رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
اخطر تحقيق استقصائي بالمستندات.. نكشف طرق الاتجار بالاطفال
من قسم تسجيل المواليد والوفيات بمكاتب الصحة التابعة لقطاع الطب الوقائى بوزارة الصحة، يصدر أول ورقة للمواطن وآخر ورقة، لكنّ إسماعيل فضل لم يكن يعرف أن رقبة كل مصرى معلقةٌ من المحيا إلى الممات على أبواب هذه المكاتب التى هى بإذن قانون الأحوال المدنية رقم 143 تبعَثُ الموتى وتميت الأحياء فى سجلات الحكومة. يقول فضل: «بعد شقى 3 سنين فى السعودية رجعت لأهلى لما انقطع الاتصال بهم 6 شهور، لقيت إخواتى ومراتى خرجوا لى شهادة وفاة من مكتب صحة عشان الميراث اللى كتبه أبويا باسمى وعملوا إعلان وراثة وخدوا كل حاجة حتى الشقة اللى أنا ساكن فيها، قعدت 3 شهور كعب داير على السجل المدنى ومكتب الصحة كنت عاوز أثبت بس إنى لسه عايش مكنتش عاوز آخد الميراث أو أعاقب مراتى اللى اتفقت مع إخواتى على». بحسب التقسيم الإدارى للدولة فإن مكاتب الصحة هى المصدر الرئيسى لقاعدة بيانات 90 مليون مصرى لدى الدولة، إلا أن ثغرات اللائحة المنظمة لعمل مكاتب الصحة فيما يخص استخراج شهادات الميلاد والوفاة، استغلها خارجون عن القانون وتسللوا بالاحتيال أو بالتواطؤ مع موظفيها وحصلوا على شهادات ميلاد ووفاة مزورة البيانات بغرض تقديمها لمؤسسات حكومية أو خاصة أو قضائية للحصول على مكتسبات غير مشروعة من بينها الاتجار بالأطفال والتلاعب فى المواريث وحرمان الأم من حضانة أبنائها والتهرب من التجنيد، بجانب قضايا كثيرة شهدتها أروقة المحاكم فى الآونة الأخيرة. خضنا تجربة استخراج شهادات ميلاد ووفاة بدون أوراق ثبوتية، بعدما اختارت بشكل عشوائى مكاتب صحة بالقاهرة والفيوم وكشفت بالصوت والصورة استطاعة أى خارج عن القانون أن يستخرج شهادة وفاة لمَن يريد ويميته فى سجلات الحكومة، أو ينسب طفلا وهميا لمن يرغب للحصول على مكتسبات غير مشروعة، وذلك بدون أى أوراق ثبوتية. كما كشفنا بالمستندات تهديد مكاتب الصحة لقاعدة بيانات الدولة، بعدما حصلت على مستند رسمى يكشف تقديم 16 مليون مواطن بلاغات لمصلحة الأحوال المدنية من أجل تصحيح أخطاء فى شهادات الميلاد والوفاة التى تضخها مكاتب الصحة فى قاعدة بيانات الدولة، الأمر الذى يؤكد أن ثغرات مكاتب الصحة بقدر ما تهدد حياة المواطنين من جانب فإنها باب خلفى للتلاعب من جانب آخر فى بيانات المواطنين لدى الدولة، بضخ سجلات ميلاد ووفاة وهمية وغير صحيحة. «أنا اتجوزت دلوقتى وعندى ولد مش عاوزه يطلع ينتقم من إخواتى، عشان هم أهله». لم يشأ الأربعينى إسماعيل فضل أن يتذكر ما قام به أشقاؤه وزوجته باستخراج شهادة وفاة له وهو على قيد الحياة: «هم لحمى ودمى وكل ما بفتكر الحكاية بحس بذنب إنى وصلتهم إنهم يستغلوا سفرى ويدفنونى حى.. لو مكنش أبويا كتب الميراث باسمى كان الوضع اختلف»، ساق لنا فضل ما اعتبره سببًا فى امتناعه مراتٍ عن الحديث، وسببًا أيضًا فى أن يستأذننا بألا يتحدث أكثر