رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
توجهات الإنسان المعاصر من هذه المظاهر التي استعرضناها والتي تميز حياة الإنسان المعاصر، نكتشف أن الإنسان اليوم أكثر مما سبق، يتخطى وضعه الذاتي Autotranscendance ويريد أن يرتفع بذاته دوماً نحو الأمام، نحو الأكثر، ونحو الأفضل فهو في حالة تغير وتحول مستمر. ولقد توقف الفلاسفة والمفكرين طويلا عند هذا الميل في الإنسان، وهذه النزعة تمثل إنسانيته الناضجة، فمن الفلاسفة مَن رأى أن الإنسان يتخطى وضعه الذاتي ليحقق ذاته بشكل أكمل، ومنهم من رأى أن الإنسان يتخطى وضعه الذاتي ليحقق مجتمعاً أكمل، ومنهم من رأى في تخطي الإنسان لوضعه الذاتي إنشدادٌ وتحقيق لذاته الإنسانية في الله.. وسنعالج هذه النقاط فيما يلي: 1- التفسير المتمحور في الذات: قلنا أن الطبيعة الإنسانية العاقلة تتميز بتخطي الذات، فالإنسان مشدود نحو تحرير نفسه من عبودية الجهل، والخطأ، والخوف، والميول. لكن هذا الجهد لتخطي الذات لا يعني انه خروج من الذات وتحول إلى شخص آخر. فان دافع الإنسان لتخطي ذاته يحدو الإنسان للحصول على وجود اكثر حقيقية، وليصل إلى تحقيق أغنى وأكمل لذاته ولإمكانياته. فالإنسان يحاول الحصول على مستوى أفضل من المعرفة، ومن الثقافة الحضارية، والرفاهية، لكن دون أن يرمي في البحر ما كان يعرفه وتعلمه، وما يستطيع فعله وما يمتلكه. إن تخطي الذات ليست تضحية بالنفس لكي نربح شيئا آخر: إنها بالأحرى وقبل كل شيء بحثٌ لأجل شخصية أكثر كمالاً. إن المفكرين الوجوديين أمثال نيتشه Nietzsche وسارتر Sartre وهيدغر Heidegger ، يقولون أن الإنسان يستطيع تخطي ذاته بقواه الذاتية فقط. لكن الخبرة تعلمنا أن محاولاتنا تُحبَط في اكثر الأحيان: فإننا لا نحوز العلم، ولا التملك، والسلطة، ولا ما نرغب به. وان تخطي الذات كهدف بحد ذاته دون وجود غاية تُوَجِّهُهُ وتَسمو به هي محاولة لا معقولة ولا جدوى منها لأنها تصب في الفراغ.. 2- التفسير المتمحور في الإنسان: كثير من المؤلفين بعد ماركس Marx وكومط Comte رأوا أن تخطي الذات حركة لتخطي حدود الفردية والأنانية ومحاولة لخلق إنسانية جديدة متحررة من البؤس الفردي والتفاوت الاجتماعي، وهذا هو الشرط لتحقيق السعادة الكاملة. ماركوس Marcuse يقول إن تعالي وتطور إنسان هذا العصر يكون بسعيه إلى: المعرفة، العلم، التقنية والعملية؛ وهو مثل غارودي Garaudy الذي يؤكد أن نضوج الإنسان ذو طابع تاريخي وزمني بحت ولا يكون على المستوى الميتافيزيقي (الفائق الطبيعة): انه الاندفاع نحو مستقبل المجتمع الأفضل من المجتمع الحالي. أمّا بلوك Bloch فيعتقد أن تخطي الذات نابع من أن الإنسان يسعى إلى "ما ليس بعد"، هذا المدى من الإمكانيات الذي يجده الإنسان أمامه. والأمل هو أن يحقق الإنسان إمكانياته التي ليست محققة بعد وهو أمرٌ بشري بحت ولا علاقة لله بالأمر. إن ما يحمله هذا التفسير من حقيقة هي ان حركة تخطي الذات لها أيضا بعد اجتماعي: فالإنسان ككائن اجتماعي ينمو. ومن ناحية أخرى فان هذه النظرية بتخطي الذات على المستوى الاجتماعي تواجه اعتراضات كثيرة نابعة من تنظيم المجتمع مهما كان نوعه: اشتراكيا كان أم رأسماليا. فما لاحظناه من حركة تخطي الذات يتضمن البعدين الفردي والاجتماعي ولهذا السبب فان ماركس Marx واتباعه الذين يقفون فقط عند البعد الاجتماعي، يعطون تفسيراً لتخطي الذات لا يمكن قبوله لأننا حتى ولو فرضنا أن الإنسانية من خلال تطورها البطيء ستصل إلى تحقيق ذاتها كاملة ولن يبقى هناك احتياجات ناقصة وسيكون تساوٍ بين الناس فان ذلك لن يحل المعضلة الفردية ومتطلبات الإنسان الحالية. وفي الحقيقة لن يستطيع الإنسان أن يعطي معنى لوجوده إذا وضع ثقته بعناصر كونية، فان كل ظواهر العالم لها وقت وتنتهي فيه. ولن يستطيع الإنسان أيضا أن يعطي معنى لوجوده إذا وضع ثقته بالإنسان الآخر لأنه هو أيضا محدود وزائل. ولذلك على الإنسان أن يبحث في منحى آخر ليجد المعنى الحقيقي لتخطي ذاته ولمعرفة معنى وجوده. 