22 - 07 - 2014, 07:09 PM | رقم المشاركة : ( 161 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 137 (136 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير إن نسيتك يا أورشليم!يسجل لنا المرتل مشاعر الذين كانوا في السبي، خاصة الذين كانوا يقودون التسبيح في أورشليم. وقد طُلب منهم أن يرنموا بإحدى تسابيحهم التي كانوا يسبحون بها في الهيكل بأورشليم. لم يكن ممكنًا لهم وهم محرومون من التمتع بالهيكل أن يسبحوا بفرحٍ وتهليلٍ في أرض السبي. هذا وما كانوا يمارسونه في هيكل الرب المقدس، كيف يمكن أن يمارسوه في أرض نجستها عبادة الأوثان! لذلك جاء المزمور يمثل قمة الشعور بالمرارة. وأما مفتاح المزمور فهو الكلمتان: "أذكر" و"أسبح". يرى البعض أن هذا المزمور سجله داود النبي، متنبأ بما سيحدث لشعبه حين يؤخذ إلى السبي البابلي. ويرى آخرون أنه وُضع بعد العودة من السبي بقليل، سجله أحد المرنمين في الهيكل. إنه صرخة كل مؤمنٍ حين يشعر أن عدو الخير أسره بالخطايا، وأفقده التمتع بالمقدسات الإلهية، فيندب المؤمن حاله، طالبًا الخلاص من الله محرر أولاده من سبي الخطية. 1. بكاء على أنهار بابل 1-3. 2. حب قلبي لأورشليم 4-6. 3. بابل المُخْربَةَ 7-9. من وحي المزمور 137 العنوان جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لداود وإرميا" أو "لداود لأجل إرميا". * توهم قوم مما جاء في العنوان أن هذا المزمور وضعه إرميا النبي عند ذهابه إلى بابل مع المسبيين. لكن الأمر ليس كذلك، بل يُقال أنه كتب لإرميا لكي يقرأه دائمًا في أيام السبي، أو لأنه شبيه بمراثيه، أو لأن كلمة إرميا وتأويلها المرميين والمطروحين للسبي. الأب أنسيمُس الأورشليمي 1. بكاء على أنهار بابل عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضًا عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ [1]. يقصد المرتل بأنهار بابل القنوات التي كانت تخرج من نهري دجلة والفرات، وذلك لاستخدامها في الري والشرب، وكانت هذه القنوات أو الترع كثيرة. كما كان اليهود يجتمعون كثيرًا بجوارها للعبادة أو الراحة (حز 1: 1؛ 3: 15). غالبًا ما كانوا يجتمعون في أيام السبوت عند إحدى هذه القنوات للصلاة، حتى يمارسوا الغسلات أثناء عبادتهم. يكشف المزمور عن المرارة التي حلت بالشعب الذي حُرم من بلده، وصار مسبيًا كعبيد للبابليين. كانوا يتذكرون الهيكل والحرية التي فقدوها والفرح الروحي الذي لم يعرفوا قيمته إلا بعد الحرمان منه. وإن مارسوا الصلاة لكن كان من الصعب وأحيانًا من المستحيل أن يعزفوا على القيثارات ليرنموا بالمزامير والتسابيح. صاروا في أرض نجستها العبادة الوثنية. يتطلعون إلى مياه أنهار بابل، فيرون فيها صورة لأنهار دموعهم ومرارة نفوسهم. وكأنهم يرددون مرثاة إرميا النبي: "سكبت عيناي ينابيع ماء على سحق بنت شعبي. عيني تسكب ولا تكف بلا انقطاع، حتى يشرف وينظر الرب من السماء. عيني توتّر في نفسي لأجل كل بنات مدينتي" (مرا 3: 48-51). كما يقول: "يا ليت رأسي ماءً، وعيني ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قتلى بنت شعبي" (إر 9: 1). إن كانت "بابل" تعني "بلبلة" أو "ارتباك". فإن من تربكه مشاغل هذا العالم لا يدخل الفرح إلى أعماقه، ولا يقدر أن يسبح الله في أعماقه. يرى العلامة أوريجينوس أن أنهار بابل تشير إلى حياة اللهو والاستهتار، حيث تفيض مجاري اللذة، ونستحم وسط أمواج عدم العفة. في هذا الجو لا نستطيع القيام، بل نبقى جالسين في رخاوة، حتى نذكر صهيون أي الكنيسة بشريعة الله التي لها وجبال الكتاب المقدس عندئذ نبكي على بؤسنا[1]. ويرى القديس أغسطينوس في هذا المنظر، حيث كان المسبيون يجلسون في انسحاق بجوار أنهار بابل، صورة رمزية لمن سباهم حب العالم وشهواته، فصاروا في السبي يبكون على ما بلغوه من مذلة. ويميز القديس أغسطينوس بين الذين يجلسون على أنهار بابل أو مياه بابل أي بجوارها وبين الذين يجلسون أو يغطسون فيها أو تحتها في أعماقها. فالجالسون على الأنهار يبكون في حزنٍ على ما بلغوه بسبب سبي الخطية، أما الذين في داخل المياه، فهم الذين يغرقون في الملذات ولا ينالون السعادة، وفي نفس الوقت لا يطلبون التحرر من شهواتهم. يقول عن هؤلاء إنهم يبكون على حرمانهم من السعادة، لكنهم يفرحون أيضًا بملذات ومباهج بابل، أي فرح العالم الشرير وشهواته. * لاحظوا "مياه (أنهار) بابل". مياه بابل هي كل الأشياء التي تُحب هنا وتزول... يدرك بعض مواطني أورشليم المقدسة سبيهم. لاحظوا كيف تُسرع شهوات الناس المتنوعة ورغباتهم الطبيعية وتسحبهم هنا وهناك، وتلقي بهم في البحر. يرون ذلك ولا يلقون بأنفسهم في مياه بابل، إنما يجلسون ويبكون إما من أجل الذين سحبتهم شهواتهم بعيدًا، أو من أجل أنفسهم الذين أهَّلوا أنفسهم ليُلقوا في بابل، فيجلسون أو يصيرون في مذلةٍ. آه يا صهيون المقدسة، حيث يقف فيك الجميع بثباتٍ ولا يسيلون (كالماء). من الذين ألقونا بطيشٍ في هذا (المجرى المائي)؟ لماذا تركنا الذي أسسك (الله) وجماعتك (المقدسة)...؟ لنجلس بجوار مياه بابل وليس تحتها. ليكن هكذا تواضعنا حتى لا تبتلعنا[2]. القديس أغسطينوس القديس جيروم هذا هو السبب الذي لأجله استبعدهم، لكي ما يقودهم إلى هذا الاشتياق. هذه هي طريقة الله في الغالب، عندما نفسد ولا نقدِّر خيراته، ينزل بنا إلى حد الحرمان منها، وخلال الفقدان تعود أحاسيسنا إليها، ونطلب التمتع بها مرة أخرى. الآن، لماذا جلسوا بجوار الأنهار؟ إنهم كمسبيين كانوا تحت التحفظ بعيدًا عن مناطق العدو، لهم مناطق خاصة خارج الأسوار والمدن[4]. القديس يوحنا الذهبي الفم لأنهم إذ شبعوا بلحم حمَل أبكم أكملوا العيد، وإذ دهنوا قوائم أبوابهم بالدم، طلبوا العون ضد المهلك، لكننا نحن الآن إذ نأكل من كلمة الآب، ولنا أعتاب قلوبنا مختومة بدم العهد قال: "اُنظروا، لقد أعطيتكم أن تدوسوا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10: 19). لأن الموت لن يسود فيما بعد، بل منذ الآن عوضًا عن الموت توجد الحياة. قال ربنا: "أنا هو الحياة" (يو 14: 6). حتى امتلأ كل شيءٍ بالفرح والسرور. وكما هو مكتوب: "الرب يملك، فلتفرح الأرض". لأنه عندما ملك الموت، بكينا إذ كنا جالسين على أنهار بابل (مز 137: 1) ونحنا، إذ شعرنا بمرارة السبي (للموت)، لكن الآن وقد بطل الموت ومملكة الشرير، فإن كل شيء مملوء بالتمام والفرح والمسرة. يجب علينا أن نقترب إلى هذا العيد، لا بملابس قذرة، إنما نرتدي عقولًا (ثيابًا) نقية، إذ نلبس ربنا يسوع (رو 13: 14)، حتى نستطيع أن نحتفل بالعيد معه[5]. القديس أثناسيوس الرسولي * مكتوب أيضًا: "اخرجوا من بابل؛ اهربوا من أرض الكلدانيين" (إش 48: 20). يُنذِر العبراني بكلمات النبي، لا لكي يهرب حقًا من أرض البابليين، وإنما من سيرتها الأخلاقية، إذ كان العبرانيون في أرض بابل، وظهروا بسلوكهم الأخلاقي أنهم رحلوا عنها. عن هؤلاء يقول المرتل إنهم جلسوا على أنهار بابل (مز 137: 1). هم مكثوا فعلًا في أرض بابل، لكنهم لم يكونوا في رذائلها المخزية. وفي خضم تلك النقائض المشينة بكوا وتابوا، لأنهم سقطوا عن تابوت الإيمان والعبادة التقية وعن الفضيلة واستحقاقات آبائهم. النفس التي تخرج تسير بكلمته (أي في طاعة لها)، إذ تطلب الكلمة[6]. القديس أمبروسيوس حينما يشعر الإنسان بأنه لا يستخدم آلة موسيقية لمدة طويلة، غالبًا ما يحفظها في عبوة، ويضعها على رفٍ مرتفع وبعيدٍ، هكذا فقد الشعب أمله في عودة سريعة، فعلقوا قيثارتهم على أشجار الصفصاف العالية. فلا حاجة لهم لقيثارات وقد زال الأمل عندهم في عودة الفرح للترنم، وربما سقطوا في اليأس تمامًا. يرى القديس جيروم إن هذا الشجر الذي علقوا عليه قيثارتهم يدعى "الحَور الرَّجراج" بطبيعته عقيم بلا ثمر، ويُقال إن من يشرب جرعة من زهره أو يأكله يصير عقيمًا. وهو يحمل صورة رمزية، فإنه يليق بالإنسان أن يستخدم جسده بحواسه المتعددة كآلة موسيقية يعزف عليها تسبحة لله. فإن كانت أحاسيسه عقيمة، يكون كمن علق جسمه على هذا الشجرة، فلا يقدم تسبحة للرب. هذا وقد قيل أن هذا الشجر متى سقط منه غصن وغُرس بالقرب من المياه يبدأ ينمو في الحال. هكذا الإنسان الشرير إذ سقط بجوار مياه الأسفار المقدسة وأنصت لكلمة الله من إنسانٍ قديسٍ، تنتعش نفسه وتهتدي إلى التوبة. ويقول الأب أنسيمُس الأورشليمي إن المسبيين علقوا الآلات الموسيقية التي كانوا يستخدمونها في التسبيح حين كانوا في أورشليم، ولما كان الصفصاف شجرًا عديم الثمر، فإنه حيث لا يوجد ثمر الروح لا يمكن ممارسة التسبيح. وأيضًا أن بذور الصفصاف إذا سُحقت وشُربت لمدة أيام ينزع هذا المشروب الرغبة في العلاقة الجسدية، ويجعل شاربه عقيمًا. وكأن من أراد أن يصير آلة مسبحة لله يلزمه أن يضبط شهواته. * لنفهم هنا الأشجار العقيمة تنمو على مياه بابل. هذه الأشجار التي ترتوي بمياه بابل، ولا تأتي بثمرٍ، مثل الناس الشرهين والطماعين، الذين بلا ثمر الأعمال الصالحة. مواطنو بابل لهم مثل هذه الحكمة، هم أشجار هذه المنطقة، يقتاتون بملذات الأشياء الزائلة، كمن يرتوون بمياه بابل[7]. القديس أغسطينوس * يقول: "علقنا أعوادنا" (مز 137: 2)، وذلك على الصفصاف الذي كان يوجد في هذا البلد (بابل)، لكنهم ولا بهذه الآلات استطاعوا التسبيح. ونحن أيضًا حتى وأن كان لنا فم ولسان، وهما عضوا الكلام، لا نستطيع أن نتكلم بجرأة، إن بقينا عبيدًا للخطية، التي هي أكثر قسوة من كل البربر[9]. القديس يوحنا الذهبي الفم وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحًا: رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ [3]. كان المسبيون يتذكرون ما حذرهم منه الأنبياء قبل سبيهم، فكانوا يعلقون قيثارتهم على الصفصاف، لأنهم لا يستخدمونها، ويبكون على عدم سماعهم لأقوال الله لهم خلال الأنبياء. أما الذين سبوهم، فكانوا يطلبون منهم أن يسبحوا إلههم، إما رغبة في الاستهزاء بهم وبإلههم، أو كنوعٍ من حب الاستطلاع. لا نعجب إن كان البابليون يطلبون ممن سبوهم وأذلوهم أن يرنموا إحدى تسابيحهم التي كانوا يتغنون بها في أورشليم. فإنهم لم يشعروا بالمُرْ الذي حل بهم، أو لعلهم طلبوا ذلك كنوعٍ من السخرية بهم. يدهش القديس يوحنا الذهبي الفم من المسبيين، هؤلاء الذين حين كانوا في بلدهم يستخفون بالأنبياء، الآن وهم في السبي يبكون ولا يريدون أن يكسروا الشريعة، ويقدمون تسابيح في أرض غريبة. لقد انتفع الأعداء أنفسهم من ذلك، إذ أدركوا أن المسبيين لم يهتزوا بالسبي، فيكسروا الناموس، إنما تذكروا صهيون. لم يكن بكاؤهم باطلًا، بل صار هذا هو عملهم. لقد اجتمعوا معًا لينوحوا ويرثوا حالهم. كأنهم يقولون للأعداء: "وإن سبيتم أجسامنا، لكن لا سلطان لكم على أفكارنا. يختم الذهبي الفم تعليقه على هذه العبارة، قائلًا: [ألا ترون هذا الروح ذا القيم السليمة بسبب الضيق، فقد سما بالمتاعب![10]] ربما يتساءل البعض: لماذا اخذوا آلات التسبيح إلى أرض السبي، وهم يعلمون أنه لا يجوز لهم أن يسبحوا تسابيح صهيون في أرض غريبة؟ يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن هذا حدث بسماح من الله لكي برؤيتهم لها يحزنون على ما وصلوا إليه، فيرجعون إلى الرب، أو لكي تلتهب قلوبهم شوقًا وحنينًا للعودة إلى وطنهم خلال التوبة. * "سألنا الذين سبونا كلام تسابيحنا". فإن الأرواح الشريرة التي خدعتنا وقادتنا إلى الأسر في استخفاف تهزأ بنا: "قدموا لنا كلمة إيمانكم، افعلوا هذا كما اعتدتم وأنتم تسبحون تسبحة الله حين كنتم في أورشليم"[11]. القديس جيروم 2. حب قلبي لأورشليم كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ [4] حسب اليهود أن الترنم في أرض السبي أمر غير لائق، وأنه لأمر سخيف أن يطلب منهم من سبوهم هذا. فمن جهة كيف يسبحون الترانيم التي كانت تُقدم في المقدسات الإلهية في أرض دنسة، ومن جانب آخر كيف يفعلون هذا كأنهم قد نسوا وطنهم؟! لعل الله سمح لهم بهذا، لكي يتذكروا أنهم قد دنسوا الهيكل بإرادتهم حين كانوا في بلادهم، الآن ها هم في أرض مدنسة بالأوثان، جاءوا إليها مسُوقين بغير إرادتهم. إن الحاجة الحقيقية لا العودة إلى أورشليم الأرضية، بل عودة القلب إلى رب أورشليم القادر أن يقيم من قلوبهم مقدسًا يسكن فيه، ويملأه بفرح الروح. يقول القديس غريغوريوس النزينزي إنه يليق بنا أن نفكر في الله حتى أكثر من تنفسنا، وإن ننشغل به. غير أنه يلزمنا أن نعرف الوقت المناسب والحدود اللائقة لكل عمل[12]. يسجل لنا القديس جيروم مشاعره وهو ملتزم بالخروج من روما إلى الشرق، وكأنه قد خرج من أرض الغربة مع أن الغرب وطنه، وانطلق إلى مدينته في الشرق. لقد شعر أنه كان من الصعب أن يسبح الله في أرض الغربة. * أكتب إليكِ في عجالة أيتها السيدة العزيزة أسيلا Asella، فإنني ذاهب لأبحر، وقد ابتلعني الحزن والدموع، إلا أنني أشكر الله أنه حسبني أهلًا لكراهية العالم (لي). صلي من أجلي، لكي أرى أورشليم مرة أخرى بعد بابل... كنت غبيًا حين أردت أن أسبح تسبحة الرب في أرضٍ غريبة، وأن أترك جبل سيناء وأطلب معونة مصر. لقد نسيت أن الإنجيل يحذرنا إذ من ينزل من أورشليم يسقط عليه اللصوص للحال ويُنهب ويُجرح ويُترك ليموت (لو 10: 30-35)[13]. القديس جيروم * أتريدون أن تذكروا الرب على الدوام؟ مارسوا أعمال اليمين (الأعمال المقدسة). "ليلتصق لساني بحنكي، إن لم أذكرك!" لأفقد القدرة على الكلام تمامًا، وقوة العمل، إن لم تكن ذكراك (يا الله) حاضرة في قلبي[15]. القديس جيروم الأب بينوفيوس يواسي داود هذه النفس البائسة قائلًا: "يا بنت بابل الشقيَّة!" حقًا إنَّها شقيَّة لأنها بنت بابل، حيث رفضت بنوَّتها لأورشليم أي السماء (وتمسَّكت بالخطيَّة بابل أرض السبي). ومع ذلك فإنَّه يدعو لها بالشفاء قائلًا: "طُوبَى لِمَنْ يُكافئك مكافأتك التِي جَازَيْتِنَا! طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ، ويدفنهم عند الصَّخْرَةَ!" (مز ١٣٧: ٩). أي يدفن أفكارها الفاسدة المضادة للمسيح. فقد قيل لموسى: "اخلع نعليك من رجليك" (خر ٣: ٥). فكم بالأولى يلزمنا نحن أن نخلع من أرجلنا الروحيَّة رباطات الجسد، وننظِّف خطواتنا من كل ارتباطات العالم؟![17] القديس أمبروسيوس بالتأكيد لا يمكن أن نَقبَل هذا الرأي، لا يجب أن نكون مثل الخيول العنيفة الجامحة التي تُلقي براكبها أرضًا، فنطرح العقل عنا، والتي تلفظ اللجام من فمها، ونفعل مثلها، فنلفظ التمييز والإفراز الذي يكبحنا ويتحكم فينا لفائدتنا، فنجمح بعيدًا عن مسارنا. لتكن مناقشاتنا في داخل حدودنا، ولا تحملنا إلى مصر أو تجرنا إلى أشور. لنحذر من أن "نرنم ترنيمة الرب في أرضٍ غريبة" (مز 137: 4). وأعني بهذا ألا نتناقش أمام أي نوع وكل نوع من السامعين، وثنيين أو مسيحيين، أصدقاء أو أعداء، متعاطفين أو عدائيين، فإن هؤلاء يراقبوننا ويتربصون بنا، ويتمنون أن تصبح شرارة أي اختلاف بيننا حريقًا، ويشعلون الحريق، ويحركون المراوح كي يزداد اشتعالًا، حتى يرتفع اللهب إلى عنان السماء، ودون أن ندري. فإنهم يرفعون اللهب إلى أعلى من الأتون المتقدة في بابل (دا 3: 20). وحيث أنه ليس لديهم قوة في تعليمهم، فإنهم يبحثون عنها في ضعفنا. ولهذا فإنهم مثل الذباب الذي يستقر على الجروح، يقفون على كوارثنا، أو بالأحرى على أخطائنا. علينا ألا نتغاضى عن أفعالنا أكثر من هذا، وعلينا ألا نهمل اللياقة في هذه الأمور. وإذا كنا لا نستطيع أن نحسم خلافاتنا ومنازعاتنا تمامًا وفورًا، فعلينا على الأقل أن نتفق على أن نتحدث بالحقائق الروحية بالاحترام الواجب، ونناقش الأمور المقدسة بطريقة مقدسة، ولا نذيع على أسماع المستهزئين ما لا يجب إذاعته. يجب ألا نكون أقل احترامًا وتبجيلًا من أولئك الذين يعبدون الشياطين، ويبجلون القصص والأشياء الخارجة عن اللياقة. إن هؤلاء مستعدون للتضحية بدمائهم قبل أن يفشوا كلمات معينة لغير المؤمنين بعقائدهم. ويجب أن ندرك أنه كما توجد معايير معينة للياقة والاحترام في الملبس والطعام والضحك والمظهر، فإن هذا ينطبق أيضًا على الكلام والصمت، خاصةً عندما نقدم تكريمًا خاصًا "للكلمة" (كلمة الله) عندما نستعمل هذا اللفظ كأحد ألقاب الله وصفاته. وحتى جدالنا يجب أن يكون محكومًا بقواعد[18]. القديس غريغوريوس النزينزي * طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد، قائلًا: "كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟" (مز 137: 4). طالما نحن في بابل لن نستطيع أن نسبح الرب، لأن الآلات التي تستخدم في توصيل النغمات للرب، معلقة دون استخدام، لذلك يقول النبي: "على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثاراتنا)". طوال وجودنا في بابل، تظل قيثاراتنا معلقة على الصفصاف؛ لكن إذا جئنا إلى أورشليم حيث "رؤية السلام"، فإن القيثارات التي كانت قبلًا معلقة بلا استخدام، ترجع مرة أخرى إلى أيادينا ونظل نعزف عليها بلا توقف مسبحين الله. كما قلنا في البداية، إن النفس دائمًا موجودة في المكان الذي يحمل اسمها؛ كما أن نفس الخاطئ توجد في بابل، فإن نفس البار توجد في اليهودية. مع ذلك فإنها (نفس البار) توجد أيضًا في أماكن مختلفة داخل اليهودية نفسها، بحسب حياتها ودرجة إيمانها: قد تكون موجودة في "دان" التي يِشْغل أطراف اليهودية، أو في مواقع أفضِل من دان، أو في وسط اليهودية، أو في الأراضي المجاورة لأورشليم، أما النفس الأكثر سعادة فتكون في وسط مدينة أورشليم. من جهة أخرى، الإنسان الخاطئ الذي ارتكب أفظع أنواع الجرائم يكون في بابل، بينما الذي ارتكب خطايا أقل يكون في مصر[19]. العلامة أوريجينوس انظروا إلى عمل صنعة الإنسان يصبح كاروبين! ألم تكن خيمة الاجتماع صورة في كل شيءٍ؟ "وانظر فاصنعها على مثالها الذي أظهر لك في الجبل" (خر 25: 40)، ومع ذلك وقف كل الشعب حولها وتعبدوا! ألم يوضع الكاروبان حيث يستطيع كل الشعب أن يراهما؟ ألم ينظر الشعب إلى تابوت العهد، والمنارة، والمائدة، والقسط الذهبي، وعصا هارون، وسقطوا في تعبد؟ أنا لا أعبد المادة، أنا أعبد خالق المادة، الذي أصبح مادة من أجلي، آخذًا مسكنه في المادة، ومتمّما خلاصي من خلال المادة. "والكلمة صار جسدًا، وحل بيننا". إنّه واضح لكل إنسان أن الجسد مادة، إنها مخلوقة. أنا احيي المادة، وأقترب منها باحترام، وأعبد هذا الذي جاء خلاصي عن طريقه. أكرمها، ليس مثل الله، ولكن لأنّها ممتلئة من النعمة والقوّة الإلهيّة. لو كنتم ترفضون الصور بسبب الناموس، فلماذا لا تحفظون السبت، وتمارسون الختان، لأن الناموس يطلب هذه الأشياء. يجب أن تراعوا الناموس، ولا تحتفلوا بعبور المسيح من أورشليم. ولكن يجب أن تفهموا إنّكم لو حفظتم الناموس، فالمسيح لن يفيدكم في شيء (غل 5: 2). لقد حان الوقت لك أن تتزوّج زوجة أخيك وتقيم نسلًا له (تث 25: 5)، وأن لا ترنموا للرب في أرض غريبة (مز 7 13: 4) ولكن كفانا من ذلك! "قد تبطّلتم عن المسيح أيّها الذين تتبرّرون بالناموس، وسقطتم من النعمة" (غل 5: 4)[20]. القدّيس يوحنا الدمشقي القديس مقاريوس الكبير تَنْسَى يَمِينِي [5] يحمل هذا المزمور نوعًا من التبكيت للذين استقرت مشاعرهم وتبلدت، فأرادوا البقاء في أرض السبي لمصالح مادية شخصية. كان المسبيون يشعرون أنهم أن نسوا أورشليم يحل الفالج (الشلل) باليد اليمنى، حتى لا تعزف على القيثارة. كما يحل باللسان، فيصير الإنسان أخرس. هذا هو حال من ينسى وطنه السماوي، أورشليم العليا، فإنه يصير عاجزًا عن التمتع بالفرح الحقيقي، تُصاب يمينه بالفالج، فيعجز عن العمل اللائق به كابن لله، ويعجز لسانه عن القدرة على الكلام، فلا يستطيع الدخول في حوار مع مخلصه، وبالتالي يفقد لذة العمل الروحي عذوبة التسبيح! يرى القديس أغسطينوس أنه يليق بنا أن نذكر أورشليم السماوية، لكن لا يكفي ذكرها، إنما نذكرها ويلتهب قلبنا شوقًا إليها بحبٍ خالصٍ. فإن الأشرار يذكرون أورشليم أي الكنيسة أو المؤمنين، لكنهم يشعرون بأن المؤمنين يغلبونهم روحيًا، فلا يحبونهم بل يودون الخلاص منهم في بغضةٍ شديدةٍ بلا سبب. * انتبهوا كيف تسكنون في وسطهم يا شعب الله، يا جسد المسيح، يا جماعة المتجولين، أبناء العز، لأن بلدكم ليس هنا، بل في موضعٍ آخر (السماء)، لئلا تحبوهم، وتصارعوا لأجل بلوغ صداقتهم (مع قوات الظلمة)، وتخشوا أن تثيروا استياءهم، فإن بابل تبدأ تجد لذتها فيكم، وتنسوا أورشليم[22]. * "يلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك" يقول: ليتني أكون أبكم إن كنت لا أذكركِ. فإنه أية كلمة أو أي صوت يصدر عن من لا ينطق بترانيم صهيون؟ فإن لساننا هو ترانيم صهيون. ترانيم محبة العالم لسان غريب، لسان بربري، تعلمناه في سبينا. من ينسى أورشليم يكون أبكم بالنسبة لله. لا يكفي أن نذكرها، فإن أعداءها أيضًا يذكرونها، راغبين في طرحها. يقولون: "ما هي هذه المدينة؟ من هم المسيحيون؟ أي نوع من البشر هؤلاء المسيحيون؟ يا ليتهم لا يكونون مسيحيين!" الآن، جماعة الأسرى يغلبون الذين أسروهم، ومع هذا فهو متذمرون وثائرون ويريدون أن يقتلوهم بكونهم يعيشون كغرباءٍ بينهم. إذن لا يكفي أن نذكرها، إنما لتهتموا كيف تذكرونها. فإننا نذكر بعض الأمور بكراهية، وبعضها بالحب[23]. القديس أغسطينوس ماذا يعني: "تنسى يميني"؟ إنه يقول "تنسى قوتي، لينسَ سلطاني، وأصير أبكم بسبب عظم جُرم الشرور"[24]. القديس يوحنا الذهبي الفم إجابة القديس برصنوفيوس: أيها الأخ، مكتوبٌ: "إن نسيتكِ يا أورشليم، تنسَى يميني" (مز 137: 5)، هذا بخصوص التذكُّر. أما عن كيف يجب أن يتعامل الإنسان مع الأخ، فإن الذي يريد أن يُرضي الله يقطع مشيئته لأجل قريبه بأن يغصب نفسه. لأنه مكتوبٌ: "ملكوت السماوات يُغصَب، والغاصبون يختطفونه" (مت 11: 12). فاعرف، إذن، كيف يستريح أخوك وافعل هكذا، وأنت أيضًا تجد راحةً من الله بالمسيح يسوع ربنا، له المجد إلى الأبد آمين. القديس برصنوفيوس إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي! [6] * لنسمع نحن جميعًا هذا ونتعلم، وذلك مثل هؤلاء الذين اُستبعدوا منها، ها هم يبحثون عنها. هكذا كثيرون منا سيكون لنا هذه الخبرة في ذلك اليوم الرهيب، عندما يُستبعدون من أورشليم العليا. بينما كان لهؤلاء الرجاء في العودة بعد استبعادهم، أما بالنسبة لنا فلا يكون ممكنًا بعد الاستبعاد أن نرجع في ذلك الحين... لهذا من الضروري لنا أن نهتم جدًا بخصوص أمورنا وسلوكنا في الحياة الحاضرة بطريقة لا نصير فيها أسرى أو منفيين أو نُستقصى من تلك المدينة أمنا[25]. القديس يوحنا الذهبي الفم 3. بابل المُخْربَةَ اُذْكُرْ يَا رَبُّ لِبَنِي أَدُومَ، يَوْمَ أُورُشَلِيمَ، الْقَائِلِينَ: هُدُّوا هُدُّوا حَتَّى إِلَى أَسَاسِهَا [7]. يكشف لنا سفر عوبديا موقف أدوم من جهة شماتتهم، بل والتحالف مع البابليين حيث كانوا يلقون القبض على اليهود الهاربين ويسلمونهم للبابليين. لا يستطيع المؤمن أن يحطم خطة إبليس، ولا أن يقف أمامه في المعركة الروحية، إنما يصرخ إلى المخلص القادر أن يواجه هذا العدو. يرى القديس جيروم أن المتحدث هنا هو آدم الذي بحسد إبليس له طرده من الفردوس. وأن أدوم هو إبليس الدموي، لذلك يطلب آدم من الله أن يعاقب إبليس على حقده له وسحبه إلى بابل وسط الأشوريين! * كل الجسدانيين هم أعداء للروحيين، فإن مثل هؤلاء الذين يطلبون الزمنيات يضطهدون الذين يطلبون الأبديات... مرة أخرى يتطلع المرتل إلى أورشليم، ويطلب من الله أن ينقذها من السبي. ماذا يقول؟ "اذكر يا رب لبني أدوم". خلصنا من الجسديين، من أولئك الذين يتمثلون بعيسو، هؤلاء الإخوة الكبار، لكنهم يحملون عداوة. هم أبكار لكن الأخيرين سموا عليهم، لأن شهوات الجسد أسقطت الأولين، بينما الاستخفاف بالشهوة يرفع الأخيرين. الأولون يعيشون ويحسدون ويضطهدون. "في يوم أورشليم"؛ هل يوم أورشليم هو يوم تجربتها، يوم سبيها؟ أم يوم سعادتها عندما تتحرر من السبي، عندما يتحقق هدفها، عندما تتمتع بالشركة في الأبدية؟ يقول: "القائلين هدوا هدوا، حتى إلى أساسها". إذن يعني ذاك اليوم الذي فيه أرادوا أن يهدوا أورشليم. يا لشدة الاضطهادات التي تحتملها الكنيسة! من هم أبناء أدوم؟ الجسدانيون، خدام إبليس وملائكته... الذين يتبعون شهوات الجسد يقولون: استأصلوا المسيحيين، حطموهم! لا تتركوا أحدًا منهم يعيش! انزعوهم من أساسهم! أما يُقال هذا؟ وعندما قيل هذا طُرح المضطهدون وتكلل الشهداء[26]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ،طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا! [8] وإن كانت بابل هي الآلة التي استخدمها الله لتأديب شعبه، غير أن هذه الآلة كانت غاية في العنف والتخريب، تشامخت على الله نفسه. يخاطبها الرب نفسه، قائلًا: "غضبت على شعبي، دنَّست ميراثي، ودفعتهم إلى يدكِ. لم تصنعي لهم رحمة. على الشيخ ثقَّلتِ نيرك جدًا" (إش 47: 6). كما يقول: "وأنا مغضبٌ بغضبٍ عظيم على الأمم المطمئنين. لأني غضبت قليلًا، وهم أعانوا الشر. لذلك هكذا قال الرب: "قد رجعت إلى أورشليم بالمراحم، فبيتي يُبنى فيها يقول رب الجنود، ويُمد المطمار على أورشليم" (زك 1: 15-16). يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل لم يكن يشتهي أن يجازيهم حسب أعمالهم، وذلك كما ورد في مز 7: 9، إنما يعلن أنهم إذ ينالون استحقاقهم حسب أعمالهم يسقطون تحت هذا الجزاء القاسي. هذا ولا تنسَ أن ما ورد في العهد القديم يلزم تفسيره رمزيًا، فتكون بنت بابل هي مملكة إبليس. فكما أن بنت صهيون أو أورشليم كانت رمزًا لمملكة المسيح الروحية، فتقابلها بنت بابل، المدينة التي تُدعى في سفر الرؤيا "أم الزواني". * "يا بنت بابل الشقية". شقية حتى في بهجتها، وفي وقاحتها، وفي عداوتها![28] القديس أغسطينوس "طوبى لمن يجازيكِ جزاءك الذي جازيتينا". طوبى لمن يرد لها ما فعلته. هي سحبتني من جنة الفردوس، بالصوم أردها إلى موضعها ذاته. هي اقتنصتني في الزنا، بالطهارة أردها إلى أورشليم، من الرذيلة أردها إلى الفضيلة. لا أعاملها كعدوة، بل أتعامل معها كصديقة[29]. القديس جيروم وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ! [9] يرى البعض أن هذه الطلبة ليست شهوة قلب المرتل، إنما هي نبوة عما سيحدث فعلًا، فقد جاء في إشعياء النبي: "تُحطم أطفالهم أمام عيونهم، وتُنهب بيوتهم، وتُفضح نساؤهم" (إش 13: 16). هذا بجانب ما لهؤلاء الأطفال من معانٍ رمزيةٍ كما سنرى في كتابات الآباء. * من هم أطفال بابل؟ الشهوات الشريرة عند ميلادها. فإنه يوجد من يحارب جذور الشهوات. عندما توُلد الشهوة، وقبل أن تقوى عادة الشر ضدكم، عندما تكون الشهوة طفلًا، لا تتركوها بأية وسيلة أن تصير عادة شريرة قوية؛ حطموها! لكن لتخشوا لئلا وأنتم تحطموها لا تموت. "اضربوها بالصخرة، والصخرة هي المسيح" (1 كو 10: 4)... لتُبنوا على الصخرة... إن أردتم أن تتسلحوا ضد التجارب في هذا العالم، فلينمُ اشتياقكم إلى أورشليم الأبدية. ولتقوَ قلوبكم. بهذا يزول أسركم، وتعود إليكم سعادتكم، وتسيطروا على عدوكم، وتنتصروا بملككم ولا تموتوا[30]. القديس أغسطينوس * بالحري أقتل إغراءات الرذيلة وهي لا تزال أفكارًا، وحطِّم أطفال بنت بابل بالحجارة، حيث لا يمكن للحية أن تترك أثرًا عليها. لتكن يقظًا وتنذر للرب نذرًا. "فلا يتسلطوا عليَّ، حينئذٍ أكون كاملًا، وأتبرأ من ذنبٍ عظيمٍ" (مز 19: 13). ففي موضع آخر يشهد أيضًا الكتاب المقدس: "يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع" (عد 14: 18). بمعنى أن الله لا يعاقبنا فورًا على أفكارنا ويأخذ القرار، إنما يجعل المجازاة على نسلها، أي على الأفعال الشريرة وعادات الخطية التي تثور منها. وكما يقول على فم عاموس: "من أجل ذنوب هذه المدينة وتلك الثلاثة والأربعة لا أرجع عنها" (راجع عا 1: 3)[32]. القديس جيروم يدعو (المرتل) الخطية شقية، لأن ليس لها وجود، ولا كيان في ذاتها، إنما وجودها يقوم على إهمالنا. مرة أخرى بإصلاحنا تتحطم الخطية وتفقدها وجودها[33]. الأب دوريثيؤس من غزة أيضًا بنت بابل هي جماعة الأمم التي ضرب الرسل المطوبون أولادها بالصخرة التي هي ربنا يسوع المسيح، وجعلوهم طائعين له بالإيمان. كل نفس خاطئة يقال عنها بنت بابل، أما أطفالها فهي شهواتها، فطوبى لمن يحطمها ويُخضعها للمسيح الإله الذي هو الصخرة الثابتة. الأب أنسيمُس الأورشليمي العلامة أوريجينوس الأب خروماتيوس من وحي المزمور 137 لتمرر الخطية في فمي! * كم أنت حلو يا إلهي! أنت فرح قلبي وتهليل نفسي! في غباوة انجذبت إلى ملذات الخطية. وحسبت أن العالم قادر أن يُشبع نفسي! عطشت إلى مياه الخطية، وظننت أنها قادرة أن ترويني! وإذا بملوحتها أفسدت أعماقي! لأرجع إليك، فأنت ينبوع المياه الحية. * مع المسبيين أجلس عند أنهار بابل. أبكي وأنوح، لأن خطاياي كبَّلتني بالقيود، وملذاتها سحبت قلبي كما إلى السبي. الآن في مرارة أدركت أنني بالحق صرت في بؤسٍ. علقت قيثارات الفرح على أشجار الصفصاف العقيمة! كيف أعرف لحنًا مفرحًا سماويًا بأعماقي العقيمة. خطاياي حرمتني من ثمار روحك القدوس. خطاياي عزلتني وسحبتني من وطني السماوي. من يفك أسري سواك؟! من يطلقني من حزني إلا غنى نعمتك! * هب لي بروحك القدوس تبكيتًا على خطاياي. وليحملني إلى الجلجثة، فأتمتع بالتطلع إلى صليبك المحيي. تمتلئ نفسي رجاءً بخلاصك. وينفتح لساني بتسابيح المفرح. وتمتلئ أعماقي ببهجة الخلاص. * يحملني روحك القدوس كما إلى عربون السماء. بل يقيم من قلبي هيكلًا مقدسًا لك! * ملذات الخطية أفسدت قلبي. جعلت منه بابل الشقية، عوض ثمر الروح أنبت قلبي شوكًا وحسكًا! روحك الناري يحرق أشواك الخطية، ويحَّول قفري إلى جنة مبهجة! * بنعمتك أضرب بأطفال بابل الصخرة. أنت هو الصخرة التي تحطم كل فسادٍ! أنت سرّ نصرتي وإكليلي! لتمرر كل خطية في فمي، فاستعذب برّك، وأختبر حلاوة الشركة معك. لتنطلق نفسي من السبي البابلي، وأنعم بأورشليم السماوية في داخلي! |