عن قصته. قانونٌ مُعَطَل ما أصاب فضل كان أحد أسبابه مخالفة مكتب الصحة التابع له المادة 38 من قانون الأحوال المدنية رقم 143 لسنة 1994 التى تنص على وجوب معاينة مفتش الصحة حالة الوفاة لإثبات ما إذا كانت حقيقية أم لا، وإدراج سبب الوفاة - جنائى أم طبيعى. «القانون معطل، وقليل من أطباء مكاتب الصحة بيخرجوا لمعاينة الجثة، وده بسببه بتعدى جرائم قتل كتير وبتخرج شهادات وفاة لناس أحياء أو وهميين أو تصريح دفن لمقتول».. حسبما يؤكد محمد محمود مفتش صحة بأحد مكاتب شرق القاهرة، مشيرًا إلى أن عدم تطبيق نصوص القانون فتح بابا واسعا لاستخراج شهادات وفاة وميلاد مزورة البيانات. وكشفت مقابلة مع أكثر من كاتب صحة وطبيب بمكاتب الصحة عن ثغرات المنظومة. لكنّ أحدهم - مدير مكتب صحة فى وسط القاهرة - اعترف بأن أغلبهم لا ينفذ القانون: «شهادات الميلاد وتصاريح الدفن بتتختم على بياض وتتساب لكاتب الصحة اللى بيعمل كل حاجة بتخالف القانون.. وأنا فى بداية شغلى استلمت من مفتش الصحة اللى قبلى دفتر شهادات الميلاد والوفاة وتصاريح الدفن مختومة على بياض». يُلقى مفتش الصحة - الذى طلب عدم نشر اسمه - بالمسؤولية الأكبر على كاتب الصحة، معتبرًا أن أوراق التبليغ عن الوفاة والميلاد مسؤوليته. لكنّ شريف جاد - كاتب صحة مكتب النزهة بمصر الجديدة - يرى أن الطبيب هو «المسؤول الأول والأخير عن صدور شهادة الميلاد والوفاة لأنه آخر إيد بتخرج منه الشهادة وباستطاعته رفض التوقيع والختم.. كما أنه مسؤول عن مراجعة البيانات وبموجب مراجعته يوقع على الشهادة ويختمها». الكلُ ملتزم وبحسب إحصاء صادر عن مركز معلومات وزارة الصحة فإن 5300 مكتب صحة موزع على أنحاء مصر، يعمل بها 9306 كتاب وأطباء. واستخرجت مكاتب الصحة العام الماضى 2 مليون و700 ألف شهادة ميلاد، و550 ألف شهادة وفاة. بينما تنص المادة الرابعة من قانون الأحوال المدنية على اختصاص مكاتب الصحة بتلقى بلاغات الوفاة والميلاد وإرسالها للسجل المدنى، فيما تقع المكاتب تحت مسؤولية قطاع الطب الوقائى. الدكتور علاء عيد، وكيل وزارة الصحة لقطاع الطب الوقائى، كان متحفظًا فى البداية لإجراء لقاءٍ مصور، قام بتأجيله أكثر من مرة ولم يستجب إلا بعد أن كتب أسئلة الحوار لتدور حول جهوده وقطاعه فى ضبط العمل داخل مكاتب الصحة ودورها. قال عيد عن إجراءات تسجيل المواليد والوفيات داخل مكاتب الصحة إن: «شهادة الوفاة والميلاد تصدر مجانا. الميلاد تصدر بأصل بطاقة الرقم القومى للزوج والزوجة ووثيقة الزواج وإخطار ولادة صادر عن مستشفى، وفى الوفاة يتوجه مفتش الصحة لمعاينة الجثة وكتابة سبب الوفاة، وبدون ذلك لن تستطيع الحصول على شهادة ميلاد أو وفاة». ويشدد عيد على أن «الكل ملتزم» فى مكاتب الصحة بتنفيذ القانون ولم ترصد إدارته أخطاءً للموظفين، والفضل يرجع حسبما يقول لـ «المتابعة الدورية للتفتيش الإدارى بالوزارة»، لكنّ مستندًا رسميًا يؤكد أن للداخلية رأيا آخر، إذ حصلنا على مستند من