشيئة الذي أرسلني" وهذا التعبير يوضح لنا خدمته في روعة جمالها. وهنا نسأل ما هي "المشيئة" التي لأجلها أرسل ابن الله إلى العالم؟ إنها تحرير الذين استعبدهم إبليس من قبضة يده ونقلهم من الموت إلى الحياة. وهذا ما نراه معلنا في قول الرب يسوع "لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئا بل أقيمه في اليوم الأخير. لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يو6: 38-40). هذه الأعداد تساعدنا لنعرف عمل الآب وإتمام عمله. إن مشيئة الآب هي في أن كل ما أعطي للابن لابد أن يحفظه، وعمله "لأن الله لم يجعلنا للغضب بل لاقتناء الخلاص بربنا يسوع المسيح" (1تس5: 9) وأيضا "...إن الله اختاركم من البدء للخلاص" (2تس2: 13) هذا يوضح لنا عمل الآب "عيننا واختارنا". أما الحفظ لهؤلاء المعينين المختارين هو عمل الابن، وفي حفظه لهم يتمم عمل الآب. إن عمل مشيئة الله فيه الجوع وفيه الشبع، فيه التعب وفيه الراحة، فيه الألم والمهانة وفيه المجد والرفعة. في إتمام مشيئة الله يتبدد التعب ويذهب الشعور بالجوع والعطش. عندما سمع التلاميذ من الرب يسوع "لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" نظروا بعضهم لبعض متسائلين عن من أتى له بطعام، وهم قد تركوه وحده عند البئر، وعندما رجعوا رأوه مع تلك المرأة التي لا يفوح منها إلا رائحة الخطية والنجاسة. لكن تلك المرأة كانت هي سبب شبعه وارتواءه. لقد أكل وشرب وطاب قلبه لأن هذه المرأة تعرفت به وشربت وارتوت منه. لقد ذهب مرة إلى بيت سمعان الفريسي الذي دعاه لبيته ليأكل معه واتكأ هناك، لكن لم يذكر عنه أنه أكل من طعام سمعان الفريسي، لكنه أعطى فرصة لامرأة خاطئة تأتي إليه من ورائه باكية وتبل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب. وقد شبع الرب وطابت نفسه. إن طعامه هو عمل مشيئة الذي أرسله ويتمم عمله. إن الرب يسوع هو الشخص الوحيد الذي لم يقم بعمل إرادته بل كان يتمم في حياته خطوة فخطوة مشيئة الآب (يو5: 36، 17: 4، 10: 18، 6: 38). الأعداد من(31-38) نقطة تحول في الحديث من استكمال قصة المرأة السامرية إلى الحديث مع التلاميذ. هذا كان في الوقت الذي تركت فيه المرأة البئر حتى مجيئها مع السامريين إلى الرب يسوع بسبب شهادتها له. إن رغبة الرب العظمى أن نتمثل بطاعته ونسير تابعين خطواته. لأن في عمل إرادة الله سعادتنا الكاملة وسلامنا الحقيقي وقوتنا وانتصارنا. ثانيا: الزارع والحاصد لقد قال الرب للتلاميذ "أما تقولون أنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد." هذه هي حسابات البشر الذين يعتقدون أنها لا يمكن أن تخطئ أو تتغير. فلا يمكن أن يكون الحصاد عندما نكون في منتصف الشتاء. وبالمثل ما أبعد الحصاد عندما نتعامل مع امرأة خاطئة لها صيتها الذائع في الشر والنجاسة في كل مدينتها. نحن نظن أن مشيئة الله تتحقق بسهولة ويسر عندما نتعامل مع الصالحين، ومع طبقة الكتبة والفريسيين ونتوقع الحصاد الوفير. لكننا نجد هنا أن نظرة السيد كانت مختلفة لذا قال لتلاميذه مؤكدا "ها أنا أقول لكم ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد" (يو4: 35). يتحدث الرب هنا عن الحصاد وليس عن الزرع، وفي (مت13) نرى الزارع وقد خرج ليزرع، ونفهم من الأصحاح أن الزارع هو ابن الإنسان بينما الحاصدون هم خدام الإنجيل الذين يقول الرب في شأنهم "الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة لحصاده" (مت9: 37و38) لقد استطاع الرب أن يرى الحقول قد ابيضت للحصاد وأن يرى الحصاد الوفير في قلب تلك المرأة الخاطئة. يوجد أثمن من الحصاد الأرضي، العالم يجري وراء الثروات ولكن توجد أثمن من الثروات الأرضية ألا وهي النفوس الغالية على قلب الرب. يجب علينا أن نبذر البذر، وإن كنا لا نعرف كيف تنمو ولا ندري متى يأتي الحصاد لذا فإن "واحدا يزرع وآخر يحصد". إن الله في حكمته يريد أن يشركنا في الحصاد حتى وإن كنا لم نتعب في زرعه. "لكي يفرح الزارع والحاصد معا" (يو4: 36). إن الرب يريدنا أن نختبر دموع الزارع وفرح الحاصد أيضا. لكن ما هو فضل الغارس والزارع والحاصد؟ إن كل مجهوداتهم هي لا شيء أمام عمل النعمة. إن الله وحده هو الذي ينمي "إذا ليس الغارس شيئا ولا الساقي بل الله الذي ينمي" (1كو3: 7). لذلك ونحن في غمرة الفرح الذي يملؤنا في وقت الحصاد يجب أن نتذكر فضل الزارع. "آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم" (يو4: 38). والإشارة هنا تتجه إلى أنبياء العهد القديم ويوحنا المعمدان والرب نفسه والمرأة السامرية في ذهابها إلى مدينتها، أولئك جميعا فتحوا الطريق للتلاميذ ليحصدوا ما لم يتعبوا فيه. شخص واحد بذل العرق والدم لنجني نحن بركات هذا التعب المبارك. هنا ينتفي الافتخار نحن نجني الثمار ونفرح ونبتهج على حساب عمل الرب يسوع. إن الفلاح يلقي بحبات قليلة في حقله، ويرويها ساهرا ويتعب كثيرا لأجلها، حتى إذ حل وقت الحصاد يحق له أن يفرح ويبتهج، لأن موسم الحصاد هو موسم أفراح. وكما يقول صاحب المزمور "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج. الذاهب ذهابا بالبكاء حاملا مبذر الزرع مجيئا يجيء بالترنم حاملا حزمه" (مز126: 5و6). أما في القول "إن واحدا يزرع وآخر يحصد" (يو4: 37) فهو يشير إلى حقيقتين هما: 1- أن تلاميذ الرب يسوع سيحصدون حصادا لم يتعبوا في زرعه ولم يبذلوا مجهودا في بذر بذاره. الزارع هو الرب يسوع ووسيلة الزرع هو صليب المبارك وقوة نعمته وعمل روحه القدوس، والحقل هو العالم كله، أما الحصاد المتكاثر هو نفوس البشر. سيأتي الوقت الذي فيه يخرج تلاميذ الرب للحصاد، إلى أورشليم واليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض ليحصدوا الحصاد الذي لم يتعبوا في زرعه، الزرع الذي زرعه الرب بصليبه ورواه بدمه ولاحظه بقوة حياته. 2- لقد أشار في هذا القول إلى أنه سيأتي الوقت الذي فيه يقوم التلاميذ بدور الزارع، ليحصد غيرهم ما تعبوا فيه. فلقد زرع الرسل والمبشرين والخادمين للرب بذار الكلمة ورووها بدمائهم وبحياتهم، هؤلاء الذين انتهت حياتهم بالاستشهاد. هؤلاء دخلنا على تعبهم ونحصد ما لم نتعب فيه، هذا الشيء الذي يتطلب منا أن نغتنم الفرصة ونحصد لمجد الله ولنلاحظ بينما يقول الروح القدس أن "..رابح النفوس حكيم" (أم11: 30) يقول الله لرابح الفلوس "يا غبي" (لو12: 20). وبالتأمل في الأعداد 31-42 لنا دروسا مستفادة نذكر البعض منها:- 1- المطالب الأساسية للخدمة كما هي واضحة لنا من قصة المرأة السامرية كمثال، هي المقابلة الشخصية مع المسيح وامتلاء القلب به. 2- الروح في كل خدمة يواصل العمل بأمانة موزعا إياها علينا ليوجد لنا الشبع لا في النتائج لكن في معرفة مشيئة الله المعطاة لنا. 3- الإلحاح في الخدمة "الحقول قد ابيضت للحصاد". 4- لنا المشجعات من الله في الخدمة وهذا ما نراه في القول "نجمع ثمر للحياة الأبدية". 5- التبادل في الخدمة والتوافق فيها بين الخدام "واحد يزرع وآخر يحصد"، مشاركة مقدسة بين العاملين الذين يعملون في أنواع الخدم المتنوعة. 6- يوجد تحذير للذين يخدمون في الحصاد وهو أن لا يستكبروا بسبب النجاح بل يجب أن يتذكروا أنهم دخلوا على تعب غيرهم الذين خدموا قبلهم. 