||||
22 - 07 - 2014, 07:12 PM | رقم المشاركة : ( 162 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 138 (137 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير
التسبيح وقت الضيق صور لنا المزمور السابق المسبيين وهم جالسون عند أنهار بابل، يملأ الحزن قلوبهم. لذلك علقوا قيثارتهم على أشجار الصفصاف العقيمة، إذ لا مجال للتسبيح ماداموا في أرض السبي، محرومين من التمتع بمدينة الله أورشليم، وهيكل الله. الآن في هذا المزمور يقدم لنا المرتل صورة مبهجة، للإنسان الذي يشعر بالحضرة الإلهية، محمولًا على الأذرع الأبدية وسط الضيق. كثيرًا ما يظن الإنسان أن الضيق ينزع عن الإنسان روح التسبيح. غير أن خبرة رجال الله في العهدين على خلاف هذا، فإنه وإن لازم الضيق نوعًا من القلق أو الخوف أو الحزن، لكن إذ يركز المؤمن عينيه على مخلصه وعلى مواعيده الأمينة، سرعان ما تنفتح على محبة الله، وتمتلئ أعماقه بالتعزيات الإلهية، فلا يعوقه الضيق عن التسبيح. جاء العنوان "لداود"، وتساءل البعض كيف يمكن أن يكون الكاتب داود في وقتٍ لم يكن بعد قد بني هيكل سليمان. غير أن كلمة "هيكل" يُمكن أيضًا أن تُطلق على خيمة الاجتماع قبل بناء الهيكل. يقدم لنا المرتل صورة حيَّة عملية عن بركات الضيق في حياة المؤمن: 1. يعيننا الضيق على الصلاة والتسبيح [1-3]. 2. الضيق لا يعوقنا عن الشهادة لمخلصنا [4-6]. ربما كان داود النبي وسط الوثنيين، ويلتقي بملوك وعظماء أثناء التسبيح بهذا المزمور. فقد حرص أن يوجّه حتى الوثنيين نحو التسبيح لله. 3. الضيق هو الطريق للتمتع بالإنجيل [7]، فيختبر المؤمن الحياة في المسيح يسوع، والنصرة على عدو الخير. 4. الضيق يفتح أعيننا على مراحم الرب [8]، فنراه محاميًا عنا، وملجأ لنا. يرى بعض الدارسين أن المزمور يحمل نغمة الشكر وروح العرفان بالجميل لله، قدمه المرتل بعد شفائه من مرضٍ أو ضيقة شخصية [3، 7]. الكاتب شخص يمثل الشعب كله، قد يكون ملكًا أو رئيس الكهنة. 1. شكر وحمد من أجل خلاص إلهي 1-5. 2. الله الديان منقذ مؤمنيه 6-8. من وحي المزمور 138 [FONT=""]العنوان[/FONT] لِدَاوُدَ [FONT=""]1. شكر وحمد من أجل خلاص إلهي[/FONT] أَحْمَدُكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِي. قُدَّامَ الآلِهَةِ أُرَنِّمُ لَكَ [1]. تتسم شخصية داود أنه دائم الشكر، ليس فقط عندما يستجيب الله لصلاته، وإنما وهو بعد في الضيق. إنه لا يلتجئ إلى الصلاة فحسب عند وقت الضيق، إنما يمزج صلواته بالتسبيح. يشعر دومًا أنه في حماية مخلصه. لا يعرف قلبه الناري سوى الشكر والتسبيح، وكأنه قد كرس كل طاقاته لهذا العمل السماوي المقدس. يرنم المرتل هنا باسم الكنيسة كلها، فهي تعبد الرب في وحدة وتناغم كما لو كانت شخصًا واحدًا. وكأن المتحدث هنا هو الكنيسة التي تضم المؤمنين ومعهم السمائيين. يرى البعض أن "الآلهة" هنا يُقصد بهم الملوك والقادة العظماء. لم يكن يخجل من أن يشكر الله ويسبحه قدامهم. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "أعترف لك يا رب من كل قلبي. لأنك استمعت كل كلمات فمي. أمام الملائكة أرتل لك. وأسجد قدام هيكلك المقدس". يترجمها البعض: "قدام الملائكة أرنم لك بالمزامير"، فإنه ليس مخفيًا عنا أن الملائكة تحوط بمختاري الله، وتفرح وتتهلل عندما تجدهم بفرحٍ يسبحون الله ويرتلون له، متشبهين بهم. حين يمارس المؤمنون عملهم كأعضاء في جسد الرب القائم من الأموات، يتمتعون بحضور الملائكة أثناء تسابيحهم كما كانت الملائكة تحيط بجسد الرب في القبر. يقول القديس أغسطينوس إنه يليق بنا أن نعترف لله بكلمات التسبيح من فمنا الداخلي، أي من القلب، فإن الله يستمع لهذه الكلمات التي لا يسمعها البشر. * أي فم إلا قلبي؟ فإن يوجد لنا الصوت الذي يسمعه الله، ولا تعرفه إذن الإنسان قط. لنا فم في الداخل، من هناك نسأل، من ذلك المكان نسأل؛ فإن أعددنا مسكنًا أو بيتًا لله، فمن هناك نتكلم، وهناك يُسمع لنا. "عن كل واحدٍ منا ليس بعيدًا، لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع 17: 27-18). ليس شيء يجعلكم بعيدًا عنه سوى الخطية وحدها. "أمام الملائكة أرتل لك". لا أرتل اك أمام البشر، إنما أمام الملائكة. ترنيمتي هي فرحي؛ لكن فرحي بالأمور السفلية هي أمام البشر، أما فرحي بالأمور العلوية فهي أمام الملائكة. لا يعرف الأشرار فرح الأبرار. "لا فرح قال إلهي للأشرار" (راجع إش 48: 22؛ 57: 21). الشرير يفرح في حانته، والشهيد في قيوده[1]. القديس أغسطينوس "قدام الملائكة أرتل لك". لتفكروا في تشجيع ذاك التائب! بعد الاعتراف والتوبة يتأهل للتسبيح مع الملائكة! من يسبح لا يعود يمارس الندامة بل يشكر ويبارك[2]. * بعد التوبة والاعتراف يتأهل (المؤمن) أن يرنم مع الملائكة[3]. القديس جيروم وأيضًا معناه أن نجتهد لنرتل لك كما ترتل الملائكة. الأب أنسيمُس الأورشليمي * في تفسير الأسفار المقدسة أكسر الخبز لكم. إن كنتم جائعين لقبوله، فإن قلوبكم تتغنى بكمال التسبيح[4]. القديس أغسطينوس من الجانب الآخر، إن فهمنا العبارة بالترجمة الأخرى يبدو لي أنه يتحدث هنا عن الكهنة. فقد اعتاد الكتاب المقدس كما ترون أن يدعو الكاهن ملاكًا وإلهًا (خر 22: 28 LXX؛ ملاخي LXX)[5]. القديس يوحنا الذهبي الفم وَأَحْمَدُ اسْمَكَ عَلَى رَحْمَتِكَ وَحَقِّكَ، لأَنَّكَ قَدْ عَظَّمْتَ كَلِمَتَكَ عَلَى كُلِّ اسْمِكَ [2]. يرى البعض أن المقصود هنا ليس الهيكل، وإنما خيمة الاجتماع المقدسة، إذ لم يكن قد بُني الهيكل بعد. يقصد بالقول: "كلمتك" وعودك الإلهية، فمن أجل رحمته وحقه أو إخلاصه وأمانته يحقق كل وعوده الإلهية. أما قوله "عظمت كلمتك"، فتعني أن الله لا يتمم وعوده التي نطق بها فحسب، إنما يعطي ويقدم أكثر مما يعد. يرى البعض أن "كلمتك" هنا يُقصد بها الكلمة الإلهي، فإن كان بالتجسد قد تواضع الكلمة الإلهي، فإن الآب يَّعظمه ويمجده، بإظهار ما له من أمجاد أخفاها بالتجسد الإلهي. يقول القديس أغسطينوس إنه توجد كنيسة فوق، حيث الملائكة. وتوجد كنيسة أسفل حيث يوجد المؤمنون. لقد نزل الله لكي يخدمنا، وصارت الملائكة أيضًا تخدمنا، وصرنا نحن هيكل الله (1 كو 3: 17). هكذا يليق بنا ونحن نسجد لله، أن نركز أنظارنا نحو أعماقنا التي يقيم منها ربنا يسوع ملكوته. * لذلك: "أسجد نحو هيكل قدسك"، أقصد لا الهيكل المصنوع بأيدٍ، بل الذي صنعته أنت لنفسك[6]. القديس أغسطينوس "على رحمتك وحقك". ليت الخاطي يهتم بالكلمة "رحمتك"، والمتكبر يلتفت إلى كلمة "حقك"[7]. القديس جيروم إن كان هكذا ينبغي التكريم في حالة الملوك، فبالأولى بالنسبة لإله الكل. "واعترف لاسمك على رحمتك وحقك". ماذا يعني هذا؟ يقول إنني أشكرك لتمتعي برعايتك العظيمة؛ إنها ليس من أجل أعمالي الصالحة، عُدت لاقتناء وطني ورؤية الهيكل، إنما ذلك من أجل رحمتك ورأفتك. من أجل هذا أسجد لك، ولأجل ذلك أعترف لك. ومع أني مستحق العقوبة والجزاء وبحق أستحق أن التمس منك على الدوام وأنا في أماكن غريبة أن تحقق لي عودة سريعة. "لأنك قد عظمت اسمك فوق كل شيءٍ". ما يقصد هو أمر كهذا: إنني أشكرك ليس فقط من أجل الإحسانات، وإنما من المجد الذي لا يُنطق به، والعظمة غير المحدودة والطبيعة التي لا توصف... إنك إن استدعيت ملائكة أو رؤساء ملائكة، شياطين أو عناصر خالية من الحس، صخورًا أو بذورًا، الشمس أو القمر، الأرض أو المحيط، السمك أو الطيور، البرك أو الينابيع أو الأنهار، فإن اسمك يظهر عظيمًا في كل شيءٍ. عوض "عظمت اسمك المقدس فوق كل شيء"، جاء في ترجمة أخرى: "عظمت كلمتك فوق كل شيء"، وفي أخرى: "منطوقاتك"[8]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي شَجَّعْتَنِي قُوَّةً فِي نَفْسِي [3]. يعلن المرتل عن سرّ التهاب قلبه بالتسبيح والشكر لله، ألا وهو خبرته اليومية ففي أية ضيقة يًسرع نحو الله يدعوه ويصرخ إليه، فإذا بالإجابة - أيا كان نوعها- تتحقق سريعًا. يشعر بقوة إلهية تنسكب في أعماق نفسه، تنزع عنه الخوف، وتعطيه الإمكانية لمواجهة الخطر بكل شجاعة. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "في اليوم الذي أدعوك فيه أجبني بسرعة. تكثر التطلع على نفسي بقوة". * هب لي أن أسأل ما تعلمني أن أسأله... يقول: "لتكثر لي في نفسي الفضيلة[9]. القديس أغسطينوس القديس جيروم "تجلب قوة تستقر في نفسي"... بقوتك توسعني، بقدرتك ترفعني وتعينني... وذلك كما حدث في حالة الرسل، إذ خرجوا فرحين أنهم جلدوا (أع 5: 41)، وبهذا صارت نفوسهم كبيرة (متسعة). هذا عمل خاص لقوة الله، فوق الكل تعلن قدرته، فتمنع النفس من أن تنحدر في وسط المتاعب[11]. القديس يوحنا الذهبي الفم * يستجيب الله استغاثة المؤمنين إذا كانت بديانةٍ وورعٍ ومداومة، وإن كان المطلوب يؤول إلى خلاص النفس. الأب أنسيمُس الأورشليمي إِذَا سَمِعُوا كَلِمَاتِ فَمِكَ [4]. أمانة الله في تحقيق وعوده للمرتل صارت شهادة قوية أمام ملوك الأرض. يعرفون ما قد وعد به الرب، وكيف تتم وعوده الإلهية. يعلن المرتل أن كل ملوك الأرض يعترفون لله بالتسبيح والترنم. من هم ملوك الأرض، إلا المؤمنون الحقيقيون، الذين يهبهم روح الملوكية والسلطان أن يدوسوا على قوات الظلمة وكل الشرور؟! إن كان ملوك الأرض والعظماء لا تنقصهم السلطة ولا يحتاجون إلى شيء، فإنهم إذ يسمعون كلمات الرب يجدون فيها عذوبة فائقة، فتفرح نفوسهم بالتهليل له. * ليتك لا تسمح لهم عندما يعترفون لك ويسبحونك أن يشتهوا الأمور الأرضية منك[12]. القديس أغسطينوس هل يمكنكم للحظة واحدة أن تعتقدوا بأن قلب يوليان الجاحد في يد الله؟ حاشا! أو قلب نيرون أو مكسيميانوس أو داكيوس Dicus هؤلاء المضطهدون؟ حاشا! إنه يتحدث عن أولئك الذين يتحكمون على الخطية، هؤلاء الذين قلوبهم في يد الله، لذلك قهروا الرذائل وأهواء نفوسهم، وبالتالي قهروا الخطية. "إذا سمعوا كلمات فمك" عندما يحفظون وصاياك ويصونوها[13]. القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي لأَنَّ مَجْدَ الرَّبِّ عَظِيمٌ [5]. ما هي طرق الرب سوى الرحمة والحق الإلهي، يسلك فيها الملوك الحقيقيون بروح الفرح والتواضع. * لا تدع ملوك الأرض أن يتكبروا، بل يتواضعوا. ليتهم يرتلون في طرق الرب، إذ يكونون متواضعين. ليحبوا فيرتلوا. نحن نعرف أن المسافرين يغنون، إنهم يغنون ويسرعون ليبلغوا نهاية رحلتهم. توجد أغانٍ شريرة تخص الإنسان العتيق، أما الجديد فله أغنية جديدة. ليت ملوك الأرض أيضًا يسيرون في طرقك. ليتهم يسيرون ويغنون في طرقك. بماذا يغنون؟ "عظيم هو مجد الرب"، وليس مجد الملوك[15]. القديس أغسطينوس القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم [FONT=""]2. الله الديان منقذ مؤمنيه[/FONT] لأَنَّ الرَّبَّ عَالٍ وَيَرَى الْمُتَوَاضِعَ. أَمَّا الْمُتَكَبِّرُ فَيَعْرِفُهُ مِنْ بَعِيدٍ [6]. يرى داود النبي أن ملوك الأرض يمجدون الرب، لأنه يهتم بالمتواضع أي بداود، ويبتعد عن المتكبر أي عن أعداء داود. * انظروا كيف أراد من الملوك أن يرتلوا في طرقهم حاملين الرب بتواضعٍ، وليس رافعين أنفسهم ضد الرب. فإنهم أن رفعوا أنفسهم ماذا يحدث؟ "لأن الرب عالٍ، ويكرم المتواضعين". هل يريد الملوك أن يكونوا مُكرمين؟ فليتواضعوا... وماذا عن المتكبرين؟ يعرفهم من بعيد... لا تظنوا أنكم تصيرون في أمان على أساس أنكم لا تُرون بوضوح، إذ يراكم من بعيد... فإن الله وإن كان يراكم من بعيد، يراكم بطريقة كاملة، ومع هذا لا يكون معكم[18]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم الأب قيصريوس أسقف آرل ليعلم المتواضعون أن "قبل الكرامة التواضع" (أم 15: 33)، وليعلم المتكبرون أن: "قبل الكسر الكبرياء" (أم 16: 18). ليعلم المتواضعون أن: "وإلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش66: 2)، وليذكر المتكبرون القول: "لماذا يتكبر التراب والرماد" (سي 10: 9). ليعلم المتواضع أن "الرب عالٍ، ويرى المتواضع"، وللمتكبر يقول: "أما المتكبر فيعرفه من بعيد" (مز 138: 6)[21]. ليعرف المتواضعون أن: "ابن الإنسان لم يأت ليُخْدَم بل ليخدم" (مت 20: 28)، وليعلم المتكبرون أن "الكبرياء أول الخطأ (ومن رسخت فيه فاض أرجاسا)" (سي 10: 15). ليعلم المتواضعون أن مخلصنا: "وضع نفسه، وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في 2: 8)، وليعلم المتكبرون ما هو مكتوب عن رئيسهم: "عند نهوضه تفزع الأقوياء" "هو ملك علي كل بني الكبرياء" (أي 41: 25، 34)[22]. الأب غريغوريوس (الكبير) * إذا جلست في قلايتك، فلا تترك قلبك يستعلي، ولا تتعظَّم بفكر قلبك، ولا تمدح نفسك، لأن الله يمقت الذين يمدحون أنفسهم وحدهم. وهو "يلتفت إلى صلاة المنسحقين". القديس أنبا بولا الطموهي عَلَى غَضَبِ أَعْدَائِي تَمُدُّ يَدَكَ، وَتُخَلِّصُنِي يَمِينُكَ [7]. يقدم لنا المرتل خبرته العملية، وهي أن الله نور العالم، نكتشفه في الوقت المناسب، حين تحاصرنا الظلمة، ويهجم علينا اليأس. في اللحظة الحاسمة يشرق الله بنوره، معلنًا أنه وإن كان طويل الأناة، يسمح لنا بالضيق، لكنه يعلن عمله لخلاصنا، ولن يبقى مختفيًا على الدوام. رعاية الله لنا خاصة وقت الضيق تكشف عن مجده كقديرٍ ومحبٍ في نفس الوقت. تشير يد الآب إلى الابن الذي تجسد ليتمم الخلاص. هكذا مُحاط المرتل بالضيقات، ويعاني من ثورات عدو الخير وقواته، لكن كلمة الله المتجسد، ربنا يسوع، يخلصه من كل شدة، ويهبه النصرة على إبليس وجنوده. * "إن سلكت في وسط الضيق تحيني". هذا حق: أيا كانت الضيقة التي أنت فيها، اعترف، أدعه، فإنه يحررك ويحييك... حب الحياة الأخرى، فسترى أن هذه الحياة ضيقة؛ مهما كان رخاؤك مشرقًا، مهما كانت مباهجك وفيرة وتفيض. فمادام هذا الفرح ليس في أمان دائم، ولست متحررًا من التجارب، بدون شك تحسب (الحياة هنا) ضيقًا... ليثر أعدائي، ماذا يستطيعون أن يفعلوا؟ يمكنهم أن يأخذوا مالي، يسلبونني، ينفوني، يعاقبونني، يصبون على الحزن والعذابات، وأخيرًا إن سُمح لهم يقتلونني. هل يستطيعون أن يفعلوا ما هو أكثر. إنك تمد يدك عليّ، فوق كل ما يستطيع أن يفعله أعدائي. فإن أعدائي لا يستطيعون أن يفصلوني عنك. إنك كلما تأخرت تنتقم لي بالأكثر... لأنك لن تجعلني أيأس، إذ يتبع ذلك: "وتخلصني يمينك"[23]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي يَا رَبُّ رَحْمَتُكَ إِلَى الأَبَدِ. عَنْ أَعْمَالِ يَدَيْكَ لاَ تَتَخَلَّ [8]. بروح الإيمان والثقة في الرب مخلصه يعلن أنه يدافع عنه. بذات الروح يقول الرسول بولس: "واثقًا بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملًا صالحًا يكمل إلى يوم السميح المسيح" (في 1: 6). إنه كرأس للجسد يحامي عنا نحن أعضاء جسمه. عندما طُلبت الجزية من سمعان بطرس قام بتسديدها، إذ طلب منه أن يذهب إلى البحر ويلقي صنارة ويأخذ السمكة المُصطادة فيجد في بطنها أستارًا، فيسدد أربعة دراهم عن الرب يسوع وسمعان بطرس (مت 17: 24-26). هكذا خلال الأربعة أناجيل دافع الرب عنا، ودفع عنا ديوننا بصليبه كما يقول القديس أغسطينوس. * إنني لا أجازي عن نفسي، بل أنت تجازي. ليثر أعدائي بأقصى ما لديهم، فأنت تجازي ما لا استطيع أنا أن أفعله... يقول الرسول: "لا تنتقموا أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب، لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب" (رو 12: 19)[25]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 138 بنورك حنوك تشرق عليّ * في وسط ضيقي اكتشف خطاياي وأخطائي. أدرك أنني ارتكب خطايا هذا مقدراها. ومع هذا فأنت تترقب توبتي ورجوعي إليك. إذ اكتشف الظلمة التي تحيط بي. ألجأ إليك يا شمس البرّ. تشرق عليَّ، فتبدد ظلمتي، وتعكس نور بهائك عليّ. مع صرخات قلبي في أنين، تلهج أعماقي بالشكر لك يا كلي الحب. * أعترف لك بخطاياي، فتغسل دنس نفسي، وتؤهلني للتسبيح مع قديسيك وملائكتك. وكأنك سمحت لي بالضيق، لا لأ شعر بضعفي في مذلة، إنما لتقيمني من المذلة، لأسبح مع أشراف أشراف خليقتك! * بالضيق تصرخ أعماقي قبل لساني. تسمع لغة القلب، وتستجيب لكلماته الخفية. * بالضيق أتحد مع إخوتي. أشعر بحاجتي إلى صلواتهم، كما أشعر بالتزامي بالصلاة عنهم. أدرك ضعفي، فأطلب عونهم الروحي. وأشعر بالتزامي مع عدم استحقاقي، أصلي معهم وعنهم كعضو في الجسد الواحد. * في ضيقي لا أطلب رفع الألم عني، إنما بالأكثر أطلب بقوتك تسندني؟ فأرتفع بقوتك، وألتحف ببرِّك. * في ضيقي تسمع صوتي، وأسمع صوتك. استعذب كلماتك، فيبتلعني فرحك السماوي. أكتشف وعودك العجيبة، فاحمل سلطانًا من لدنك. تقيمني ملكًا وسط أبنائك الملوك. يُعلن مجدك فينا يا ملك الملوك. * يا لبركات الضيق. اكتشف ضعفي، فأصرخ إليك. أراك قريبًا مني تتطلع إليّ عن قربٍ! أراك في داخلي تقيم ملكوتك. يمينك تحتضني، وتملأ أعماقي بقوتك. تُرهب إبليس وكل قوات الظلمة. فلن يجدوا لهم موضعًا في داخلي! تحيطني كسور نارٍ منيع. تحفظني من كل مكائد إبليس. لك المجد يا من لا تتخلى عن عمل يديك. |
||||
22 - 07 - 2014, 07:21 PM | رقم المشاركة : ( 163 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 139 - تفسير سفر المزامير الله العجيب للغاية في علاقته معىيكشف هذا المزمور عن سمات الله الفائقة التي يختبرها الإنسان الأمين في علاقته بالله. أما من يحاول الهروب منه، فيكتشف أنه يدخل في معركة خاسرة. تقوم أمانتنا في علاقتنا به على أساس إدراكنا أنه العالم بكل شيء، يعرف كل شيءٍ، حتى أسرارنا الخفية؛ والحاضر في كل مكان؛ والكلي القدرة؛ والكلي القداسة. هذه السمات الخاصة بالله، ليست بنودًا إيمانية عقلية نلتزم بقبولها، لكنها بالأكثر خبرة ممتعة يعيشها المؤمن في شركته مع الله. لهذا دعا أحد كبار المعلمين اليهود، ابن عزرا Aben Ezra هذا المزمور: "تاج كل المزامير". قيل عنه: لا يوجد موضع يتحدث عن سمات الله العظيمة بطريقة مدهشة مثلما عرضها هذا المزمور الرائع للغاية. فريد هو هذا المزمور في الحديث عن اهتمام الله بالإنسان، يحاصره الله من كل جهة، لأنه يحبه ويرعاه ويعمل لحساب مجده؛ روح الله يود ألا يفارقه، وإمكانيات الله تُقدم له، لأنه بدون الله يعجز عن أن يخطو. ينشغل بخلقته ويعمل فيه منذ بدء تكوينه كجنينٍ في الرحم، لذا فالإجهاض جريمة ضد الخالق المهتم بالجنين. أما عن معرفة الله التي يختبرها المؤمنون الملتصقون به فهي: 1. يعرف الله أعماقنا [1-6]، يعرفها أكثر من معرفتنا نحن لأنفسنا، لذا يليق بنا أن نكون منفتحين عليه، وأمناء، فنستريح في محبته (1 يو 4: 18). لا تقوم معرفته على قدرته وحدها، بل وعلى محبته لنا. عينه علينا ليرعانا، فلا مجال للخوف. 2. يعرف الله أين نذهب [7-12]، ليس فقط لأنه كائن في كل مكان، ولا يخفي عنه شيء، وإنما لأنه في محبته يطلب أن يرافقنا، في صعودنا وهبوطنا، في رحيلنا شرقًا أو غربًا، أي في انطلاقنا نحوه، أو محاولة هروبنا منه. في نمونا الروحي وحتى في لحظات سقوطنا. ما دام فينا نَفَسٌ واحدٌ، فهو يترجى توبتنا أي رجوعنا إليه. إن كان الأشرار يحاولون الهروب من الله، كما فعل أبوانا الأولان بعد سقوطهما، فيليق بنا نحن أن نهرب إليه حتى بعد سقوطنا. 3. يعرف من نحن [13-16] إنه خالقنا، وواضع خطة لنا، وواهبنا الحياة لنحقق رسالتنا. يعرف ما هو لصالحنا، ويهبنا الحرية والقدرة على التعقل لكي نقبل عمله فينا وبنا. 4. يعرف ما نفكر فيه [17-18]. إذ هو مشغول بنا، يطلب أن يكون موضوع تفكيرنا، لذا يليق بنا أن نتأمل فيه، وننعم بأسراره الإلهية (في 4: 8). 5. يعرف ما نحبه [19-22]. لذا يليق بنا أن نحبه في شخصه، ونبغض الشر (مز 79: 10)، فلا يحتل العالم مكانة في قلوبنا (1 يو 2: 15-17). 6. يعرف اشتياقاتنا [23-24]. يلزمنا أن تعترف بأننا نجهل حتى أعماقنا ذاتها (إر 17: 9-10)، لذا يليق بنا أن نسلمه قلوبنا، فيلهبها بالاشتياقات المقدسة، وندرك أنه هو طريق الحق الذي يلزمنا أن نسلك فيه. 1. الله العالم بكل شيء 1-6. 2. الله الحاضر في كل مكان 7-12. 3. الله صانعنا في الرحم 13-18. 4. الله حامينا من الأشرار 19-22. 5. اختبرني يا الله 23-24. من وحي المزمور 139 1. الله العالم بكل شيء لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. لِدَاوُدَ. مَزْمُورٌ يَا رَبُّ قَدِ اخْتَبَرْتَنِي وَعَرَفْتَنِي [1]. يبدأ المزمور بالحديث عن الله بكونه العالم بكل شيءٍ. هذه المعرفة المطلقة لله ليست عقيدة مجردة، بل هي خبرة عاشها المرتل في حياته، مختبرًا اهتمام الله بل دقائق حياته في كل مراحلها. هذه المعرفة لم تدفع المرتل إلى الخوف والرعب، بل إلى الفرح الداخلي والتهليل والتسبيح. إن كان الله يعرف حتى أفكارنا الخفية وعواطفنا وشهواتنا وكل أعمال إنساننا القديم، فإن في سلطانه أن يغَّيرها ويجددها، ويقدس كل ما في داخلنا. معرفته تهبنا الفرصة للمطالبة بعمله الإلهي فينا، لبنياننا وإعدادنا للمجد الأبدي. يعرف كل إنسانٍ في البشرية، وكل شيءٍ عنه، ولا يُخفى عنه شيء. بمعرفته لحقيقة الأمور، يقدم لنا ما هو لبنياننا مع تقديسه لحرية إرادتنا، فلا يُلزمنا بشيء بدون إرادتنا. حينما نقول: "اختبرتني"، لا يعني عدم معرفة الله لي قبل أن يختبرني، حاشا! فالله عالم بكل شيء، لكن هنا المعرفة ليست إدراكًا لأمور لم يكن يعرفها، إنما هي معرفة الالتصاق به. هذا ما يؤكده القديس يوحنا الذهبي الفم[1]. يرى القديس أغسطينوس أن المتكلم هنا هو ربنا يسوع الذي شاركنا فيما نحن فيه، إذ تجسد وصار إنسانًا، يتحدث باسمنا، حتى نتمتع نحن بشركة الطبيعة الإلهية، أي نأخذ مما له، نحمل بنعمته الحياة الجديدة التي تليق بنا كأعضاء جسده. * كلمة "جربتني" بالنسبة لله لا تعني أنه لا يعرف الأمور إلا بعد التجربة. حاشا! بل معناها كما أن الإنسان يتيقن بالتجربة، ويعرف حقيقة الأمور، هكذا أنت يا رب تعرف بغير اختبار حقيقة الأمور قبل كونها. الأب أنسيمُس الأورشليمي أَنْتَ عَرَفْتَ جُلُوسِي وَقِيَامِي. فَهِمْتَ فِكْرِي مِنْ بَعِيدٍ. [2] يعرفنا عندما نجلس لنستريح، ويعرفنا حين نقوم لنمارس أوجه الحياة والأنشطة المختلفة. يعرف ما نفكر فيه، وما سنفكر فيه. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن تعبير "جلوسي وقيامي" يشير إلى الحياة كلها. وكأن الله يعرف كل حياتي بدقائقها. ولئلا يظن أحد في غباوة أن معرفة الله لحياة الإنسان تقوم على اختبار الله له دون سابق معرفة، لهذا أضاف العبارة: "فهمت فكري من بعيد". فمن يعرف مسبقًا الفكر الخفي في العقل لا يحتاج إلى اختبار الإنسان ليعرف أعماله الظاهرة. كان الله يعرف أيوب قبل أن يسمح له بتجربته، وقال عنه: "رجل كامل ومستقيم، يتقي الله" (أي 2: 3). لكنه سمح بتجربته لكي يكافئه على ثباته ويؤكد شر إبليس، وأيضًا ليجعل الآخرين يقتدون به. كان الله يعلم أن أهل نينوى لا يستحقون الهلاك، لأنهم سيصلحون موقفهم بالتوبة، لكنه أعلن ذلك خلال الخبرة العملية. * ماذا يعني هنا بجلوسي وقيامي؟ الذي يجلس يضع نفسه، فالمسيح جلس في آلامه، وقام في قيامته. يقول أنت تعرف هذا، بمعنى إنك تريد ذلك وتستحسنه، وأنا أفعل ذلك حسب إرادتك. إن أردت أن تطبق هذه الكلمات الخاصة بالرأس (المسيح) على الجسد (الكنيسة)، فالإنسان يجلس حين يتواضع بالندامة، ويقوم حين تُغفر خطاياه، ويرتفع إلى الرجاء في الحياة الأبدية. لا ترفعوا أنفسكم ما لم تتواضعوا أولًا. فإن كثيرين يريدون القيام قبل الجلوس؛ يريدون أن يظهروا أبرارًا قبل أن يعترفوا أنهم خطاة[2]. * "فهمت أفكاري من بعيد"... ماذا تعني "من بعيد"؟ وأنا ابلغ إلى وطني الحقيقي، أنت عرفت أفكاري... الابن الأصغر ذهب إلى كورة بعيدة. بعد تعبه وآلامه وضيقته واحتياجه فكرَّ في أبيه، ورغب في العودة، وقال: "أقوم وأذهب إلى أبي". قال: "أقوم" لأنه جلس قبل ذلك[3]. القديس أغسطينوس * قوله "جلوسي وقيامي" معناه كل أعمالي التي أمارسها جالسًا وقائمًا، في راحتي، وفي شدتي. وأيضًا: "فهمت أفكاري من بعيد"، أي قبل أن تخطر في قلبي. الأب أنسيمُس الأورشليمي مَسْلَكِي وَمَرْبَضِي ذَرَّيْتَ، وَكُلَّ طُرُقِي عَرَفْتَ. [3] جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "سبلي وسجيتي أنت فحصت، وكل طرقي سبقت ورأيت". يرانا حينما نسير، وعندما نجلس، بمعنى آخر عينه علينا على الدوام. ليس شيء من طرقنا مخفي عنه. * يقول: "مسلكي". ماذا؟ إلا أنه مسلك رديء، المسلك الذي سار فيه (الابن الضال) تاركًا والده... ما هو مسلكي؟ الذي به قد خرجت[4]. القديس أغسطينوس * يقول: أنت تعرف ليس فقط أفكاري، وليس فقط أعمالي، بل كل شيءٍ يحدث، وأيضًا ما سيحدث[5]. القديس يوحنا الذهبي الفم * قبل أن تأتي بنا إلى الوجود بحثت، أي عرفت يقينًا بما أنك فاحص سبلي، أي سيرتي وحياتي... أما كلمة سجيتي فباليونانية تترجم "حنكي"... أي عرفت كلامي، أنه ليس فيه غش، أي قولي ليس مغايرًا لما في قلبي. الأب أنسيمُس الأورشليمي لأَنَّهُ لَيْسَ كَلِمَةٌ فِي لِسَانِي، إِلاَّ وَأَنْتَ يَا رَبُّ عَرَفْتَهَا كُلَّهَا [4]. إنه يعرف ما سننطق به قبل أن نفتح أفواهنا. يعرف المستقبل كما الماضي والحاضر؛ كل شيءٍ مكشوف أمامه. ما هي الكلمة التي في لساني؟ إذ اختار الابن الأصغر المسلك الشرير، وذهب إلى كورة بعيدة، أراد الرجوع إلى أبيه، فقال في نفسه. ما قاله واعترف به هو أنه فارق أباه وابتعد. عرف أبوه أنها كلمة صادقة تخرج من لسان القلب الداخلي. إنه يريد أن يترك مسلكه الرديء، ويسلك طرق أبيه الصالحة. * أعترف لك، إنني أسلك في طريقي أنا، فصرت بعيدًا عندك. لقد رحلت عنك، أنت الذي كنت لي نافعًا، وظننت أنه لخيري أن أتركك[6]. القديس أغسطينوس مِنْ خَلْفٍ وَمِنْ قُدَّامٍ حَاصَرْتَنِي، وَجَعَلْتَ عَلَيَّ يَدَكَ [5]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ها أنت يا رب عرفت كل الأخيرات والأولات. أنت جبلتني، وجعلت عليّ يدك". كل شيءٍ مكشوف وعريان أمامه، هذا الذي نلتزم أن نقدم أمامه حسابًا عن تصرفاتنا (عب 4: 13). وإذ يدرك تمامًا كل شيءٍ عنا، يستطيع أن يحفظنا من خلف ومن الأمام. يده دومًا علينا لحمايتنا. * لقد عرفت أعمالي الأخيرة عندما كنت ُأطعم الخنازير؛ وعرفت أعمالي القديمة عندما طلبت منك نصيبي في الميراث. أعمالي القديمة كانت بداية شروري الأخيرة. الخطية القديمة عندما سقطنا، والتأديب الأخير عندما دخلنا في متاعب وأخلاقيات خطيرة. هل ستكون الأخيرة بالنسبة لنا؟ ستكون هكذا إن كنا نرجع الآن (للرب)[7]. * "أنت جبلتني"، أين؟ في هذه الطبيعة القابلة للموت... "وجعلت يدك عليّ". يدك التي تجازي فتنزل بالمتكبرين. فمن الصالح طرح المتكبر أرضًا لكي ما يرفعه (الرب) متواضعًا[8]. القديس أغسطينوس * أنت أوجدتني، ووضعت يدك عليّ. لهذا نحن مدينون بميلادنا، وحياتنا لا لأنفسنا، بل بالكامل لخالقنا[9]. الأب بطرس خريسولوجوس * "أنت خلقتني ووضعت يدك علي". لقد انتقل من القدرة على سبق المعرفة إلى القوة الخالقة، ومن القوة الخالقة إلى سبق المعرفة. إنه ليس فقط خلق أولئك الذين لم يكن لهم وجود في ذلك الوقت، وإنما يحفظ تحت سلطانه الذين يخلقهم. عن هذا كله يشهد أيضًا بولس للمسيح بالكلمات: "الله بعد ما كلَّم الآباء بالأنبياء قديمًا بأنواعٍ وطرقٍ كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء". بعد ذلك أشار إلى الخالق: "الذي به أيضًا عمل العالمين والأجيال". وإذ تحدث عنه ككائن قال أيضًا: "والذي هو بهاء مجده ورسم جوهره"، ثم أظهر قوة معرفته السابقة بالكلمات: "وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب 1: 1-3). وإذ كتب إلى أهل كولوسي قال نفس الشيء: "فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما على الأرض... سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق". هذا إشارة إلى قوته الخالقة. بعد ذلك لكي يسير إلى قوة معرفته السابقة أضاف: "الذي فيه يقوم الكل" (كو 1: 16-17). بنفس الطريقة شهد يوحنا لكلا القوتين: "كل شيءٍ به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان". قال هذا لكي يلقي ضوءًا قويًا على قوته الخالقة. بعد ذلك تحدث عن معرفته السابقة: "فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس" (يو 1: 3-4). هذا أيضًا ما عالجه النبي في هذا الموضع، قائلًا: "خلقتني"، كإشارة إلى قوته الخالقة، وبعد ذلك أشار إلى معرفته السابقة: "ووضعت يدك عليّ". ماذا يعني بقوله "وضعت"؟ أنت تدير، أنت تنّظم، أنت تقود! الأمر الذي أشار إليه بولس بقوله: "به نحيا ونتحرك ونوجد" (أع 17: 28). فإننا محتاجون إلى قوته، ليس فقط في الخلقة، وإنما أيضًا في الوجود والاستمرار في الحياة[10]. القديس يوحنا الذهبي الفم عَجِيبَةٌ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ فَوْقِي. ارْتَفَعَتْ، لاَ أَسْتَطِيعُهَا [6]. معرفته غير المحدودة تحير عقولنا. فهي فوق كل إدراكنا. يليق أن ننحني أمامه معترفين بأن معرفته تفوق كل إدراكنا. يرى كثير من الآباء أن خلقة الإنسان عجيبة فوق كل المخلوقات، إذ تضم فيها ما هو مائت أي الجسد مع النفس الخالدة، تمثل عالمًا غريبًا يضم ما يشبه الملائكة، أي النفس البشرية، وما يشبه الحيوانات، أي الجسد. * أنصتوا الآن واسمعوا أمرًا غامضًا بحق، لكنه يجلب سعادة ليست بقليلة في فهمها. تحدث الله مع موسى خادم الله القديس بسحابة، لأن الحديث بطريقة بشرية يستلزم أن يتحدث مع عبده خلال شيءٍ من عمل يديه يتخذه لنفسه... وإذ اشتاق موسى ورغب في رؤية مظهر الله الحقيقي، قال لله الذي كان يتحدث معه: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك أرني نفسك" (راجع خر 33: 13). هكذا اشتاق بغيرة متقدة هذا النوع من القول، بأن يتنازل في تعامله معه بطريقةٍ بها يمكنه رؤية وجه الله. قال له الله: "لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش" (خر 33: 20). إني أضعك في نُقرة من الصخرة، واجتاز، وأسترك بيدي حتى اجتاز، فتنظر ورائي. من هذه الكلمات يثور نوع آخر من اللغز، أي شكل الحق الغامض. يقول الله: "متى اجتاز تنظر ورائي"، كما لو كان له وجهه من جانب وظهره من جانب آخر. حاشا أن تكون لنا مثل هذه الأفكار عن الجلالة..! في هذه الكلمات أسرار قديرة... هؤلاء الذين ثاروا ضد الرب، الذي رأوه (حين جاء متجسدًا)، الآن يطلبون مشورة كيف يخلصون. فقيل لهم: "توبوا، وليعتمد كل واحدِ منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا" (أع 2: 38) ها هم رأوا ظهره هؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يروا وجهه. لأن يديه كانتا علي أعينهم، ليس إلى النهاية، وإنما حتى يجتاز. وبعد أن اجتاز رفع يده عن أعينهم... فرأوا التلاميذ، وقالوا: "ماذا نصنع؟" في البداية كانوا عنفاء، وبعد ذلك صاروا محبين. في الأول كانوا في غضبٍ، وبعد ذلك صاروا في مخافةٍ. في الأول كانوا قساة، وبعد ذلك صاروا مبتهجين. في الأول كانوا عميان، وبعد ذلك صاروا مستنيرين[11]. القديس أغسطينوس * علمك يا الله عجيب في جميع مخلوقاتك، لاسيما من صُنعك لي أنا الإنسان. لأن خلقتك لي هي أكثر عجبًا من سائر مخلوقاتك، بما أنك ضممت يا الله في الإنسان المائت الذي هو الجسد والغير المائت أي النفس، الهيولي والبريء من الهيولي، الناطق وغير الناطق. هذه الأضواء جميعها في شخص واحدٍ، وهو أمر أكثر عجبًا، ومعرفتك هذه قد فاقت قدرتي، لن أستطيع أن أدركها بالفعل، لأنها عجيبة. الأب أنسيمُس الأورشليمي * الآن ما يعنيه هو مثل هذا: إنني أتمتع بمعرفتك السابقة، وأدرك أنك تعرف كل شيءٍ مقدمًا. وأنك خلقتني من العدم. ومع هذا فإني غير قادر أن تكون لي معرفة عنك كاملة وواضحة ودقيقة. إنما بالحري هي تدهشني، أي أنها تسمو عني، إنها أقوى من أن اقتنيها بعقلي. هذه هي الدرجة التي تجعلني في دهشة، الدرجة التي هي عظيمة. فإن كانت مدهشة وعظيمة، فهل يمكن الاستحواذ عليها؟ لا يمكن! لهذا يضيف: "لا استطيع أن أفعل شيئًا في مواجهتها... إنه لا يعني: ليست لي معرفة الله، إنما ليس لي المعرفة الكاملة الواضحة[12]. القديس يوحنا الذهبي الفم * لتراعوا ما هو مكتوب في سفر الجامعة: "قلت أكون حكيمًا، أما هي (الحكمة) فبعيدة عني. بعيدٌ ما كان بعيدًا، والعميق العميق من يجده" (جا 7: 23-24). لتراعوا ما قيل في المزامير: "عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت، لا أستطيعها" (مز 139: 6). يقول سليمان: "مجد الله إخفاء الأمر" (أم 25: 2). لهذا كثيرًا ما أقرر التوقف وعدم الكتابة. صدقوني، إني أفعل هذا. ولكن لئلا أوجد في حالة إحباط، أو بسبب صمتي ينقاد الذين يسألونني منكم إلى عدم التقوى، ويُسلمون للنزاع، لهذا أضغط على نفسي وأكتب إلى قداستكم ما أرسله إليكم باختصار[13]. البابا أثناسيوس الرسولي 2. الله الحاضر في كل مكان أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ [7] الله ليس فقط عالم بكل شيءٍ، وإنما هو أيضًا حاضر في كل مكانٍ، في ذات اللحظة. حضوره في كل مكان لا يعني وحدة الوجود، أي المذهب القائل بأن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكون المادي والإنسان ليسا إلا مظاهر للذات الإلهية Pantheism. يؤكد الكتاب المقدس أن الله ليس شيئًا، بل هو شخص غير الخليقة. هل يوجد مكان فيه يتجنب الإنسان روح الله؟ هل يوجد موضع يختفي فيه الإنسان من الحضرة الإلهية؟ الشعور بالرغبة في الهروب من روح الله أو وجهه، أمر يرجع منذ سقوط آدم وحواء، إذ حاولا باطلًا الهروب من خالقهما. هذا الشعور صار غريزيًا في حياة الإنسان، يظهر بوضوح حين يرتكب طفل خطأ ما يحاول الاختفاء من والديه. يليق بنا أن ندرك أن الله في محبته يتنازل ويرغب في اللقاء بنا حتى ندرك حنوه، ونطلب الرجوع إليه. * أي موضع يمكن أن يحمي الهارب من الله؟ الذين يحمون الهاربين، يسألونهم: ممن أنتم هاربون؟ وإن وجدوا عبيدًا لسيدٍ أقل منهم قوة يحمونه دون خوفٍ، قائلين في قلوبهم: "ليس له سيد يقدر أن يتعقبه". ولكن إن أخبروا بأن له سيد صاحب سلطان، إما أنهم يمتنعون عن وقايته، أو يحمونه وهم في رعبٍ شديدٍ، لأنه يمكن أن يُخدع الإنسان حتى وإن كان صاحب سلطان. لكن من يقدر أن يخدع الله؟ من الذي لا يراه الله؟ ممن لا يطلب الله الهارب منه؟ أين يمكن للهارب أن يذهب من وجه الله؟ أن يرده من هنا أو هناك![14] القديس أغسطينوس * يشير إلى الله بكونه روحًا وحضورًا، بمعنى أين أذهب منك؟ أنت تملأ كل شيءٍ، وحاضر بالنسبة لكل أحدٍ، ولكن ليس كجزءٍ، بل بكليتك لكل واحدٍ. بإشارته إلى ما هو فوق وما هو أسفل، الطول والعرض، والارتفاع والعمق يشير إلى أنه حاضر في كل مكانٍ. لم يقل: "أينما أذهب تتبعني وتمسكني"، إنما "أينما أذهب أنت هناك"، أجدك سابقًا لي. هذا هو السبب لقوله: "معرفتك عجيبة لي". ربما يعترض أحد: ما لم تعرفها تمامًا كيف تكون عجيبة؟ لأنها تفوق عقلي، تبتلع ذهني، فإننا لا نستطيع أن نمسك بوضوح أشعة الشمس، لذلك فنحن ندهش تمامًا لها. هكذا في حالة معرفة الله، فإننا لا نجهله تمامًا، فنحن نعرف أنه موجود، وأنه محب، وأنه صالح، وأنه لطيف ورقيق، وأنه في كل مكان. أما عن كيانه هو أو ما هي عظمة أقواله أو كيف هو في كل مكان، فهذا نجهله. لهذا بعد إشارته إلى الأشياء التي معرفتك تدهشني وتكريم معرفة كيانه، وقوته الخالقة، وعنايته الإلهية، وعدم القدرة على إدراكه وعدم إمكانية فحصه، تباعًا يصف إلى حدٍ ما قوته، هكذا فإنها تحمل قوة محيِّرة تمامًا لمن يبحث عنها بعقله البشري[15]. القديس يوحنا الذهبي الفم * [رسالة إلى امفيلوخوس عند رسامته أسقفًا] مبارك هو الله الذي من جيل إلى جيل يختار الذين يسرونه، يميز الآنية المختارة، ويستخدمهم لخدمة القديسين. لذلك إذ أردت أن تهرب، كما أنت تعترف بذلك، ليس مني، وإنما تهرب من الدعوة التي قُدمت عن طريقي. لقد اصطادك بشبكة النعمة الأكيدة، وجاء بك إلى وسط بيسيديا Pisdia لتصطاد النفوس للرب، وتسحب فريسة إبليس من الأعماق إلى النور. لتقل مع الطوباوي داود: "أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟"[16] القديس باسيليوس الكبير * لاحظوا سرّ الثالوث في ذاك الإيمان الكامل. يتحدث النبي مع الآب، معلنًا أن الابن هو وجه الآب، وموضحًا أن الروح القدس منتشر خلال كل شيءٍ[17]. الأب قيصريوس أسقف آرل * لا يظن أحد أنه يقدر أن يهرب من حكم الله[18]. * يليق بكل شخصٍ أن يفحص ضميره أولًا وعندئذ يفكر في أعمال الشخص الذي يدينه. إن حديث هذا فإن الرغبة في ممارسة عمل الوظيفة الكنيسة العليا تنتهي من الذين عينوا لها، إن كان الذين يرغبون في السيطرة على الناس يهتمون بالأكثر بالحكم على أنفسهم عن الحكم على الآخرين. لا يظن أحد أنه قادر على الهروب من حكم الله، إذ يقول النبي: "أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟" (مز 139: 7) هذه الأمور تنطبق بالأكثر على الذين يرأسون على حكم الشعب[19]. العلامة أوريجينوس * روح الرب يملأ المسكونة، ولذلك يرتل داود: "أين أذهب من روحك" (مز 138: 7) وأيضًا مكتوب في سفر الحكمة: "روحك غير الفاسد هو في ملء الأشياء" (حك 12: 1). ولكن الأشياء المخلوقة هي في أماكن محددة لها... إن كان الروح يملأ كل الأشياء، وهو في الكلمة، حاضر في كل الأشياء. وإن كان الملائكة أقل منه، وحيثما يُرسلون فهناك يكونون حاضرين، إذن فلا ينبغي أن يُشك في أن الروح ليس بين الأشياء المخلوقة، وليس هو ملاكًا على الإطلاق، كما تقولون أنتم، بل هو فوق طبيعة الملائكة[20]. البابا أثناسيوس الرسولي * "يا رب ملجأ كنت لنا في دورٍ فدورٍ" (مز 90: 1). غضبك عدل، إنك لا ترسل إنسانًا إلى جهنم ظلمًا. "أين أذهب من روحك؟" (مز 139: 7)، وإلى أين أهرب منك إلا بالالتجاء إليك؟ إذن فلنفهم أيها الأحباء الأعزاء بأنه إن كان لا يستطيع أحد أن يلجم لسانه، نلتجئ إلى الله الذي يستطيع أن يلجمه. إن أردتم أن تلجموه لا تستطيعون لأنكم بشر. "وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يقمعه". لاحظوا التشبيه المماثل لذلك في الحيوانات التي نروِّضها، فالحصان لا يستطيع أن يروِّض نفسه، والجمل لا يروِّض نفسه، والفيل لا يروِّض نفسه والأفعى لا تروِّض نفسها، والأسد لا يروِّض نفسه، هكذا لا يستطيع الإنسان أن يروِّض نفسه. لكن لو أراد الإنسان لأمكنه أن يروِّض الحصان والثور والجمل والفيل والأسد والأفعى. ليتنا نبحث عن الله حتى يروِّضنا[21]. * نصير إلى حال أفضل باقترابنا من ذاك الذي ليس من هو أفضل منه. نذهب إليه ليس بالسير بل بالحب. سيكون بالأكثر حاضرًا بالنسبة لنا قدر ما نستطيع أن ننقي الحب الذي به نقترب إليه، فإنه لا يُحد بمكانٍ مادي. إنه حاضر في كل مكان، حاضر بكماله. ونحن نذهب إليه لا بحركات أقدامنا، بل بسلوكنا. السلوك عادة يميز لا بما يعرفه الإنسان، بل بما يحبه: إن كان الحب صالحًا أو شريرًا يكون السلوك صالحًا أو شريرًا[22]. القديس أغسطينوس * وجه الآب هو الابن، لأنه شعاع مجده وصورة أقنومه. وأما روحه فهو الروح القدس. فإذن قول النبي يشير إلى الثالوث القدوس. المُخاطب هو الآب، ووجهه هو الابن، وروحه هو الروح القدس. هذا الإله، المثلث الأقانيم موجود في السماء، وعلى الأرض، وحاضر في كل مكان، ولكن ليس حضوره مكانيًا، بل بما أنه مبدع الكون والكافة ومالئ الكل، فهو غير منحصر في مكانٍ معين. الأب أنسيمُس الأورشليمي إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ، فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيَةِ، فَهَا أَنْتَ [8]. لنفترض أن إنسانًا صعد إلى السماء فهل يختفي هناك عن الله؟ مستحيل، فإن السماء عرش الله (مت 5: 34). وإن جعل فراشه في الهاوية، أي يتحرر من الجسد، فسيجد الله أيضًا هناك. لن نستطيع أن هرب من وجه الله إلا بالاحتماء فيه هو نفسه. نهرب من المجازاة بالاختفاء فيه. ليكن لنا جناحا الحب، فنطير إلى الحب ذاته ونختفي فيه. * أين يذهب أحد أو يهرب من ذاك الذي يدرك كل شي؟[23] القديس إكليمنضس الروماني * ما يتحدث عنه هنا هو الله الحاضر في كل مكان، وهو يُظهر هنا أن هذا هو ما لا يستطيع أن يدركه، أي أن الله موجود في كل مكان... فإن النبي لم يعرف كيف يكون هذا، إنما يرتعد ويرتبك في حيرة عندما يفكر في هذا؟[24] القديس يوحنا الذهبي الفم * يرى داود أن كل المعاصي التي في العالم مكشوفة أمام عيني الله. لا السماء ولا الأرض ولا البحار ولا الكهف العميق ولا الليل نفسه يمكن أن يخفي الخطايا عنه. يدرك المرتل كيف أن الجرائم والشر هي خطايا في نظر لله، لذلك صرخ: "لك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت" (مز 51: 6)[25]. الأب بطرس خريسولوجوس * ما هي قمة تشييد هذا البناء الذي نؤسسه؟ إلى أين ستبلغ قمة هذا البناء العالية؟ أقول للحال إلى رؤية الله . والآن ترى كم هو عظيم أن تعاين الله. إن الذي ارتفع إلى هذا يستطيع أن يفهم كل ما أقوله وما يسمعه. قد وعدنا برؤية الله، رؤية الله ذاته تتعالى لأنه حسن أن نرى الذي يرانا، فالذين يعبدون آلهة باطلة يرونها بسهولة، ولكنهم يرون التي لها أعين ولا تبصر. وأما نحن فقد وُعدنا بمعاينة الله الحي المبصر حتى نشتاق لرؤية ذلك الإله الذي يقول عنه الكتاب المقدس: "الغارس الأذن ألا يسمع؟ الصانع العين ألا يبصر؟" (مز94: 9) ألا يسمع ذلك الذي صنع لك ما تسمع به، أما يرى ذلك الذي خلق ما ترى به؟ لذلك يقول في المزمور حسنًا: "افهموا أيها البلداء في الشعب، ويا جهلاء متى تعقلون" (مز 94: 8)، لأن كثيرين يرتكبون أفعالًا شريرة، ظانين أن الله لا يراهم. حقيقة إنه يصعب عليهم أن يعتقدوا أنه لا يستطيع رؤيتهم، بل يظنون أنه لا يريد ذلك. قليلون هم الملحدون تمامًا الذين يتم فيهم المكتوب: "قال الجاهل في قلبه ليس إله". هذا جنون القليلين فقط. فإذ قليلون هم الورعون تمامًا، فانه ليس بأقل منهم أيضًا هم الملحدون تمامًا، وأما غالبية البشر فيقولون هكذا، ماذا؟ هل يفكر الله الآن فيّ، حتى يعرف ما أفعله في منزلي، وهل يهم الله ما قد أختار فعله على سريري. من يقول هذا؟ "أفهموا أيها البلداء في الشعب ويا جهلاء متى تعقلون؟" (مز 94: 8) فبكونك رجلًا من شأنك أن تعلم كل ما يحدث في منزلك، وأن تصلك أفعال خدمك وأقوالهم. ألا تظن أن لله عملًا كهذا أن يلاحظك، الذي لم يتعب في خلقتك؟ أفلا يثبت عينيه عليك ذاك الذي صنع عينيك؟ إنك لم تكن موجودًا وقد خلقك وأعطاك الوجود. ألا يهتم بك الآن وأنت موجود، الذي "يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رو 4: 17)؟ إذن لا تعد نفسك بهذا فإنه يراك، إن أردت أو لم ترد. وليس هناك مكان تستطيع أن تختبئ فيه عن عينيه. "إن صعدت إلى السماء، فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت" (مز 139: 8). عظيمة هي أتعابك بينما لا ترغب في الانفصال عن الأعمال الشريرة، مع هذا فإنك لا ترغب في أن يراك الله . حقا يا له من تعب مضني! كل يوم ترغب في صنع الشر ومع هذا أتشك في أنك لا تُرى؟ استمع إلى الكتاب المقدس القائل: "الغارس الأذن، ألا يسمع؟ الصانع العين، ألا يبصر؟" (مز 94: 90). أين تستطيع أن تخفي الأعمال الشريرة عن أعين الله؟ إن لم تمت عنها، فبالحق تعبك مضني[26]. القديس أغسطينوس * من جهة اليونانيين يقول البعض إن الله نفس (Soul) العالم[27]. وآخرون قالوا إن سلطانه يسود السماء وحدها دون الأرض. ويشترك البعض معهم في خطأهم، مسيئين استخدام العبارة القائلة: "حقك إلى السحاب"[28]، فتجاسروا بتحديد عناية الله بالسحب والسماوات، عازلين الله عن شؤون الأرض، ناسين المزمور القائل: "إن صعدت إلى السماوات، فأنت هناك، وإن نزلت إلى الجحيم، فأنت هناك" (مز 139: 8). فإن كان ليس شيء أعلى من السماوات والجحيم أدنى من الأرض، فإن من يدير أمور الجحيم السفلي يهتم بالأرض أيضًا[29]. القديس كيرلس الأورشليمي إِنْ أَخَذْتُ جَنَاحَيِ الصُّبْحِ، وَسَكَنْتُ فِي أَقَاصِي الْبَحْر [9]. جناحا الصبح هما تلميح لأشعة الشمس في الصباح التي تعبر من الشرق إلى الغرب بسرعة 186000 ميلًا في الثانية حتى إن استطعنا أن نسير من أقصى المسكونة بسرعة الضوء،، فسنجد الرب هناك ينتظرنا لكي يقودنا ويسندنا. * إن كنت بالخطية تنحدر إلى أعماق الشر، وتستخف بالاعتراف، قائلًا: "من يراني؟"... فأنت هناك أيضًا حاضر لكي تُعاقب... لذلك ليتني أهرب من وجهك الذي يجازي؛ كيف؟ "إن أخذت لي جناحين بالغداة وأقمتهما، وأسكن في أواخر البحر" [9]. هكذا استطيع أن أهرب من وجهك... أهرب في رجاءٍ وفي اشتياق، بجناحي الحب... لنهرب إلى الله في رجاء![30] القديس أغسطينوس * يليق بكِ ألا تسمحي لاقتراحات الشر أن تنمو فيكِ، أو بابل التي للارتباك أن تنال قوة في صدركِ. اذبحي العدو وهو صغير، ولا يكون لديكِ محصول من الزوان، أزيلي الشر وهو بعد برعم[31]. القديس جيروم * ندهش حين نتطلع إلى البحر المفتوح وأعماقه التي بلا حدود؛ بل وندهش في خوفٍ عندما ننحني ونرى مدى أعماقه. بهذا فإن النبي انحنى وتطلع إلى بحر حكمة الله غير المحدودة! لقد صُدم في رعدة. وخاف في أعماقه، ورجع إلى خلف، وهو يقول بصوتٍ عالٍ: "أشكرك، فإنك مُعجب برهبةٍ؛ عجيبة هي أعمالك" [14]، وأيضًا: "عجيبة هي المعرفة فوقي، ارتفعتْ، لا أستطيعها" [6][32]. القديس يوحنا الذهبي الفم فَهُنَاكَ أَيْضًا تَهْدِينِي يَدُكَ، وَتُمْسِكُنِي يَمِينُكَ [10]. بعد أن يكشف المرتل عن معرفة الله أمر مدهش وعجيب للغاية، تفوق الفكر البشري، حتى حضوره بكليته في كل مكانٍ لا يمكن فحصه، فإنه بعناية الإلهية لا يتركنا في حيرة، بل يده تمسكنا لنختبر عمليًا وجوده ورعايته وحنوه. إن كانت يد الله الآب تشير إلى كلمته الإلهي المتجسد، ويمينه إلى كلمة الله أو قوة الله ربنا يسوع المسيح، فبتجسده حقق الخلاص بالصليب، فدخل بنا إليه بكونه الطريق، وأمسك بنا لكي ننعم بالأحضان الإلهية. أينما كانت تحركاتنا، ومهما تكن سرعتها، فإن الله بمحبته لنا يعيننا ويسندنا. * هذا الشكل (شكل الصليب) قد ترنم به العظيم داود في مزاميره، قائلًا: "أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السماوات (الارتفاع) فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية (العمق) فها أنت. إن أخذت جناحي الصبح الذي هو شروق الشمس (العرض)، وسكنت في أقاصي البحر (هنا يتحدث عن الغروب)" (مز 139: 7-10). أرأيت كيف أن بكلامه هذا يرسم الصليب أمامنا![33] القديس غريغوريوس النيسي * ليكن هذا هو رجاؤنا، وهذه هي تعزيتنا. لنأخذ خلال الحب الجناحين اللذين فقدناهما بالشهوة. فإن الشهوة تُكلس الجناحين اللذين لنا، وتنحدر بنا من حرية سمائنا، أي من حرية نسمات روح الله. من هناك حيث تحطمنا وفقدنا أجنحتنا، وصرنا كما يُقال محبوسين تحت سلطان الصياد. لهذا خلصنا (ربنا) بدمه فنهرب ولا نسقط في الفخ. يقيم لنا أجنحة بوصاياه، ونبسطها مرتفعين ومتحررين من الفخ... إذن نحن في حاجة إلى أجنحة، نحتاج أن يقودنا، فإنه هو عوننا. لدينا حرية الإرادة، ولكن حتى بهذه الحرية للإرادة ماذا يمكننا أن نفعل ما لم يسندنا ذاك الذي يوصينا؟[34] القديس أغسطينوس فَقُلْتُ: إِنَّمَا الظُّلْمَةُ تَغْشَانِي. فَاللَّيْلُ يُضِيءُ حَوْلِي! [11] * الظلمة هنا تعني الضيق. فإنه يعني هذا: صرت محصورًا بالمتاعب، وقلت لنفسي: "الظلمة تغشاني، أي الظلمة تطأني تحت قدمها. وجاءت في ترجمة أخرى: "الظلمة تحجبني، والليل صار نورًا في عجزي"، وجاء في ترجمة أخرى: "يشرق الليل حولي". ماذا يعني هذا؟ يقول: "فجأة تحول الضيق إلى خيرٍ، أو بالحري ليس الضيق تحول إلى خير، وإنما وإن كان الضيق ضغط عليّ، صرت في حال أفضل. لم يقل إن الليل قد زال، إنما الليل يضيء، فمع بقاء الليل ليلًا واضح أن المتاعب والكوارث (يشير إليها بتعبير الليل) لم تعد تطأني تحت قدمها، بل أضاء نور في الليل، أي غطاني العون. تحولت الأمور إلى ما يضادها وتظهر هكذا عندما يريد الله. ألم تروا الأتون يشتعل والندى يُرطبِّ دون أن ينطفئ الأتون ولا الندى يجف، المطر والنار معًا؟ (في قصة الثلاثة فتية في أتون)[35]. القديس يوحنا الذهبي الفم * الآن أؤمن بالمسيح، الآن انطلق عاليًا بجناحي الحب الثنائي... وإذ أتطلع إلى طول الطريق أقول لنفسي: "والليل يضيء في بهجتي"... شكرًا له، ذاك الذي بحث عني حين كنت هاربًا، ذلك الذي يضرب ظهري بالجلدات، والذي استدعاني من الدمار، وجعل ليلي نورًا. فإن الليل طويل، ونحن نعبر هذه الحياة. كيف صار الليل نورًا؟ لأن المسيح نزل إلى الليل[36]. القديس أغسطينوس الظُّلْمَةُ أَيْضًا لاَ تُظْلِمُ لَدَيْكَ، وَاللَّيْلُ مِثْلَ النَّهَارِ يُضِيءُ. كَالظُّلْمَةِ هَكَذَا النُّورُ [12]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فقلت أترى تقدر الظلمة تتوطأني، أو الليل هو ضياء في تنعمي. لأن الظلمة لا تظلم منك، والليل مثل النهار يضيء". إن ظن أحد أنه يختفي في الظلمة من وجه الرب، فهو يثق في ملجأ باطل عاجز عن تخبئته. فالليل لا يُبطل الحضرة الإلهية. الظلمة بالنسبة لله ليست ظلامًا. لا مجال للاختفاء من الله. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الليل تُنسب له الظلمة كأمر طبيعي، وإذ يريد الله يجعل النور منسوبًا لليل كأنه أمر طبيعي لليل. هكذا بالنسبة للضيقات فإنها تحمل المتاعب كأمرٍ طبيعي لها، وإن أراد الله فإنها تصدِّر راحة للشخص كأن الراحة هي أمر طبيعي للضيق. يرى القديس أغسطينوس أن الليل الذي يضيء مثل النهار تحقق بتوبة الناس أو تكريس قلوبهم لله، فتتحول من الظلمة إلى النور. يرى القديس أمبروسيوس أن العبارة هنا تشير إلى قيامة السيد المسيح حيث أشرق بنور قيامته في فجر الأحد حيث كانت الظلمة سائدة. * الليلة الثالثة سوف تبتدئ، والرب يقوم بالليل، وسيكون نهار في الليلة الخاصة بذاك الذي يقوم، ويتحقق الكتاب المقدس: "والليل مثل النهار يضيء". هذا هو الأمر العظيم الذي رآه إبراهيم وفرح، ذاك اليوم الذي قال عنه أيضًا داود: "هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ونبتهج فيه". سأُقدم إليه لا بخدمة شاقة، بل بثمر البهجة[37]. القديس أمبروسيوس * ها أنتم ترون، أن عمل العناصر يتغير إلى ما هو مضاد لها، متى أراد الله، ويصير ما هو مضاد كأنه معيَّن لها في الأصل تمامًا. بمعنى آخر، أن أردتم، فإن الليل يكون هكذا، يكون له نور ينسب إليه كما له الظلمة تمامًا. لكي يشير إلى هذا، أضاف: "مثل ظلمته كذلك أيضًا ضوءه" (12 LXX)[38]. القديس يوحنا الذهبي الفم * قيل له في مزمور آخر: "أنت تضيء سراجي؛ الرب إلهي ينير ظلمتي" (مز 18: 28). لكن من هم أولئك الذين يظلمون ظلمتهم، والتي لا تظلم لدى الله. الأشرار المنحرفون، عندما يخطئون بالحق يكونون ظلمة. وعندما لا يعترفون عن خطاياهم التي يرتكبونها، بل يدافعون عن أنفسهم، فيظلمون ظلمتهم. لذلك إذ تخطئون تكونون ظلمة، وبالاعتراف بظلمتكم، تنالون أن تصير ظلمتكم نورًا، أما بدفاعكم عن ظلمتكم، تُظلم ظلمتكم... ليتنا لا تُظلم ظلمتنا بالدفاع عن خطايانا، عندئذ يصير الليل نورًا في بهجتنا[39]. * هذا يتحقق في قلوب المكرسين الذين يقول عنهم القديس بولس: "لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب" (أف 5: 8)[40]. القديس أغسطينوس * عندما أفكر بأن الرب حاضر في كل مكان ومعني بالكافة، هل يتركني في الظلمة التي هي الشدائد والأحزان لكي تغشاني وتضغط عليّ بثقلها وتميتني؟ فإن معونتك ونصرتك تحضر وأنا في ليل المصائب، وتجعلني كأني في ضوء النهار والابتهاج والنعيم. لم تحول الظلمة إل نور، ولا الليل إلى نهار، ولا الأحزان إلى فرح، بل أبقيت الأشياء على ما هي عليه. لكنك جعلتها تفعل بيّ على ضد طبيعتها. فالليل يضيء لي، فتختفي ظلمته بالنسبة ليّ. وذلك مثلما كانت النار بالنسبة للثلاثة فتية، فصارت بردًا بالنسبة لهم، ومحرقة لأهل بابل حسب طبيعتها. فإنك أنت الذي أوجدت الكائنات من العدم، وتقدر على إزالتها، هكذا تقدر أن تخصص لها أفعالًا تضاد طبيعتها. فتجعل آلام الأحزان مثل أفراحها، وضياء الليل مثل ظلمته، ليس تخيلًا بل حقيقة. وأيضًا الشيء الذي تخفيه الظلمة لا يظلم لديك ولا يختفي عنك، لأن يضيء الليل عندك كالنهار. الأب أنسيمُس الأورشليمي * كذلك نحن المسيحيين الذين هم خدام المسيح يجب أن نقف بالحقيقة بيقظة مثل "العبد الصالح والأمين" (مت 25: 23) المتلهفين أن يعطوا سيدهم كرامة، لنطوق أنفسنا بالنسك، مقوين داخلنا بالشدة، مالئين مصابيح قلوبنا بزيت البهجة الذي للروح، ومستنيرين بالصلاة. بهذه الطريقة نحارب بشجاعة رغبتنا في الاستمتاع بالنوم. بهذه الطريقة ستصبح الظلمة لنا نورًا، وكما قال النبي: "فالليل يضيء حولي" (مز 139: 11)، والظلمة لن تظلم عقولنا، لذا لنمضى الليل المظلم بيقظة كما لو كان نهارًا ساطعًا[41]. مارتيريوس - Sahdona * ليظهر الله لكم الليلة الظلام الذي يتلألأ كالنهار، إذ قيل عنه: "الظلمة لا تظلم لديك، الليل مثل النهار يضيء" (مز 139: 12). لينفتح باب الفردوس في وجه كل واحدٍ منكم، عندئذ تبتهجون بمياه المسيح[42] التي لها رائحة ذكية[43]. القديس كيرلس الأورشليمي * هل للمسيح فكر في الخارج، وآخر في البيت؟ ما هو غير شرعي في الكنيسة، لا يمكن أن يكون شرعيًا في البيت. ليس شيء مخفيًا عن الله. "الليل يضيء كالنهار" أمامه. ليمتحن كل إنسانِ نفسه، وبهذا يقترب من جسد المسيح (1 كو 11: 28)[44]. القديس جيروم * كذلك أيضًا إليشع حين شفى برص نعمان مجانًا أخذ جيحزي المكافأة، أخذ مكافأة عمل آخر. أخذ المال من نعمان، وأخفاه في الظلام، لكن الظلام غير مخفيٍ عن القديسين (مز 139: 12). فلما أتى سأله إليشع، وقال له كما قال بطرس: "قولي لي أبهذا المقدار بعتما الحقل؟!"، هكذا تساءل إليشع: من أين أتيت يا جيحزي؟ لم يسأله عن جهل، لكنه في أسفٍ يسأله: "من أين أتيت" (2 مل 5: 25)، من الظلام أتيت، وإلى الظلام تذهب. لقد بعت شفاء الأبرص، يكون البرص ميراثك. كأن إليشع يقول: إنني نفذت أمر القائل: "مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا" (مت 10: 8)، لكن أنت بعت هذه النعمة (المجانية). يقول إليشع: "ألم يذهب قلبي معك؟" (2 مل 5: 26) لقد كنت هنا محصورًا بالجسد، لكن الروح الذي أعطاني إياه الرب رأى الأمور البعيدة، وكشف لي بوضوح ما كان يحدث في موضع آخر. انظروا كيف أن الروح القدس ليس فقط ينزع الجهل، بل ويهب المعرفة؟! انظروا كيف ينير أرواح الناس؟![45] القديس كيرلس الأورشليمي * نعم، كان يليق بالرب أن يأتي لابسًا بشريتنا، ليغيِّر البشر، ويصالحهم مع أبيه. لقد جاء بلا سلاح وأخذ درع الإنسان الذي هو الجسد، وبه انطلق وصارع الموت وغلبة الموت. وهكذا بواسطة جسدٍ مائتٍ قتل عدوّنا، وبالجسد الذي كان سلاحًا للخطية دان الرب الخطية بالجسد (رو8: 3)! في الحقيقة إنّ الأعداء عندما يهجمون فجأةً يُجهِدون أنفسهم في هدم الأسوار بكل الأسلحة والمعدّات اللائقة بالحرب ضدّ المكان الذي يُهاجمونه، أي القاذفات وبقية آلات الحرب. هكذا قبض العدو على آدم الذي سقط تحت سلطانه مستخدمًا جسده كسلاحٍ ضدّه! وبهذه الطريقة أسر وسبى جميع البشر. ولكنّ المسيح جاء بالوسيلة عينها واتخذ الناسوت كسلاحٍ سحق وأباد به أسوار وحصون الشيطان وكل آلاته ومعدّاته الرهيبة التي نصبها ضدّ الإنسان كما هو مكتوب: "الليل (لديك) مثل النهار يُضيء، كالظلمة هكذا النور" (مز 139: 12)، أي أنّ الله يستخدم الظلمة كالنور، لأنه "كما في آدم هلك الجميع، هكذا في المسيح سيُحيا الجميع" (1 كو 15: 22)[46]. القديس مقاريوس الكبير * بلغني أن إنسانًا كسلانًا أخذ في حضنه الكتاب المقدس من الساعة السابعة (أي الواحدة بعد الظهر) حتى غروب الشمس، ولم يقدر أن يفتحه البتّة، وكأنه مربوط برصاص. لكن أنبا أنطونيوس فعل كما أظهر له الملاك: فتارةً كان يجلس ولعمله ممارسًا، وتارةً أخرى يقوم وللصلاة ملازمًا (وتارةً يجلس ولكلام الله قارئًا). وقد حظيَ باستنارة لدرجة أنه قال لأحد فلاسفة زمانه: ’يكفيني أن أتأمل في طبيعة المخلوقات دائمًا، وأتلو في أقوال الرب حتى ظلمة الليل‘. إلى هذا الحدّ كان يتصل بالله، وكان ليله يضيء كالنهار كما قيل: "الظلمة أيضًا لا تظلم لديك، والليل مثل النهار يضيء" (مز139: 12). القديس نيلوس السينائي 3. الله صانعنا في الرحم لأَنَّكَ أَنْتَ اقْتَنَيْتَ كُلْيَتَيَّ. نَسَجْتَنِي فِي بَطْنِ أُمِّي [13]. خلال المعاملات مع الله أدرك المرتل أن الله ليس فقط عالم بكل شيءٍ، وحاضر في كل مكانٍ، وإنما أيضًا كلي القدرة، بقدرته خلق الإنسان وخلال محبته اللانهائية يود أن يعمل دومًا لبنيان مخلوقه المحبوب. كثيرًا ما يقف رجال الله في دهشة أمام الخالق العجيب في عمله حتى في الحَبَل بالإنسان وتكوين الجنين حتى يوم ميلاده، الأمور التي لم يكن العلم قد أمكنه تصوير تكوين الجنين ونموه، وحتى مع تقدم العلم تبقى معرفة الإنسان ورؤيته لهذا الأمر محدودة. ما كان يدهش له رجال العهد القديم كما عبَّروا عن ذلك، يتناغم مع الحكمة التي يكتشفها العلم باستمرار، والتي تمجد الخالق الكلي القدرة (راجع مز 22: 9-10؛ 71: 5-6؛ أي 10: 8-11؛ إش 49: 2؛ إر 1: 5). تشير الكلية إلى الشهوة، فاقتناء الرب لكليتي معناه إخضاع شهوتي مع أفكاري. ينتقل المرتل من الحديث عن الله بكونه الحاضر في كل مكانٍ إلى اهتمامه بالإنسان منذ بدء تكوينه في الرحم. كان "القلب" عند اليهود يشير إلى الأفكار، أما "الكليتان" فيشيران إلى العواطف والشهوات سواء المقدسة أو الشريرة. إن كان الحبل بالإنسان وتكوين الجنين ونموه تُعتبر أمورًا تفوق الفكر البشري مهما بلغ تقدم العلم، فكم بالأكثر الحبل بالمؤمن وتكوينه في مياه المعمودية، لكي ما يولد كابن لله الآب، وعضو في جسد المسيح، وهيكل للروح القدس! * المقتني (الله) في الداخل. إنه لا يشغل القلب وحده، بل والكليتين؛ ليس فقط الأفكار، بل وإلى المباهج[47]. القديس أغسطينوس * قد يقول شخص غبي: "وماذا يفيدني إن كان (الله) عظيمًا وصاحب سلطان وعالم بالغيب؟ أظهر لي أي نفع نناله من هذا؟" لذا يضيف: "لأنك تقود إنساني الداخلي يا رب"، مشيرًا إلى الشخص ككل بذكره للجزء (الكُلْية). إنه ليس بالأمر التافه الثقة في عنايته الإلهية، إننا نحن مِلكْ الله: فإن المالك يهتم ويعين. ولكي يشير إلى هذا يضيف الكلمات التالية: "اقتنيتني من بطن أمي". بمعنى أنك حفظتني في كل الأوقات، واهتممت بي، وجعلتني في أمانٍ منذ السنوات الأولى، وأنا في المهد، بالعمل علمتني ما أقوله[48]. القديس يوحنا الذهبي الفم * يقول داود: إذا نظرت إلى تكويني وطبيعتي كإنسان فإنني أتسأل ما هو مزيج القوى التي تحركني؟ (مز 139: 13-16). كيف يمتزج الخالد بالفاني؟ كيف أنحدر إلى أسفل، ومع ذلك أُرفع إلى فوق؟ ماذا يسبب عدم استقرار النفس؟ لماذا تعطي النفس (الروح) الحياة، ومع ذلك تشترك في الألم؟ كيف يكون العقل محدودًا وغير محدود في نفس الوقت، ويكون داخلنا ويطوف الكون بحركة سريعة؟ كيف يُنقل العقل عن طريق الكلام؟ كيف يتحرك في الهواء ويدخل مع الأشياء؟ كيف يشارك في الحس وفي نفس الوقت يعزل نفسه عن الحواس؟ وتوجد أسئلة أهم من ذلك. ماذا كانت أول مرحلة في عملية تشكيلنا وتجميعنا في مصنع الطبيعة؟ وما هي المرحلة النهائية في التشكيل؟ ما هو الدافع للحصول على الطعام والتزود به؟ ما هي الغريزة التي تهدينا إلى أول ينابيع ومواد الحياة (صدور الأمهات)؟ كيف يتغذى الجسم بالطعام، أما النفس فتتغذى بالكلمة؟ ما هي الجاذبية الطبيعية التي تربط الآباء والأبناء معًا؟ كيف تنتج اختلافات ثابتة في المظهر نتيجة لعدد كبير غير محدود من العوامل الخاصة؟ كيف يكون نفس الكائن الحي فانيًا وخالدًا معًا؟ يجعله تغيير حالته يموت وتجعله الولادة خالدًا، يموت ويرحل ثم يعود مرة أخرى، مثل مجرى النهر دائم التدفق. وتوجد الكثير من النواحي التي يمكن أن نفكر فيها من ناحية أطرافنا وأعضاء أجسامنا، وكيفية توافقها معًا وتناسقها، كيف تتباعد، ولكن تعمل معًا كعضوٍ واحدٍ، وكيف يحتوي بعضها على البعض الآخر، وكل ذلك بتنسيق داخلي في طبيعتها. ويوجد الكثير من الحقائق عن الكلام والسمع، كيفية إخراج الأصوات بواسطة الأحبال الصوتية واستقبالها بواسطة الأذن. وانتقال الأصوات للآذان عن طريق الهواء الممتد بين مصدر الصوت والأذن. كما أنه يوجد الكثير من الحقائق عن البصر، واتصاله الغامض بالأشياء، فإن البصر لا يتم توجيهه إلا بالإرادة. وكما يتحرك البصر مع الإرادة يحدث نفس الشيء مع العقل، فإن البصر يقع على المنظورات بنفس السرعة التي يمتزج بها العقل بالأفكار. وتوجد حقائق كثيرة عن باقي الحواس التي تستقبل مؤثرات خارجية لا تراها عين العقل، توجد حقائق عن الراحة في النوم وعن عمل الخيال في الأحلام، وعن الذاكرة والذكريات، والغضب والرغبة. باختصار عن كل ما يُسيِّر أمور هذا العالم الصغير الذي نسميه الإنسان[49]. القديس غريغوريوس النزينزي * يعيننا الربُ حينما يخلقنا، فهو يعضدنا حينما يأمر بولادتنا. ومن ثم يقول البار: "عضدتني من بطن أمي" (مز 139: 13LXX)، أي من الرحمِ. ماذا يقصد "قبلما صورتُك في البطن عرفتك" (إر 1: 5)، فالذين يخلقهم الربُ يعينهم أيضًا. يعينهم حتى في ميلادهم، "وقبلما خرجتَ من الرحم قدستُك" (إر 1: 5). هو معيننا، لأنه عضدَنَا بيديه. ويُدعى معينًا كخالق للجنسِ البشرى. وهو معيننا، لأنه عضدَنَا بافتقادِه، ليحمينا. وعلى هذا الأساس، يقول المرتل نفسه في نصٍ لاحق "الساكنُ في سِتر العلى، يقول للرب: أنت معيني وملجأي (حصني)" (مز 91 :1). فأول عونٍ هو في عمل اللهِ فينا. والثاني في حمايتنا. اسمعوا حقًا موسى يقول: "باسطًا جناحيه قبلهم، وأعانهم على كتفيه". (تث 32: 11 LXX). أعانهم كالنسر المعتادِ على فحص نسله ليحفظه ويأتي بمن لاحظ أنهم يملكون مزايا لنسلٍ حقيقي، وهبة العهد الصحيح، ويرفض الذين يجد فيهم ضعفًا في أصلِ سلالتهم في سنهم المبكرة[50]. القديس أمبروسيوس أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُ عَجَبًا. عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِينًا [14]. أعمال الله عجيبة في خلقة الجنين منذ بدء تكوينه إلى اكتمال نموه وولادته. يتكون من 60 تريليون خلية، مئة ألف ميل من ألياف الأعصاب، و60 ألف ميل من الشرايين والأوردة الحاملة للدم و250 عظمة الخ[51]. يصف المرتل تكوين الجنين بإبداع في الإتقان والجمال. كل عضو هو من عمل الفنان الإلهي العجيب. لنذكر كمثالٍ المخ وقدرته على تسجيل الأحداث والأصوات والألوان والروائح والذاكرة الخ. وقدرته على أخذ قرارات سريعة وإبلاغ أعضاء الجسم الأخرى لتتحرك معًا في تناغم وانسجام. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: كيف يقول المرتل إن نفسه تعرف ذلك يقينًا، بينما يقول في نفس المزمور إنه لا يعرف الله كما هو؟ يجيب إنه يعرف يقينًا أن الله عظيم وسامٍ فوق كل فهمٍ وإدراكٍ. معرفتنا اليقينية عن الله تؤكد لنا جهلنا لأسرار طبيعته وإدراك جوهره، وجهلنا يسندنا على الشهادة بمعرفته. * "أعترف لك، لأنك تصنع عجائب برهبةٍ، عجيبة هي أعمالك. ونفسي تعرف ذلك يقينًا". عن ماذا يتكلم؟ يقول: لقد خلقتني، لكنني لا أعرف كيف خلقتني. أنت تعتني بي، لكن بعقلي لا أستطيع أن أدرك العناية الإلهية ككلٍ في وقتٍ واحدٍ. أنت حاضر في كل مكان، لكنني لا أفهم ذلك. أنت تعرف المستقبل مقدمًا، والماضي، وأسرار عقولنا؛ حتى هذا لا أستطيع إدراكه بعقلي. أقصد أنك تغير طبيعة الأشياء، وتجعل من الأشياء الباقية كما هي تحمل سمات مضادة، وتجعل من هذه السمات المضادة كأنها أصيلة وطبيعية. إذ يجتمع (المرتل) هذا كله معًا، يُصدر صرخة عظيمة... ويقول: "اعترف لك، لأنك تصنع عجائب برهبةٍ". بمعنى أنك عجيب في المظهر، وعجيب في الكيان. "عجيبة هي أعمالك، ونفسي تعرف ذلك يقينًا". يقول: لماذا أتكلم عنك، إن كان في أي الأحوال ما تفعله هو مملوء عجبًا[52]. القديس يوحنا الذهبي الفم * التطلع إلى السماء والأرض لا يجعلنا نعرف الله أفضل من الدراسة الجادة لوجودنا. يقول النبي: إنني بمهابة وعجب قد خُلقت، بمعنى إنني إذ ألاحظ نفسي أعرف حكمتك غير المحدودة[53]. القديس باسيليوس الكبير * من أين تعرف نفسي ذلك يقينًا إلا لأن الليل هو نور في مسرتي؟ إلا لأن نعمتك حلت عليّ وأنارت ظلمتي؟ إلا لأنك اقتنيت كليتي؟ إلا لأنك رفعتي من بطن أمن؟[54] القديس أغسطينوس * أنصحك بفحص العجائب الكثيرة التي في جسمك. فصحيح إنك كائن صغير، لكنك عالم كبير. وفي هذا المعنى قال داود النبي: "إن أعمالك معجزات، ونفسي عالمة بذلك أي علم" (مز 139: 14). إنّ معرفة دقيقة لجسم الإنسان تقود حتمًا إلى معرفة الكائن العظيم الذي خلقه[55]. القديس باسيليوس الكبير لَمْ تَخْتَفِ عَنْكَ عِظَامِي، حِينَمَا صُنِعْتُ فِي الْخَفَاءِ، وَرُقِمْتُ فِي أَعْمَاقِ الأَرْضِ [15]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: لم يختفِ عنك عظمي الذي صنعته في الخفاء، وشخصي في أسافل الأرض". لاحظ إذ يتحدث المرتل عن عمل الله بالنسبة لتكوين الجنين يتحدث عن نفسه، فيقول على سبيل المثال: "عظامي". يؤكد المرتل معرفة الله له الدقيقة والعجيبة منذ اللحظة الأولى لبدء خلقته، حين كان يتكون في الرحم خفية كمن هو في أعماق الأرض لا يراه أحد. لا يقدر الإنسان أن يعرف كيف يتكون عظام الجنين في رحم أمه، ولا حال الإنسان نفسًا وجسدًا بعد دفنه في القبر. يرى القديس أغسطينوس أن العظام هنا تشير إلى قوة النفس وثباتها. فإن الله يهب المؤمنين قوة الصبر، فلا تنكسر قوتهم أمام ثورة الخصوم المحيطين به. * ما هو المدهش في أن يكون ملاك شجاعًا؟ لكنه لأمر عظيم أن يكون الجسد شجاعًا. من أين يأتي الجسد بالشجاعة، بينما هو إناء أرضي، إلا لأن فيه عظم صُنع سرًا؟[56] القديس أغسطينوس * مرة أخرى يتحدث عن المعرفة، ويظهر الله أنه يعرف كل هذه الأشياء... إنك تدرك خلقتي بدقة، جزءًا فجزءًا، وتعرفني حتى في أقل أعضائي، وفي نموي. وكما يقول المسيح: "شعور رؤوسكم محصاة"[57]. القديس يوحنا الذهبي الفم رَأَتْ عَيْنَاكَ أَعْضَائِي، وَفِي سِفْرِكَ كُلُّهَا كُتِبَتْ يَوْمَ تَصَوَّرَتْ، إِذْ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهَا [16]. عندما كان داود النبي جنينًا في رحم أمه لم يكتمل بعد شكله، إنما كان في المراحل الأولى لوجوده رأى الله مرنم إسرائيل الحلو[58]. وفي كتاب الله كانت كل أيام حياة داود، وذلك بواسطة الفنان الإلهي قبل أن يُعلن عن مجيء داود بالصرخة الأولى عند ولادته[59]. تطلع إليّ الله وأنا جنين لم اكتمل، ورآني تمامًا كما لو كانت خلقتي قد اكتملت. رآني وأنا أنمو يومًا فيومًا، ولم يفلت يوم من أمام عيني إلهي. هكذا يشعر المرتل كيف يهتم الله بكل كبيرة وصغيرة في حياة الإنسان، لأنه المحبوب والثمين جدًا في عينيه. جاءت الترجمة عن القديس أغسطينوس: "رأت عيناك ما هو غير كامل فيّ، وفي كتابك كلها تكتب"، ويعلق عليها قائلًا: * (رأت عيناك) ليس فقط ما هو كامل، بل وما هو ناقص. ليت غير الكاملين لا يخافون، بل يتقدمون. ليس لأني قلت أنهم لا يخافون، أن يحبوا النقص، ويستمروا فيه... ليتهم يتقدمون ما استطاعوا. ليتهم في كل يوم ينالون إضافة، ليتهم يقتربون كل يوم ولا يسقطون من جسد الرب؛ أي لينضموا في الجسد الواحد بين الأعضاء الأخرى، فيحسبوا أهلًا أن ينالوا ما يُقال لهم[60]. القديس أغسطينوس * "رأت عيناك شخصي قبل أن أكتمل"... أنت تعرفني حينما لم أكن قد تشَّكلت بعد... عيناك نظرتني بوضوح كما لو كنت قد تشَّكلت وخُلقت بالكامل وليس كمن لم يكتمل بعد[61]. القديس يوحنا الذهبي الفم مَا أَكْرَمَ أَفْكَارَكَ يَا اللهُ عِنْدِي! مَا أَكْثَرَ جُمْلَتَهَا! [17] جاءت الترجمة عن السبعينية والقبطية: "وأنا لقد أكرم عليّ أصفياؤك جدًا يا الله، واعتزت رئاستهم جدًا". يكرَّم المرتل أصفياء الله الذين يعملون بكل وسيلة مقدسة لحساب ملكوت الله، ويخدمون كنيسته المقدسة. يفكر المرتل في خطة الله ورعايته لروحه ونفسه وجسده. وكما يقول Andrew Ivy إن كل خلية من خلايا جسمه دون أدنى استثناء تعرف ما هو دورها لتحقق الغاية منها لصالح الجسد ككلٍ[62]. * لقد تم أيضًا إضافة الأرجوان مع الذهب والإسمانجوني، وهذا يشير إلى أنه بينما يتأمل قلب الكاهن في الأمور التي يعظ بها، يجب عليه أن يميت كل الرغبات الشريرة مهما كانت ضعيفة ويصدها بقوة، ناظرًا إلى داخله المتجدد، ومحصنًا حقه في الملكوت السماوي بسلوكه في هذه الحياة. ولقد كان بطرس الرسول يعنى هذا السمو الروحي عندما قال: "وأما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي". (1 بط 2: 9) أما عن القوة التي بها يمكنه أن يتغلب على الخطية، فيقول يوحنا الحبيب معضدًا الرعاة، ومعزيًا إياهم: "وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله". (يو 1: 12) ولقد تأمل صاحب المزامير في هذه القوة حين قال: "ما أكرم أفكارك يا الله عندي! ما أكثر جملتها!" (مز 139: 17) فبالحق عندما يُحتقر القديسون في عيون الناس ترتفع عقولهم إلى أعلى المراتب[63]. الأب غريغوريوس (الكبير) إِنْ أُحْصِهَا، فَهِيَ أَكْثَرُ مِنَ الرَّمْلِ. اسْتَيْقَظْتُ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكَ [18]. يستحيل على إنسان ما أن يحصي الرمل، هكذا يستحيل إحصاء العاملين في كرم الرب بإخلاص. كثيرون لا يعرفهم أحد سوى الله العارف القلوب والخفايا. ربما يقصد بقوله: "استيقظت" لحظة ميلاده، ففي العبارات السابقة [13-18] يؤكد أن الله وحده كان قريبًا منه خلال التسعة شهور قبل ميلاده. أما بعد ميلاده، فالصورة اختلفت تمامًا، لكن يبقى الله هو معينه والمحامي عنه ومرشده. يتحدث عن لحظة ميلاده أنها لحظة استيقاظه، فإنها اللحظة الأولى التي فيها يرى نور النهار[64]. * كثيرةٌ هي الأمور التي تغلي في قلبك، وهي تقول: "إن أحصها، فهي أكثر من الرمل" (مز 139: 18). أيها الأخ، لا يعلم أحد ما سيصل إليه حالٍ هذا المكان إلاّ "الله العارف القلوب" (أع 15: 8)، وهو قد أكّد لي (اهتمامه به). إذن، ضع في قلبك أنّ الرب لن ينبذه، بل احفظ ذلك وبجِّله لمجد اسمه المجيد، الذي له المجد إلى الأبد. ومن الآن فصاعدًا كُنْ حُرًّا من الهمّ وعِش في هدوءٍ، لأنّ كل الأمور تأتي في ميعادها وترتيبها. القديس برصنوفيوس 4. الله حاميه من الأشرار لَيْتَكَ تَقْتُلُ الأَشْرَارَ يَا اللهُ. فَيَا رِجَالَ الدِّمَاءِ ابْعُدُوا عَنِّي [19]. بعد أن تحدث عن رعاية الله منذ اللحظة الأولى لتكوينه في رحم يوم ميلاده، ينتقل المرتل إلى الأشرار المقاومين لله، رجال الدماء، والذين يستحقون العقوبة. * هذا ما يسأله (المرتل) أن يحدث، لا أن يهلك وجود الناس وإنما أن يغَّيرهم من الخطية إلى البرّ[65]. القديس يوحنا الذهبي الفم الَّذِينَ يُكَلِّمُونَكَ بِالْمَكْرِ، نَاطِقِينَ بِالْكَذِبِ هُمْ أَعْدَاؤُكَ [20]. أَلاَ أُبْغِضُ مُبْغِضِيكَ يَا رَبُّ، وَأَمْقُتُ مُقَاوِمِيكَ [21]. لا يحمل داود النبي كراهية شخصية، ولا رغبة في الانتقام من أشخاص دفاعًا عن شخصه، إنما لا يطيق الشر، بل يبغضه، وإن كان يطلب خلاص الأشرار بتوبتهم ورجوعهم إلى المخلص الذي ينتظرهم، بل يسعى ليعمل بروحه القدوس فيهم، دون إلزام من جانبه. * لذلك عندما يرتبط داود تمامًا بعهد سلام الروح، يشهد بأنه ليس على توافق مع الأشرار إذ يقول: "ألا أبغض مبغضيك يا رب، وأمقت مقاوميك؟ بغضًا تامًا أبغضتهم. صاروا لي أعداء" (مز 139: 21-22). يتضح هنا أن بُغْضْ أعداء الله بغضًا تامًا يعني أن نحب أشخاصهم لكننا نوبخ أفعالهم، نوبخ سلوكهم الشرير حتى نكون ذوي نفع لهم[66]. الأب غريغوريوس (الكبير) * لنكره هؤلاء (الهراطقة) المستحقين للكراهية، ولنبتعد عن هؤلاء الذين يبتعد الرب عنهم، ولنقل نحن أيضًا بكل شجاعةٍ إلى الله عن الهراطقة، "ألاّ أبغض مبغضيك يا رب وأمقت مقاوميك؟!" (مز 139: 21) لأنه توجد عداوة حقيقية، إذ مكتوب "سأضع عداوة بينك وبين نسلها" (تك 3: 15)، لأن الصداقة مع الحيّة تصنع عداوة مع الله وتوجد موتًا![67] القديس كيرلس الأورشليمي بُغْضًا تَامًّا أَبْغَضْتُهُمْ. صَارُوا لِي أَعْدَاءً [22]. العداوة هنا ضد الشر لا الأشرار، أو كما يقول القديس أغسطينوس نحب خليقة الله، ونبغض ما هو غريب عنها. هنا يعلن المرتل عن بغضه للشر، ليس خوفًا من نتائج الشر، إنما لأنه لا يطيق الشر. بحبه لله القدوس يكره الشر كعدوٍ. * ماذا يعني "بغضًا كاملًا (تامًا)؟ إني أبغض فيهم آثامهم، وأحب خلقتهم. هذا هو معنى أن تبغض بغضًا كاملًا. فليس من أجل الرذائل تكره البشر، ولا من أجل البشر تحب الرذائل. انظروا ماذا يكمل: "صاروا لي أعداء"، ليس فقط من أجل أنهم أعداء الله، وإنما من أجله نفسه أيضًا، (إذ لا يطيق الشر)[68]. القديس أغسطينوس * يليق بالإنسان أن يشتهي التحرر من الرذيلة، ليس هربًا من آثارها، وإنما لأنه يبغضها حسب ما ورد في الأسفار المقدسة[69]. * الروح القدس غير محدود في مكانٍ، بل هو حاضر في كل مكانٍ وروح مطلق، سكب ذاته في عقول التلاميذ بالرغم من وجوده في أقاليم مختلفة وأماكن بعيدة وأصقاع منفصلة في العالم كله، ولا يمكن لشيءٍ ما أن يهرب منه أو يخدعه[70]. القديس أمبروسيوس 5. اختبرني يا الله اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ، وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي، وَاعْرِفْ أَفْكَارِي [23]. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا [24]. يؤكد المرتل أن ما فيه من بغضه ليس طريقًا باطلًا، لأنه لا يكره إنسانًا، بل يشتهي أن يتمتع الكل بالحياة الأبدية، ويسلك الكل في المسيح بكونه الطريق الأبدي. من وحي المزمور 139 لألتقِ بك، فأتعرف على نورك! * لألتقِ بك، فتشرق بنور معرفتك في داخلي. تتهلل نفسي، إذ أراك مشغولًا بي. تعرف سقطاتي لكي تقيمني، وتعرف قيامي لكي أثبت في نعمتك. تعرف أفكاري لكي تقدسها. تعرف كلماتي كما أعمالي، فتوَّجه كل حياتي! تعرف أعماقي أكثر مما أعرفه أنا عن نفسي! تعرفني لا لكي تدينني، بل لكي تحييني فيك! تعرفني، فأدرك حبك، وأتعرف عليك. * لألتقِ بك، فأدرك حضورك في كل مكان. أدرك سكناك في داخلي. وأتمتع بروحك الناري يلهب أعماقي. لأهرب إليك، وأختفي فيك. تحول ظلمتي إلى نورٍ مشرقٍ. وتملأ قلبي بقوة قيامتك، فأستعذب الصلب معك! * لألتقِ بك يا خالقي القدير! كونتني وأنا بعد جنين. نسجتني في بطن أمي. أرى حتى في جسدي أعمالك العجيبة! أتيت بي من العدم. وعندما هويت إلى الأعماق، رفعتني بقوة صليبك! * نقشت اسمي على كفك، سجلته في سفر الحياة. تُعد لي مكانًا في الأحضان الإلهية، وتدخل بي إلى المقادس السماوية. * مشغول بي في سماواتك، كأنه ليس في الخليقة آخر غيري! عجيب في حبك وخلاصك! مع كل صباح، تلهب قلبي نحو القداسة. تعدَّني لكي التقي بك وجهًا لوجه، أحيا في مقادسك معك يا أيها القدوس! * أشكرك، لأنك تمرر الخطية في فمي. لن أطيقها، ولن استعذب ملذاتها. لست أخشى عواقبها، إنما أريد أن أكون أيقونة لك أيها القدوس. إني أبغض ما أنت تبغضه، وأرفض عدو الخير وكل أعماله! انتزعني من فمه الدنس، فإنه يطلبني مأكلًا له. وانتزع الخطية من فمي وقلبي. لأتمتع بمائدة السماء، وأنعم بطعام الملائكة! |
||||