قطاع الأحوال المدنية يكشف نسبة طلبات المواطنين بتصويب أخطاء فى شهادات الميلاد والوفاة التى هى فى الأصل صادرة عن مكاتب صحة، حيث قامت إدارة التصويب بالقطاع بتصحيح 386 ألف شهادة ميلاد ووفاة خلال عام 2014 وتصحيح 16 مليونا و849 ألفا و680 خطأ منذ إطلاق مشروع الرقم القومى عام 97 وحتى مايو 2015. كما ضبط جهاز البحث الجنائى عام 2014، 18 ألفا و279 متهمًا بالتزوير والفساد الوظيفى، فيما يخص منظومة استخراج شهادات الميلاد والوفاة والأوراق الثبوتية للمواطنين. الداخلية تستغيث اللواء خيرى حامد مساعد وزير الداخلية لقطاع معلومات مصلحة الأحوال المدنية أكد من جانبه أن دورهم يقتصر فقط على تسجيل شهادات الميلاد والوفاة واستخراجها مميكنة. وأضاف: «أرسلنا خطابات رسمية أكثر من مرة لوزارة الصحة بضرورة أن يلتزم موظفو مكاتب الصحة بإجراءات استخراج شهادات الميلاد والوفاة واستيفاء جميع البيانات، لأننا نعانى معاناة غير عادية فى قاعدة بيانات المواطنين من حالات الوفاة والميلاد غير المؤكدة أو المتضمنة أخطاء صادرة من مكاتب الصحة». «لا يمكن ده يحصل، مفيش موظف لا ينفذ القانون أو لا يطلع على أصول الأوراق». جاء رد علاء عيد مسؤول الطب الوقائى على مسؤول الأحوال المدنية قاطعًا وذلك قبل أن نخبره بأن أيًا من «أصول الأوراق» التى قال عنها ملزمة للمواطن والموظف لم تكن معنا حينما اخترنا مكتب صحة بشكل عشوائى بالقاهرة لقياس إمكانية استخراج شهادة ميلاد بدون أوراق ثبوتية. تواصلت مع مستوصف طبى بأحد أحياء جنوب القاهرة للحصول على إخطار ولادة، طلب موظف بالمستوصف مقابلته على مقهى مجاور للاتفاق على بيانات الإخطار طالبًا 60 جنيهًا لاستخراج إخطار ولادة لطفل لم يولد أصلا فى المستوصف. حصلنا على أكثر من إخطار حتى إن أحدَها صدر من مستشفى أحمد ماهر الجامعى ومن المستوصف بنفس بيانات المولود والأم، وهو ما يؤكد أن أحدهما مزور. لكنّ موظف المستوصف دون أن يقصد فتح لنا بابًا آخر حينما كشف عن إمكانية استخراج إخطار ولادة من مكتب الصحة بالمخالفة لقانون الأحول المدنية الذى لا يسمح إلا لمستشفى أو طبيب باشر عملية الولادة باستخراج الإخطار. منظومة مخترقة اخترت مكتب صحة عشوائى بالقاهرة، قالت كاتبة الصحة: «هات بطاقتك وأصل بطاقة الزوجة وقسيمة الجواز وإخطار الولادة». أخبرتها أننى أريد إخطار ولادة ونسيت بطاقة زوجتى وأحمل معى فقط صورة وثيقة الزواج. قالت: «إخطار الولادة بـ 30 جنيه و20 جنيه دمغات وورق و50 هاخدها حلاوة مولود. وابقى هات لى صورة بطاقة المدام بعدين عشان نقدر نبعت الشهادة السجل المدنى». بدأت الموظفة فى كتابة البيانات وأكدت أننى أستطيع الحصول على شهادة الميلاد بعد يومين. بعدما تأكدت من أنها ستقوم باستخراج شهادة الميلاد طلبتُ منها إيقاف الإجراء مؤقتا حتى أعود فيما بعد لاستكماله. بعد ثلاثة أسابيع تلقيت اتصالًا من الموظفة تطلب منى الحضور للمكتب لاستلام شهادة الميلاد التى قامت باستخراجها دون