الإنجيل المصري.. المسكوت عنه من دين الأقباط
ما تقولشي مسلم ويهودى ونصرانى، واتعلم اللى الأوطان تجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم. بتلك الكلمات للشاعر «بديع خيرى» يستهل الباحث روبير الفارس كتابه «المسكوت عنه من الفلكلور السياسى للأقباط»، والصادر حديثًا عن دار روافد للنشر والتوزيع. يعتبر الفلكلور القبطى هو الفلكلور المصرى، فالثقافة المصرية هى جزء أو كيان واحد وليست جزرًا منفصلة أو متباعدة فيما بينها، وقد يندهش القارئ من هذا التشابه المثير بين الاحتفالات الدينية الإسلامية والمسيحية والفرعونية، فمثلما يحتفل المسلمون بأم العواجز السيدة زينب، ورحلة آل البيت إلى مصر، يحتفل المسيحيون بالسيدة العذراء «أم النور» ورحلة العائلة المقدسة. وكذلك كان احتفال المصريين القدماء بإيزيس «الأم المقدسة» ورحلة البحث عن أوزوريس، وكما نادى المسلمون السيدة زينب «جايلك يا طاهرة».. نادى المسيحيون «جايلك يا عدرا».. وكما تغنى المسيحيون «يا عدرا يا منجدة.. يا أم الشموع الآيدة».. تغنى المسلمون «يا سيدة يا منجدة.. يا أم الشموع الآيدة». إذن المعتقد الشعبى فى مصر موجود وسابق على المعتقد العقائدى، والثقافة الشعبية المصرية مستقاة من نموذج أقدم من النموذجين العقائديين المسلم والمسيحى. فالمجتمع المصرى هو مجتمع متماسك قوى قادر على استيعاب كل الثقافات والأفكار الوافدة إليه، وصبغها بصبغته المصرية ذات الطابع التسامحى. فى مقدمته للكتاب يذهب الباحث فى الأديان والأنثروبولوجيا «نبيل منير حبيب»، إلى أن دراسة التراث من خلال التحليل النفسى الاجتماعى تأتى أهميتها من أن معرفة هذا التراث هى معرفة لأسباب سلوك الإنسان الحاضر واستقراء لإنسان المستقبل، مؤكدًا أن الإنسان يكتسب شخصيته من محيطه الاجتماعى الذى يبدأ بالمنزل وينتهى إلى المجتمع مرورًا بالمدرسة أو الكنيسة أو الجامع، بينما يؤكد علماء التربية أن البنية العقلية للإنسان أو ما يسمونه بالشخصية القاعدية هى نتاج المعتقدات الدينية التى تشكل النظام التربوى داخل المحيط الاجتماعى. والمقصود بالدين هو شروحات علماء الفقه واللاهوت، وليس الإيمان بالله٬ والدين بهذا المعنى يصبح نظارة المصرى التي من خلالها يرى العالم والكون والآخر، والدين هو الخريطة والطريق لسلوك الإنسان فى المجتمع والدين هو الكيان والمكان. قسم المؤلف كتابه إلى خمسة مباحث استهلها بأدب الرؤية والنبوءات وفيه يذهب إلى تداول المصريين أدبًا دينيًا سريًا كتبوه باللغة الإغريقية بهدف توسيع دائرة انتشاره، وكان أدبًا صوفيًا تأثر إلى حد ما بالأفكار الأفلاطونية، هذا الأدب هو أسفار لرؤيا ونبوءات بالكوارث التى ستحل بالمحتلين حتى تأتى عليهم جميعًا، بعدها يتحرر المصريون من الذل والهوان. ومن تلك النبوءات نبوءة الأنبا صموئيل المعترف، والذى تعرض لتجربة مريرة حيث سبى مرتين على يد البربر، وتعرض لصنوف التعذيب ومنها محاولة إرغامه على الزواج، إلى أن يطلق سراحه ويعود إلى دياره. الفكرة الأساسية لنبوءات الأنبا صموئيل هى التعريب وترك اللغة القبطية والتى ترفعها الأوراق إلى حد التقديس، وتتحقق نبوءته عندما تختفى اللغة القبطية بصورة نهائية من على ألسنة الأقباط بحسب المقريزى. لكنها تركت أثرًا كبيرًا على اللغة العربية خاصة فى مصر، وهناك نحو ٣٠٠٠ كلمة قبطية متداولة فى اللغة العربية، منها كلمات: برسيم، أردب، كحة، لقمة، نبوت، أم قويق، مقطف، ننوس، كانى وماني، إمبو، فتفت، وغيرها من الكلمات. ومن الأفكار التى تتردد فى الأوراق المنسوبة للأنبا صموئيل والأنبا بستناؤوس، اضطهاد الأقباط من قبل «العرب الغزاة» وتطرح دخول العرب لمصر من منطق الغزو والاحتلال وإراقة الدماء، وهى قضية جدلية ككل القضايا التاريخية. فبعكس التاريخ الرسمى من أن الأقباط استقبلوا العرب بالترحاب لينجوا من الاضطهاد المذهبى الرهيب الذى شنه عليهم الرومان، يأتى التاريخ الشعبى ليؤكد أن الأقباط تعرضوا للذبح والخراب والدمار على يد العرب. والكتب التى تتحدث عن ترحيب الأقباط بالعرب عديدة مثل كتب «مناهج وزارة التربية والتعليم فى مادة التاريخ وتاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع»، والكتب التى تتحدث عن الخراب والمذابح منها «تاريخ يوحنا النقيوسى»، والذى اعتمدت عليه الكاتبة