7- يجب أن يكون الهدف واضحا أمام العاملين في حقل الرب بأن تجتذب النفوس إلى محضر المسيح لا لأنفسهم. ********************* نتائج إيمان المرأة السامرية "بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي" (يو15: 8). في كل مرة يلتقي الرب يسوع فيها بالنفوس كان يجرى فيها تغييرا عجيبا. لقد التقى بالمرأة الخاطئة الباكية الآتية إليه وهو في بيت سمعان الفريسي فقال لها "مغفورة لك خطاياك...إيمانك قد خلصك اذهبي بسلام" (لو7: 48و50) والتقى بزكا العشار فجعله يقول "ها أنا يا رب أعطي نصف أموالي للمساكين وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف" (لو19: 8). وأيضا التقى بشاول الطرسوسي فمنحه الخلاص. ويقول شاول في اختباره "وأنا الذي كنت قبلا مجدفا ومضطهدا ومفتريا. ولكنني رحمت لأني فعلت بجهل في عدم إيمان" (1تي1: 13-16). لقد تقابل الرب يسوع مع المرأة السامرية فأجرى في حياتها تغييرا عجيبا يمكننا أن نلاحظ نتائجه في حياتها كما يلي:- · امتلأ قلبها بالتضحية: لقد تركت أمور محببة لها لازمتها طيلة حياتها إلى الوقت الذي فيه تقابل الرب معها، مثل العادات والتقاليد التي ورثتها من آبائها، وكذلك الجرة والبئر التي كانت تشرب منها (يو4: 28). لقد تقابل الرب يسوع معها فرواها بالماء الحي وملأ حياتها. فبماذا تصلح الأمور الأولى والجرة والبئر بعد ذلك؟ مثلها مثل بارتيماوس الذي كان أعمى، فلأي شيء يصلح رداءه بعد أن منحه الرب البصر؟ (مر10: 50). وهل يعقل أن النفس بعد أن ترتوي من المياه الحلوة النقية تذهب لتبحث عن المياه الرديئة غير المروية؟. لقد عاد الابن الضال بعد التشرد والجوع والحرمان إلى أبيه فوجد العجل المسمن في انتظاره فهل يفكر بعد ذلك في الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله والذي كان يشتهي أن يملأ بطنه منه؟ (لو15: 11-24). لا يمكن للإنسان أن يضحي بالخطية إلا بعد أن يرتوي من الرب يسوع والروح القدس. وإذ يرتوي لا يترك فقط بل ويحتقر الخطية. · امتلأت حياتها بالغيرة الحسنة: فهي لم تأخذ العطية من الرب وكفى، لكنها مضت إلى المدينة وقالت للناس عما جرى لها ومعها (يو4: 28). فهي تريد كما ارتوت يرتوي الآخرين، وهذا ما حدث بالفعل فلقد ذهبت وخبرت وكانت النتيجة "فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد أنه قال لي كل ما فعلت" (يو4: 39). · امتلأت بالشجاعة: فبعد أن كانت تذهب إلى البئر لتملأ جرتها في وقت الظهيرة حتى لا يراها أحد لأنها خجلة من نفسها بسبب خطاياها وشرها وسمعتها، صارت تجاهر بلا خجل أمام الناس عن ماضيها وحاضرها والتغيير الذي صار لها (يو4: 28و29). · امتلأت بالمجاهرة الحسنة: لقد قالت وبدون توقف "هلموا انظروا إنسانا قال لي كل ما فعلت. أ لعل هذا هو المسيح" (يو4: 29). إن موضوع شهادتها هو المسيح. لقد فعلت هذا وكأنها أصغت إلى قول الرب للتلاميذ الذي قاله لهم بعد القيامة "اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها" (مر16: 15). · امتلأت بالمحبة لوطنها وشعبها: لذلك لم تذهب بعيدا بل مضت إلى مدينتها وخبرت. وكان نتيجة كرازتها أن الناس خرجوا من المدينة وأتوا إلى يسوع وآمن به كثيرون. (يو4: 30و39). ربما جرحت من أهل المدينة بسبب شرها بكلمات كثيرة جارحة لكنها بطبيعة جديدة تخطت كل الصعاب معلنة محبة الله التي انسكبت في قلبها. لقد ذهب التلاميذ للقرية ليحضروا طعاما لأنفسهم لكنهم لم يكرزوا لهذه القرية، أما المرأة السامرية فأخذت مكانهم في الكرازة. ********************* المرأة السامرية والابن الضال "...