رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
التمييز الروحي في الكتاب المقدس منذ الصفحات الأولى للكتاب المقدس، تُطرح الإشكالية في حركة التمييز الروحي عند الإنسان. ففي قصة "امتحان الحرية" (تك3) تظهر أن المشكلة الكبرى للإنسان تكمن في اختياراته الخاطئة، التي وجدت إنما بتمييز ضيف، بفعل تدخل غريب (الحية - إبليس). فالله يعلن بوضوح عن أن ?معرفة الخير والشر? لا يمكن أن تتم بشكلٍ ناضج إلا بمرافقته. فيمكن للإنسان أن يستقلّ عن خالقه، إن شاء، في كل الأمور، ولكن، لا يستطيع ذلك في "معرفة الخير والشر". لأنه، لو فعل ذلك، فسيبقى أبداً معرضاً لهشاشة الخطيئة. هذا ما يحصل حقاً، إذ يلبس الشر ثوب الخير، ثوب ملاك النور (تك3/5-6، أنظر أيضاً: 2كور14/11). ويأكل الإنسان الخديعة، فتتعطل لديه حركة التمييز الروحي، فيتكاثر شره (تك6/5). ويختلط الشر بالخير (اش5/20، رو1/21- 25). وهكذا يهيم الإنسان في صحراء الحياة يبحث عن "مشيئة الله" لتكون له مقياساً لتمييزه. والله بدوره لا يبخل عليه بإعلانها بشتى الطرق والعلامات. فيظهر الرفيق الأمين لدربه، والحكمة المقدسة لاختياراته. فتتسطر على صفحات الكتاب المقدس مظاهر التمييز الروحي بحثاً عن مشيئة الله والعمل بموجبها (مز143/10). ويسخى الله بأن يعطي الإنسان قلباً جديداً، ليعرّفه على مشيئته، وروحاً جديداً، ليعمل ويعيش بموجبها (حز36/26-27). وتتصدر "الشريعة" بياناً واضحاً لتمييز مشيئة الله لتكون قريبة من الإنسان نوراً يضيء له (تث30/15، أش55/7). وتتسخر الطبيعة أيضاً لتعلن مصداقية مشيئة الله(تك9/12-17، خر14/21، مز135/6، أيو37/12،سير43/13- 17). فيكون الإنسان تارة مميزاً لها وعاملاً بموجبها، وطوراً متغافلاً عنها خائناً في تحقيقها (خر32...). وتظهر له أحياناً صعبة التحقيق، لا بل تعسفية (حز18/25). فيذكّره الله بمحدوديته كمخلوق (أر18/1-6)، ليؤكد أن اتّباع مشيئته هو خير له كإنسان، فهي الحقيقة الثابتة إلى الأبد (مز33/11)، والله هو الذي يسهر على نجاحها (مز40/8-9، أش53/1، 67/4، نشيد2/7، 3/5 ،8/5....). ونلاحظ أيضاً في العهد القديم: كيف تتولى شخصياته حركة التمييز الروحي لمشيئة الله لهم وللآخرين. فيختار الله نوحاً، ليعلن عن عزمه بتجديد الخليقة. ويُميّز موسى لشعبه "شريعة الله". ويدّون مَنْ يدّون تاريخ رفقته وخلاصه للإنسان. ولا يبخل على أرميا وأشعيا وحزقيال وكل الأنبياء بأن يصرخوا: "يقول الرب السيد..."، ويسمح للشعراء والمتصوفين أن ينشدوا وصاياه وتدابيره. العهد الجديد إن الإنجيل ببشاراته الأربع، كذلك العهد الجديد بجملته، يُعمّق أهمية التمييز الروحي، ليبلغ به نموذجاً مقدساً في شخص يسوع المسيح القائم من بين الأموات. وعلى غرار العهد القديم، تطرح اشكاليته على الإنسان وصعوبته منذ الصفحات الأولى، لتصل به إلى انتصار الحق، حيث الروح القدس ينجز في الإنسان ومعه مشيئة الله: 1- بشارة الملاك لمريم بالمولود القدوس (لو1/26- 38): إن مريم، وهي حواء الجديدة، تضطرب من سلام الملاك، فتقول: "ما عسى أن يكون؟." تسأل لتميّز: هل هذا صوت الله؟ أم تدخل غريب مخادع، يظهر بثياب الخير النور؟ لعلها كانت تتأمل قصة الإنسان القديم. وبعد بشارة الملاك لها بأنها "ستحمل وتلد ابن العلي، المخلص... الذي لا يكون لملكه انقضاء"، تسأل مجدداً: "كيف يكون هذا...؟" وقبل أن تركع مستسلمة لمشيئة الرب، وقد حرّك الروح القدس أحشاءها بابن الله، تميّز أن "ما من أمر يعجز الله". وبذلك تستحق أن تطوّبها الأجيال، لأنها نموذجٌ للإنسان المميّز لمشيئة الله. 2- تجارب يسوع في البرية: (لو4/1- 12): يظهر يسوع وكأنه "آدما جديداً" في وسط برية الحياة، وقد اقتاده الروح القدس لينتصر على إبليس الخداع. فكعادته، يلبس الشر ثوب الخير في كلٍ من التجارب الثلاث. ويبلغ به التحدي أن يستعمل كلام الكتاب المقدس ليوقع يسوع: "إنه مكتوب: يوصي ملائكته..." ولكنه لن يستطيع أن ينتصر على من يكون طعامه "العمل بمشيئة الله، ذاك الذي يعرف أن يُميّز الأرواح" (1يو4/1- 6). فيستسلم للروح القدس الذي يقتاده ليهزم "أبا الكذب" (يو8/44) الذي لا يُطرد إلا "بالصوم والصلاة". (متى17/21). 3- التمييز في حياة يسوع ككل: يؤكد بعض مفسري الكتاب المقدس، حين يشرحون نص تجربة البرية السابق، أن يسوع اختبر هذه التجارب طيلة حياته على الأرض. فإن صح ذلك، نستطيع أن نستنتج أنه عاش في حالة مستمرة من "التمييز الروحي". كأن حياته كلها تسير تحقيقاً لصلاته: "أبانا.. لتكن مشيئتك". حتى حين "يحين الوقت"، ساعة نزاعه في بستان الزيتون، حيث "أخذ يعرق دماً"، لا يبرح إلا مميزاً مشيئة الآب، التي تتعالى على مشيئة الإنسان: "يا أبتِ، إن شئتَ فاصرف عني هذه الكأس، ولكن مشيئتك لا مشيئتي" (لو22/42). وكذلك كان يسوع يقوم بحملة واسعة لطرد الأرواح الشريرة من الإنسان بعد أن يقوم بتمييزها (لو8/26...،9/37...). وبالروح القدس عينه كان يدعو أتباعه إلى حركة التمييز الروحي (لو12/56، مت6/12)، وإلى إقران التمييز بالعمل (يو7/17)، فما الفائدة من تمييز مشيئة الله إن لم تُتبع ببرنامج حياة؟ (لو12/47،مت7/71...). إن يسوع يثني على كل من ميّز واختار "النصيب الصالح الذي لا ينتزعه منه" (لو10/42) ويَعد الذين ميّزوا مشيئة الله، وعملوا بها، بالملكوت المعدّ لهم منذ إنشاء العالم حيث يُميّز ابنُ الإنسانِ البشرَ، كالراعي الذي يفصل النعاج عن الكباش (مت25/31...) ليختار الأبرار منهم للحياة الأبدية. 4- التمييز عند القديس بولس الرسول: يكتشف القديس بولس الحياة بالمسيح إنما هي حركة عبور مستمرة من عبوديات الإنسان المتنوعة إلى حرية أبناء الله (رو8/21). وتفترض حركة التحرر هذه "موهبة" التمييز الروحي التي هي من عطايا الروح القدس (1كو12/10). فعلى الإنسان أن يُميّز كل شيء حتى يختار المناسب (1تسا5/21)، ويسعى جاهداً ليكتشف ما هي مشيئة الله (رو12/2، أف5/10)، ويُقيّم نفسه كما ينبغي، وكما يليق بسخاء الله (1كور11/28، 2كور3/5)، ويتخذ فكر المسيح منطلقاً لحياته (1كو1/10). وتبرز عند بولس الرسول عدة عوائق تحاول أن تشلّ الإنسان عن تمييز مشيئة الله، أو العمل بموجبها، فتعيق فصحه (عبوره) نحو حرية أبناء الله. فالخطيئة رغم إنه يُميّز شرها يجد نفسه مقيداً بها (رو5/15،33) وبسبب الخطيئة يستعبد الإنسان للموت ويتقيد بأركان العالم (غلا4/3-9، كول2/8- 20). ويجد القديس بولس أن العائق الأساسي، في مسيرة تحرر الإنسان وتمييزه الروحي، هو عبودية "الشريعة". فالشريعة بحد ذاتها صالحة وجيدة (رو17/11)، وهي بمثابة المؤدب الذي يوصل إلى المسيح، ولكن التمسك بحرفها لا يؤدي إلى تمييز صحيح. بل على العكس قد يُضلّل حقيقة الروح (رو7/8). وهنا يؤكد أن الرب يسوع قد حررنا منها بموته وقيامته (رو6/6- 7)، لذلك علينا أن نعيش معه هذا "العبور" ونجاهد بكل طاقتنا (1كو9/34) فتتميّز لدينا ثمار الروح القدس (غلا5/22...). |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|