سناء المصرى فى كتابها الشهير «حكايات الاحتلال». ويخلص المؤلف إلى أنه لا يمكن إنكار وقوع جرائم عديدة ضد الأقباط وخاصة الذين حاربوا إلى جوار الرومان، ولا يمكن أن نروج لتعرض الأقباط للإبادة بدليل وجودهم حتى اليوم، إذًا لقد حدث هذا وذاك وعلينا الاعتراف بالتاريخين الرسمى والشعبى. هذه الأوراق تنسب للأنبا صموئيل ولا نستطيع التحقق من صدق هذا النسب. ففى مجال التراث الفلكلورى يتم نسب نصوص لأسماء مشهورة للتأكيد على أهميتها مثلما نسب بعض المزيفين الأناجيل المحرفة إلى تلاميذ المسيح. وتعد أحد النماذج القوية لثقافة الكتمان الوليدة عن نفوس مضطهدة وتركز هذه الأوراق على أن الشرور والخطايا هى سبب الاضطهاد الذى يتعرض له الأقباط، وبها مبالغة كبيرة بكون العرب هم سبب تلك الخطايا وكأن العصور التى خلت منهم كان الناس بلا خطية. لا يمكن إنكار أن ثقافة الكراهية لها هى الأخرى تواجد كبير وتحتل مساحة شاسعة من الوجود فى الفلكلور الشعبى، وتكشف قصة «مريم الزنارية» مع «على نور الدين المصرى» وجهًا من وجوه هذه الكراهية. القصة الشعبية أقرب فى أسلوبها إلى حكايات ألف ليلة وليلة، وذلك من حيث كثرة الأشعار بها، وكذلك تجاوز الخطوط الحمراء فى الأمور الجنسية، أما عن أحداثها فهى تعبر بصدق عن كراهية واحتقار الآخر المسيحى والتعامل معه على أنه عدو الدين والمسلمين. تنسب القصة الخيالية وقائعها إلى زمن هارون الرشيد، ويمكن تقسيم أحداثها إلى، أولًا: تعرف «على نور الدين المصرى» على الجارية «مريم الزنارية» وارتباطها به، وهذا الجزء محوره العلاقة الجنسية بينهما. ثانيًا: اكتشاف أن مريم الزنارية هى ابنة ملك الفرنجة «فرنسا»، وقد وقعت أسيرة فى قبضة المسلمين وبيعت كجارية. وقد استطاع الوزير الأعرج الأعور أن يخدع على نور الدين ويشتريها منه بعد أن يسكره. ثالثًا: الوزير يأخذ مريم ويعود إلى فرنسا، ويلحقها على نور الدين فى سفينة تقع أسيرة فى أيدي جنود ملك فرنسا، الذى يحتفل بعودة ابنته بذبح ١٠٠ من المسلمين. ويذبح بالفعل ٩٩ شخصًا، وقبل أن يذبح على تطلب منه الكنيسة عبيدًا لخدمة الكنيسة فيقدم لها على. رابعًا: مريم تذهب لزيارة الكنيسة مع صديقاتها وتلتقى بـعلى هناك، فتطلب من صديقاتها الانصراف وتقضى مع على ليلة حمراء بالكنيسة وتتفق معه على الهرب بعد أن تطلب منه سرقة صندوق النذور. خامسًا: مريم تقتل رئيس المركب وتسلخ جلده وتضعه على وجهها ثم تقتل العمال العشرة على المركب، وتهرب مع على نور الدين إلى الإسكندرية، ويرسل والدها وزيره خلفها، ويستطيع أن يعيدها بعد أن ينشغل على بإحضار ملابس لها. سادسًا: يقرر والدها قتلها، لكن الوزير الأعرج يطلب الزواج منها، ويعود على فيقبض عليه الوزير مع مجموعة من الأسرى المسلمين. فيقرر ذبح ٣٠ منهم على باب قصره احتفالًا بزواجه، فيذبح ٢٩ ويبقى على نور الدين الذى يشفى عين حصان عزيز لدى الوزير، فينجو من الموت ويعيش كسائس بالقصر، وعندما تعرف مريم تقرر الهروب معه، بعد تحذير زوجها. وعندما يكتشف والدها يخرج وراءها هو وأولاده الثلاثة فتقتلهم أختهم بلا رحمة، ومن هذه الجزئية تتحول إلى مدافعة عن الإسلام أمام الكفار الذين حرّفوا الكتاب ويعبدون الصليب. وعندما يلجأ والدها إلى هارون الرشيد، تؤكد له أنها أصبحت مسلمة ولا يمكن أن يردها إلى الكفر. فالقصة تبدأ كحكاية غرام، ولكنها تتحول إلى النعرة الدينية بانتصار مريم الزنارية ـ نسبة إلى الزنار الذى تصنعه بمهارة ـ كمسلمة على الكفار. أصيب الكثيرون بحالة ملل من تكرار كلمات مثل أن الأقباط والمسلمين نسيج واحد، وأنه لا فرق بينهما غير أن المسلم يصلى فى الجامع والمسيحى يصلى فى الكنيسة، وأيضا لا يمكن أن تميز بينهما من خلال الشكل أو السمات الجسمانية. يتساءل المؤلف: ماذا نفعل إذا كانت هذه الجمل حقائق رغم أنف المتعصبين والوهابيين والسلفيين والإخوان المسلمين؟، ويضع روشتة علاج مؤداها البحث فى الواقع بدلًا من استخدام الكلمات الرنانة لنجد فى الدراسات الفلكلورية، والتى تمتاز بالتلقائية وتعبر عن أصالة هذا الشعب ورحابته وقدرته على الصهر والتذويب فى بوتقة الحب بلا توجيه أو إرشاد بل من خلال تحقيق معنى التعايش والإقبال على الحياة.
30 - 09 - 2016, 02:19 PM
رد: الإنجيل المصري.. المسكوت عنه من دين الأقباط
العرض العادي