ويذهب لأجل الضال حتى يجده" (لو15: 4). هاتان الحادثتان تقدما لنا شخصية الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة صغيرا أو كبيرا، وفيهما نرى أيضا الطريقة العجيبة الرائعة التي يتعامل الرب بها معنا وإن كانت مختلفة في الأسلوب لكنها متشابهة في غرضها ونتائجها. فهو يتعامل مع كل واحد منا بطريقة مختلفة. فالابن الضال نرى فيه تعامل الآب معه، والمرأة السامرية نرى فيها تعامل الابن معها. وبالدراسة يمكننا أن نلاحظ الأمور الآتية:- · الابن الضال كان يعيش في تمرد وعصيان لأبيه باحثا عن الحرية الشخصية فطلب ما ليس له الحق فيه "يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال" (لو15: 12). والمرأة السامرية أيضا كانت تعيش عالمها الخاص، في الخطيئة والنجاسة، لقد عاشت مع خمسة أزواج والذي لها ليس زوجها (يو4: 18). هذا هو المشهد الأول الذي نرى فيه الطبيعة البشرية الساقطة التي تتمرد على الله وتعصى عليه، وتفتش بعيدا عنه عن ما يشبعها. فالشاب في تمرده وعصيانه يبحث عن الحرية بالاستقلال عن أبيه، والمرأة تبحث عن الأمان وإشباع النفس البشرية في الملذات والشهوات العالمية بعيدا عن الله. · إن مستوى الانحطاط الذي وصل إليه الإنسان نتيجة الابتعاد عن الله أسوأ ما يكون، فالابن الضال استمر في ابتعاده عن أبيه وانحداره عنه إلى أن وصل إلى مستوى أقل من الحيوانات النجسة بحسب الشريعة ألا وهي الخنازير (لا11: 7و8). "فمضى...ليرعى خنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله. فلم يعطه أحد" (لو15: 15و16). وأما عن المرأة فقد جربت خمسة أزواج ولم ترتوي، فاتجهت إلى عمل ما لا يليق، إذ عاشت في النجاسة والزنا العلني مع من ليس هو زوجها. لقد كانت تعيش ذات المستوى الذي عاشه الابن الضال (يو4: 18). · إن نهاية الإنسان هي بداية الله. فمتى وصل الإنسان إلى حالة الفشل في نفسه وانتهى من كل السبل التي يعتمد عليها، يبدأ الله بعمله. لقد جرب الابن الضال كل شيء وهو بعيد عن أبيه لإشباع رغباته وباءت كلها بالفشل، حتى أنه بذر كل ما له بعيش مسرف. وأنفق كل شيء وابتدأ يحتاج، بل وأكثر من هذا وهو يرعى الخنازير "كان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله. فلم يعطه أحد" (لو15: 13-16). عندها رجع إلى نفسه، وابتدأ بالخطوات الصحيحة للعودة إلى أبيه، فقال: "أقوم وأذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك". فهو لم يقدم عذرا لما فعل لكنه أدرك بشاعة ما فعله ضد أبيه. والمرأة السامرية لم يعطها الرب من الماء الحي إلا بعد أن أظهر لها فشل كل ما قد اعتمدت عليه في ارتوائها. "كان لك...والذي لك" وعندما صادقت على كل ما قاله لها عندئذ أعطاها من الماء الحي الذي رواها. · يعيش البشر حياتهم على الأرض متغربين عن المحبة الإلهية، حتى وإن كانوا يجيدون التحدث أو السماع عنها. فهذه المحبة لا يمكن أن يجدها الإنسان إلا في الله. فالابن الضال قام برحلة من الكورة البعيدة، حيث التعاسة والنجاسة والوجود مع الخنازير الحيوانات النجسة، متجها إلى بيت أبيه "أقوم وأذهب إلى أبي..." (لو15: 18). وهنا نرى رجوع الخاطئ التائب إلى الله فيجد فيه أبا غفورا. أما في قصة المرأة السامرية نجد رحلة عكسية وهي رحلة ابن الله "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب..." (يو1: 18)، الذي أتى من قمة المجد متجسدا، متجها إلى الكورة البعيدة مفتشا عن امرأة سامرية ضالة، تعيش في أوحال النجاسة، منبوذة ومكروهة من بني جنسها ومن اليهود أيضا. ذهب ابن الله الحي إلى السامرة النجسة التي هي صورة للعالم المملوء بالنجاسة، والذي لم يكن من نصيبه من لحظة السقوط في الخطيئة إلا اللعنة، إنه عالم الضلال والإسراف. ذهب مفتشا عن هذه المرأة الخاطئة، وهي