3- التفسير المتمحور في الإله: كثير من الباحثين يعطون لتخطي الذات هدف ومعنى إلهي: فالإنسان مدفوع من داخله باستمرار ليتخطى ذاته ويتخطى حدود واقعه، لأنه مدفوع من قِبَل إرادة أعلى منه ليفعل ذلك، وهذه الإرادة هي الله. فالله بسخائه وطيبته وكماله وحضوره في كل مكان، يوجه نحوه كل الخلائق وخصوصاً الإنسان. يَظهر الإنسان للاّهوتي كارل راهنر Rahner ككائنٌ منفتح في جوهره، ولا ينغلق على ذاته أبداً ويقف عند "النهاية". وفي هذه الإنفتاحة غير المتناهية يكمن تخطي الذات: فهي تجعل الإنسان منطلقا دوما نحو الأمام. لكن هذا لا يُقصد به إنفتاحة نحو الفراغ، مثلما يجزم معلمه هيدغر Heidegger ، ولا هي إنفتاحة موجَّهَة نحو مستقبل لن يصبح واقعاً أبداً، كما تخيل غارودي Garaudy وبلوك Bloch ، بل هي إنفتاحة تصبّ في المطلق، هذا المطلق الذي يكون لانفتاحة الإنسان كالختم الوحيد القادر على إغلاقها وتماسكها. إن التفسير المتمحور في الإله لحركة تعالي الإنسان على ذاته فيه الإجابة النهائية لبحث الإنسان عن المعنى الجوهري والحقيقي لانشداده وتعاليه بشكل متواصل، لأن هذه الحركة تقود الإنسان نحو الذي هو أساس كل معنى وكل قيمة، انه الله. بما أن التفسير المتمحور في الإله لتعالي الإنسان يحدد معنى تعاليه في الله، فقد ظهرت ضد هذا التفسير صعوبة كبيرة وهي: إن هذا التفسير ينفي واقعية الله ككائن موجود لأنه تأكيدٌ منطلقٌ من الذات. فاليوم يوجد فلاسفة يؤكدون أن من غير الممكن معرفة الله ولا يمكن برهنة وجوده اطلاقاً، ويقولون أن فكرة الإله بالتالي هي فقط تشخيص لاحتياجات وخيالات الإنسان السامية: وبمعنى آخر، إن الله اختراعٌ من فكر الإنسان. رداً على هذا يكرر اللاهوتيون أن جوابهم على حركة تعالي الإنسان لذاته نحو الله لا تفترض أنها تريد أن تبرهن وجود الله في الأصل، ولكن مع ذلك فان حركة تعالي الإنسان هذه نحو الله هي نفسها تبرهن وتعطينا وثيقة أكيدة لواقعية الله. فان تخطي الإنسان لذاته هي حركة وبالتالي فان أي حركة تفترض غاية وهدفا. وبما أننا وجدنا سابقا أن لا الأنا ولا الإنسانية يستطيعان إعطاء معنى لهذه الحركة، فلا يبقى احتمال آخر إذاً إلا الاعتراف بأن المعنى الأخير لتعالي الذات الإنسانية، وبالتالي المعنى الأخير للإنسان، موجود خارج الإنسان نفسه وهو موجود في الله، بل هو الله. لأن الإنسان لا يخرج من حدود وجوده الشخصي لكي يغوص في اللاشيء، بل يخرج من ذاته لكي يلقي بنفسه في الله، الذي هو الكائن الوحيد الذي يستطيع حمل الإنسان إلى الكمال وتحقيق ذاته الدائم. كما يُخطئ فلاسفة كثيرون إذ يجعلون حركة تخطي الإنسان لذاته الأفقية (أي البعد التاريخي) تعارض حركة تخطيه لذاته العمودية (أي الميتافيزيقية)، كما لو أن الأمر يتعلق بتوتر متعاكس، بينما هو بالأحرى انسجام، لان حركة التعالي الأفقي تأخذ معنى وواقعية فقط من التعالي العمودي، وإلا لأصبح الإنسان أداة لا جوهر له. وبالنسبة للمفكر المسيحي، فان إلحاح الفلسفة على أن تخطي الذات الأفقي يتقوى ويتدعّم ويتلازم مع الحركة العمودية، يجد أفضل تأكيد له على المستوى التاريخي في الوحي الإلهي. والوحي يعلّمنا أن الله، رغم سقطاتنا، وذنوبنا، وبرودتنا، ومقاومتنا له، بقي يريد أن يشفي غليلنا في طموحنا لنكون مثله، فأدمجنا في حياته الإلهية ذاتها، بشكل غامض في هذه الحياة الحاضرة، لكن في وضوح ساطع بالرؤيا الإلهية في الحياة المستقبلية. باختصار نقول أن المسيحي يعرف بالتأكيد أن المعنى الحقيقي والنهائي للإنسان هو الله نفسه، وهذا التأكيد ليس متعاكسٌ بل هو منسجمٌ بشكل تام مع التطلعات البعيدة النظر للعقل البشري، إن هذا التأكيد يجده في ذاته نفسها إذا فهم المعنى العميق الموجود فيها للخبرة المنتشرة في كل مكان عن تخطي الذات وتعالي الإنسان في مجالات الحياة كافةً. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مقدار القلق والتوتر الذي يسعى الإنسان المعاصر |
هل كان الإنسان المعاصر شاهدا على كارثة قديمة؟ |
عزلة الإنسان المعاصر |
الإنسان في عالمنا المعاصر |
ابن الإنسان في التقليد اليهودي المعاصر للمسيح |