بطاقة الرقم القومى للأم والأب. قالت: «تعالى عشان أبعت الشهادة للسجل المدنى. هى خدت رقم 174 عندى، ومضيت مكانك فى بلاغ الولادة عشان بنتك ما تسقطش قيد». أنهيت المكالمة مع الموظفة بعدما علمتُ منها أن مكتب الصحة سيقوم بفرم الشهادة وعدم قيدها فى المواليد إذا لم أذهب لإيداع صورة بطاقة الرقم القومى للأب والأم. «دى بتبقى حالات فردية.. استثناء مش قاعدة»، هكذا رد علاء عيد مسؤول الطب الوقائى بعدما شاهد مقاطع مصورة من داخل مكتب الصحة. أكدت له أننى اخترت مكتبا عشوائيا وما حدث ليس استثناء، قال: «متحاولش تذيع المشاهد دى حتى لا نضع معالى الوزير فى حرج وتضع نفسك أنت تحت المسؤولية القانونية». تسهيل الاتجار بالأطفال مصطفى كمال الترعى، محامى ضحايا شهادات ميلاد ووفاة، أشار إلى أن أخطر الأغراض التى يسعى إليها مزور شهادات الميلاد هى الاتجار بالأطفال والتلاعب فى سن الزواج، مؤكدًا أن ضعف العقوبة تسبب فى زيادة الجريمة. فالمادة 226 من قانون الأحوال المدنية نصت على أن عقوبة المتلاعب فى بيانات شهادات الميلاد والوفاة تبدأ من يوم حتى ثلاث سنوات فقط.. «وأروقة المحاكم تعج بقضايا تلاعب فى شهادات الميلاد والوفاة، واتعرضت على قضية قيام أب باستخراج شهادة وفاة لطفله الرضيع من أجل حرمان مُطلقته من حضانته ثم قام باستخراج شهادة ميلاد للطفل منسوبًا لأمٍ أخرى». وبصفته مسؤولاً عن نجدة الطفل فى المجلس القومى للأمومة والطفولة قال أحمد حنفى إن مكاتب الصحة هى الباب الخلفى للاتجار بالأطفال، وهو ما تم رصده فى خط نجدة الطفل خلال السنوات الماضية، حيث كانت أبرز القضايا هى بيع أطفال أحد ملاجئ شبرا لأمريكيين من أصل مصرى، وتواطؤ موظفى مكتب صحة فى استخراج شهادات ميلاد للأطفال ونسبهم للأمريكيين لتسفيرهم خارج مصر. وتابع: «آخر بلاغ تلقيناه كان عن اختطاف طفل من دار إيواء بالجيزة واستخراج شهادة وفاة له، لتهريبه وخطفه من الدار واستخراج شهادة ميلاد أخرى له باسم آخر، بينما الصورة الأخطر التى ظهرت مؤخرا هى وجود عصابات تخصصت فى خطف حديثى الولادة من المستشفيات وبيعهم لراغبى التبنى»، مشيرًا إلى أنه من 18 إلى 20% من البلاغات الواردة إلى خط النجدة هى خطف واتجار بالأطفال. لأجل هذا أطلقت الحكومة ما قالت إنه مشروع قومى لميكنة مكاتب الصحة وربطها بالأحوال المدنية لمراجعة بيانات المُبَلغ لحظيًا على قاعدة بيانات المصلحة، للحد من إدخال بيانات مزورة فى شهادات الميلاد والوفاة. وبحسب وزارة الصحة فإنها انتهت من ميكنة مكاتب الصحة فى 8 محافظات من بينها الفيوم والقليوبية وبنى سويف والسويس، كما بدأت فى الربط مع الأحوال المدنية. وعن المشروع قال المهندس طارق سعد، مساعد وزير الصحة والمسؤول عن ميكنة مكاتب الصحة: «شغالة بشكل جيد ونراقبها.. إحنا ابتدينا نقفل منابع الأخطاء والثغرات». ميكنة على الورق وبينما تعتبر الحكومة ميكنة مكاتب الصحة مشروعا قوميا، لم يتفق مسؤولوها على تاريخ واحد للمرحلة الأولى