لم تزل مع الخنازير، في حقل امتلكه الشيطان، مشتهية أن تأكل من الخرنوب ولكن لم تجد شبعا لنفسها. لقد كلفته هذه الرحلة الكثير، فقد تعب وجاع وعطش، وفي وقت الظهيرة حيث حرارة الشمس المحرقة جلس هكذا على البئر منتظرا هذه النفس. ولما جاءت إليه ورأى احتياجها نسي احتياجه هو، وأخذ يكلمها بروح التأني والانتظار النابعين من محبة بلا حدود، واكتسب ثقتها بأروع الطرق إذ طلب منها أن تعطيه ليشرب. هذا الطلب الذي يعتبر أقل طلب وخدمة معروفة عند البشر. ولما رآها قد انشغلت بأمر يهمها أكثر من عطش رجل غريب، تتبعها حيث اقتادتها مشغوليتها هذه، فهو قد جاء مفتشا عن الضالين وهكذا قبلها وباركها. إن كانت رحلة الابن الضال إلى أبيه رائعة لأنها تتناسب مع حالته كخاطئ مذنب، فرحلة ابن الله إلى النفس الضالة رحلة أجمل وأروع لأنها تميزت بالنعمة الغنية والمحبة المتأنية. في رحلة الابن الضال نرى عمل الروح القدس في قيادة النفس إلى الله، أما في رحلة ابن الله إلى النفس نرى النعمة التي تعمل من ذاتها مفتشة عن الضالين ومخلصة إياهم بالحب والعطف الشديدين. · بالرغم من أن الرحلتين بدأتا من نقطتين مختلفتين، لكن النتائج واحدة. فكلاهما ينتهيان بالفرح والابتهاج في بيت الآب. لقد قال الرب يسوع لتلاميذه "أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو4: 32). إنها كلمات توضح لنا فرح قلب الرب بنفس كانت ميتة وعاشت وكانت ضالة فوجدت. في رحلة ابن الله إلى المرأة الخاطئة الضالة أعدها وهيأها بنفسه لتقبله. وفي رحلة الابن الضال كان الأب منتظرا قدوم ابنه وعلى أتم الاستعداد لقبوله. فالقلب والبيت كانا مفتوحين له، وعند رجوعه صار فرح عظيم في كل البيت (لو15: 20- 24). · في رحلة الابن الضال نرى أن الآب مع عبيد البيت اجتمعوا وابتدأوا يفرحون برجوعه (لو15: 22و23)، ولكن في رحلة الرب يسوع إلى السامرة نراه وحده فرحا قبل أن يقدم الضال إلى عبيد البيت. · فرح المرأة السامرية يمتاز عن فرح الابن الضال، إذ نرى في فرح الابن الضال الاكتفاء الصامت والقلب الشاكر فالابن الراجع جالس في الوليمة بينما عبيد البيت يفرحون. ولكن في المرأة السامرية نرى الفرح العامل في نفسها التي تحررت من عبودية الخطيئة،لذلك نراها مجتهدة في جعل الآخرين سعداء نظيرها ********************* المرأة السامرية ونيقوديموس في دراستنا لكلمة الله يجب أن نلاحظ أهمية ربط كل جزء في الكتاب بالجزء الآخر. فلا يجب علينا دراسة الجزء الذي أمامنا فقط بفحص وتدقيق، ولكن يجب ربط هذا الجزء بما قبله وبما بعده من أجزاء، لأن الجزء ما هو إلا جزء صغير في وسط وحدة كبيرة كاملة. وإذا طبقنا هذا الكلام هنا نجد أن الروح القدس يضع أمامنا حادثتين متماثلتين، مع أنهما غير متشابهتين لكنهما يتماشيان معا. تحتوي كل منهما على معجزات، وأحاديث، وأمثال بحسب الحالة التي نتأمل فيها، والروح القدس يقصد أن يوجه أنظارنا إلى بعض التشابهات أو إلى سلسلة من المقارنات بين الحادثتين. الأولى ترد في الجزء الأول من الأصحاح الثالث، والثانية ترد في الجزء الأول من الأصحاح الرابع من إنجيل يوحنا. فبمقارنة قصة نيقوديموس بقصة المرأة السامرية نرى سباعية رائعة:- 1- في الأصحاح الثالث نقرأ عن رجل فريسي اسمه نيقوديموس، أما في الأصحاح الرابع نقرأ عن امرأة مجهولة الاسم. 2- في الأصحاح الثالث نقرأ عن نيقوديموس أنه كان رئيسا ومعلما لليهود، أما عن المرأة في الأصحاح الرابع فهي من أقل المستويات الاجتماعية إذا كانت تذهب لتستقي ماء من البئر. 3- كان نيقوديموس رجل يهودي محبوب أو مفضل، أما المرأة السامرية كانت محتقرة ومنبوذة. 