رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
"التجلّي" تغرّبٌ عن الواقع (Alienation)،
أم قراءة جديدة للالتزام به.. الأب بسّام آشجي يعبّر بطرس عن رغبة الإنسان في البقاء أمام تجلي الرب بقوله: "حسنٌ أن نبقى ههنا".. هل هذه الرغبة تهرّباً من الواقع؟!.. الخشن، الصلب، المتطلّب، الذي يحتاج إلى مواقف مسؤولة وحياة ملتزمة.. وبكلمة: هل الرغبة في البقاء أمام التجلّي هي تغرّب عن الواقع (Alienation) ؟.. لنتابع مع رغائب بطرس، يقول: "فلنصنع ثلاث مظال" و"نبقى هنا": يسوع في الوسط، يتربع على "عرش كثير الثمن".. هو "القلب"، كما تقول القديسة تريزا الأڤيلية، وتُتابع برومانسيّة مرهفة: "سأنظر إلى حبيبي وسينظر حبيبي إليَّ.. بحيث لا يكون انفصال بيني وبينك.. لقد أحببتُ حبيبي.. حبيبي هو لي وأنا لحبيبي... كلُّ شيءٍ يزول.. الله يبقى.. الله وحده يكفي".. وأتساءل مجدّداً: هل النُسكيّة التصوفيّة، الرومانسيّة، المتجليّة في التجلّي، تغرّباً (Alienation)؟.. وبمعنى آخر: هل الالتزام بالمسيحيّة في وجهها "السريّ"، التأمّليّ، الصلاتيّ، هو "انسلاخ" طفوليّ عن تحمّل مسؤوليّة الحياة ومتطلّباتها؟.. يمكننا أن نجد همسات الجواب في المظلتين الأخريين: موسى وإيليا!.. لماذا موسى؟.. ولماذا إيليا؟ إن موسى يمثل حضور الله في التاريخ، فعاليته في الواقع، مرافقته للإنسان مهما سما أو خبا. أما إيليا، فيمثل الحياة التأملية، حيث الصمت والإصغاء، حيث "النسيم العليل" والصفاء، حيث القداسة والنقاء، ويمثل إيليا أيضاً الشهادة للحق في ملء الواقعيّة.. هل أراد التجلي، لكي يحرّر من نوستلجيّا الحنين التغرّبي، أن يتمحور بين الواقع والمطلق، بين العمل (Praxis) والتأمل (Theorya)، بين الخدمة والصلاة، بين موسى وإيليا؟.. يمكننا أن نجد همسات الإجابة أيضاً في التساؤل: لماذا لم يقبل يسوع عرض بطرس؟ لا بل أضطره، ورفاقه، للنزول من التجلّي ليُشاهَد مصلوباً فمتجليّاً، ثانية ودائماً، في القيامة!.. يُجبر يسوعُ تلاميذَهُ وبطرسَ الركوب في السفينة والإبحار في الغمر، بعد تجـلٍ له ولملكوته في تكثير الخبز والسمك (مت14/22-..)؛ وذلك رغبـة منـه بعـودة التلاميـذ إلى الواقـع؛ لكي لا يسكروا بملكوت مزيف يُبنى على المصلحة (مت20/20-..)، بينما يصعد هو إلى الجبل ليصلي لكي يستقبل انهمار الملكوت عليه متجليّاً، صافياً كـ"نهر بلّور" (رؤ22/1)، مقدساً من عند أبيه. وتسير السفينة في بحر الحياة تتقاذفها الأمواج وتعاكسها الرياح المخالفة. كإيماننا الذي ينمو ويكبر في عمق مشاكلنا وما يعاكسنا من تيارات مضادّة. وينتظر ركاب السفينة الفرج؛ ولا يأتي "الربّ" المتجلّي لنجدتهم إلا آخر الليل. إنه كالأم المربية التي تترك طفلها ينضج بخبراته ومشاكله دون أن تتخلى عنه. يحضر حين يلتهم التعبُ صبرَهم، فيظنوه خيالاً. أمام صمت الله في حياتنا، في كثير من الأحيان، نفقد صبرنا. وحين يأتي لنجدتنا يعيش إيماننا ضباب الرؤيـة. ولكنه هـو: "لا تخافوا أنا هو!". هنا يظهر بطرس مجدداً على مسرح الأحداث، لأنه مستعد دائماً أن يتغير ويتجدد، فيتتلمذ ويتعلم، وبالتالي يشهد. ويهتف: إن كنت هو فمرني أن أمشي مثلك متجليّاً فوق العاصفة والتيارات المعاكسة، وحسب التلميذ أن يتشبه بمعلمه. حين يكفُّ بطرس عن النظر إلى الرب، المتجلي فوق العاصفة، ويخاف شدة الرياح المعاكسة، يبدأ بالغرق. لن تلتغي التناقضات من حياة المؤمن، ولكنه يمشي واثق الخطوة رغماً عنها، ورغم كل المعاكسات. قد يعيش لحظات من التعب حين يكفُّ النظر إلى يسوع. هناك ارتباط وثيق بين النظر إلى يسوع والمسير في الحياة رغم الصعوبات. حين يغرق بطرس تعلو صرخات الاستغاثة من فمه كما نفعل نحن: "يا ربُّ نجني" (أنظر أيضاً: يو11/21-..) والرب بسخائه المعهود، وتربيته الحنون، ينقذ بطرس ومن كان شبيهاً به. وحالما يصعد يسوع إلى السفينة تهدأ الريح وتتبدد العاصفة ويعود التجلي . هكذا تسير حياة المسيحيّ في معادلة قد تكون صعبة أحياناً، وقد تكون مؤلمة: بين العاصفة والتجلي، بين الصليب والقيامـة، بين الوعـد والخيانة، بين الخيانة والندامة، بين الخوف والشجاعة، بين الانغلاق والشهادة. إن انهزام بطرس أمام صليب يسوع كغرقه حين ما عاد ينظر إلى الرب، وندامته وعودته وفيض دموعه بعد الموت القيامة كاستغاثته: "يا ربُّ نجني"!.. إن قيامة المسيح هي لبطرس ولمن في حكمه، "إعادة الرؤية" لكل أحداث حياته. لا بل حملّه القائم من الموت مسؤولية الشهادة والرعاية والسهر على تحقيق الملكوت، في الخدمة والمحبّة. فالإنسان بقدر ما يحب يطالَب (يو21/15). إن حدث قيامة المسيح هو تجلٍّ لله أمام الإنسان، يمنح الماضي رؤية جديدة، ويفعِّل الحاضر بنشوةٍ عظيمة، ويرجو المستقبل شهادة أمينة. هكذا انطلق بطرس مُتجليّأً بحلول الروح القدس عطيّة القيامة، يشهد لإيمانه دون خوف، دون خيانة، دون بكاء، "لأن القديم قد زال" (رؤ21/4). لم تلتغِ التناقضات بعد تجلّي قيامة المسيح، ولكن بطرس الذي قبل أن يتتلمذ ويستقبل الروح قد تجلَّ مجدداً (يو 3/5)، وأمام الألوف شهد للمصلوب أنه قام، واستشهد في سبيل شهادته هذه.. خاتمة: لا ليس التجلّي تغرباً عن الواقع (Alienation)، بل على العكس هو قراءة للواقع أكثر واقعيّة بحضور الله، لأن تغييب الله عن الواقع ليس واقعيّاً، بل هو "التغرّب" (Alienation) بعينه! |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|