التى بدأت فى التشغيل. وفيما قال علاء عيد مسؤول قطاع الطب الوقائى إن المنظومة بدأت فى التشغيل الرسمى يناير 2015، قال مسؤول قطاع التطوير والمعلومات بوزارة الصحة إنها بدأت فى يونيو نفس العام، لكنّ مستندًا رسميًا حصلنا عليه يكشف أن الصحة لم تنته أصلا مما قالت إنه بدأ فى التشغيل والربط مع الأحوال المدنية، حيث كان آخر ربط نوفمبر 2014 بمحافظتى السويس وبنى سويف، وليس ثمانى محافظات كما تقول الصحة. بينما كشف نفس المستند قيام مواطنين بالإدلاء ببيانات مزورة وغير متطابقة فى شهادات الميلاد والوفاة، حيث إن 68% من المُبلغينَ للحصول على الشهادات فى بنى سويف قدموا بيانات مزورة وغير متطابقة مع قاعدة بيانات الأحوال المدنية، بينما قدم 54% فى السويس بيانات غير متطابقة. المنظومة تضرب الحكومة محافظة الفيوم التى قالت الصحة إنها دخلت فى منظومة الميكنة، تلقى محافظها الدكتور حازم عطية فى السابع من مايو 2014 اتصالاً من مسؤول بمجلس الوزراء يستفسر منه عما نُشر فى مواقع إلكترونية يفيد بوفاته. كانت الأخبار مدعومة بتصريح الدفن وشهادة وفاته ووكيل وزارة الصحة بالفيوم الدكتور مدحت شكرى. يقول عطية: «اكتشفت أن طبيبا فى مكتب صحة تابع لمستشفى أبشواى أخرج لى شهادة وفاة، وتبين أن هدفه إظهار الخلل فى منظومة الصحة، وأنه يقدر أى أحد يستخدم ختم النسر ويخرج شهادة وفاة لأى شخص». التقينا بالدكتور حازم عطية فى منزله بعد اقالته فبراير الماضى. كان أكثر سخطًا على ما أسماه «خلل الجهاز الإدارى للدولة». قال: «هناك مشاكل إدارية متراكمة فى وزارة الصحة أدت إلى أن أى مواطن يستطيع مع موظف غير منضبط أن يستخرج شهادة ميلاد أو وفاة دون قيود. وأبلغت مجلس الوزراء بأن هدف ما حدث معى هو إظهار الخلل ده، وأنه بالإمكان استخراج شهادة وفاة لأكبر راس فى البلد وهو عايش». توجهنا لمحافظة الفيوم التى - بحسب البيانات الرسمية - صارت مكاتب الصحة بها مميكنة، ولأنها - قبل هذا - قد شهدت استخراج شهادة وفاة لمحافظها ووكيل وزارة الصحة. اخترنا مكتب الصحة الرئيسى فى الفيوم لاستطلاع الميكنة واستخراج شهادة وفاة وفى ذاكرتنا نص قانون الأحوال المدنية الذى يجبر طبيب الصحة على معاينة الجثة قبل منح تصريح الدفن. هى المرة الأولى التى أذهب فيها إلى الفيوم، كان ضمن خطة العمل أن أعرف أسماء الشوارع المجاورة لمكتب الصحة جيدًا حتى أُبلغ كاتب الصحة عن محل إقامة جدى المولود والمتوفى فى دمياط لأَستَخرج شهادة وفاة له فى الفيوم بعد 31 عامًا من وفاته. توجهت للمكتب، طلب الموظف التوقيع على إقرار بفقد بطاقة الجد ثم بدأ فى كتابة بلاغ الوفاة وقام باستخراج تصريح دفن مختوم على بياض وموقع من طبيب الصحة. استكمل الموظف بيانات التصريح تاركًا «مكان الدفن» لنكتبه نحن، طالبًا الحضور بعد ثلاثة أيام للحصول على شهادة الوفاة. «بعشرين جنيهًا حصلنا على تصريح دفن مختوم على بياض».. هكذا وفى أقل من عشر دقائق تستطيع أن تدفن مَن تريد فى سجلات