4- كان نيقوديموس رجلا ذو سمعة حسنة، فهو عضو في مجمع السنهدريم، أما المرأة السامرية التي تحدث الرب يسوع معها كانت ذو سمعة سيئة وصاحبة عادات رديئة. 5- نيقوديموس بحث عن المسيح، أما المرأة فقد بحث عنها المسيح. 6- نيقوديموس أتى إلى المسيح ليلا، أما المرأة السامرية تكلم المسيح معها في منتصف النهار. 7- مع نيقوديموس المتدين المملوء بالبر الذاتي كفريسي قال الرب يسوع "ينبغي أن تولد من فوق" أما المرأة السامرية التي تعتبر من أمم القوم كلمها عن "عطية الله". تحدث الرب يسوع مع المرأة السامرية عن الماء الحي، مع أننا بالفكر البشري نقول أنه كان من المفروض أن يتكلم بهذا الحديث مع نيقوديموس الرجل المتدين معلم إسرائيل، ومع المرأة السامرية يتحدث عن الولادة من فوق لأنها خاطئة ونجسة. لقد حدث العكس فمع رجل التدين قال له "ينبغي أن تولدوا من فوق" وذلك لكي يعرفنا ويعلمنا بأنه ليس كل من عاش في الخطيئة والنجاسة هو الذي يحتاج إلى الولادة من فوق فقط، بل وأيضا الإنسان المتدين والمتعبد لله فهو محتاج إلى هذه الولادة لأنه مولود من الجسد "والمولود من الجسد جسد هو" (يو3: 6)، لذلك يحتاج إلى ولادة من الله لكي يحصل بها على طبيعة الله "لأن الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله، لأن الجسد غير خاضع لناموس الله وأيضا لا يستطيع" (رو8: 7و8). من الممكن للجسد أن يتدين ويصبح ذات مبدأ يتبعه آخرين مثل قايين الذي قدم قرابين لله، والكتبة والفريسيون الذين يعبدون الله، لكنهم كما قال الرب يسوع لهم "لأنكم تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت23: 27). التدين يمكن أن يغير صورة الإنسان من خارج أمام الآخرين، لكنه لا يغير داخله. ومن هنا نرى حتمية الولادة الجديدة وهذا ما تكلم به مع نيقوديموس. لم يتكلم الرب عن السجود مع نيقوديموس بل تكلم عنه مع المرأة السامرية. هذه هي أفكار الله الرائعة وهذه هي نعمة الله التي تبحث عن المذنب لكي تبرره والنجس لكي تطهره. هذه هي نعمة الله التي تصل إلى أردأ إنسان وتعمل فيه أعظم عمل. يجب أن لا نستصعب خلاص أي خاطئ على نعمة الله، وإلا من يفعل هذا فهو يبرر نفسه وهو لا يعلم. إن الله يستطيع أن يخلص أردأ إنسان. وهذا شعور الرسول بولس الذي قال "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا" (1تي1: 15). نحن لا نناقش هل كان الرسول بولس هو أول الخطاة أم لا، لكن يمكننا أن نقول أن هذا الشعور كان يملأ قلب الرسول بولس أنه هو أول الخطاة. ولهذا السبب لا يستبعد بولس أن الله يخلص أردأ الخطاة فيقول "...لكنني رحمت ليظهر الرب يسوع فيَ أنا أولا كل أناة مثالا للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية" (1تي1: 16). وكأنه يقول أنا كنت نموذج لما يعمله الله. وكم بالفعل عمل في النفوس. من المؤكد عندما نصل إلى بيت الآب سنرى السامرية، ونرى كثيرين مثلها بررتهم نعمة الله من خلال دم المسيح. يقول الروح القدس عن راحاب أنها قد تبررت وهي أيضا سنراها في السماء. ويقول الرسول بولس "وهكذا كان أناس منكم. لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كو6: 11). بدأت المرأة كلامها مع الرب بالقول "كيف" (يو4: 9)، وأيضا نيقوديموس معلم إسرائيل عندما قال له الرب يسوع عن ضرورة الولادة الجديدة كان جوابه للرب أيضا هو "كيف" (يو3: 4و9). نيقوديموس يقول للرب "كيف يولد الإنسان"، والمرأة تقول "كيف تطلب مني لتشرب". عندما نتكلم عن أي أمر من أمورنا الخاصة أو أي أمر آخر يخص العلم أو السياسة وغيرها، يستمع الناس ببساطة وسرور، لكن عندما يكون الحديث عن الله يدخل الناس في جدل ومناقشات ومباحثات وكل واحد يقول "كيف"!! "كيف": قالتها المرأة السامرية معلنة فيها عن العادات والتقاليد التي تشبعت بها والأمور الاجتماعية التي ترسخت في ذهنها لسنين طويلة. لقد فوجئت بهذا الرجل العظيم يطلب منها قائلا "أعطيني لأشرب" لذلك قالت له "كيف تتطلب مني لتشرب". أما "كيف" التي قالها نيقوديموس فهي "كيف" الدينية، كيف يولد الإنسان، وكأنه يقول هذا التعليم لم يعلم به في مجامع اليهود. إن كلمة "كيف" تعطل إنجيل المسيح وتعوق وصول نعمة الله للنفوس. يختلف حديث الرب مع المرأة السامرية عن حديثه مع نيقوديموس. لقد قال لنيقوديموس "الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يو3:3). هذا القول جعل نيقوديموس يسأل في تعجب "كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ...كيف يمكن أن يكون هذا" (يو3: 4و9). وكأن الرب قد أغلق الباب أمام نيقوديموس تماما. لقد قال الرب يسوع هذا لأن نيقوديموس معلم إسرائيل ورئيس لليهود، فريسي من الفريسيين، يعتمد على أعماله. هذا يذكرنا بالفريسي الذي صلى قائلا "اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين الزناة ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه" (لو18: 11و12). وكأن هذا الفريسي يحتاج أن الله يشكره وليس هو يشكر الله. ولأجل هذا قال الرب لنيقوديموس "ينبغي أن تولدوا من فوق" (يو3: 7). لقد أغلق الأبواب أمامه في كل ما يعمله من ممارسات دينية. وعندما رأى نيقوديموس أن كل الأبواب قد أغلقت أمامه قال "كيف يمكن أن يكون هذا" عندئذ فتح الرب أمامه بابا جديدا في القول "كما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يرفع ابن الإنسان لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون الحياة الأبدية. لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له حياة أبدية" (يو3: 14-16). لقد فتح الرب له باب الإنجيل، هذا الباب الذي لا يفتح إلا بعد أن تغلق كل الأبواب دونه. لقد قال نيقوديموس للرب "يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلما..." (يو3: 2). فمعلم إسرائيل يتكلم مع المعلم الذي أتى من الله، كبرياء دينية، لذلك كان لابد للرب أن يغلق الباب أمامه فقال له "ينبغي أن تولدوا من فوق" ليفتح له باب الخلاص. مع أن الولادة الجديدة ضرورية لكل إنسان، لكن الرب لم يتكلم مع المرأة السامرية عنها لأنه لا يوجد لديها ما تفتخر به، فهي لا تملك سوى خزي وخجل وعار الخطية الذي جعلها تذهب في ظهيرة النهار لتملأ جرتها. يمكننا أن نعرف طريق الخلاص وكيفية الحصول عليه من الأقوال التي ذكرها الرسول بولس "لأنكم بالنعمة مخلصون (هنا نرى السامرية) بالإيمان...ليس من أعمال كي لا يفتخر أحد (وهنا نرى نيقوديموس)" (أف2: 8). لقد أعلن الرب يسوع في حديثه نفسه لنيقوديموس باعتباره الحق، أما هنا في قصة المرأة السامرية أعلن النعمة العجيبة التي كانت فيه وأتى بها إلى البشر. الحق الذي يكسر كبرياء التدين وروح الفريسية، والنعمة التي تتقابل مع احتياج المرأة السامرية الخاطئة. الشيطان ضد الحق فيكذب على البشر وضد النعمة فيجعل الإنسان يقول "كيف". ********************* المسيح مخلص العالم عندما خرج السامريون من المدينة وأتوا إلى الرب يسوع نتيجة مناداة المرأة لهم، وآمن كثيرون منهم به بسبب كلامها وشهادتها، سألوه أن يمكث عندهم. فمكث هناك يومين. فآمن به أكثر جدا بسبب كلامه. عندها أعلنوا "لأننا نجن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" (يو4: 30و39-42). لقد اكتشف السامريون في المسيح مخلصا للعالم. ينفرد البشير يوحنا بين البشيرين في