الحكومة. وفى اليوم التالى ذهبنا لنفس المكتب وطلبنا إلغاء إجراءات شهادة الوفاة بدعوى دفن المتوفى فى محافظة أخرى حتى لا يُضاف مواطن وهمى جديد لقاعدة بيانات الدولة. واجهنا طارق سعد، المسؤول عن ميكنة مكاتب الصحة، بأصل تصريح الدفن الذى حصلنا عليه، قال: «لأ دى مش تبعى، تسأل عنها قطاع الطب الوقائى لأنه المسؤول إداريًا عن مكاتب الصحة، والفترة الماضية كانت استرشادية.. والتعامل مع الخارجين عن القانون النظام المميكن مش هيبقى مؤثر فيه.. دى ثغرة مش هنقدر نسدها لأن الموظف هو نفسه ثغرة لأنه لم يطبق القانون». فيما تغيّر حديث علاء عيد مسؤول قطاع الطب الوقائى من المُدافع مطلقًا عن المنظومة إلى المعترف بوجود فساد، قائلاً «مفيش مكان فى الدنيا خالى من الفساد، وإذا أُدين عندنا أى موظف بنعاقبه فورا لأنه فاسد يعمل فى مكان وموقع حساس». حديث عيد عن ملاحقة إدارته للمخالفين ينفيه مفتش الصحة محمد محمود «اسم مستعار»: «من فترة قصيرة كان التفتيش الإدارى بيمر علينا ووجد شهادات الميلاد وتصاريح الدفن مختومة على بياض، وكان قرارهم نقل الكاتب فقط من مكتب لآخر وخصم يومين من الطبيب المسؤول.. التفتيش الإدارى لا يمر إلا فى المصائب فقط، ومفيش تفكير فى حلول لسد الثغرات». «محمد الميت» محمد عبود، دليل آخر على عدم اتخاذ وزارة الصحة خطوات جادة نحو معاقبة المخالفين والمتسببين فى استخراج مكاتب الصحة تصاريح دفن على بياض وشهادات وفاة لمواطنين على قيد الحياة. عبود الذى استغرق عامًا كاملاً لحذف شهادة وفاة نُسبت له وإثبات أنه لا زال على قيد الحياة، لم تتخذ الوزارة - حتى كتابة هذه السطور - أى إجراء ضد مكتب الصحة الذى استخرج له شهادة الوفاة. توقف زمن عبود فى اللحظة التى قالت فيها موظفة سجل مدنى بولاق الدكرور «إنت ميت يا حاج عندى على الكمبيوتر إزاى جاى تطلع بطاقة». لم يكن يتخيل «الخمسينى - عامل البناء» أنه ببساطة قد دُفن حيًا فى سجلات الحكومة. قال لموظفة السجل المدنى «إزاى أنا ميت هو أنا عفريت وجاى أطلع بطاقتى». جاء ردها أنه متوفى على قاعدة بيانات الأحوال المدنية بعدما صدرت له شهادة وفاة من مكتب صحة بولاق الدكرور. يقول عبود: «لفيت سنة من شهر فبراير 2014 عشان أثبت للحكومة إنى عايش وأطلع بطاقة بدل اللى ضاعت، وأرجع شغلى اللى اتفصلت منه بعد ما انقطعت عنه، وأنا بلف كل يوم على المصالح الحكومية، لدرجة إن جيرانى بعد ما عرفوا الموضوع بينادونى يا محمد يا ميت». لا يعلم عبود حتى الآن لماذا قام مكتب الصحة باستخراج شهادة وفاة له، لكنّه فى الوقت ذاته يرى اتخاذه إجراء قضائيا ضد وزارة الصحة دربًا من دروب الخيال: «أنا على باب الله وعارف إنى مش هاخد حق ولا باطل مع أى موظف عشان الإنسانية والرحمة راحت من بلدنا». الأزمة الكبرى فى شهادات الوفاة مزورة البيانات حسبما يرى مصطفى الترعى محامى ضحايا شهادات ميلاد ووفاة، هى الهروب من جرائم القتل والتلاعب فى المواريث باستخراج شهادة وفاة لمَن يحق