بشارته بهذا اللقب للمسيح "المسيح مخلص العالم"، ويذكره أيضا في رسالته الأولى "ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مخلصا للعالم" (1يو4: 14). هذا هو العمل الرائع الذي ارتبط بشخص المسيح من الأزل وأظهره في ملء الزمان عندما جاء إلى العالم متجسدا، لذلك سمي "يسوع لأنه يخلص شعبه من خطاياهم" (مت1: 21) ومعنى هذا الاسم المبارك "يسوع" يهوه يخلص. هذا ما قد أظهره وأعلنه في كل لحظات حياته على الأرض، الذي "جال يصنع خيرا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس" (أع10: 38) والذي أعلنه واضحا كل الوضوح بتقديم نفسه ذبيحة كفارية لخلاص العالم. وهذا اللقب "مخلص العالم" لقبا إلهيا تردد في كل صفحات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. فيهوه إله الخلاص وهو المخلص وهو الإله المخلص، هذا ما نقرأه كثيرا في المزامير وأسفار الأنبياء. إن ربنا يسوع المسيح ليس مجرد نبي جاء إلى العالم حاملا رسالة من الله، وليس هو شخص جاء بصرخة إنذار وتوبيخ ملتهبا بنار الغيرة الإلهية، ولا هو محلل نفسي عرف أعماق النفس البشرية ودرس أسرارها وتغلغل في أعماق الفكر البشري وقدم علاجا جديدا لأمراض البشرية. حتى وإن كان قد أظهر كل هذه الأمور عندما التقى بالمرأة السامرية لكنه أعظم بكثير من هذا، إنه يهوه "مخلص العالم". وهو ليس مجرد نموذج رائع يجب أن نرتقي ونصل إلى مستواه بجهادنا، الشيء الذي لا نختبر إلا الفشل في الوصول إليه. إنه يسوع قبل أن يكون نبيا وقبل أن يكون موبخا ومنذرا، قبل أن يكون معلما عارفا بأسرار النفس وقبل أن يكون مثالا كاملا يدعونا إلى حياة السمو، هو "مخلص العالم". فهو يخلص من الخطيئة، من ذنبها وجرمها ومن قوتها وسلطانها ومن عقابها وأبديتها. ولنا أروع مثال في هذا ألا وهو المرأة السامرية. لقد مات الرب يسوع لأجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا (رو4: 25). لذلك هو سبب خلاص أبدي لجميع الذين يطيعونه" (عب5: 9). وإذ هو حي في كل حين وله كهنوت لا يزول فهو يقدر أن يخلص أيضا إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله (عب7: 24و25). لذلك هو ينادي للخطاة بالقول "التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصي الأرض لأني أنا الله وليس آخر" (إش45: 22). ولذلك يقول الرسول بطرس عنه "وليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أعطي بين الناس به ينبغي أن نخلص" (أع4: 12). إن كان سؤال عزيزي القارئ كسؤال سجان فيلبي الذي سأله لبولس الرسول وسيلا "يا سيدي ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص"، فلا جواب إلا ما قاله بولس وسيلا للسجان "آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك" (أع16: 30و31). لقد آمن السجان وجميع من في بيته، وكان نتيجة الإيمان "فتهلل مع جميع من في بيته" (أع16: 34). وهل عزيزي القارئ حصل على هذا الخلاص؟. إن كنت إلى الآن لم تحصل على هذا الخلاص، فها مخلص العالم يقدمه لك، لذلك لا تتوانى في طلبه، فالعمر ليس بمضمون، والتأجيل ليس لصالح الإنسان، ولا خلاص بعد انتهاء رحلة الحياة من على الأرض بل هلاك محتم وعذاب مرير في نار جهنم. لذلك اهرب لحياتك. ********************* |
18 - 03 - 2017, 09:06 AM | رقم المشاركة : ( 2 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: جولة مع يسوع إلى السامرة
مشاركة جميلة جدا ربنا يبارك حياتك |
||||
18 - 03 - 2017, 12:01 PM | رقم المشاركة : ( 3 ) | ||||
..::| الإدارة العامة |::..
|
رد: جولة مع يسوع إلى السامرة
ميرسى على مرورك الغالى مرمر |
||||
|