له الميراث لحجبه، مثلما حدث مؤخرًا فى قضية عُرضت عليه بقيام أشقاء بحجب شقيقتهم من الميراث باستخراج شهادة وفاة لها. قاعدة بيانات مشوهة اتساع ثغرات منظومة شهادات الميلاد والوفاة بمكاتب الصحة لا يؤثر فقط على المواطنين، لكنّه ينتج عنه قاعدة بيانات متضاربة ومشوهة للدولة، وهذا ما يراه مفتش الصحة محمد محمود أنه مصدر الخطر: «إحنا كدولة عشان نكون محترمين لازم يكون شغلنا محترم، يعنى مينفعش لحد دلوقتى تشغلنى بورقة وقلم، أنا بتكلم فى قاعدة بيانات الدولة». بينما يشدد طارق سعد، المسؤول الأول عن المعلومات فى وزارة الصحة، على أن مهمة «مكاتب الصحة بإصدار أول ورقة للمواطن وآخر ورقة له أثر بالغ على قاعدة بيانات الدولة، وإذا لم يتم ضبطها ستكون سببا فى إضافة بيانات وهمية تربك قواعد بيانات الحكومة». ويؤدى الاستمرار فى اختراق مكاتب الصحة، حسبما يرى اللواء خيرى حامد مساعد وزير الداخلية، لمعلومات الأحوال المدنية إلى أن تصبح مصر بـ «قاعدة بيانات مشوهة وبها عوار، والحل هو تعميم استخدام الرقم القومى لتنقية قاعدة البيانات، وتضييق الخناق على مزورى شهادات الميلاد والوفاة». وعود أمام الكاميرا قبل مغادرة مكتب الدكتور علاء عيد، المسؤول عن مكاتب الصحة، شدد أنه سيتخذ إجراءات حازمة ضد كل موظف لا يطبق القانون، بجانب مراجعة عاجلة للمكاتب، ومعاقبة المتخاذل، وإبلاغنا بالقرارات. بعد اللقاء تواصلت مرتين معه لأعرف إجراءاته الحازمة، فى المرة الأولى لم أحصل على إجابة، وفى الثانية أكد اتخاذه إجراءات قانونية حيال ما كشفناه من فساد، حتى استيقظت صباح الخامس من أكتوبر الماضى على مكالمة من موظفة بإحدى شركات التأمين الكبرى قدمت لى خلالها عرضًا بالتأمين على حياة ابنتى التى قالت إنها بحسب سجلات الأحوال المدنية قد ولدت فى السابع من مارس الماضى، أُسقطَ فى يدى حينما تذكرت أن هذا هو نفس تاريخ تجربتى داخل مكتب صحة بالقاهرة لقياس مدى إمكانية استخراج شهادة ميلاد بدون أوراق ثبوتية. استلمت الأحوال المدنية من مكتب الصحة بلاغ ولادة صادر عنى وشهادة ميلاد لابنتى الوهمية بدون بطاقة الرقم القومى، الأمر الذى يؤكد أن وعود المراجعة والتفتيش كانت أمام الكاميرا فقط، وأن الوزارة لم تتحرك خطوة واحدة نحو مراقبة أوسع لمكاتب الصحة، أو حتى مراجعة ما قدمناه لها من بيانات تكشف فسادًا إداريًا، يُهدد قاعدة بيانات الدولة التى وضعها القانون بين أصابع موظف، تستطيع بالاشتراك معه أو بالاحتيال عليه أن تتلاعب بحياة المواطنين داخل مكاتب الصحة، التى هى أصغر وأخطر حلقة فى سلسلة الاتجار بالأطفال والتلاعب فى المواريث وحرمان الأم من حضانة أبنائها والتهرب من التجنيد، بجانب قضايا كثيرة أُعلن على إثرها ميكنة مكاتب الصحة التى اكتشفنا أنها لم تسد حتى الآن ثقوب المنظومة. تم نشر التحقيق بالاتفاق مع الزميل وإنجازه تحت دعم وإشراف الشبكة العربية للتحقيقات الاستقصائية «أريج» هذا الخبر منقول من : اليوم السابع |
|