22 - 07 - 2014, 07:27 PM | رقم المشاركة : ( 164 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 140 - تفسير سفر المزامير معركة دائمة!هذا المزمور هو مرثاة شخصية، صلاة مقدمة لله من أجل الخلاص من الضيقة، في اتكال كامل على الله الذي ينقذ مؤمنيه من الأعداء. لما كان الأعداء في العهد القديم يشيرون إلى إبليس وجنوده، فإن المرتل يرى في أعدائه سمة الظلم بعنفٍ مع غدرٍ، ينصبون له الفخاخ. يؤمن المرتل أن الشر يرتد على الشرير، بينما يسند الله المظلومين الأبرياء. لن يتوقف عدو الخير عن محاربة من يريدون أن يتمموا مشيئة الله، دون استثناء. وتزداد ضراوته بالأكثر ضد القادة الحقيقيين، خاصة الرعاة والكارزين. 1.سلاحا العدو: يصوّب عدو الخير سلاحين خطيرين هما اللسان الغاش [1-3] والفخاخ المخفية [4-5]. 2.أسلحة الله: يليق بنا أن نواجه هذا العدو بأسلحة إلهية، وهي الصلاة [6-11]، والتمسك بوعود الله [12]، وممارسة التسبيح [13]. وضع داود النبي هذا المزمور بخصوص شاول الذي كان يذعن إلى وشاية المفسدين ضد داود. * أعتقد أنكم أدركتم ما يحويه هذا المزمور حينما رُتل به. فيه نجد الكنيسة وقد وُضعت في وسط الأشرار، تشتكي وتتنهد وتسكب صلاة لله. فإن صوتها في كل نبوة هو صوت من هو محتاج وفي عوزٍ، ومع هذا لم تشبع، بل جائعة وعطشى إلى البرّ (مت 5: 6). هذه التي إلى ملءٍ معين تتمتع به في النهاية حسب الوعد، وهو محفوظ لها[1]. القديس أغسطينوس 1. المتآمرون 1-3. 2. صرخة إلى الرب مخلصنا 4-5. 3. طريق الخلاص 6-7. 4. رد الشر على الشرير 8-13. من وحي المزمور 140 [FONT=""]العنوان[/FONT] لإِمَامِ الْمُغَنِّينَ. مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "في الانقضاء (النهاية) لداود". يعلق القديس أغسطينوسعلى هذا العنوان قائلًا: * إلى النهاية: ليس من نهاية تطلبها سوى تلك التي يقدمها لنا الرسول: "غاية الناموس هي المسيح" (رو 10: 4). إن السيد المسيح هو من نسل داود، ليس حسب اللاهوت الذي به هو خالق داود، وإنما حسب الجسد. فالمزمور مقدم إلى ابن داود نفسه؛ إنه صوت جسده، أي الكنيسة. القديس أغسطينوس 1. المتآمرون أَنْقِذْنِي يَا رَبُّ مِنْ أَهْلِ الشَّرِّ. مِنْ رَجُلِ الظُّلْمِ احْفَظْنِي [1]. يبدأ المرتل المزمور بتقديم صلاة لله كي ينقذه من افتراءات الأشرار وتشويههم سمعته، ومن الظالمين الذين يضعون خططًا مرعبة ضده. لن يكف إبليس عن مقاومة المؤمنين بكل وسيلة، فهو العدو الحقيقي لله نفسه في أشخاص مؤمنيه. في كل جيل يوجد "رجل الظلم" المقاوم للحق الإلهي، خاصة في نهاية الأيام، حيث يظهر إنسان الخطية (2 تس 2). أما سرّ نصرة الكنيسة فهو الصلاة لله القادر وحده أن يحصن كنيسته ويحفظها، ويسند المؤمنين في ضيقاتهم. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي متى وُصف الإنسان أنه شرير، فإن كلمة "شرير" في اليونانية ترجمتها متألم. فالشر يورث صاحبه ألمًا وشقاءً. عندما قتل قايين أخاه، أرسل أخاه مكللًا بالمجد إلى حياة بلا فساد، أما هو فصارت حياته مملوءة شقاءً. وأيضًا إخوة يوسف، إذ صنعوا بأخيهم شرًا وخانوه، امتلأت حياتهم بالوساوس. مع التزامنا الحرص من الأشرار، غير أن الأشرار في الحقيقة يصوبون رماح شرورهم ضد أنفسهم. يرى القديس أغسطينوس أن المرتل بعد أن تحدث عن الخلاص من الإنسان الشرير، تحدث عن الظالم، لأن الشرير ظالم دومًا حتى لمن يدخل معه في صداقة عميقةٍ. حقًا يطلب منا الكتاب المقدس ألا ندين الذين في الخارج، بل الذين في الداخل، وهو لم يعزلنا عن غير المؤمنين، بل ويطلب منا أن نحبهم، لكن الصداقة التي تنزع الحدود اللائقة تسبب ضررًا للنفس. لعل القديس أغسطينوس يخشى على شعبه من العشرة دون ضوابط مع الهراطقة، فيؤثرون بأفكارهم على الأبناء، وينحرفون بهم عن الحق الإنجيلي. أحيانًا بالكلمات التي تبدو رقيقة يحطمون الإيمان المستقيم، ويبثون الأفكار المسمومة في النفوس. * "أنقذني يا رب من إنسان شرير". ليس من شخصٍ واحدٍ فقط بل من الصنف كله (الأشرار). ليس من الأواني فقط، وإنما من رئيسهم نفسه، أي من الشيطان. لماذا من إنسانٍ إن كان يعني الشيطان؟ لأنه دُعي أيضًا إنسانًا في رمزٍ (مت 13: 24-28)... الآن إذ صرنا نورًا ضد الظلمة فقط، أي ضد الخطاة، هؤلاء الذين لا يزال الشيطان يقتنيهم، وإنما ضد رئيسهم، الشيطان نفسه، الذي يعمل في أبناء المعصية. "ومن رجلٍ ظالمٍ أحفظني" هو نفسه مثل الإنسان الشرير، إذ يدعوه شريرًا لأنه غير بارٍ، لئلا تظن أن أي إنسان غير بار يمكن أن يكون صالحًا. إذ يبدو كثير من غير الأبرار أنهم غير مؤذين، وليسوا عنفاء، ولا شرسين، لا يضطهدون ولا يضايقون، إنما هم غير أبرار، لأنهم يمارسون عادات أخرى معينة، يعيشون في ترفٍٍ، يسكرون، ويتنعمون... الشرير هو كل إنسان غير بارٍ، وهو مؤذٍ، سواء كان لطيفًا أو شرسًا. من يسقط في طريقه، ويؤخذ بشباكه، فهو مؤذٍ، هذا الذي يبدو بلا أذية[2]. القديس أغسطينوس يلزمنا ألا نعبر إليها باختيارنا، لكن إن حلت بنا نحتملها بشجاعة. ونلتمس المعونة من الله، مقربين له من جانبنا ما يرضيه من الأعمال الصالحة، لأن شرهم غير ظاهر. * تأمل أيها المسيحي، إنه لم يطلب من الله النجاة من الوحوش والسباع والأفاعي والعقارب، بل يسأله الخلاص من الإنسان الشرير. لأن هؤلاء السابق ذكرهم قد نشأوا حسب طبيعتهم، أما الإنسان فيظهر بخلاف طبيعته، فيصعب الاحتراس منه. الأب أنسيمُس الأورشليمي الآن ليته لا يديننا أحد على قولنا إن الإنسان المتمسك بالرذيلة أكثر وحشية من الحيوان المفترس. أقصد أن الأخير إن كان غير لطيف بالطبيعة يمكن خداعه بسهولة، وما تراه فيه يليق به. أما الإنسان الذي يعتزم على الشر، فيتبنى مظاهر كثيرة، والتخلص من أذيته أصعب كثيرًا مما يصدر عن الحيوان، فإنه ذئب في زي حمل. ولهذا كثيرون يصيرون ضحية لمثل هؤلاء وهم لا يدرون. مثل هؤلاء يصعب اكتشافهم، لهذا يتجه النبي إلى الصلاة، ويطلب العون من الله، لكي يتحرر من خداعاتهم. في الواقع كثيرًا ما يستخدم الشيطان مظاهر مثل هؤلاء الناس، ويضرب بهم. لهذا فإن المكر له نتائج كثيرة من كل جانبٍ، والإنسان الشرير ينشغل به، والشيطان المتوحش توَّاق للقتال، والتجربة غير المحتملة تسبب متاعب. لهذا تعلمنا أن نصلي: "لا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير". متنوعة هي الصراعات، وكثيرة هي طرق الهجوم، لهذا فالحاجة ماسة إلى الاستعداد لهذا كله. وذلك كمن قصد الإبحار في المحيط، يلزمه الحذر من قوة الأمواج العاصفة، ومن هجوم الرياح القاسية، وضخامة السحب، والصخور المخفية، والعقبات الخطيرة، وهجوم المخلوقات البحرية، وكمائن القراصنة، والتعرض للجوع والعطش، والمد والجزر، وعدم وجود مرساة للحماية والنزاع بين البحارة، ونقص المئونة، وما شبه ذلك. يتطلب هذا تبني خطط خفية ضد هذا كله. هكذا لكي يواجه الإنسان شدائد الحياة الحاضرة، يلزمه أن يكون حذرًا ضد شهوات الجسد، وقلق النفس، وخداعات الناس، وهجوم الأعداء، وخطط الأصدقاء الكذبة والعوز والآلام والاهانات وحشد الشياطين وجنون إبليس، حتى يبلغ الإنسان إلى المدينة الملوكية ويدخل بالحمولة إلى الميناء[3]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم الْيَوْمَ كُلَّهُ يَجْتَمِعُونَ لِلْقِتَالِ [2]. يئن المرتل من الأشرار، لأنهم يقاومون بلا سبب سوى أنهم يجدون سعادتهم في الدخول في معارك مهلكة. يصرخ المرتل إلى الله، لأن الأشرار يخفون شرورهم في قلوبهم، فما يظهرون به غير ما يبطنون. قلوبهم مملوءة بالشر حتى إن كانت لهم صورة الوداعة واللطف. هذا من جانب، وأما الجانب الآخر، فإنهم يجتمعون اليوم كله للقتال، ويقصد باليوم كله، حياتهم كلها. ينتهزون كل فرصة لممارسة القتال العنيف. عوض القتال ضد إبليس والخطية يمارسون العنف ضد بعضهم البعض. * من السهل تجنب الأعداء الظاهرين. من السهل الابتعاد عن العدو الصريح والظاهر، عندما يكون الظلم على شفتيه كما في قلبه، لكن العدو الذي يسبب قلاقل، خفي، يصعب تجنبه ذاك الذي يقدم أمورًا صالحة بشفتيه، بينما يخفي شرورًا في قلبه[5]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي حُمَةُ الأُفْعُوانِ تَحْتَ شِفَاهِهِمْ. سِلاَهْ [3]. عمل الأشرار الأول هو أن يسنوا ألسنتهم لتكون حادة وقاتلة كالسيوف. تخرج كلماتهم كالسم القاتل. يعلق القديس جيروم على هذه العبارة بقوله: "إنه يحذرنا من الهراطقة". * "حُمة الأفعوان تحت شفاههم"، فإن كلماتهم تحمل ودًا على السطح بما فيه الكفاية، وهي مملوءة سمًا قاتلًا[6]. القديس جيروم القديس أغسطينوس * تعلموا من هذه الحيوانات وما أشبهها لكي تبلغوا الفضيلة، وتتجنبوا الرذيلة بما يضادهم. فكما أن النحلة تتبع الصلاح، فالأفعى مهلكة. لذلك تجنبوا الشر، حتى لا تسمعوا: "سُم الأفعوان تحت شفاههم"... مرة أخرى الثعلب ماكر ومخادع. لا تقتدوا به، بل بالنحلة التي تطير في المروج ولا تختار أية زهرة، إنما الزهرة النافعة وتترك الباقي. هكذا افعلوا أنتم أيضًا، وبينما تبحثون في كل جنس الحيوانات غير العاقلة، فإن وجدتم ما هو نافع منها اقبلوها، وانتفعوا منها طبيعيًا، ومارسوا عملكم بحرية اختياركم[9]. القديس يوحنا الذهبي الفم العلامة أوريجينوس هذا القتال يحدث في كل موضع: في البيوت والأسواق... الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس كيرلس الأورشليمي 2. صرخة إلى الرب مخلصنا احْفَظْنِي يَا رَبُّ مِنْ يَدَيِ الشِّرِّيرِ. منْ رَجُلِ الظُّلْمِ أَنْقِذْنِي. الَّذِينَ تَفَكَّرُوا فِي تَعْثِيرِ خُطُواتِي [4]. كثيرًا ما تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن خطورة الأشرار، قائلًا بأن عدو الخير إبليس يرى أن أفضل وسيلة لمقاومة الصديقين هي استخدام الأشرار. لكن في نفس الوقت فإن ما يصيب الشرير نفسه بخداعه للصديقين أخطر مما يحل بالصديقين. ما يمارسه الشرير من شرور، يملأ الكأس التي يشرب هو منها. * ليس شيء مقاوم للبرّ مثل أولئك الذين يمارسون الشر، الذين يخطئون إلى نفوسهم قبل أن يخطئوا إلى الآخرين[12]. القديس يوحنا الذهبي الفم "الذين تفكروا في تعثير (عرقلة) خطواتي". لا يمكن فهم هذا بطريقة جسدانية... إنه يعرقل خطواتك إن عاقك عن طريق الله، حتى يعثرك وأنت تتجه مباشرة في الطريق المستقيم، أو يجعلك تسقط من الطريق، أو تسقط في الطريق، أو يسحبك من الطريق، أو يجعلك تقف في الطريق، أو ترجع إلى حيث كنت... ما يحدث لك من هذا إنما هو أعاقة لك وخداع. يلزمك أن تصلي ضد هذا، حتى لا تفقد الميراث السماوي، لئلا تفقد المسيح إذ أنت شريكه في الميراث، فقد وُضع لك أن تعيش معه إلى الأبد، ذاك الذي جعلك وارثًا. فإنك صرت وارثًا ليس لمن تخلفه بعد موته، إنما ذاك الذي تحيا معه إلى الأبد[13]. القديس أغسطينوس مَدُّوا شَبَكَةً، بِجَانِبِ الطَّرِيقِ وَضَعُوا لِي أَشْرَاكًا. سِلاَهْ [5]. لا يتوقف عدو الخير عن نصب شباك وفخاخ خفية ليصطاد الأبرياء. إنه يدَّرب عبيده العاملين لحسابه لكي يكونوا مهرة وخبراء في نصب فخاخه. يستخدمون كل وسيلة لوضع إغراءات تجتذبهم، فيسقطون في شبكة إبليس. يطلب المرتل من الله أن يحفظه من السقوط، ويحميه بروح التمييز والحكمة والقوة، فإنه لا خلاص له إلا بعمله الإلهي. * إنه يصف باختصار كل جسم الشيطان، بقوله: "المستكبرون". هذا لأن غالبيتهم يدعون أنفسهم أبرارًا وهم أشرار. ليس شيء خطير عليهم مثل عدم اعترافهم أنهم خطاة. إنهم أناس أبرار زائفون يحسدون الأبرار الحقيقيين... هذا ما أراده الشيطان أولًا، فإنه إذ سقط بنفسه حسد الإنسان القائم... ما هي الحبال؟ يقول الكتاب: كل واحدٍ "بحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22). ويقول إشعياء بصراحة: "ويل للجاذبين الإثم بحبلٍ طويلٍ" (راجع إش 5: 18). ولماذا دعيت حبلًا؟ لأن كل خاطي يُحفظ في خطاياه، يضيف خطية إلى خطية، وإذ يلزم أن يُتهم بخطاياه لأجل إصلاحه، إذ يدافع عن نفسه يضاعف خطاياه التي كان يلزم إزالتها بالاعتراف. وغالبًا ما يقوي نفسه بارتكاب خطايا أخرى بجانب الخطايا التي بالفعل ارتكبها... هؤلاء يبسطون خطاياهم للأبرار لكي يحثوهم أن يمارسوا الشر الذي يمارسونه هم... "بجانب الطرق وضعوا لي أشراكًا"، ليس في الطرق بل بجانبها. الطرق هي وصايا الله. هم يضعون العثرات بجانب الطرق. ليتكم لا تنسحبوا من الطرق، وبهذا لا تندفعون وتسقطون بالعثرات[14]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم الأب هيسيخيوس الأورشليمي لقد بدأت أتكلم عن هذا، ولكنني أظن أنه ينبغي أن أعالج موضوع هؤلاء الأعداء في شيء من الإيجاز. الآن قد عرفنا الأعداء دعنا نبحث عن طريقة دفاعنا ضدهم "أدعو الرب الحميد، فأتخلص من أعدائي (مز 18: 3). لقد رأيت ما ينبغي أن تفعله أدعُ بحمد، أي أن تدعو الرب بحمدٍ، لأنك لا تكون في مأمن من أعدائك إن مدحت ذاتك. "أدعو الرب الحميد، فأتخلص من أعدائي". لأنه ماذا يقول الرب ذاته؟ "ذابح الحمد يمجدني، والمقوم طريقه أريه خلاص الله" (مز 50: 23). أين هو الطريق؟ في ذبيحة الحمد. لا تدع أرجلك تحيد عن هذا الطريق. كن فيه ولا تبتعد عنه، لا تبتعد عن مدح الرب خطوة ولا قيد أنملة، لأنك إن حدت عن الطريق، ومدحت ذاتك بدلا من أن تمدح الرب، لا تنجو من أعدائك. فقد قيل عنهم: "مّدوا شبكة بجانب الطريق" (مز140: 5). لهذا إن ظننت أن لك صلاحًا في ذاتك، ولو إلى أدنى درجة، تكون قد حدت عن طريق مدح الله. عندما تضلل ذاتك لماذا تتعجب إن ضللك عدوك؟ استمع إلى الرسول: "لأنه إن ظن أحد أنه شيء، وهو ليس شيئًا فانه يغش نفسه" (غل 6: 3)[17]. * كأنه يقول: بأي طريق تذهبون؟ "أنا هو الطريق". إلى أين تذهبون؟ "أنا هو الحق". أين ستقطنون؟ "أنا هو الحياة". لنسر إذن في الطريق بكل يقينٍ، لكننا نخشى الشباك المنصوبة على جانب الطريق. لا يجرؤ العدو أن ينصب شباكه في الطريق، لأن المسيح هو الطريق، لكن بالتأكيد لن يكف عن أن يفعل هذا في الطريق الجانبي. لهذا أيضًا قيل في المزمور: "وضعوا لي عثرات في الطريق الجانبي" (مز ١40: 5 LXX). وجاء في سفر آخر: "تذكر أنك تسير في وسط الفخاخ" (ابن سيراخ ٩: ١٣). هذه الفخاخ التي نسير في وسطها، ليست في الطريق، وإنما في الطريق الجانبي. ماذا يخيفك؟ سرْ في الطريق! لتخف إذن إن كنت قد تركت الطريق. فإنه لهذا سُمح للعدو أن يضع الفخاخ في الطريق الجانبي، لئلاَّ خلال أمان الكبرياء تنسى الطريق، وتسقط في الفخاخ... المسيح المتواضع هو الطريق، المسيح هو الحق والحياة، المسيح هو الله العلي الممجد. إن سلكت في المتواضع (المسيح) تبلغ المجد. إن كنت ضعيفًا كما أنت الآن، لا تستخف بالمتواضع، فإنك تثبت بقوة عظيمة في المجد[18]. * عندما تتَّهم نفسك لا يجد العدو فرصة يحتال بها ضدَّك أمام القاضي. فإن كنت تتَّهم نفسك، والرب هو مخلِّصك، فماذا يكون العدو سوى مجرَّد محتال؟! بهذه يستطيع المسيحي أن يحصِّن نفسه ضد أعدائه غير المنظورين (إبليس وجنوده). فبكونهم أعداء غير منظورين ينبغي مقاومتهم بطرقٍ غير منظورة. لقد قيل عنهم: "مدُّوا شبكة بجانب الطريق" (مز ١٤٠: ٥). فإن ظننت أنك بذاتك صلاح ولو إلى أدنى درجة، تكون بذلك قد انحرفت عن طريق تمجيد الله. وإذ تُضلل نفسك، كيف تتعجَّب إن ضلَّلك العدو؟! استمع إلى قول الرسول: "لأنه إن ظن أحد أنه شيء، وهو ليس شيئًا، فإنَّه يغش نفسه" (راجع غل ٦: ٣). القديس أغسطينوس سأل الإخوة شيخًابخصوص القول السابق، قائلين: "كيف رأى هذا القديس فخاخ الشيطان، هل بطريقة محسوسة أم معقولة؟ ومَنْ هم الذين قالوا له إنّ التواضع يخلِّص منها؟" فأجاب الشيخ: "لقد رأى القديس أنبا مقار ما يشبه ذلك في البرية الداخلية من الإسقيط، فقد رأى شبه رجلين، الواحد عليه ثوبٌ مثقّبٌ وفيه أشياء ملونة والآخر يلبس ثوبًا باليًا مشبّكة به قوارير كثيرة، وكل واحدٍ منهما له أجنحةٌ كشبه غطاءٍ ملفوفٍ فيها، إلاّ أنه رأى ذلك بعين الجسد. أما القديس أنطونيوس فرأى بعين العقل جميع فخاخ الشيطان التي ينصبها للمتوحدين في كل حينٍ، ويكبِّلهم ويعوِّقهم عن السعي في طريق الفضيلة، كما هو مكتوب: "في طريقي نصبوا لي فخاخًا، وحبالًا شبكوها في مسالكي" (مز 140: 5). فلما رآها منصوبةً كشبه الفخاخ التي ينصبها الصيادون للوحوش تعجّب واحتار من كثرتها، ومن أنّ الذين يسقطون فيها لا يخلصون، وهي مثل فخّ الشره وامتلاء البطن، وفخّ محبة الفضة، ومحبة الزنا، والمجد الباطل والكبرياء... وبقية الأوجاع التي أظهرتها له الملائكة. كما أظهروا له جميع الحيل والخداعات التي يُخفون بها فخاخهم، ويقيِّدون الإخوة بها." بستان الرهبان 3. طريق الخلاص قُلْتُ لِلرَّبِّ: أَنْتَ إِلَهِي. أَصْغِ يَا رَبُّ إِلَى صَوْتِ تَضَرُّعَاتِي [6]. يبدأ طريق الخلاص بالاقتراب من الله بكونه إلهي الشخصي، الذي ينصت إلى تضرعاتي. بدالة أقدم تضرعاتي إليه. * ما هو العلاج وسط مثل هذه الشرور، في مثل هذه التجارب والمخاطر؟ "قلت للرب أنت إلهي". عالٍ هو صوت الصلاة، إنها تبعث الثقة. أليس هو إله الآخرين؟ .... إنه خاص بمن يتمتعون به ويخدمونه ويخضعون له بإرادتهم. لأن الأشرار أيضًا يخضعون له، بغير إرادتهم. "أصغ (بأذنيك) إلى صوت تضرعي"... صوت صلاتي هو حياة صلاتي، نفس soul صلاتي، ليس صوت الكلمات، بل الصوت الذي يعطي حياة لكلماتي[19]. القديس أغسطينوس القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم ظَلَّلْتَ رَأْسِي فِي يَوْمِ الْقِتَالِ [7]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يا رب يا رب، قوة خلاصي". خلال هذه الدالة أدرك أن الله هو قوة خلاصي. لست أتكل على قدراتي وإمكانياتي وخبرتي البشرية، إنما على القدير المشغول بخلاصي. إنه يحوط حولي، ويصير خوذة تحمي إيماني وتفكيري. يحفظني من سهام أفكار العدو وحيِّله المهلكة. * "يا رب يا رب، قوة خلاصي"، بمعنى يا من تعطي قوة لصحتي. ما هو معنى قوة صحتي؟ لقد اشتكى من عثرات الخطاة وشباكهم، من الناس الأشرار، من أواني الشيطان، هؤلاء الذين كانوا ينبحون حوله، وينصبون الشباك حوله، هؤلاء المتكبرون الذين يحسدون الأبرار. لكنه في الحال يضيف راحة: "من يصبر إلى المنتهى يخلص". هذا ما لاحظه وخافه، وحزن عليه بسبب كثرة الآثام، عاد فاتجه نحو الرجاء. حقًا إنني سأخلص إن كنت أصبر إلى المنتهى، لكن الصبر لنوال الخلاص يتوقف على القوة؛ أنت هو قوة خلاصي. أنت تجعلني أصبر فأخلص... وإذ يتعب في هذا القتال، عاد فنظر إلى نعمة الله. وإذ بدأ بالفعل يعاني من الحر والجفاف، وجد كأن ظلًا تحته يعيش. "ظللت رأسي في يوم القتال"[22]. القديس أغسطينوس * "غطيت رأسي في يوم القتال". إلا ترون الروح الشاكرة؟ إنه يتذكر الأحداث السابقة أن الله ثبته في أمانٍ. هذا هو معنى "غطيت". لاحظوا كيف أظهر تسهيلات الله له. إنه لم يقل: "قبل هذا (أعددت الأمان)"، بل قال: "في يوم القتال" نفسه، عندما هدَّدت الضيقة، عندما بدأت المعركة، عندما كنت في خطر من مصيرٍ محتومٍ، ثبتني في أمانً. ها أنتم ترون أن الله لا يطلب إعدادًا ولا مناشدة. لاحظوا أنه هو كل شيءٍ: الحاضر والمستقبل والماضي، قادر على كل شيءٍ، ودائمًا يقف مستعدًا للمساعدة. عندئذ لكي يشير إلى سمة النصر غير العادية والأمان، لم يقل: "أنت أنقذتني"، وإنما قال: "غطيت"، بمعنى أنك أكدت لي أنني لا أعاني أدنى خطر أو لسعة حرٍ. إنما ثبتني في أمانٍ عظيمٍ، وفي شبعٍ وراحةٍ كما في طمأنينة. فلا أذوق أي حرٍ مؤلمٍ، بل أجد متعة في الغطاء، أي في التحرر من الكارثة. هذا هو السبب أنه أضاف "غطيت"، لكي يشير إلى هذا، ويظهر سهولة المعونة التي يقدمها الله بقول كلمة "غطاء". وكأنه يقول: يكفيني فقط أن تكون حاضرًا، فيُحل كل شيء[24]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي 4. رد الشر على الشرير لاَ تُعْطِ يَا رَبُّ شَهَوَاتِ الشِّرِّيرِ. لاَ تُنَجِّحْ مَقَاصِدَهُ. يَتَرَفَّعُونَ. سِلاَهْ [8]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يا رب لا تسلمني من قبل شهواتي للخاطئ. تشاوروا عليّ، فلا تتركني عنك لئلا يرتفعوا". يتوسل المرتل إلى الله أن يُبطل خطط عدو الخير، كما أبطل مشورة أخيتوفل الذي كان يود هلاك داود الملك والنبي. يطلب المرتل ألا يسمح للشرير أن يحقق ما في قلبه وفكره من كراهيةٍ وعنفٍ. إذ يظلل الله عليه يحميه من ضعفاته الشخصية، ويعطيه قوة، فيحتمل الضيق بصبرٍ لكي يخلص. لكن المرتل يخشى إغراءات العدو لكي يثير فيه شهوات خاطئة فيصطاده. يقدم لنا القديس أغسطينوس مثلًا لذلك. إن العدو أحيانًا لا يستخدم العنف، وإنما يلقي أمام الإنسان فرصة لكسبٍ مادي مقابل عدم الأمانة. فيكون ذلك أشبه بُطعم يوضع في الفخ لاصطياد الإنسان. هذا ما يخشاه المرتل، فيطلب من الله ألا يسلمه للعدو. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن الأشرار يخادعون إخوتهم مثل الشيطان الذي يجول كأسدٍ زائرٍ ليجد من يبتلعه (1 بط 5: 8). هكذا هاجم أيوب، وهكذا أراد أن يهاجم بطرس، لذلك قال السيد المسيح: "هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة" (لو 22: 31). بهذا الروح يعمل الأشرار الذين قيل عنهم: "الفرحين بفعل السوء، المبتهجين بأكاذيب الشر" (أم 2: 14). * ما يعنيه هو هذا: لا تسلمني لشهوات الشرير، التي هي ضدي، أي لا تسمح له أن ينال شهوته ضدي[25]. * لاحظوا تواضع هذا الشخص. فإنه لم يقل: "لا تتركني لأني مستحق، لا تتركني من أجل حياتي الفاضلة"، وإنما ماذا قال؟ "لئلا يرتفعوا"، لئلا يزدادوا عجرفة، ويصيروا في أكثر غباوة خلال تركك لي[26]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي فَشَقَاءُ شِفَاهِهِمْ يُغَطِّيهِمْ [9]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "رأس فسادهم وشقاء شفاههم يغطيهم". حقًا يسمح الله لعدو الخير أن يقاوم، ولإنسان الظلم والخطية أن يُعلن، لكن يحوط الله بمؤمنيه بينما يجني الشرير ثمر شره. لا تقف طلبة المرتل عند خلاصه، بل يطلب أن يرتد شر إبليس وجنوده عليهم، فما يخططوه يحل بهم. هذا ما حدث حين بذل عدو الخير كل جهده للخلاص من رب المجد يسوع بصلبه في خزيٍ وعارٍ، فإذا بإبليس يفقد سلطانه بالصليب، ويصير في عارٍ. فإن كان السيد المسيح قد صُلب بالجسد، إنما لخلاص العالم، أما عدو الخير فبالصليب سُمر سلطانه، وصار لا حول له ولا قوة على المؤمنين بالمصلوب. ليس ما يشغل قلب الشرير، ولا ما تنطق به شفتاه الداخليتان سوى الشقاء للآخرين، فما ينطقون به في أعماقهم يحل بهم، إذ "لا سلام للأشرار، قال إلهي". يرى القديس جيرومأن الهراطقة يتشبهون بالحية التي متى رأت إنسانًا يحاول أن يضربها تلتف حول نفسها، وتخفي رأسها، حتى لا تسقط الضربات على الرأس. هكذا الهراطقة يخفون رؤوسهم بمنطوقات الفلاسفة المشهورين للدفاع عن آرائهم الخاطئة. أما إنسان الله، فيستخدم كلمات الكتاب المقدس كعصا، يكشف رأس الهراطقة ويضربها. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم في كلمة "المحيطين" صورة الأشرار وقد اجتمعوا معًا ليضعوا خططًا فاسدة، ويُنتجوا أو يفقسوا شرورًا ضد المرتل، لكن هذا كله يحطمهم. * الخطط الشريرة ذاتها، قمة شرورهم، وفساد نظرتهم، تحدرهم إلى أسفل وتحطمهم. "شقاء شفاههم"، هنا يدعو الشر شقاءً... في حالة إخوة يوسف، أرادوا أن يجعلوا منه عبدًا ويحطموه، فسقطوا هم في مخاطر قاسية، أما هو وإن عانى من العبودية والموت شكرهم. أيضًا وضع أبشالوم خطة لتحطيم والده، خلال السطوة الطاغية، لكنه سقط ضحية خطته ذاتها[27]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس الأب غريغوريوس (الكبير) لِيَسْقُطْ عَلَيْهِمْ جَمْرٌ. لِيُسْقَطُوا فِي النَّارِ وَفِي غَمَرَاتٍ، فَلاَ يَقُومُوا [10]. ما يطلبه العدو ويبذل كل طاقاته لتحقيقه، إذا به يصير أشبه بمطرٍ ينزل عليهم لا كماءٍ أو بردٍ، بل كجمر نارٍ لا يمكن الهروب منه. بالكيل الذي به يكيل للبشرية يُكال له ويزداد. هذا المبدأ خطير، يليق أن يضعه الإنسان نصب عينيه: ما يفعله بالآخرين أو ما يشتهيه للغير، يحِّل عليه، سواء كانت بركات أو لعنات. شهوات الشرير ضد إخوتهم هي جمر نار، ففيما هم يفكرون ويدبرون الشر للغير، إذا بهذا الجمر يسقط عليهم ويغطيهم. هذا وما يحملونه من شرور ومكائد يشعل غضب الله عليهم، إن صح التعبير. بقوله "في غمرات" فلا يقوموا، يعني أنه وإن أطال الله أناته عليهم لتوبتهم عن شرورهم، فإن لم يتوبوا سرعان ما يحل يوم التأديب هنا أو يوم العقوبة في يوم الرب العظيم. يرى القديس أغسطينوس أن النار هنا هي نار سماوية، تحول الإنسان من فحم أسود مطفي إلى جمرة نار، ملتهب بالروح، يلهب الآخرين أيضًا. * كان الرسول فحمًا، إذ كان مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا، كان فحمًا أسود ومطفيًا، ولكن عندما نال رحمة، التهب بنارٍ من السماء، ألهب صوت المسيح فيه نارًا، فزال عنه كل السواد، وبدأ يكون حارًا في الروح، يُلهب الآخرين بذات النار التي التهبت فيه[30]. القديس أغسطينوس يشير بجمر النار وبالنار هنا إلى العقوبة التي تحل من الأعالي. فإنها غالبًا ما تأخذ شكل النار ذاتها كما في حالة داثان وقورح وابيرام، وأيضًا الذين وقفوا بجوار الأتون في بابل[31]. القديس يوحنا الذهبي الفم هيسيخيوس الأورشليمي رَجُلُ الظُّلْمِ يَصِيدُهُ الشَّرُّ إِلَى هَلاَكِهِ [11]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "رجل يمتد لسانه، لا يستقيم على الأرض. الرجل الظالم تصيده الشرور إلى الفساد". يعني بالإنسان صاحب اللسان غير المضبوط (الفالت) ذاك الذي يخطط للشر مع الآخرين، فإنه إنما يُعد لنفسه مصيدة لهلاكه. استخدم المرتل كلمة "يصيده"، لأن الشر أشبه بصياد يخفي الفخاخ حتى يسقط الشخص فيها، هكذا تخف الشرور عن مرتكبيها فخاخها المهلكة. وكما يقول الحكيم: "الشرير تأخذه آثامه، وبحبال خطيته يُمسك" (أم 5: 22). من يرتكب الشر، ويود أن يهلك الآخرين يفقد تعقله وبصيرته، ويجد نفسه ضحية شره. نصرة المؤمنين الحقيقيين أكيدة في الرب، ورد الشر على إبليس أكيد، كما الشرب من كأس الشر يسقط فيه الأشرار المعاندون، ما لم يرجعوا إلى الرب بالتوبة الصادقة. * "الرجل المملوء كلامًا" يحب الأكاذيب. فأية مسرة له سوى في الكلام؟ إنه لا يحرص على ما يقوله، إنما يحرص أن يطيل الكلام. إنه لا يمكن أن يستقيم. ماذا إذن ينبغي على خادم الله أن يفعل، ذلك الذي يلتهب بهذا الجمر، ويصير هو نفسه جمر خلاص؟ إنه يرغب أن يسمع أكثر من أن يتكلم، كما هو مكتوب: "ليكن كل إنسانٍ مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم" (يع 1: 19)... أستطيع أن أخبركم سريعًا حيث يمتحن كل واحدٍ نفسه، لا بعدم الكلام نهائيًا، بل بدراسة الحالة متى يكون من واجبه أن يتكلم. ليكن سعيدًا أن يصمت متى شاء، ويتكلم ليعَّلم متى لزم الأمر... "الرجل الظالم تصيده الشرور إلى هلاكه". الشرور تحل، ولا يثبت الظالم، لذلك قيل: "تصيده إلى هلاكه". لكن كثير من الصالحين والأبرار تحل بهم الشرور، كمن قد وجدتهم... فشهداؤنا عندما أمسكت بهم الشرور اصطادتهم لكن ليس للهلاك. فقد حلت ضعفات على الجسد، أما الروح فكُللت. طُردت الروح من الجسم، لكن كأن لا شيء حلّ بالجسد الذي أخفى (الروح) للمستقبل. ليحترق الجسد ويُجلد ويشّوه، فقد سُلم لمضطهده، فهل ينزع من خالقه؟ أليس ذاك الذي خلقه من العدم يعيده بصورة أفضل؟[33] القديس أغسطينوس يدعوهم "مساكين" ليس بكونهم محتاجين، بل لأنهم متواضعون جدًا، ونادمون. يقول هذا لكي يعطي راحة لمن يُساء إليهم، وليرد المخطئين إلى التعقل، حتى لا يفقد الأولون رجاءهم في المستقبل، ويصير الأخيرون أكثر عدم مبالاة بسبب التأخير (في السقوط في ثمرة أعمالهم). التأخير في الواقع يقود إلى التوبة، وإن كان يجعل العقوبة أكثر شدة للمتمردين. وهذا حق، لماذا؟ لأنه وإن أُعطي لهم صلاح كهذا لم يصيروا إلى حالٍ أفضل. فوق هذا كله لطف الله، إذ يسمح للمختارين له أن يحتملوا الظلم، ولا ينتقم لهم حتى يجعلهم يصيرون إلى حالٍ أفضل بالتوبة[34]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي إننا نكتفي أولًا بأن نتكلم عن شئون الآخرين، ثم بعدها يقرض اللسان قادحًا حياتهم، وأخيرًا ننزع إلى السّب الصريح. وهكذا عندما نَبْذُر الإثارة، تبدأ المنازعات، وتشُبُ النيران في بؤرة الغضب، وينطفئ حينئذ سلام القلب. لذلك حسنًا يقول سليمان: "ابتداء الخصام إطلاق الماء" (أم 17: 14). إطلاق الماء ما هو إلا إطلاق اللسان بثرثرة. ومن الناحية الأخرى يقول الحكيم: "كلمات فم الإنسان مياه عميقة، (نبع الحكمة نهرٌ متدفقٌ)" (أم 18: 4). هكذا عندما نطلق الماء، نصير ينبوعًا للخصام والمنازعات. والذين لا يتحكمون بألسنتهم يكسرون التآلف. ولذلك نقرأ المكتوب: "رامٍ يطعنُ الكل هكذا من يستأجرُ الجاهل أو يستأجرُ المحتالين" (أم 26: 10). والأكثر من ذلك، فإن الذين يدمنون كثرة الكلام يحيدون تمامًا عن طريق البرّ المستقيم. لذلك يشهد النبي قائلًا: "رجل لسانٍ لا يثبت في الأرض" (مز 140: 11). ويقول سليمان أيضًا: "كثرة الكلام لا تخلو من معصية (أما الضابط شفتيه فعاقل)" (أم 10: 19). ولذلك يقول إشعياء:" (ويكون صنع العدل سلامًا) وعمل العدل سكونًا وطمأنينة إلي الأبد" (إش 32: 17). وهذا يشير إلى أنه حيث لا يكون هناك ضبط للكلام يفتر برّ النفس. لذلك يقول يعقوب: "إن كان أحد فيكم يظن أنه دَيِّنٌ، وهو ليس يُلْجِمُ لسانه، بل يخدع قلبه فديانة هذا باطلة." (يع 1: 26) كذلك يقول أيضًا: "ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئا في الغضب" (يع 1: 19). وعندما يصف قوة اللسان يضيف قائلًا:" (وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذلِّله) هو شر لا يُضْبَطْ مملوءٌ سمًا مميتًا" (يع 3: 8). لأجل ذلك يحذرنا الحق ذاته في قوله: "إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يُعْطَوْنَ عنها حسابًا يوم الدين" (مت 12: 36). والمقصود هنا أي كلمة بطالة غير مبررة وليست ضرورية ولا تهدف لأي نفع للتقوى. لذلك، إن كنا سنعطي حسابًا عن أية كلمة بطالة، فينبغي أن نتفكر في العقاب المذخر للثرثرة التي هي مؤذية، وتحمل كل إثم[35]. الأب غريغوريوس (الكبير) قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الرَّبَّ يُجْرِي حُكْمًا لِلْمَسَاكِينِ، وَحَقًّا لِلْبَائِسِينَ [12]. يؤكد الكتاب المقدس هذه الحقيقة أن الله دومًا في جانب المساكين والبائسين والمظلومين. إنه لا يطيق الظلم والعنف! * هذا "المسكين" هو ذاك غير مملوء بالكلمات، لأن المملوء بالكلمات يود أن يكون غنيًا، لا يعرف أن يجوع. قيل عن المسكين: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يشبعون" (مت 5: 6). إنهم يئنون بين عثرات الأشرار، يصلون لرأسهم (السيد المسيح) لكي ينقذهم من الرجل الشرير. "وحقًا للبائسين". هؤلاء لا يتجاهل الرب حقهم، وإن كانوا الآن يعانون من المتاعب، فسيظهر مجدهم عندما يظهر رأسهم. عن هؤلاء قيل وهم هنا: "لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله" (كو 3: 2). هكذا إذن نحن مساكين، وحياتنا مختفية. لنصرخ إليه، فهو خبزنا (يو 6: 51)[36]. القديس أغسطينوس كما أن الشخص الطويل الأناة واللطيف والذي يعرف كيف يحتفظ بالصمت يكون في أمانٍ وموضع ثقة وسرورٍ لكل أحدٍ. هكذا الإنسان الذي يمارس حياة خطرة، يجتذب لنفسه أعداءً له بلا عدد من كل جانب، ويسبب قلقًا لنفسه قبل الآخرين، ولا يسمح لنفسه أن يكون في سلامٍ، بل بالحري يثير عداوة وقلقًا في الداخل دون أن يسببه له أحد. "رجل الظلم تصيده الشرور إلى هلاكه". وكما يقول حكيم آخر: "الشر يمسك بالإنسان" (راجع أم 5: 32). لاحظوا مرة أخرى أن الشر كفيل بأن يحطم من يمارسه[37]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي الْمُسْتَقِيمُونَ يَجْلِسُونَ فِي حَضْرَتِكَ [13]. يختم المرتل المزمور بتصور موقف المؤمنين المخلصين والطائعين للوصية الإلهية. إنهم دومًا في حضرة الله، لا يفترون عن تقديم ذبائح الشكر والتسبيح بفرحٍ وتهليلٍ. يرى القديس جيروم أن المستقيمين يسكنون في حضرته، أي يثبتون في المسيح السماوي. * عندما تدافع عن حقهم، وتصونه، "يعترفون لاسمك". فإنهم لا ينسبون شيئًا لاستحقاقاتهم الذاتية. لا ينسبون شيئًا إلا إلى رحمتك... انظروا ماذا يلي هذا. "ويسكن المستقيمون مع وجهك". فمع وجوههم كانت تسكن العثرة معهم، أما مع وجهك فسيسكن الخير معهم. عندما أحبوا وجوههم الذاتية، صاروا يأكلون الخبز بعرق وجوههم (تك 3: 19). أما وجهك فيجلب عليهم الخير بفيض ويشبعون. لا يعودون يطلبون شيئًا، لأنهم لا يجدون أفضل مما صار لهم. لا يعودون بعد يتركونك، ولا أنت تتركهم. لأنه بعد قيامته ماذا قيل عن الرب؟ "تملأني فرحًا مع وجهك" (مز 16: 12 LXX). بدون وجهه لا يعطينا فرحًا. لهذا نحن نطهَّر وجوهنا لكي ما نفرح بوجهه[38]. القديس أغسطينوس ها أنتم ترون أن العلامة المميزة للأبرار دائمًا وفي كل الظروف أنهم شاكرون. "الأبرار يجلسون (يسكنون) في حضرتك"، أي يتمتعون بالعون منك، مفكرين دومًا فيك، وهم دائمًا معك، لن يتركوك. مهما حدث لا يشتكون، لا يجدون خطأ مهما حدث[39]. القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 140 أحفظني من لسان العدو وفخاخه * لا يكف عدو الخير عن مقاومة مؤمنيك بكل وسيلة. لكن له سيفان خطيران: لسانه وفخاخه. لسانه مملوء خداعًا، قد يقدم عسلًا، لكنه مسموم. وفخاخه ينصبها على جانب الطريق، لكنها مخفية. إنه كالحية تزحف بلا أقدام. تتسلل ولا يُسمع لها صوت. مملوءة سمًا مميتًا، وتتحرك في دهاء. هب لي أن أسلك فيك يا أيها الطريق. فإن العدو لن يجرؤ أن ينصب شبكة فيك. هب لي ألا انحرف عنك يمينًا ولا يسارًا، فأكون دومًا في أمان من فخاخ العدو. * من هو عدوي سوى إبليس، الذي ينصب شباك الخطية على جانبي الطريق. إنه مخادع وكذَّاب وقتَّال. لن يستريح حتى يدفعني للسقوط في تجربةٍ. من يقدر أن ينقذني منه سواك؟ صراعاته كثيرة ومتنوعة، لن يكف عن أن يستخدم شهوات الجسد، يفسد حواسي وعواطفي، يقلق نفسي، ويحطم سلامي الداخلي. يثير حتى الأصدقاء وأهل البيت، يشَّوه كل شيءٍ ليحطم نفسي. يجد سعادته في شقائيّ من يحميني منه سواك؟ أحملني على يديك، واسترني بغنى نعمتك، حتى تدخل بي إلى ملكوتك! * يا للعجب! لا يعرف العدو وقتًا للراحة. يظن أن راحته في استمرار مقاومة مؤمنيك. لا يهدأ قط ليلًا ونهارًا. دائم الحركة، لكن بغير استقامة. جائع على الدوام، وطعامه التراب. يود أن أسقط في الخطية،فأصير ترابًا. يلتهمني مادمت ترابًا إلى سماء، لتقيم من البشر ملائكة. فلا يجسر العدو أن يطمع فيّ. يبحث عن تراب في داخلي، فيُذهل إذ يراك تقيم ملكوتك في أعماقي! * ليعمل عدو الخير بكل طاقاته وخداعاته، فأنت هو سلاحي الذي لا يُغلب. تهبني روح التمييز والحكمة والقوة، بل تهبني ذاتك قائدًا لي، وسلاحًا يحميني. * تسمح بالمعركة، لكنك لا تتركني وحدي. يُعد العدو بكل طاقاته المعركة، وتهبني أن ألجأ إليك بالصلاة والسهر والتسبيح! ينصب العدو شباكه الخفية، ولا يدري أنها تدفعني بالأكثر لاختبار حنانك! يُعد العدو حبال الخطية، ويظن أنه قادر أن يقيدني، ويسحبني إليه. ولم يدرك أن بحباله، إنما يُمسك هو. وعوض أن يسحبني، يسقط تحت القيود الأبدية. يخفي العدو فخاخه، بطمرها في الأرض. وأنت بروحك تحملني، لأسلك كمن في السماء. * يبذل العدو كل جهده لكي أسقط في الكبرياء. يريدني أن أكون صورة له. فيكون مصيري مع مصيره. هب لي روح التواضع والوداعة. أتمثل بك، وأحمل صورتك بعمل روحك القدوس فيّ! إذ أسلك فيك، إنما أسلك في التواضع. ولا أسقط في شباك العدو المتكبر. هب لي ألا أغش نفسي، فإنه ليس فيَّ صلاح قط، سوى بفضل نعمتك. كيف أنسب عطاياك لي، كأني بار؟! * عيناي تتطلعان إليك، فأنت هو إلهي. ليس من يخلصني من شباك العدو سواك. أنت هو قوة خلاصي. تحوط بي، وتصير لي خوذة، تحمي إيماني. ودرع يصد سهام العدو النارية ورماحه القاتلة. تظلل على رأسي، فتحميني من حرارة شمس التجارب. سندتني في المعارك الماضية، وتبقى سندي حتى النهاية. حضورك الإلهي يهبني النصرة. أتطلع إليك، فتتحول نيران الأتون إلى ندى ممتع. * أشكرك وأسبح اسمك أيها القدوس، لأن ما يعده الشرير إبليس لنا، إنما يشرب منه أبديًا! يسقط في الشبكة التي يخفيها للمؤمنين. أما هم، فينعمون بالمجد الأبدي. لك المجد يا قائد المعركة وواهب النصرة، فأنت نصرتي وإكليلي! |
||||
22 - 07 - 2014, 07:31 PM | رقم المشاركة : ( 165 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 141 (140 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير احفظني من الشر والشرير! كُتب مزمور المرثاة هذا أثناء تمرد أبشالوم بن داود أو أثناء اضطهادات الملك المتهور شاول له أو لسبب آخر. وكان يُرنم به في كل مساءٍ مع إنارة المصابيح (قابل خر 30 :7-8؛ دا 9 :21). إن كان هذا المزمور قد ترَّنم به داود النبي وهو في ضيقة، فهو يعلم أن وراء المتاعب مشورات شريرة تصدر عن أناسٍ أشرارٍ. وفي نفس الوقت إذ يئن من هذه المشورات الشريرة، يخشى لئلا يسقط هو نفسه في النطق بكلمات شريرة، لذلك يطلب من الله أن يقيم بابًا على فمه، ويحفظه من كل كلمة شريرة. وفقًا لكلمات القديس يوحنا الذهبي الفم كان هذا المزمور يُستخدم في الصلاة المسائية في العالم أجمع. ذلك لأن المسيحيين اعتادوا على فحص قلوبهم وتصرفاتهم يوميًا، ولعل ما كانوا يخشونه بالأكثر هو صدور كلمات شريرة من أفواههم، كتعبيرٍ عن غضب في الفكر أو القلب، وحتى لا تتحول الكلمات إلى سلوك شرير. [FONT=""]تقديس الجسد مع النفس[/FONT] يدعونا الرسول بولس أن نقدم أجسادنا ذبيحة مقدسة حيّة عقلية مرضية لدى الله (رو 12: 1-2)، فنرد الحب بالحب، وذبيحة المسيح الفريدة بذبيحة الحب والقداسة. فتتحول كل أعضائنا للعمل لحساب الله: أصواتنا بالصراخ إليه والصلاة [1-2]؛ وأيادينا برفعها قدامه[2]؛ وأفواهنا وشفاهنا [3-4]؛ ورؤوسنا [5-7]؛ وأعيننا [8-10]. بعد طلب العون الإلهي بوجه عام [1] يتضرع المرنم [2]، لئلا يضل بغواية الأشرار الذين نهايتهم الهلاك [3 -7]، والذين يضرهم شرهم [8-10]. 1. صراخ إلى الرب 1-2. 2. ضع حارسًا لفمي 3-5. 3. الإيمان التام 6-10. من وحي المزمور 141 [FONT=""]العنوان [/FONT] مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ [FONT=""]1. صراخ إلى الرب[/FONT] يَا رَبُّ إِلَيْكَ صَرَخْتُ. أَسْرِعْ إِلَيَّ. أَصْغِ إِلَى صَوْتِي، عِنْدَمَا أَصْرُخُ إِلَيْكَ [1]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "يا رب إليك صرخت، فاستمعني. أنصت إلى صوت تضرعي، إذا ما صرخت إليك". في دالة عجيبة يفتح داود النبي والملك هذا المزمور بدعوة الله السماوي أن يسرع إليه، وينصت إلى صوت صراخه. يشعر المرتل بأن صلاته أشبه بطائر منطلق إلى السماء، وتبلغ إلى عرش الله. * إن انتهى الضيق، ينتهي الصراخ. لكن إن كانت الضيقة تلازم الكنيسة، جسد المسيح، حتى نهاية العالم، فلا يُقال فقط: "إليك صرخت"، وإنما يُقال أيضًا: "أنصت إلى صوت تضرعي"[1]. القديس أغسطينوس وتصرخ دماء الشهداء أيضًا على الدوام إلى الرب وهو يصغي برأفته... فلنحذر ألا نخفق في إدراك أن أنفس الصديقين هي في مذبح الرب[2]. القديس جيروم * يشير هنا إلى الصرخة التي في الداخل، التي يُصدرها القلب الملتهب، والتامة، والتي بسببها سُمع لموسى عندما صرخ. بمعنى آخر كما أن الشخص الذي يصرخ يستنزف كل طاقته، هكذا من يصرخ في القلب يجمع كل قوى الفكر. لذلك ينظر الله إلى مثل هذه الصرخة التي تجمع كل تحركات القلب ولا تسمح بالتشتيت أو إعاقة من جانب المُسَّبح. ليس فقط يتطلع الله إلى مثل هذه الصرخة، وإنما إلى توجيه الصلاة إليه أيضًا. فإنه يوجد كثيرون يقفون للصلاة، لا يرفعون صراخهم لله، إذ بينما تصرخ شفاههم لله، ويتبادلون فيما بينهم اسم الله، لا تتناغم عقولهم مع كلماتهم. مثل هذا الإنسان لا يصرخ، حتى وإن صرخ بصوتٍ عالٍ. ومثل هذا لا يصلي لله حتى وإن بدا كمن يصلي إليه... تذكروا على وجه الخصوص أن الشيطان يتربص منتظرًا؛ فهو يعلم أن الصلاة هي أعظم سلاح. فإنه وإن كنا خطاة ومعيبين، فإننا نحصل على إحسانات عظيمة بالصلاة بمواظبة مع حفظ نواميس الله. ففي هذا الوقت يكون متلهفًا أن يسحبنا إلى عدم المبالاة، ويميل بتفكيرنا حتى نفسد الصلاة وتكون بلا نتيجة[3]. القديس يوحنا الذهبي الفم * إذا كانت الطلبة بصراخٍ إلى الله، أي بحرارة قلب بالفكر وفي القول، وبورعٍ وتقوى ومداومة، ولا تلتمس شيئًا من الدنيويات الفانيات، بل تطلب ما يؤول إلى خلاص النفس، والخيرات الدائمة الباقية، يستجيبها الله.الأب أنسيمُس الأورشليمي لِيَكُنْ رَفْعُ يَدَيَّ كَذَبِيحَةٍ مَسَائِيَّةٍ [2]. إن كان بدالة الحب يرى المرتل صلاته أشبه بطائر ينطلق بقوة نحو السماء لتبلغ إلى عرش الله، فإنه يحسبها أيضًا أشبه بتقدمة بخور ذات رائحة ذكية تصعد قدام الله، يشتمها رائحة رضا وسرور. ويحسب رفع يديه في نظر الله ذبيحة مقبولة لديه. هذه العبارة لها طعم خاص، تستخدمها الكنيسة في ليتورجياتها، ويجد المؤمنون لذة في ترديدها أمام الله في صلواتهم. للخدمة المسائية مفهوم خاص، فكما أن السيد المسيح قدم نفسه ذبيحة في ملء الزمان أو في آخر الأيام، كما في وقت المساء، هكذا نرفع أيادينا بالشكر للمخلص مع نهاية اليوم متطلعين إليه كمخلص العالم، الذبيحة الفريدة! يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة، مبررًا النقاط التالية: 1. يقدم المرتل البخور عن الذبيحة، فإن البخور يُقدم داخل القدس على المذبح الذهبي، بينما الذبيحة تقدم في الخارج على مذبح المحرقة النحاسي. 2. لا يمكن تقديم بخور ذي رائحة ذكية ما لم يوقد الفحم، وهكذا لا تصعد الصلاة برائحة ذكية ما لم تصدر عن فكرٍ ملتهبٍ بنار الحب. 3. لم يقل "ذبيحة صباحية" وإنما "ذبيحة مسائية"، وهو بهذا يقصد الاثنين، لكنه فضَّل ذكر الذبيحة المسائية، لأن كثيرًا من الشرور كالقتل والسرقة وتدبير المؤامرات الشريرة تكون بالأكثر في الليل، لذا فصلاة المساء في غاية الأهمية حتى ينزع الله هذه الشرور. * يفهم هذا عادة عن الرأس نفسه، كما يعرف كل مسيحي. لأنه عندما بدأ يحل المساء، فإن الرب المُعلق على الصليب "وضع نفسه ليأخذها أيضًا" (راجع يو 10: 17)، لم يفقدها بغير إرادته. هذا ما يُرمز إليه هنا... لقد سمر ضعفنا على الصليب، حيث يقول الرسول: "إنساننا العتيق قد صُلب معه" (رو 6: 6). لقد صرخ بصوت إنساننا العتيق: "لماذا تركتني"؟ (مز 22: 1؛ مت 27: 46). هنا الذبيحة المسائية، آلام الرب، صليب الرب، تقدمة الذبيح النافع، المحرقة المقبولة لدى الله. تحققت هذه الذبيحة المسائية في القيامة، الذبيحة الصباحية. إذن توجهت الصلاة بنقاوة من قلب أمين، وارتفعت مثل بخورٍ من مذبح مقدس. ليس من شيءٍ أكثر بهجة من رائحة الرب، ليقتنِ كل مؤمن مثل هذه الرائحة[4]. القديس أغسطينوس القديس أمبروسيوس * لا يوضع البخور إلا بعد أن تكون المجمرة متقدة مقدمًا، أو يكون الجمر مشتعلًا. هكذا في حالة أذهانكم، لتتقد أولًا بالغيرة، وبعد ذلك قدموا صلواتكم[7]. القديس يوحنا الذهبي الفم ويمثل البخور أيضًا صلوات القديسين. نعرف ذلك من سفر الرؤيا حيث يمسك الأربعة والعشرون قسيسًا مجامر بخور، وقيل: "التي هي صلوات القديسين"[8]. * يقول الرسول أيضًا: "ارفعوا أيادي للصلاة" (راجع 1 تي 2 : 8). عندما رفع موسى يديه كان يشوع ينتصر، وعندما كان يخفضهما كان يشوع ينهزم. إن كنت أفسر الكتاب المقدس بمفهومه التاريخي أو الحرفي، فإن موسى يخفض ذراعيه. وإن كنت أفهمه روحيًا، فموسى يرفع ذراعيه إلى أعلى[9]. القديس جيروم يطلب النبي أيضًا أن يقبل الله رفع يديه مثل ذبيحة مسائية دائمة القبول. لأن الله أمرنا برفع أيادينا وقت الصلاة، كي نفتكر أن أيادينا تشفع إليه، فنحرسها طاهرة من الاختلاس والضرب وسائر الأعمال المذمومة. حتى تكون لها دالة بالتوسل إليه وبريئة من العيب لدى ارتفاعها. الأب أنسيمُس الأورشليمي * فليسمع المعمَّدين هذا أيضًا - أجلّ، لأن الأمر متعلق بهم - فهم بالمثل يقدمون قربانًا وذبيحة، أعني صلاة وصدقة، فهذه أيضًا ذبائح. فالنبي يقول في المزمور: "تمجدني ذبيحة تسبيح، وأيضًا الذبيحة لله "ذبيحة تسبيح" و"رفع يديَّ ذبيحة مسائية" (مز 141: 2).فالصلاة إذن ذبيحة ترفعونها في تعقلٍ، ومن الأفضل أن تتركوا صلاتكم (وتذهبوا لتصطلحوا)، لأنه لهذه الغاية قد صارت كل الأمور، بل ولهذه الغاية قد صار الله إنسانًا، وصنع كل ما عمله ليجمعنا في واحدٍ. لهذا في هذا الموضع يرسل فاعل الشر إلى المظلوم، بينما في الصلاة (الربانية) يقود (الرب) المتألم إلى فاعل الشر ليصالحهما معًا. إذ يقول: "اغفر للناس زلاتهم". هكذا أيضًا يقول: "إن كان قد فعل شيئًا ضدك، اذهب أنت إليه"، أو بالحري يبدو لنا هنا وهو يرسل المتألم من الأذى[10]. * يُقال: "ليكن رفع يدي ذبيحة مسائية"، لنرفع أيضًا مع أيادينا عقولنا... لنرفع أفكارنا إلى العلي[11]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس يوحنا كاسيان * بعد هذا يشفي الروح حركات اليدين اللتين كانتا تتحركان بطريقة مخلّة تابعة لإرادة العقل. أما الآن فإن الروح يُعلِّم العقل كيف يطهرهما، لكي ما يعمل ويشتغل بهما في عمل الرحمة وفي الصلاة، وبذلك تتم الكلمة التي قيلت عنهما: "ليكن رفع يديَّ كذبيحةٍ مسائَّية" (مز 141: 2)، وفي موضع آخر: "أما يد المجتهدين فتُغني" (أم 10: 4)[13]. القديس أنبا أنطونيوس الشهيد كبريانوس * رفع الأيادي إنما هو رفع كل الأعمال نحو الله، فلا تكون دنيئة ولا أرضية، إنما تعمل لمجد الله والسماء. يرفع يديه من يكنز كنزًا في السماء (مت٥: ٢٠، ٢١)، لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا، وهناك أيضًا تكون عيناك ويداك. يرفع يديه من يقول: "لتكن رفع يديّ كذبيحة مسائية"، بهذا ينهزم عماليق (مز ١٧: ٨-١٦)؛ لكن الرسول يوصينا أن نرفع "أيادي طاهرة بلا غضب ولا جدال" (١ تي ٢: ٨)، كما يقول: "قوِّموا الأيادي المسترخية والركب المخلعة، وسيروا في الطريق المستقيم"... ارفع يديك نحو الله، واحفظ وصية الرسول: "صلوا بلا انقطاع" (١ تي ٥: ١٧)[16]. العلامة أوريجينوس * أعزائي الأحباء... يوجد البعض يبدو كأنهم يطلبون الرب، ولكن إذ هم كسالى وغرباء عن الفضيلة، لا يستحقون أن يجدوه، وإن وجدوه لا يستحقون أن يروه. لأنه ماذا كن يطلبن أولئك النسوة الطوباويات عند القبر سوى جسد الرب يسوع! وأنتم ماذا تطلبون في الكنيسة غير يسوع الذي هو المخلص! فإن أردتم أن تجدوه، فإذ الشمس مشرقة، تعالوا كما جاءت هؤلاء النسوة، أي اتركوا ظلمة الشر التي في قلوبكم، لأن الشهوات الجسدية والأعمال الشريرة هي ظلمة. فمن كان في قلبه ظلامًا كهذا لا يعاين النور، ولا يدرك المسيح، لأن المسيح هو النور. انزعوا الظلمة منكم، أي انزعوا الشهوات الشريرة وكل عمل أثيم، وزوِّدوا أنفسكم بالحنوط الطيبة، أي بالصلوات الحارة، قائلين مع المرتل "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 140: 2). * هم الآن يشترون المسيحَ، الذي يمنح الرائحة الذكية (قابل تك 25:37، 2 كو 15:2-16) البخورَ الذي يعبق به مذبحُ القلب المكرس العابد. في هذا الصدد يقول داود أيضًا: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك" (مز 2:141)[17]. القديس أمبروسيوس هذه (الصلوات القصيرة المتعددة) هي ذبائح حقيقية، "فالذبيحة لله روح منسحق" (مز 17:51). هذه هي تقدمات نافعة، تقدمات نقية، أي "ذبيحة البرّ"، "ذبيحة الحمد" (مز 22:50)، محرقات جوهرية، تقدمها قلوب متواضعة منسحقة؛ والذين يختبرون هذا الروح المنضبط والملتهب (للصلاة) الذي تحدثنا عنه بقوة فعّالة يمكنهم أن يسبحوا: "لتستقم صلاتي كالبخور قدامك، ليكن رفع يديَّ كذبيحة مسائية" (مز2:141). لكن اقتراب الساعة المناسبة (للصلاة) وحلول المساء يحثنا على ممارسة هذا الأمر نفسه بتكريس لائق حسبما نستطيع[18]. الأب إسحق ينبغي ألا نقدم لله بازدراء أي ذبائح شكر ومدح، بل تقدمة الصلاة المقبولة التي يرضاها، وإلا ترتد إلينا هذه التقدمة. لأن مثل هذه الذبائح تسمو عن أخرى تقدم من حيوانات بكماء، لذا ينبغي علينا أن نفحصها بإمعان، لنرى إذا كانت فيها عيوب خفية. وإن وجدت، فيجب أن نطهرها، بغسلها بدموعنا، ونزيل عنها كل العيوب، وعندئذ فقط يمكننا أن نقربها، بحبٍ وشوقٍ، في طهارة أمام الرب، "رافعين أيادي طاهرة" أمام الرب في الصلاة. وفي نفس الوقت رافعين عقولنا "بدون غضب ولا جدال" (1 تي 2 :8)، سائلين بدموع وتنهدات من القلب أن تُقبل تقدماتنا مع النبي "كذبيحة مسائية" (مز 141: 2)[19]. مارتيريوس - Sahdona [FONT=""]2. ضع حارسًا لفمي[/FONT] اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ [3]. يطلب المرتل حراسة سماوية لفمه، حتى لا تخرج كلمة لا تليق به كإنسان الله. * لم يقل "حاجزًا حصينًا" وإنما قال "بابًا حصينًا". فالباب يُفتح كما يُغلق أيضًا. فإن كان بابًا، فليُفتح ويُغلق. يفتح للاعتراف بالخطية، ويُغلق عند تقديم تبرير للخطية. هكذا فليكن بابًا حصينًا، وليس بابًا للتدمير[20]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي لنحرس أفواهنا على الدوام، نقيم عقلًا عليها ليغلقها، فلا تبقى مغلقة على الدوام، إنما يفتحها في الوقت المناسب. يوجد وقت يكون فيه الصمت أثمن من الكلام، وأيضًا يوجد وقت يكون فيه الكلام أثمن من الصمت... من الضروري كما ترون ليس فقط أن نحفظ الصمت والكلام في الوقت المناسب، وإنما يلزم أن يكون ذلك بمحبة عظيمة. لهذا يقول أيضًا بولس: "ليكن كلامكم كل حين بنعمةٍ مصلحًا بملح، لتعلموا كيف تجابوا كل واحدٍ" (كو 4: 6). ضعوا في اعتباركم أن هذا هو العضو الذي به تدخلون في حوارٍ مع الله، وبه نقدم التسبحة. هذا هو العضو الذي به نتقبل الذبيحة المهوبة، فإن المؤمنين يعرفون ماذا أقول[21]. القديس يوحنا الذهبي الفم يقع اللسان في المركز تمامًا، متهيئًا للعمل بأي الوسيلتين وأنت سيده. وهكذا يقع السيف أيضًا في الوسط، فإن استخدمته ضد العدو، يصير أداة أمان لك. وإن استخدمته لجرح نفسك، فليس نصله الذي يسبب موتك بل تعديك الناموس. فلنفتكر في اللسان بنفس الكيفية، كسيف قائم في المنتصف. اتخذه لتدين ذاتك بخطاياك، ولا تستعمله في جرح إلهك. لهذا أحاط الله اللسان بسياجٍ مضاعف، بحاجز الأسنان، وبسور الشفتين، حتى لا يتفوه بسهولة وتهاون بكلماتٍ لا يليق أن يُنطق بها. احفظه مكبوحًا في فمك، وإن لم يقم بهذا العلاج، عاقبه بالأسنان كما لو كنت تقدمه للجلاد ليقضمه! لأنه أفضل أن يُضرب الآن حينما يخطئ بدلًا من عقابه فيما بعد، حينما يتلهف طالبًا قطرة ماء، إذ يُحرم من تلك التعزية[22]. * يقول: من الأفضل أن يسقط الجسم ويُسحق من أن تخرج منا مثل هذه الكلمة التي تحطم النفس. وهو لا يتحدث عن السقوط المجرد، إنما ينصحنا بالأكثر أن نفكر مقدمًا حتى لا نزل (بالكلام)، قائلًا: "ضع بابًا ومزلاجًا لفمك" (سيراخ 20: 25)، لا لنعد لأنفسنا أبوابًا ومزلاجًا، بل أن نكون في أكثر حرص. يلزمنا أن نغلق أفواهنا عن النطق بكلمات شائنة. مرة أخرى بعد أظهار حاجتنا إلى عون من فوق يصحب جهادنا ويسبقه، لكي يحفظ هذا الوحش المفترس في الداخل، باسطين أيادينا إلى الله، قال النبي: "ليكن رفع يدي كذبيحة مسائية، اجعل يا رب حارسًا لفمي؛ احفظ باب شفتي". وهو نفسه الذي سبق فنصحنا قبلًا أن نضع بابًا... (سي 20: 25) يقول مرة أخرى: "من يصنع حارسًا لفمي، وختم حكمة لشفتي؟" (سي 22: 27)[23]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم * كن معتدلًا أيها الفريسي. ضع بابًا للسانك ومتراسًا (مز 141: 3). أنت تتحدث إلى الله الذي يعلم كل شيءٍ. انتظر حكم القاضي، فما من مصارع متدرب يكلل ذاته، وما من أحد ينال الإكليل من ذاته، بل ينتظر استدعاءه للمثول أمام الحكم. لأنه قد يحدث ما هو غير متوقع... فإنه حتى أشجع الأشخاص معرض للهياج وعدم الهدوء. القديس كيرلس السكندري القديس غريغوريوس النيسي * يجب على الراهب أن يكون صامتًا في كل حين، ولا يقبل الأفكار التي تشير عليه بكثرة الكلام التي تحلّ النفس (أي تجعلها منحلّة)، بل يزهد في الكلام ولو رأى أناسًا يضحكون أو يقولون كلامًا ليس فيه منفعة بجهلهم. لأنّ الراهب الحقيقي يتحفّظ من لسانه كما هو مكتوب في المزمور: "اللهم اجعل لفمي حافظًا، وعلى شفتيَّ سترًا حصينًا" (مز 141: 3). فالراهب الذي يفعل هكذا، لا يعثر أبدًا بلسانه، لكنه يصير إلهًا على الأرض. القديس مقاريوس الكبير توجد كلمات كثيرة لا ينطق بها الفم الجسدي، تصرخ عالية في القلب، بينما لا يمكن للفم الجسدي أن ينطق بشيءٍ ما لم يتكلم به القلب. ما لا يخرج من القلب لا ينطق به اللسان، وأما ما يخرج منه، فإن كان شريرًا يدنس الإنسان حتى ولو لم يتفوه به اللسان. لهذا يلزم أن تكون الحصانة هناك (علي باب القلب)، حيث يتكلم الضمير، حتى بالنسبة للصامتين. فمتي كان الباب حصينًا، لا يخرج منه ما يدنس حياة من يفكر (فكرًا شريرًا) دون أن تتحرك شفتاه[26]. القديس أغسطينوس * هكذا أن تتكلم أو تصمت كل منهما فيه الكمال، إن استخدام بالقدر اللائق به... الصمت عظيم، والكلام عظيم، ولكن دور الحكيم أن يضبط كليهما. فإن الصمت المبالغ فيه يُنسب أحيانًا إلى نقص التعقل، كما أن الكلام الكثير غالبًا ما يُنسب إلى الجنون[28]. الأب فاليريان القديس إسطفانوس الطيبي الأب غريغوريوس (الكبير) لاَ تُمِلْ قَلْبِي إِلَى أَمْرٍ رَدِيءٍ، لأَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ مَعَ أُنَاسٍ فَاعِلِي إِثْمٍ، وَلاَ آكُلْ مِنْ نَفَائِسِهِمْ [4]. يخشى المرتل على أعماقه الداخلية، لئلا تنجذب إلى الشر، لأنه كثيرًا ما يحمل الشر جاذبية مخادعة. بقوله: "مع أناس فاعلي الإثم" يعني محاولة تبرير الإنسان خطأه بإلقاء اللوم لا على إرادته الخاطئة، بل على الظروف التي لا سلطان له عليها فهذا من شيمة فاعلي الإثم. وكأنه يقول حقًا جيد للإنسان أن يلقي باللوم على نفسه، ولا يتمثل بالأشرار الذين لا يلومون أنفسهم. ولهذا السبب يطوِّب المرتل الرجل الذي لا يسلك في مشورة المنافقين، وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس (مز 1: 1). ويكتب الرسول بولس: "وإن كان أحد لا يطيع كلامنا بالرسالة، فسِموا هذا ولا تخالطوه، لكي يخجل (2 تس 3: 14). "ولا آكل مع نفائسهم" وقد جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "ولا اتفق مع مختاريهم". كأن المرتل يعلن أنه لا يريد أن يشترك في ولائمهم وملذاتهم، وحياتهم المدللة. وفي تعليق القديس يوحنا الذهبي الفم يحذرنا من السقوط في النجاسات خلال ضربات السُكر مع الأصدقاء، حيث تشتعل نار الشهوات في الحفلات الماجنة. يرى القديس أغسطينوس[30] أن المتحدث هنا هو السيد المسيح يطلب ألا يميل قلبه أي كنيسته أو جسده لتبرير الخطية، بكون هذا كلامًا شريرًا، لئلا تصير مثل الفريسي الذي برر نفسه، واستخف بالآخرين (لو 18: 11). يستخدم القديس جيروم هذه العبارة لكي نتمثل بالمرتل الذي كان يخشى لئلا يقتدي بالأشرار الذين عوضًا عن تقديم توبة عن شرورهم، يقدمون تبريرات وعللًا دفعتهم لارتكاب الشرور. من هذه العلل الاعتذار بالسقوط بسبب ضرورة الطبيعة التي تلزمه بالسقوط [كأن يقول شاب: إن جسدي يستعبدني، واتقاد الطبيعة يلهب أهوائي، وتكوين جسمي وانفعالات أعضائي تدفعني للممارسات الجنسية. مرة أخرى يقول قائل: كنت في احتياج، كنت في عوزٍ إلى طعام، ليس لي ما استتر به. سفكت دم آخر، لأنقذ نفسي من البرد والجوع[31].] * مكتوب: "لا تشعل جمر الخاطي" (سي 8: 10). عندما وقف الخاطي ضدي، كنت أخرس، وتواضعت، وكنت صامتًا بخصوص الصلاح (راجع مز 39: 2-3). وأيضًا: "ضع يا رب حارسًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي، لا تمل قلبي نحو الكلمات الشريرة" (راجع مز 141: 3-4)[32]. القديس جيروم ماذا يقصد بقوله: "لأتعلل بعلل الشر، مع أناس فاعلي الأثم"؟ كثيرون لا يلقون باللوم على إرادتهم الشريرة أو سلوكهم، إنما يلومون طبيعتهم التي لا سلطان لهم عليها، وكأنهم يلقون باللوم على الخالق لا على موقفهم. * "لا يُمل قلبي إلى أمر رديء". ليس أن الله يُميل القلب. حاشا! بل بالحري يقصد لا تسمح لشيءٍ هكذا: لا تسمح للقلب أن يميل. لا تسمح له أن ينحرف نحو الأفكار الشريرة. فإن ينبوع الفضيلة والرذيلة يصدر منه، أي من القلب![33] * ليس للخاطئ أن يقدم عذرًا معيبًا: فالقاتل يلوم الغضب، والسارق يلوم الفقر، والزاني يلقي باللوم على الشهوة، فلا يقدمٍ دفاعًا لائقًا، فإن سبب الخطية هو سلوك الخطاة أنفسهم[34]. * كم يلزمنا أن نتحفظ من المعاندين، لأن اللصوص والسرَّاق وأعداء الفضيلة، إذا رأونا قد سهرنا الليل كله وحفظنا كنوزنا وحرسنا ذخائرنا، يحيطون بنا من كل جانب، ويريدون أن يغلبنا النوم والكسل، ليسطوا علينا سريعًا، ويخطفوا أمتعتنا، ويفوزوا بذخائرنا، ويجعلوا كنوزنا غنيمة الاغتصاب. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس إسطفانوس الطيبي وإن كنتَ قد اخترتَ لنفسك أن تكون مثل ميتٍ، فاسأل الميت إن كان يرغب في رؤية زوجته، وإن كان يُبدي رأيه فيها في حالة ما إذا ذهبت وسلّمت ذاتها للفسق. إن كنتَ قد تركت الموتى يدفنون موتاهم، فلماذا لا تنادي أنت بملكوت الله (لو 9: 60)؟ إلى متى تظلّ نائمًا؟ استيقظ واصرخ مع داود النبي: "لا تُمِل قلبي إلى أمرٍ رديءٍ لأتعلّل بعلل الشر" (مز 141: 4). إن كنتَ تفهم "أكثر من جميع الذين يعلِّمونك" (مز119: 99 سبعينية)، فإنّ الشياطين المضلّين الذين يهاجمون قلبك، إنما يضمرون لك حربًا شعواء بخصوص امرأتك. أين اختفت من عينيك كلمة الكتاب: "الله أمينٌ، الذي لا يدعكم تُجرّبون فوق ما تستطيعون..." (1 كو 10: 13). وأيضًا كلمة المخلِّص: "لا تهتموا للغد" (مت 6: 34)؟ القديس برصنوفيوس فَزَيْتٌ لِلرَّأْسِ لاَ يَأْبَى رَأْسِي. لأَنَّ صَلاَتِي بَعْدُ فِي مَصَائِبِهِمْ [5]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فليؤدبني الصديق برحمة ويوبخني. زيت الخاطئ لا يدهن رأس". كان داود أعظم رجل صلاة في العهد القديم. اعتاد أن يسأل الله عن كل احتياجاته، خاصة الروحية منها. وهو يسأله هنا الانفصال عن الشر والإثم. كما يرحب بأناس الله الأتقياء، يصادقهم ويقبل مشوراتهم واقتراحاتهم، بل ونقدهم وانتهارهم له. فإنه غالبًا ما يخدع الإنسان نفسه، فلا يرى أخطاءه، لهذا يرحب الإنسان التقي بنظرة الأتقياء له، لا لمدحه وإنما لإصلاحه. * لن تنمو رأسي بالتملق. فإن المديح غير اللائق هو تملق. المديح غير اللائق الصادر من التملق هو "زيت الخاطي". لذلك فلتحبوا أن تُوبخوا من البار (الله) برحمة، ولا تحبوا أن يمدحكم خاطئ في سخرية. ليكن لكم زيت في أنفسكم، فلا تحتاجوا إلى زيت الخاطي[35]. القديس أغسطينوس يقول: "زيت الخاطئ لا يدهن رأسي". هل تلاحظ النفس الملتزمة بالفضيلة؟ إنها تقبل برضا نقد الصديقين لها، بينما ترفض ثرثرة الأشرار. لأن الأخيرين برحمتهم يسببون دمارًا، بينما الأولون بنقدهم وصرامتهم يسببون إصلاحًا، وبينما ترتبط الرحمة بنقدهم، إذا بالموت يرتبط برحمة الآخرين. يقول آخر: "أمينة هي جروح المحب، وغاشة هي قبلات العدو؟ (أم 27: 6). لاحظوا كيف تعكس النصيحة الرسولية هذا: "وبخ، انتهر، عظ" (2 تي 4: 2). هكذا هو نقد الأشخاص المقدسين للغير. وهو يشبه ما يفعله الجراحون، إنهم ليس فقط يقطعون، وإنما أيضًا يخيطون غُرزًا في الجسم حسنًا. والمسيح أيضًا لكي يضمن أن يكون اللوم مقبولًا، لم يسمح أن يكون اللوم علانية في البداية، قائلًا: "أذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما" (مت 18: 15). هذا أيضًا ما مارسه بولس مقدمًا مع اللوم رحمة، فيقول: "أيها الغلاطيون الأغبياء" ثم يعود فيقول: "يا أولادي الذين أتمخض بكم" (غل 3: 1؛ 4: 19). ها أنتم ترون أن الشخص الذي يوجه اللوم يحتاج أن يقدم فكرًا رعويًا حتى يكون اللوم مقبولًا، ومن يستخدم العلاج يحتاج إلى حساسية أكثر من الذين يقطع الجسم[36]. القديس يوحنا الذهبي الفم أما أقوال الخاطي الناعمة مثل الزيت فلا أرتضيها، لأنها تملق ومداراة، فلا تصب رأسي. الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس كبريانوس * "ليقومني الصديق برحمة وليوبخني، لكن زيت الخاطئ لا يدهن رأسي" ما معنى هذا؟ الأفضل لي إذا ما رأى الصديق خطيئتي أن يقومني ولا يتركني، بل يخبرني إن فعلت خطًا، ويثور ضد خطيئتي ليحررني منها. قد يبدو كلامه صارمًا، لكنه في الداخل رقيق رحوم بحسب الكلمات: "ليقومني الصديق برحمة وليوبخني"[38]. * انتبهوا إلى الكلمات الأخرى التي يستخدمها المداهنون والحديث المخادع، فبالرغم مما تحمله من ثناء، فإنها دهن الخاطئ[39]. * ليت زيت الشرير، أي تملق المداهنين لا يدهن رأسك، فإن الرئيس (المتُقدم) ينتهر ليُصلح، وأما الشيطان فيتملق ليحطم[40]. الأب قيصريوس أسقف آرل "ليؤدبني" أو "ليقومني" تفهم بطريقتين: إما أنه يوبخ أو يرشد. "وزيت الخاطئ لا يدهن رأسي". حقًا أن من يدعوكم يا شعبي مطوبين إنما يضللوكم. مدح الهراطقة، أي الزيت الذي به يدهنون رؤوس الرجال، ويعدونهم بملكوت السماوات إنما يدهن الرأس بالكبرياء. "لأن صلاتي دائمًا ضد مسراتهم"، وهذا يعني أنهم حقًا يثورون في جنونهم، لكنني أداوم على الصلاة لأجل هدايتهم[41]. القديس جيروم * لتدهن رأسك، ولكن أحذر ألا تدهنها بزيت الخطية. لأن "زيت الخاطئ لا يدهن رأسك" (مز 141: 5). إنما ادهن رأسك بزيت التهليل: "زيت الفرح" (مز 45: 7)، زيت الرحمة، حتى يحسب وصية الحكمة: "لا تدع الرحمة والحق يتركانك" (أم 3: 3)[42]. العلامة أوريجينوس فردوس الآباء دهن الخاطئ هو عبارات الإطراء والتملُّق، هذه يبغضها النبي جدًا. فهو يحب أن يوبخه الصديق ويؤدِّبه بالصرامة مع الرحمة، ولا يريد المديح مع الرياء والمحاباة. لأن التملُّق والمداهنة لا يفيدان الإنسان شيئًا، بل يزيدانه جهلًا وإثمًا وثباتًا فيهما... وقد قال الله على لسان النبي: "يا شعبي إن الذين يطوِّبونكم يضلُّونكم" (إش ٣: ١٢)، أي أن الذين يمدحونكم ويتكلَّمون عنكم بالنوادر رياءً ونفاقًا، إنَّما يخدعونكم ويهلكونكم بالتمام. أمَّا الذين يوبخونكم وينصحونكم، فيحسنون إليكم إحسانًا عظيمًا. ليست هي فضيلة (التراخي مع الخطاة)، بل ضعف. ولا هي محبَّة أو وداعة بل إهمال، لا بل هي قسوة على تلك النفوس التي يُغفل عنها، فتهلك دون أن تنبِّه على خرابها. القديس أغسطينوس [FONT=""]3. الإيمان التام[/FONT] قَدِ انْطَرَحَ قُضَاتُهُمْ مِنْ عَلَى الصَّخْرَةِ، وَسَمِعُوا كَلِمَاتِي لأَنَّهَا لَذِيذَةٌ [6]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "قد ابتلعت أقوياءهم عن الصخرة، يسمعون كلماتي لأنهم استلذوا". إن كان المرتل يطلب أحيانًا تأديب الأشرار، فهو لا يطلب النقمة لنفسه منهم، إنما يود أن يرجعوا إلى السيد المسيح الصخرة الحقيقية، فيتمتعون بالخلاص. كما أن تأديب الأشرار يقدم درسًا عمليًا لإخوتهم لأجل توبتهم وإصلاحهم. كلمات المرتل لذيذة وبناءه لنفسه كما لإخوته. يرى القديس أغسطينوس أن قضاتهم هم الفلاسفة وأصحاب السلطان، والعظماء، وغيرهم ممن يحسبونهم قضاة لهم، يتمسكون بآرائهم ويحكمون على حياتهم وسلوكهم حسب فلسفتهم. هؤلاء متى قورنوا بالصخرة، أي بالسيد المسيح، ينطرحون أرضًا. * ضعوهم بجوار الصخرة، وقارنوا سلطانهم بسلطان الإنجيل، وكبرياءهم بالمصلوب. نقول لهم: "أنتم كتبتم كلماتكم في قلوب المتكبرين، أما هو فغرس صليبه في قلوب (على جباه) الملوك. أخيرًا هو مات وقام؛ وأنتم موتى، وإنني لا أسأل كيف سيقومون. لذلك "قد انطرح قضاتهم من على تلك الصخرة". لتمارسوا كلماتهم ما دامت تبدو ذات شأن، حتى تقارنوها بالصخرة. لذلك إن وُجد أحد منهم يقول بما يقوله المسيح فإننا نهنئه على ذلك، لكننا لا نقتدي به. "سيسمعون كلماتي، لأنها تفوز". كلماتي تفوز على كلماتهم. هم ينطقون ببراعة، أنا أنطق بالحق. أن تمدح إنسانًا يتكلم حسنًا هذا شيء، أما أن تمدح ذلك الذي ينطق بالحق فهو شيء آخر[43]. القديس أغسطينوس يقول: "يُبتلعون" ولم يقل إنهم يهلكون، مشيرًا إلى أن ما يصيبهم هو عدم وجود أي أثرٍ لهم. الأمر الذي قاله عن الشرير: "عبرت فإذا هو ليس بموجود، والتمسته فلم يوجد" (راجع مز 37: 36). أخيرًا، ما يقصده هو هذا كما إذا طرحت قطعة من الصخرة في البحر لا تترك أثرًا، هكذا يكون مصيرهم حيث يغرقون ويُفقدون، ولا يكون لهم أثر، بل يعانون من دمارٍ شاملٍ... خلال خبرتهم العملية سينالون نوعًا من الشعور بالعذوبة من جهة نصحي لهم ومشورتي؛ كيف؟ لوم الصديقين يجلب نفعًا، ويكون لتعليمهم عذوبة عظيمة. فإن الفضيلة هي فوق كل شيءٍ تشبه الآتي: إنها تسبب ضيقًا مؤقتًا، لكنها تجلب سعادة باقية[44]. القديس يوحنا الذهبي الفم "سيسمع الناس كلماتي لأنها لذيذة". ويقول الرب نفسه: الذين يأتون إليّ يرجون ويفرحون لكلماتي، ويتحولون إليَّ في الكنيسة[45]. القديس جيروم تَبَدَّدَتْ عِظَامُنَا عِنْدَ فَمِ الْهَاوِيَةِ [7]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "مثل شحم الأرض انشقوا على الأرض. تبددت عظامهم عند الجحيم". يرى البعض أن المرتل يشعر بالحزن على شعب إسرائيل، وقد صاروا أشبه بعظامٍ جافةٍ مدفونة في الأرض. لقد رأى حزقيال النبي هذا المنظر (حز 37: 1-14)، غير أن الرب أخرجهم من قبور تجديفاتهم وجحدهم للمخلص، ليصيروا جيشًا روحيًا عظيمًا جدًا! يرى القديس أغسطينوس إن شحم الأرض هنا هو السماد الذي يحتقره الناس، لكن ينشره الفلاح على الأرض لتأتي بثمرٍ كثيرٍ، إذ يهبها خصوبة. هكذا يضطهد الأشرار شهود السيد المسيح، ويظن الأشرار أنهم قد غلبوهم بقتلهم. لكن ما يفعلونه إنما يصير كسمادٍ، ويصير الحصاد كثيرًا جدًا. حقًا يموت الشهداء، لكن عزيز في عيني الرب موت قديسيه (مز 116: 15). قد يستخف العالم بالشهداء، لكن "اختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" (1 كو 1: 28). رفع الله بطرس وبولس كما من المزبلة عندما حُكم عليهما بالموت، واُحتقرا، الآن اغتنت الأرض بهما. الآن أين يسرع رؤساء العالم والنبلاء بل والإمبراطور نفسه عندما يدخل روما؟ هل إلى قصر الإمبراطور، أم إلى النصب التذكاري لصياد السمك (بطرس)؟ * بعد أن قال إن كلماته بها عذوبة، أشار إلى كوارث قديمة. بالرغم من المتاعب المتزايدة، فيصير الكل مشتتين ومحطمين مثل تربة مٌمهدة ومحروثة ومحفورة حتى تبلغ إلى الهاوية ذاتها، مع ذلك نحن نفضل تعليم الصديقين وتهذيبهم لنا عن رحمة الخطاة. مهما حدث فإننا نعتمد على الرجاء فيك، ولن نتوقف عن التطلع إليك. لهذا يقول: "لأنه إليك يا سيد، يا رب، تتجه عيناي. فيك أترجى، فلا تمحو نفسي [8]. يقول: حتى أن أحدقت بنا حروب أو معارك أو موت أو أبواب الجحيم، لن نترك المرساة المقدسة، بل نلتصق بالرجاء في معونتك[46]. القديس يوحنا الذهبي الفم بِكَ احْتَمَيْتُ. لاَ تُفْرِغْ نَفْسِي [8]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن عيوننا إليك يا رب. يا رب عليك توكلت، فلا تقتل نفسي". ينتقل المرتل كعادته بين الطلب لأجل خلاصه إلى الطلب من أجل شعبه، ويعود يطلب لنفسه. فالمؤمن لا يعزل نفسه عن إخوته، يصرخ لأجل خلاص نفسه دون تجاهل إخوته، وبحبه يطلب لأجل إخوته دون تجاهل أبديته! يرىالقديس أغسطينوس أن هذه الكلمات ينطق بها الشهداء والذين يعانون من المضايقات. * إنهم يتعذبون في الاضطهادات، ويسقط كثيرون... لكن في وسط ضيق الاضطهاد يصدر الصوت مصليًا: "لأن عيوننا إليك يا رب". إني لا أبالي بتهديداتهم الذين حولي، عيوننا إليك يا رب. إني أثبت عيني بالأكثر على وعودك لا على تهديداتهم. إني أعرف ما قد احتملته أنت من أجلي، وما وعدتني به[47]. القديس أغسطينوس وَمِنْ أَشْرَاكِ فَاعِلِي الإِثْمِ [9]. * ما هو الفخ؟ (يُقال للمُتقدم للاستشهاد) إن وافقتني(وأنكرت الإيمان) أُبقى عليك. يوضع في الفخ طُعم الحياة الحاضرة. إن أحب الطاَئر الطُعم، يسقط في الفخ، ولكن إن استطاع الطائر أن يقول: "ولا اشتهيت يوم الإنسان؛ أنت عرفت" (راجع إر 17: 16)، يقول: "هو يخرج رجلي من الشبكة" (مز 25: 15). إنه يشير إلى أمرين يجب أن يميز الواحد عن الآخر: الفخ الذي ينصبه المضطهدون؛ والعثرة التي تأتي من الذين قبلوا وجحدوا. وهو يطلب الحماية من الأمرين. فمن ناحية يهددون ويثورون، ومن الناحية الأخرى الموافقة والسقوط. إنني أخشى لئلا أخاف الواحد، واقتدي بالآخر[48]. القديس أغسطينوس * لا يشير هنا إلى تدبير المكائد بوجه عام، وإنما إلى الفخاخ المخفية التي من النوع الذي ليس من السهل التحفظ منها واكتشافها، هذه تتطلب على وجه الخصوص تدخل النعمة التي من فوق[49].القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس جيروم * اِحرصوا ألاّ تؤخذ أرجلكم في إحدى فخاخ العدو المنصوبة (قدّامكم)، فإنّ العدو يطرح شباكه لكي يصطاد النفوس البريئة إذا وجدها مستسلمةً للنعاس. أمّا أنتم "فاصحوا واسهروا" (1 بط 5: 8) بأعين النفس النقية، وأنتم ترتلون قول المزمور: "يسقط الخطاة في شبكته، وأكون أنا وحدي حتى يجوز الإثم" (مز 140: 10). وأضف أيضًا هذا القول: "بمخافتك، يا رب، حبلنا وتمخّضنا وولدنا روح خلاصك على الأرض" (إش 26: 17)[51]. القديس مقاريوس الكبير حَتَّى أَنْجُوَ أَنَا بِالْكُلِّيَّةِ [10]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "تسقط الخطاة في شبكته، وأكون أنا وحدي حتى يجوز الإثم". يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا هو السيد المسيح، فعندما حلّ وقت الاضطهاد، وأُلقى القبض عليه سقط بعض التلاميذ في شبكة العدو، وتركه الجميع وحده يجتاز المعصرة. * هل مثل هؤلاء تظن أنهم يسقطون في شبكته؟ ماذا بخصوص تلاميذك أيها المسيح؟ انظروا، عندما ثار الاضطهاد، عندما تركك الكل وحدك، وذهب كل واحدٍ إلى خاصته (يو 16: 32). نعم، أولئك الذين كانوا ملتصقين بك تركوك عند محاكمتك وفي وقت الاضطهاد، عندما طلبك أعداؤك لكي تُصلب. وهذا الجريء الذي وعدك أن يذهب معك حتى الموت سمع من الطبيب ما سيحدث معه كمريضٍ. إذ كان (بطرس) مصابًا بحمى ظن أنه سليم، أما الرب فقد لمس شريان قلبه. عندئذ جاءت المحاكمة؛ جاء الاختبار، وجاء الاتهام، وعندما سُئل ليس من جهة السلطات الكبرى، وإنما من عبدٍ متواضعٍ ومن جارية، استسلم وأنكر ثلاث مرات[52]. القديس أغسطينوس القديس جيروم من وحي المزمور 141 هب لي حراسة على كل كياني * ما أعظم حبك لي وحكمتك وشوقك لخلاصي! تسمح لي بمضايقات الأشرار، كي أتعلم الصراخ إليك. أطلب حمايتي من نفسي، قبل حمايتي منهم. يحِّل بي الضيق، فأجري إليك. أطلب حمايتك وحراستك الإلهية. فإني إذ أرى الأشرار أذكر ضعفي. بدون الضيقات تفتر أعماقي. وخلال الضيقات تشتهي أعماقي الالتقاء بك. أطلب الحماية من نفسي أولًا، لئلا أخطئ، ومن الأشرار، لئلا أرد الشر بالشر. أطلب خلاصهم من العدو الشرير، فتقتل فيهم الشر، وتهبهم الرجوع إليك. * يود العدو أن يحطمني، ويحطم كل بشرٍ. لا يجد راحته إلا في هلاكنا. لكن مقاومته تدفعني أن أطير بروحك القدوس. ألجأ إليك وأرتمي في أحضانك. يقدم العدو مما لديه من حسدٍٍ شريرٍ، ويهبني روحك أن أقدم لك ذبيحة حب وتسبيح. اقبل صرخاتي إليك كذبيحة مسائية، تصعد كما من القدس من على المذبح الذهبي. تصعد مختفية في ذبيحة صليبك المسائية. أتيت في ملء الزمان عند المساء، لتعلن عن حبك. هب لي صلاة مقدسة، تلتحف بقوة صليبك. بدون صليبك تصير صلاتي دخانًا مفسدًا لعيني. بصليبك تشتَّم صلاتي كبخور يحمل رائحتك الذكية. * هب لي مع رفع يدي للصلاة، أن يرتفع قلبي بالحب لك ولإخوتي، ويرتفع عقلي للتأمل في الأمجاد التي تعدها لي. يرتفع كل كياني، لأنعم بالشركة مع السمائيين. * هب لي ألا أرد الشر بالشر. لتُقِمْ بابًا حصينًا لفمي. يُفتح حين أعترف لك بخطاياي، ويُغلق إن أردت أن أبرر ذاتي. هب لي بابًا يُفتح ويغلق تحت حراسة روحك القدوس. ولا تقم حاجزًا حصينًا، لئلا ُأحرم من الحديث معك! * إلهي، إن كنت أخشى ظلم الأشرار، فبالأكثر أصرخ إليك، لكي لا أقبل كلماتهم الناعمة. بتملقهم يسكبون زيتًا على رأسي، فأصدق كلمات تملقهم. هب لي مع العذارى الحكيمات زيت نعمتك، فلا أقبل زيت الخطاة المهلك. أغتني بزيت روحك القدوس، فلا أشتهي زيت الخطاة! تأديباتك وتوبيخك هو لبناء نفسي، أما كلماتهم المعسولة فلهلاكها. * أمينة هي جراحات الصديقين. نقدهم لي لبناء نفسي. وغاشة هي قبلات الأشرار، حبهم مملوء خداعًا مُهلكًا. إني أقبل توبيخ الصديقين، وأرفض ثرثرة الأشرار. |
||||
22 - 07 - 2014, 07:34 PM | رقم المشاركة : ( 166 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 142 (141 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير ليس من يسأل عن نفسي!يُعتبر هذا المزمور مرثاة شخصية، سجلها داود الملك، غالبًا وهو في كهف عدلام (1 صم 22). جاء في الآية 7 "اخرج من الحبس أو السجن نفسي". إلى ذلك الوقت لم تكن إسرائيل قد عرفت السجون لمعاقبة المجرمين أو لعزلهم عن المجتمع، لكن المرتل اختبر كيف هجره حتى أعز أصدقائه، فحسب نفسه كمن هو في حبس، أو كمن هو ميت وهو حي. ليس من يسنده بكلمة تعزية، ولا من يقدم له طعام. ولعل كلمة "الحبس" هنا تشير إلى معاناته من الاضطهاد المُر والاهانة التي لحقت به[1]. [FONT=""]مغارة أم مقدِّس الله![/FONT] سبق أن تمتعنا بمزمور خاص بالمغارة (مز 57؛ 1 صم 22: 1-2؛ 24: 1 الخ). هنا في وسط الضيق يكشف لنا المرتل عن سرّ تعزيته وهو أشبه بسجينٍ في المغارة: 1. الله يسمع صرخات القلب [1-2]: أحيانًا تُقدم الصلوات كعبادة (141: 1)، وأحيانًا كمعركة روحية، فيها ينسكب القلب أمام الله، وإن كان يعلم بكل احتياجاتنا. تحوّلت المغارة بالصلاة إلى هيكل للرب. 2. الله يعرف طريقنا [3]: يشتكي الكل من الفخاخ التي ينصبها عدو الخير في طرقنا خفية لاصطيادنا. لكننا إذ نقبل الرب طريقًا لحضن الآب، نصير في أمان من أيّة فخاخ. 3. الله يعرف آلامنا [4]: إذ يفارقنا الجميع وسط آلامنا، فلا يستطيعون أن يشاركونا فيها، يحتضنّا المخلص ويعزّينا. حين يتركنا الكل يعتني هو بنا (1 بط 5-7). 4. الله هو نصيبنا [5]: إذ نقتني الله نصيبًا لنا، فماذا نحتاج بعد؟ 5. الله يتمجد فينا [6-7]: يحول آلامنا لبنياننا، فنسبحه وسط آلامنا حتى يدخل بنا إلى راحته المجيدة. 1. رفع دعواه 1-2. 2. السقوط في مأزق 3-4. 3. أنت نصيبي وملجأي 5-6. 4. رجاء وإحسان 7. من وحي المزمور 142 العنوان تضرع لأجل النجاة للاشتراك في القديسين عن التأمل. لداود حينما كان في الكهف. صلاة. جاء في العنوان "لما كان في المغارة"، وذلك كما في عنوان المزمور 57. يقدم لنا المزموران فكرة واضحة عن مشاعر داود وأحاسيسه المتغيرة حين كان في محنة. ففي المزمور 57 نراه في منتهى القوة والثبات، في ثقة عجيبة بنصرته الأكيدة في الرب. أما في المزمور 142 فيسكب شكواه أمام الرب وقد صارت روحه في حالة إعياء، يتوقع فخًا منصوبًا له في الخفاء. يشعر بضعف أمام العدو القوي، لكنه لا يفقد رجاءه في الرب الذي حتمًا يحسن إليه. يحمل هذا المزمور نبوة عن ملك الملوك ابن داود الذي احتمل العار كملكٍ بلا تاج أرضي ولا مملكة. كما يحمل نبوة عن الكنيسة التي تعاني من رجسة الخراب، فتهرب إلى الجبال حيث يخفيها الله كما في كهفٍ، ويحميها بقدرته، وهي تصرخ وتطلب خلاصها. إنها صورة للمؤمن الذي يسمح له الله بالضيق، فيشعر كمن في حبس لا حول له ولا قوة، تحوط به الظلمة، وقد صار كمن على حافة الموت، وليس له ملجأ ولا منقذ سوى الرب نفسه. *يظهر شاول بكونه الشيطان، والكهف هو هذا العالم. لا يقدم الشيطان أي شيء صالح في هذا سوى القذارة والفساد. يرمز الكهف إلى هذا العالم، لأن نوره خافت للغاية إن قورن بنور العالم العتيد، وإن كان الرب بمجيئه إلى هذا العالم بكونه النور جعله ساطعًا بطريقة ملحوظة... الآن كما أن داود دخل الكهف في هروبه من شاول، هكذا الرب أيضًا جاء إلى هذا العالم، واحتمل الاضطهاد[2]. القديس جيروم 1. رفع دعواه بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَصْرُخُ. بِصَوْتِي إِلَى الرَّبِّ أَتَضَرَّعُ [1]. جاء هذا المزمور صرخة من أعماق قلب المرتل، الذي كان يئن لأنه كمن في عزلةٍ، ليس من أحدٍ حوله يشاركه مشاعره، ومع هذا فهو يصرخ. إنه يعلم تمامًا أن الله يسمع تنهدات قلبه الخفية، لكن المرارة التي في أعماقه دفعته للصراخ، ولو لم يسمعه إنسان ما. إنه يريد أن يخبر الله عن كل متاعبه وأحزانه. جاءت كلمة "صوت" في العبرية qol، وهي تستخدم في حالة الرعد. فالضيقة في شدتها تهب المؤمن روح القوة ليصلي كمن يرعد. يرى القديس جيروم أن النبي يشبه مريضًا اشتد به المرض جدًا، فأسرع إلى الطبيب ليكشف له أعراض المرض التي يشعر بها منتظرًا منه العلاج. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل كثيرًا ما يكرر صراخه وتضرعاته مرتين في المزمور الواحد، ليعلن أنه يطلب خلال قوة الروح وأيضًا يقظة الذهن. هكذا يليق بنا أن نصلي بالروح المتقد، كما بالذهن الواعي، كقول الرسول بولس: "أصلي بالروح، وأصلي بالذهن أيضًا. أرتل بالروح، وأرتل بالذهن أيضًا" (1 كو 14: 15). *"بصوتي إلى الرب أصرخ". كان يمكن الاكتفاء بالقول "بالصوت"، لكن ليس بدون سبب أضاف ضمير ياء الملكية. فإن كثيرين يصرخون للرب ليس بصوتهم، بل بصوت جسمهم. ليت الإنسان الداخلي الذي يبدأ يحلّ فيه المسيح بالإيمان (أف 3: 17) هو الذي يصرخ للرب، لا بضجيج الشفتين، وإنما بوجدان القلب. فإن الله لا ينصت إلى ما يسمعه الإنسان، لكن متى لا يُسمع صوت الرئتين والوجه واللسان، فلا يسمعك الإنسان، يكون فكرك هو الصرخة التي توجه للرب... صرختي هي صلاتي، لا باللعنات ولا بالتذمر ولا بالتجديف [3]. *هذا الصوت بالتأكيد ليس صوت من يصارع، بل صوت من يحب؛ ليس صوت الجسد، بل صوت القلب[4]. القديس أغسطينوس بِضِيقِي قُدَّامَهُ أُخْبِرُ [2]. ما يعزيه أن الله يعرف حاله تمامًا عندما يشعر بأن كل قوته قد خارت تمامًا. *"أسكب أمامه صلاتي" ماذا يعني "أمامه"؟ في نظره... أين ينظر؟ إنه ينظر حيث لا ينظر الإنسان. فإن أفكارك لا يراها إنسان، لكن الله يراها. هناك أسكب صلاتك حيث وحده يرى ويكافئك. فقد أمرك الرب يسوع المسيح أن تصلي في الخفاء. فإن عرفت مخدعك ما هو، وطهرته، هناك صلِ لله. إنه يقول: "متى صليت، فادخل مخدعك وأغلق بابك، وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية" (مت 6: 6). إن كان البشر سيكافئونك، صلِ أمام الناس، وإن كان الله هو الذي يكافئك فاسكب صلاتك أمامه، وأغلق الباب حتى لا يدخل المجرب... أغلق باب الخوف والشهوة أمام الشيطان، وافتحه أمام المسيح. كيف يمكن أن تفتح هذا الباب ذا الثنايا للمسيح؟ بالرغبة (الشهوة) نحو ملكوت السموات، وبالخوف من نار جهنم. بالاشتياق إلى هذا العالم يدخل الشيطان، وبالاشتياق إلى الحياة الأبدية يدخل المسيح. بالخوف من العقوبة الزمنية يدخل الشيطان، وبالخوف من النار الأبدية يدخل المسيح[5]. القديس أغسطينوس "بضيقي قدامه أخبر". هذه هي المحنة التي يرحب بها الرسول، المحنة التي متى أحصيت مع غيرها تنجب رجاءً، هذا الرجاء بلا إحباط[6]. القديس جيروم عندئذ إذ يرغب في إيضاح حدة ذهنه وغيرته التي في داخله، قال: "اسكب" بفيضٍ عظيمٍ. بهذا نتعلم أن التجارب تساهم بقدرٍ ليس بقليلٍ في التمتع بمفاهيمٍ سليمة. هذا هو ثمر الضيق. ليته لا يتجنبه أحد، فالضيق في الواقع له فائدتان: الأولى يجعلنا أكثر غيرة ويقظة، والثاني أن يكشف عن سبب ليس بتافه للاستماع لصلاته (الاستجابة لها)[7]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي فإنه حين تنسكب النفس على الجسد، قد تخفي ضعفَ جسده، وتستر شهوته الجسدية، وتسِكن قوة النفس والروح في كل أعضائه (قابل 2 كو 12 :9). لهذا السبب أيضًا يقول في نصٍ لاحق: "أسكب صلاتي أمامه" (مز 142: 2)، فحين تُسكب الصلاةُ تُستر الخطايا (قابل مز 32 :1، رو 4 :8)، لكن فيمَ يفكر؟ يقينًا في تلك الأمورِ التي اشتاق إليها، أن يأتي ويتراءى أمام اللهِ (قابل مز 42 :2)، ليعاين مقدسَ اللهِ السماوي، حيث يسير بالروح، ويُسَّر بالمشاركة في دخوله[8]. القديس أمبروسيوس 2. السقوط في مأزق يقدم المرتل مرثاته نائحًا على فقدانه كل راحةٍ بشريةٍ وعونٍ من المحيطين به، وذلك مثل إرميا (25: 34-35). عوض تقديم العون أخفوا فخًا له لاصطياده. عِنْدَ مَا أَعْيَتْ رُوحِي فِيَّ، وَأَنْتَ عَرَفْتَ مَسْلَكِي، فِي الطَّرِيقِ الَّتِي أَسْلُكُ أَخْفُوا لِي فَخًّا [3]. كثيرًا ما يردد المرتل في مزاميره أن العدو يلاحقه، ولا يكف عن تدبير المكائد ضده، ينصب له الفخاخ في الطريق الذي يتوقع أنه يسلك فيه. يرى القديس أغسطينوس[9] أن المرتل قد اشتدت به الضيقة حتى بدت روحه كما في حالة إعياء، وظن المقاومون أنه انهار. لقد أدرك من خلال التصاقه الخفي بالله وانسكاب قلبه وفكره أمامه، أنهم هم الذين سقطوا، وأنه هو قام واستقام (مز 20: 8). إذ عيناه على الرب يهبه الرب أن يخرج قدميه من الشبكة (مز 25: 15). بهذا يصبر إلى المنتهى ويخلص (مت 10: 23). ما يقوله المرتل ينطبق على حال الشهداء الذين وإن قُبض عليهم، وظن الأشرار أن لهم سلطان عليهم، وأنهم قد أخفوا لهم فخًا في الطريق، إذا بالمسيح نفسه هو طريقهم الذي لن يتسلل إليه أي فخ. يقتني الشهداء المسيح نفسه طريقهم، ونصرتهم وإكليلهم! *"في الطريق التي أسلك أخفوا لي فخًا". الرذائل في الباب المجاور للفضائل. في كل طريق يقرر أن يسلكه تُوضع له فيه فخاخ، سواء في الصوم أو الصدقة أو أي عمل صالح آخر[10]. القديس جيروم فإن كان اليهود قد تذمروا، فالتذمر ليس بسبب الضيق، بل بسبب غباوتهم. فعندما اجتاز القديسون تجربة ما، صاروا في أكثر روعة، وصارت مفاهيمهم أكثر ثباتًا. لذلك قال المرتل نفسه: "خير لي أنك أذللتني، لكي أتعلم فرائضك" (راجع مز 119: 71). وقال بولس: "ولئلا ارتفع بفرط الإعلانات ُأعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع. من جهة هذا تضرعت إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقني، فقال لي: تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تكمل. فبكل سرورٍ لكي تحلّ عليّ قوة المسيح. لذلك ُأسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح. لأني حينما أنا ضعيف، فحينئذ أنا قوي" (2 كو 12: 7-10). ألا ترونه كيف يستيقظ بالأكثر في التجارب، ملتجًأ في الله، إلى درجة عظيمة، فيلتصق به باتقادٍ عظيم، حتى عندما يدخل في أعماق المتاعب نفسها. هذا في الواقع ما يعنيه بقوله: "عندما أعيت روحي فيّ"، وبهذا يظهر بالأكثر مملوء غيرة؟[11] القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أمبروسيوس القديس يوحنا كاسيان الأب أنسيمُس الأورشليمي وَأَبْصِرْ فَلَيْسَ لِي عَارِفٌ. بَادَ عَنِّي الْمَنَاصُ. لَيْسَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ نَفْسِي [4]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "تأملت عن اليمين وأبصرت، فلم يكن من يعرفني. ضاع المهرب مني، ولم يوجد من يطلب نفسي". يتطلع المرتل إلى اليمين، أي إلى حيث يظن أنه يجد من يعينه ويدافع عنه، فإذا به لا يجد أحدًا. يبدو كأن الكل لا يبالون بما بلغ إليه من حالة بائسة، ليس من يبالي بحياته أو خلاصه من الضيق. إنها صرخة بائسة ومُرة: "ليس من يسأل عن نفسي!" أنانية قاسية وخطيرة مع تراخٍ عجيب بخصوص الاهتمام بالغير! يقدم لنا المرتل نبوة عن السيد المسيح المتألم، وقد فارقه تلاميذه، وبقي وحده! يقصد بالتطلع إلى اليمين ليبصر، أنه في وقت أحزانه يلتفت إلى أصحابه وأخص أصدقائه، فإذا بهم كمن لا يعرفونه، بسبب الخوف من أعدائه يظهر أحباؤه كأنهم لا يعرفونه. هذا ما تحقق تمامًا في ليلة تسليم السيد المسيح ومحاكمته، إذ أنكر بطرس الرسول وأقسم ولعن أنه لا يعرف المسيح، ولا يعرف اسمه. يرى القديس أغسطينوس أن من يتطلع إلى اليسار يكون أعمى ولا يرى أحدًا أو شيئًا، أما من يتطلع إلى اليمين فيستطيع أن يرى، لكنه ماذا يرى؟ يرى أنه ليس من يعرفه أو يعينه، فيئن لأنه يشعر بأن المهرب ضاع منه. ليس من يستطيع أن يعينه سوى الرب نفسه. يشعر المضايقون له، بأنهم قد حاصروه وتسلطوا عليه، وليس من يعينه، ولا يستطيع أن يهرب منهم. لقد سقط في الفخ الذي نصبوه هذا ما يظنونه. يطلبون حياته، أي يهلكونه، ولم يدركوا أن حياته الحقيقية هي السيد المسيح واهب الحياة! لقد طلب السيد المسيح من تلاميذه أنهم متى اضطهدوهم يهربون بأجسادهم، لكن أرواحهم لن تهرب، لأن حياتهم في الحقيقة هي المسيح نفسه! *إن كنا نفسر المزمور على أنه خاص باسم الرب، فإن الرب نفسه هو القائل: كل تلاميذي تركوني وهربوا، واحد فقط هو الذي بقي، بطرس الذي وعد: "ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك" (مت 26: 35). مع هذا فهو الذي أنكر ربه. إذ تاب بطرس، قال الرب: "انظر إلى اليمين إليه، ولم يقل أنظر إلى الشمال. "ضاع المهرب مني"، وذلك عندما قبض عليه اليهود. "ليس من يسأل عن نفسي". بالحقيقة كان الكل يصرخون: "اصلبه، اصلبه"[14]. القديس جيروم هذا لا يسبب له ضررًا، بل بالعكس يسبب له نفعًا عظيمًا، إذ يجلبه إلى الدخول في علاقة مع الله. لهذا أيها الأحباء الأعزاء من جانبكم عندما ترون الشرور تتزايد، لا تخور قلوبكم، بل بالأكثر كونوا يقظين. هذا هو السبب الذي لأجله يسمح الله بقيام التجارب، فيهزكم من حالة الخمول، ويوقظكم من النعاس[15]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس ديديموس الضرير 3. أنت نصيبي وملجأي حين يعاني الإنسان من الشعور بالعزلة، ويفارقه كل من كان يتوقع منهم العون، يكتشف أن ملجأه ونصيبه هو الرب وحده. صَرَخْتُ إِلَيْكَ يَا رَبُّ. قُلْتُ: أَنْتَ مَلْجَأي نَصِيبِي فِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ [5]. إذ لا يوجد ملجأ بشري يتجه المرتل إلى الرب نفسه، فهو ملجأ شخصي له. كأن الله يهتم به وحده، أو كأنه لا يوجد في الخليقة آخر غيره. هذا هو الحب الإلهي يحب الكل فهو إله كل البشرية، ولا يتجاهل أحدًا، ويشعر كل أحدٍ كأن الله قد كرَّس كل إمكانياته من أجله، أنه المحبوب لدى الله، مكانه في أحضانه الإلهية، واستقراره في قلبه العجيب. *لما كان النبي في حصار هكذا، صرخ إلى الرب قائلًا: أنت رجائي ونصيبي، ليس فقط في هذا العالم، بل وفي أرض الأحياء، اعني في الدهر الآتي. الأب أنسيمُس الأورشليمي "نصيبي في أرض الأحياء"، بمعنى ميراثي وكنزي وثروتي. أنت هو كل شيءٍ في ذاتك... "في أرض الأحياء"، إنك دائمًا سندي، تربطني بك في أرض الأحياء، وعلاقتي بك تصير أكثر التصاقًا[17]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس لأَنِّي قَدْ تَذَلَّلْتُ جِدًّا. نَجِّنِي مِنْ مُضْطَهِدِيَّ، لأَنَّهُمْ أَشَدُّ مِنِّي [6]. *"قد اعتزوا (تقووا) أكثر مني". من الذي قال: "قد اعتزوا أكثر مني؟ جسد المسيح يصرخ؛ إنه صوت الكنيسة أعضاء المسيح، تصرخ: "قد اعتزوا أكثر مني"، "لكثرة الإثم تبرد المحبة الكثيرين" (مت 24: 12)[19]. القديس أغسطينوس الآن بالحقيقة هذه ليست علامة اتهام بسبب ما حدث، وإنما إشارة إلى ألم المتألم وضعفه. فإن نظرت إلى ما تستحقه خطاياه فإن هذا التذلل ليس بالكثير، أما أن تطلعت إلى ضعف المتألم، فهو ذل شديد تمامًا. أعني أن في هذا لا يطلب الله العقوبة بحسب الجريمة المرتكبة. فإنه وإن بدا الذل غير مُحتمل بالنسبة للمتألم، فهذا ليس بسبب طبيعة ما حلّ به، وإنما بسبب ضعف الضحية[20]. القديس يوحنا الذهبي الفم *"نجني من مضطهدي، لأنهم أشد مني". أولئك الذين يحاربون ضدنا لهم قوة أعظم مما لنا. إنهم رؤساء هذا العالم[22]. القديس جيروم 4. رجاء وإحسان أَخْرِجْ مِنَ الْحَبْسِ نَفْسِي، لِتَحْمِيدِ اسْمِكَ. الصِّدِّيقُونَ يَكْتَنِفُونَنِي، لأَنَّكَ تُحْسِنُ إِلَيَّ [7]. في وسط الضيق يشعر الإنسان كأنه سجين الضيق والمرارة. وإذ ينقذه الرب يقدم ذبيحة شكر وحمد له. ويلتصق بالأتقياء، ويلتصقون هم به كجوقة تسبيح، تشكر الله على خلاصه العجيب. يرى القديس جيروم أن السجن هنا هو الجسد الذي يقاوم بشهواته رغبات الروح. غير أننا نرى كثيرًا من آباء الكنيسة يتطلعون إلى الجسد كخلقة الله مقدس وصالح، ووزنة يجب الحفاظ عليها وتقديسها بالنعمة الإلهية. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل صلى لكي لا يدخل في تجربة. ولكن إذا حلت الضيقة احتملها بشكر، وقدم لله حمدًا لاسمه. هذا الشكر وسط الضيق ينزع عنا ثقل خطايانا، وهذا هو نفع أو البركات التي تحل علينا باحتمالنا للضيق بشكرٍ، بجانب أنها تهبنا قوة للتضرع إلى الله وطلب معونته، فلا نتراخي، وبالتالي لا نهلك. يرى القديس أغسطينوس أن عنوان المزمور يشير إلى أن داود النبي كان في الكهف، وكأن السجن هنا هو الكهف الذي كان مختفيًا فيه. يرى أيضًا أن المرتل كان مشتاقًا أن يخرج من الجسد، لكي تنطلق نفسه إلى السيد المسيح، ذاك بالنسبة له أفضل. *ليت الله يقودنا ويُخرجنا من الجسد، عندما يريد. قيل عن جسدنا إنه سجن، ليس لأن الله خلقه سجنًا، لكنه لأنه صار تحت العقوبة خاضعًا للموت. فإنه يوجد أمران يجب التأمل فيهما في جسدنا: عمل الله، والعقوبة التي صرنا أهلًا لها. ربما يقصد بقوله: "أخرج نفسي من الحبس"، أخرج نفسي من الفساد... أخيرًا أيها الإخوة، يقصد كما أظن هكذا: "أخرج نفسي من السجن"، أخرجها من الضيق. فإنه بالنسبة للإنسان الذي في فرحٍ حتى السجن يكون له وسعًا، أما الذي في حزنٍ فالحقل بالنسبة له يكون ضيقًا. فهو يصلي لكي يخرجه من الضيق... إنه ليس الجسد هو الذي يحدر النفس، إنما الجسد الفاسد. ليس الجسد هو الذي يوجد السجن، بل الفساد[23]. القديس أغسطينوس هؤلاء الذين هم غير مبالين وهم في وسعٍ، ييأسون من أنفسهم وهم في الضيق، إذ يصيرون متكاسلين. أما المرتل فاستمر في أن يكون يقظًا عندما تتغير الظروف، فلا تجعله التجربة خائر القلب، بل بالحري تقوده للطلبة والصلاة، ولا يسقط بسهولة في الكسل، بل تقوده أيضًا للشكر... يقول: هذا أيضًا نافع حتى للصديقين، فإنهم سيفرحون ويُسرون ويثبون في تهليل، إذ يروا تحرري من الضيق. نفوس الصديقين كما ترون تحزن مع الذين يتضايقون، ولا يحسدون الذين يصيرون في نجاحٍ، بل يفرحون ويشاركونهم سعادتهم وشبعهم[24]. القديس يوحنا الذهبي الفم "لتحميد اسمك"، أي لكي أمجد بالتسبيح اسمك كما فعل الرب: "أحمدك أيها الآب" (مت 11: 25). "الصديقون يكتنفونني، لأنك تحسن إليّ" يقول الرب: الرسل يكتنفونني (ينتظرونني) حتى أقوم من الأموات[25]. القديس جيروم القديس قيصريوس من آرل من وحي المزمور 142 إلهي، مصدر تعزياتي! *قد نلتزم بالهروب كما في مغارة، حتى نهرب من الأعداء. نهرب لئلا يرانا العدو، الذي لن يكف عن نصب الفخاخ لنا. لينصب فخاخه المخيفة كما يشاء. وقد تضطرب نفسي جدًا. لكن وسط مرارة نفسي تعزياتك تملأني رجاءً. في وسط سجن الضيقات، لن أنسى حنان رئيس الكهنة قد سجنك مقيدًا. يا لغباوته! يسجن من لا تسعه السماء والأرض. مددت يدك للقيود، وسرت إلى السجن بإرادتك. فتلتقي بي أنا السجين لضعفي وأخطائي! التقي بك يا نور العالم في وسط ظلمة السجن. تتعزى نفسي بك، وأحسبها مطوّبة، لأنها تلتقي بالسماوي القدير والمحرر! *في ضيقي أصرخ إليك، مع أنك تسمع أنات القلب مهما بدت صامته وخفية. ترعد نفسي في الداخل، ويصرخ ذهني ملتمسًا عونك. إني أعلم أنك لا تطلب ضجيج الشفتين، لكنك تميل لتسمع صرخات القلب الصامتة. *أسكب شكواي أمامك، مع أنك تعلم كل دقائقها دون أن أنطق بكلمة. أكشف جراحاتي لك، يا أيها الطبيب الإلهي. لست أشكو لإنسانٍ ما، إنما أنسكب أمامك. ترتفع نفسي كما إلى مقدِسك السماوي. *يراني العدو في وسط الضيق، فيظن إني هلكت. حقًا يبدو عليّ كأني قد أشرفت على الموت. لكنني التصق بك، فأقوم وأحيا. أما العدو فبكبريائه يسقط ويهلك. *في ضعفي البشري أنظر إلى اليمين. أنظر إلى من أتوقع منهم عونًا، فإذا لم أجد من يعرفني. هربوا وقت الضيق، وتركوني وحدي. ليس من صديق ولا رفيق، حتى أبي وأمي قد تركاني. من أجلي وقت ضيقك سمحت أن يتركك الجميع. لكنك أنت مع الآب واحد معه في ذات الجوهر. أما أنا في ضيقي، فأراك وحدك، تبسط يديك لي، لتضمني في صدرك. بينما يظن العدو أني سقطت في فخه، إذا بي اكتشف بالأكثر، أنني اثبت فيك أنت حياتي. *إذ تركني الكل وجدت من هو أعظم من الكل. عزلتي دفعتني للالتصاق بك، يا سندي وخلاصي. عزلتي هزتني لأتخلص من خمولي ونُعاسي! في عزلتي أدركت أنك نصيب نفسي. قلت مع إرميا النبي: "نصيبي هو الرب، قالت نفسي". وقلت مع المرتل: "أنت ملجأي، نصيبي في أرض الأحياء". هذا هو وطني، الموضع الذي لن يستطيع العدو أن يقترب إليه. من يدخله لا يقدر أحد أن يسحبه منه. *لك المجد يا أيها المخلص العجيب. سمحت لي بالدخول في ضيق، فتشتهي نفسي الانطلاق بفرح إلى الوطن السماوي. التقي بك وأحيا معك إلى الأبد. |
||||
22 - 07 - 2014, 07:37 PM | رقم المشاركة : ( 167 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 143 (142 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير صرخة جندي روحي في المعركة يُعتبر هذا المزمور الأخير في مزامير التوبة السبعة، ربما بسبب ما ورد في الآية 2. وهو يمثل صرخة تصدر من أعماق القلب إلى الله الأمين في وعوده والبار، حافظ العهد لشعبه. يكشف المرتل عن حزنه الداخلي والخارجي، مشتاقًا إلى معونة الله التي توهب لعبيده الأمناء. غالبًا ما كتب داود النبي هذا المزمور حين كان أبشالوم ابنه متمردًا عليه، ويطلب قتله. إنه صرخة جندي متألم وسط معركة روحية. 1. أصغ إلى تضرعاتي 1-6. 2. أجبنا يا رب 7-9. 3. علِّمنا أن نعمل رضاك 10. 4. أحينا 11-12. من وحي المزمور 143 العنوان مَزْمُورٌ لِدَاوُدَ جاء عن الترجمة السبعينية: "لداود، إذ كان ابنه (أبشالوم) يطارده". * عنوان المزمور هو: "لداود عندما كان ابنه يطارده". نحن نعلم من أسفار الملوك (2 صم 15) أن هذا قد حدث... لكن يلزمنا أن نعرف هنا داود الحقيقي، القوي في معونته... وهو ربنا يسوع المسيح. فإن كل هذه الأحداث التي تمت في الماضي كانت رموزًا لأمورٍ عتيدة. ليتنا نبحث في هذا المزمور عن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي يعلن عن نفسه مقدمًا في نبوته، ومخبرًا مسبقًا ما كان يجب أن يحدث خلال أحداث سابقة منذ زمن بعيد. فقد سبق فأعلن عن نفسه في الأنبياء، إذ هو كلمة الله... ليتكلم ربنا، وليكن المسيح معنا[1]. القديس أغسطينوس 1. أصغ إلى تضرعاتي يَا رَبُّ اسْمَعْ صَلاَتِي، وَأَصْغِ إِلَى تَضَرُّعَاتِي. بِأَمَانَتِكَ اسْتَجِبْ لِي بِعَدْلِكَ [1]. يبدأ المرتل مزموره طالبًا من الله أن ينصت إلى صلاته وتضرعاته، لا من أجل برٍّ ذاتي فيه، وإنما من أجل أمانة الله. فقد وعد أن ينصت إلى عبيده الذين ليس لهم من يدافع عنهم، وهو أمين في وعوده. يليق بنا أن نتحدث معه بكل صراحة، فليس من يعيننا غيره. في تعليق القديس يوحنا الذهبي الفمعلى هذه العبارة يسألنا أن نهتم كيف نقدم صلواتنا وتضرعاتنا إلى الله، بالاقتراب إليه كما يليق به. فالأمر لا يحتاج إلى كفيل يضمننا أمام الله عندما نصلي، وإنما أن نتقدس ونتهيأ للقاء معه. * ليس لكم كفيل يقدم طلبتكم. عندما يقترب الملك تكلموا، وترقبوا اللحظة المناسبة. متى يقترب الملك؟ على الدوام! وما هي اللحظة المناسبة؟ عندما تريدون، عندما تتأهلون لذلك. لقد أُمر اليهود أن يأخذوا موضعهم عند سفح الجبل ليظهروا أمام الله، ملتحفين بثياب بيض، وممتنعين عن الاقتراب من امرأة (خر 19: 10-19). فمن جانبكم أنتم اغسلوا نفوسكم عوض ثيابكم، واقتربوا بضبط نفس وتواضع وبغير تسرع، وتقرّبوا إلى الله إن كنتم تريدون نوال ما تسألونه. هذا الاقتراب لا يكلفكم الكثير. خذوا الفضيلة معكم كمئونة لكم في رحلتكم إليه. أين يعمل هذا الملك؟ بالقرب من القلب المنسحق. اسلكوا الطريق، فإن "الرب قريب لكل الذين يدعونه بالحق" (مز 145: 18) كما يقول الكتاب المقدس. إنكم تجدونه هناك، ستلتقون به هناك. هو قريب من الذي يكسر خبزًا للفقير ويمارس الصدقة. إن سلكتم هذا الطريق تجدونه مستعدًا لسؤالكم[2]. القديس يوحنا الذهبي الفم "استجب لي بعدلك" هنا أيضًا "بمسيحك"، فإنني لست أتكل على نفسي، بل أبحث عن الرحمة التي لحقك وعدلك[3]. القديس جيروم فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ [2]. ربما يظن البعض أن هذه العبارة تضاد العبارة السابقة، فقد سبق فطلب المرتل من الله أن يستجيب له ويحقق طلبته بناء على عدله الإلهي، بينما يقول هنا أنه لن يتبرر أو يتزكى أمامه حي، لذا يسأله ألا يدخل معه في المحاكمة. كيف بعدله الإلهي تتحقق طلبته، وفي نفس الوقت بعدله لن يتبرر؟ يجيب الأب أنسيمُس الأورشليمي قائلًا: إن عدل الله في هذا العالم مقترن بالرحمة، لذلك مرارًا يُقال عن العدل إنه رحمة. ففي تأديب الله للإنسان في هذا العالم، وإن تم ذلك عن العدل الإلهي، غير أن الله في تأديبه يحثنا على التوبة، وهذا من قبيل رحمته. ربما لذات السبب كثيرًا ما يُقال عن عدل الله "برّ الله"، لأن عدله في هذا العالم مقترن برحمته. يطلب المرتل من الله ألا يحاسبه حسب عدله دون رحمته، وإلا سقط مع كل المؤمنين في كارثة. لأن الجميع خطاة، ولن يستطيع أحد أن يبلغ البرّ اللائق، لذا يلجأ المرتل إلى نعمة الله. * "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك". كيف يعلن النبي بوضوح ثقته في حنو المسيح المملوء حبًا عندما يقول: "لا تدخل في المحاكمة مع عبدك"! هنا يبدو كأن إنسانًا يعبر في محاكمة في حضرة الله والنبي، وذلك كما ورد في المزمور الخمسين (51) "لكي تتبرر في أقوالك، وتغلب إذا حوكمت" (مز 50: 6 LXX). فإنه ليس من سبب آخر لدخول الله في محاكمة سوى أنه يحكم بعدلٍ. هذا ما فعله كورش ملك مادي وفارس في حالة ملك أرمينيا عندما كسر شعبه رباطات الصداقة. حارب كورش الملك وهزمه وسجنه، وعند محاكمته كانت زوجته وأولاده وأقاربه حاضرين المحاكمة للتأكد من تحقيق العدالة سواء في معاقبته أو تبرئته[4]. "فإنه لن يتبرر قدامك حيّ". هو "إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، ليس إله أموات، بل الأحياء" (لو 20: 37-38). فالآباء (البطاركة) لا يتبررون في عيني الله، والكواكب ليست طاهرة في عينيه (أيوب 25: 5)[5]. القديس جيروم ها أنت ترى إذن كيف يعترف جميع القديسين بصدقٍ أن جميع الناس كما هم أيضًا خطاة، ومع ذلك لا ييأسون أبدًا من خلاصهم، بل يبحثون عن تطهيرٍ كاملٍ بنعمة الله ورحمته... لا يوجد أحد، مهما كان مقدسًا، في هذه الحياة بلا خطية. وقد أخبرنا أيضًا تعليم المخلص الذي منح تلاميذه نموذج الصلاة الكاملة...، إذ يقول: "واغفر لنا ذنوبنا، كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا" (مت 6: 12). إذن إذ قدم هذه كصلاةٍ حقيقيةٍ يمارسها قديسون، كما يجب أن نعتقد دون أدنى شك، من يمكنه أن يبقى عنيدًا ووقحًا ومنتفخًا بكبرياء الشيطان، فيظن أنه بلا خطية[6]. الأب ثيوناس القديس أمبروسيوس * إذ قد تعلمنا هذا كله، ليتنا لا نيأس، حتى إن كنا نرتكب خطايا... عالمين أنه بمثابرة الروح يمكننا نحن غير المستحقين أن نصير مستحقين للأخذ. حتى وإن لم يكن لنا وسيط يعيننا لا نخور، عالمين أن لنا مدافعًا عظيمًا هو الذهاب إلى الله نفسه بغيرة عظيمة. * لا شيء يجعل أعمالنا الصالحة بلا فائدة وباطلة إلا إن تذكرناها حاسبين في أنفسنا أننا نصنع صلاحًا. * اعترف أنك بالنعمة تخلص، حتى تشعر أن الله هو الدائن... فإن أسندنا لله (أعمالنا الصالحة) تكون مكافأتنا عن تواضعنا أعظم من المكافأة عن الأعمال نفسها. القديس يوحنا الذهبي الفم يصر داود على نفس الأمر حين يقول: "بالآثام حبل بي، وبالخطية ولدتني أمي" (مز 51: 5). وفي مزمور آخر: "لن يتبرر قدامك حي" (مز 143: 2). هذه العبارة الأخيرة يحاولون شرحها بعيدًا عن قصدها، قائلين بأن معناها هو أنه ليس إنسان كاملًا بالمقارنة مع الله. لكن الكتاب المقدس لا يقول: "بالمقارنة معك لا يتبرر إنسان حي". وعندما يقول "قدامك"، يعني أن أولئك الذين يبدون قديسين للبشر، هم بالنسبة لله في كامل المعرفة التي له ليسوا قديسين. لأن الإنسان ينظر إلى المظهر الخارجي، وأما الرب فيتطلع إلى القلب (1 صم 16: 7). بالنسبة لنظر الله الذي يرى كل الأشياء والتي تنكشف له أسرار القلب لا يتبرر إنسان[8]. * دٌعي أيوب وزكريا وأليصابات أبرارًا، وذلك بالبرّ الذي يُمكن أن يتغير إلى عدم البرّ، وليس بالبرّ الذي لن يتغير، الذي قيل عنه: "أنا الله، لا أتغير" (مل 3: 6)[9]. القديس جيروم العلامة أوريجينوس سَحَقَ إِلَى الأَرْضِ حَيَاتِي. أَجْلَسَنِي فِي الظُّلُمَاتِ، مِثْلَ الْمَوْتَى مُنْذُ الدَّهْرِ [3]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "لأن العدو اضطهد نفسي، وأذل في الأرض حياتي". ما أصعب على نفس داود أن يحتل ابنه المحبوب لديه أبشالوم مركز العداوة، فيستخدم كل وسيلة لا ليغتصب منه كرسي الحكم فحسب، بل ويطلب نفسه، أي يقتله ويذله أمام الشعب والجيش. لا ينكر النبي أنه اضطرب وصار كمن يجلس في الظلمات مثل الموتى. صار المرتل في موقفٍ خطيرٍ. صار كمن في ظلمة القبر، كالميت ليس من يسنده أو يترجى إنقاذه. ما هو هدف عدو الخير من مقاومته للمؤمن؟ إن يسحقه إلى الأرض، وأن يجلسه في الظلمات مثل الموتى! إن كان السيد المسيح يود أن يحملنا إلى سماواته، فإن عمل عدو الخير أن ينزل بنا إلى الأرض، ويربط أذهاننا وقلوبنا بالأرضيات لا السماويات. وإن كان السيد المسيح هو شمس البرّ الذي يشرق على الجالسين في الظلمة، فإن عدو الخير يود أن يعزلنا عنه، فننحدر كما إلى القبور حيث ظلمات الشر والخطية. يرى القديس أغسطينوس أن عدو الخير اضطهد السيد المسيح ليجلسه في الظلمات، ويجعله مع موتى العالم الذين يموتون بسبب خطاياهم. لقد قبل السيد هذا الاضطهاد لكي بإرادته وليس بسبب خطية ما ارتكبها، يموت عنا، فيحررنا نحن الذين صرنا موتى العالم بسبب خطايانا. لا يزال عدو الخير يضطهد الكنيسة جسد المسيح، لكي يجلس الكل في ظلمات الجحيم بكونهم موتى العالم، لكن من يلتصق بالسيد المسيح، يموت بالجسد، ويتمتع بالقيامة خلال صلب المسيح وموته وقيامته! * "لأن العدو قد اضطهد نفسي، سحق إلى الأرض حياتي". هنا نحن نتكلم؛ هنا يتكلم الرأس عنا. واضح أن الشيطان اضطهد كل من نفس المسيح ونفس يهوذا، والآن أيضًا لا يزال الشيطان يضطهد جسد المسيح، ومن يخلف يهوذا أيضًا... ماذا يطلب من كل من يضطهدنا إلا أنه يسعى ليجعلنا نفقد رجاءنا السماوي... ونخضع لمضطهدنا ونحب الأرضيات؟ "أجلسني في الظلمات، مثل الموتى منذ الدهر". هذا تسمعونه بالأكثر من الرأس، تدركونه بالأكثر بالنسبة للرأس. فإنه بالحقيقة مات لأجلنا، ومع هذا فهو ليس بأحد الذين ماتوا من العالم. لأنه هم موتى العالم؟ وكيف لم يكن أحد موتى العالم؟ موتى العالم هم أولئك الذين ماتوا عن استحقاقهم، فقبلوا جزاء إثمهم، نالوا الموت كثمرة الخطية التي انتقلت إليهم، كما قيل: "بالآثام حبل بي" (مز 51: 5)... أما هو فبموته قال: إني اتمم مشيئة أبي، لكنني لست أستحق الموت. لم أفعل شيئًا لأموت. إنما هذا من عملي أن أموت لكي بموت البار يتحرر أولئك الذين يلزم أن يموتوا[11]. القديس أغسطينوس يقول أيضًا القديس يوحنا الذهبي الفم عن هؤلاء الساقطين في يأس الخطية [لن يكون لهم سلام، ولا روح متحررة من القلق، بل بالحري يصير لهم الوقت عصيبًا أكثر من أي محيط. لا يجدون نهارًا وليلًا يعفيهم من العاصفة. إنها تضربهم من كل جانب، حتى وإن لم توجد أي قلاقل من الخارج، وكأن العدو مقيم في داخلهم. فإنهم لا يتمتعون بما نالوه فعلًا، ويهلكهم القلق مما لم يحدث لهم بعد، معذبون وقلقون في كل الأمور، محبون للاستطلاع نحو ما يتمتع به كل أحدٍ من خير، تتألم أذهانهم لنجاح كل إنسانٍ، يفزعون عندما يمدح إنسان آخر، يُكرهون الغير على عمل معين الخ.] * "لأن العدو قد اضطهد نفسي". بينما يمكن أن يُفهم ذلك بخصوص شاول، إذ كان عدوًا وكان يتعقبه، يُمكن أيضًا أن تُفهم بمعنى روحي عن العدو الذي هو الشيطان. إنه لا يكف عن تعقبه للذين ينتمون لله. كيف يمكننا التخلص من هذا التعقب؟ إن كنا نجد موضعًا لا يقدر أن يدخله. قد تسأل: وما هو هذا الموضع؟ أي نوع من المكان سوى السماء؟ وكيف يمكننا الصعود إلى السماء؟ أنصت إلى كلمات بولس مظهرًا ذلك، فإننا وإن كنا مرتبطين بالجسد، غير أننا نستطيع أن نعيش هناك: "اطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو 3: 1)، وأيضًا: "سيرتنا نحن هي في السماوات" (في 3: 20)[12]. القديس يوحنا الذهبي الفم "سحق في الأرض حياتي". قبلًا كان لي جناحان واستطعت أن أطير. أما الآن فإن العدو يضطهدني ويأسرني، وقد قيَّد قدمي ويدي. إنني مثل طائر اصطاده إنسان، إنه أشبه بميت لا حرية لجناحيه. هكذا يقول المرتل، فإن الشعور بخطاياي قد أسرني. "أجلسني في الظلمات مثل الموتى منذ الدهر". مثل أولئك الذين ماتوا منذ زمن بعيد، وإن كانوا ليس بالحقيقة هم أموات. كيف هذا؟ لأنه منسحق القلب، إن أخطأ أحد ولم يتب فهو ميت منذ زمن طويل. إنه لا يشبه هؤلاء الموتى، بل بالحقيقة هو ميت. هذا ما أراد العدو أن يضمنه في حالتي، ألا أندم على خطاياي التي حثني على ارتكابها[13]. القديس جيروم الأب أنسيمُس الأورشليمي أَعْيَتْ فِيَّ رُوحِي. تَحَيَّرَ فِي دَاخِلِي قَلْبِي [4]. شعر المرتل أنه قد بلغ إلى أقصى درجات المرارة، فقد صارت نفسه في حالة إعياء، في عجزٍ تامٍ؛ وفقد قلبه حيويته، وصار كمن في حالة لاشعور. بإرادته قبل السيد المسيح الموت، واجتازه حقًا، لكي يقيمنا معه. لقد صرخ: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت". * تذكروا: "نفسي حزينة جدًا حتى الموت" (مت 26: 38). هنا نسمع صوتًا واحدًا. ألا نرى بوضوح الانتقال من الرأس إلى الأعضاء، ومن الأعضاء إلى الرأس؟[14] القديس أغسطينوس لَهَجْتُ بِكُلِّ أَعْمَالِكَ. بِصَنَائِعِ يَدَيْكَ أَتَأَمَّلُ [5]. يقصد بأيام القدم معاملات الله معه ورعايته له في الماضي، وأيضًا معاملاته مع المؤمنين. مثل كل رجال الله في العهد القديم يجد المرتل رجاءه في الرب خلال وعوده مع آبائه. "تصنع الأمانة ليعقوب، والرأفة لإبراهيم، اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القدم" (مي 7: 22). أما مؤمنو العهد الجديد، فمع تذكرهم لمعاملات الله ووعوده مع رجال الله، يمتلئون رجاءً في المسيح يسوع، الذي فيه تحققت الوعود الإلهية مع الآباء، وتحققت غاية الناموس، كقول الرسول: "لأن غاية الناموس هي المسيح للبرَّ لكل من يؤمن" (رو 10: 4). يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن المرتل يتأمل في أيام القدم من خلال الكتاب المقدس، حيث يقدم لنا معاملات الله مع المؤمنين الأولين، فيمتلئ رجاءً. لذلك يقول الرسول بولس أيضًا: "كل الكتاب هو موحى به من الله، ونافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب. الذي في البرّ" (2 تي 3: 16). ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح قد قبل الآلام حتى أعيت فيه روحه لكي بآلامه الحقيقية النابعة لا عن خطية ارتكبها، بل عن خلاصه وحبه لنا، فإننا نحن بدورنا نشاركه آلامه بكل حب، ونلهج بأعماله، ونتأمل بصنائع يديه في إبداعه بخلقتنا وخلاصنا. * "تذكرت أيام القدم" إنني أتذكر الأيام التي عبرت، وكيف كنت في ثقة، أما الآن فأنا في ليل كلي السواد[15]. القديس جيروم نَفْسِي نَحْوَكَ كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ. سِلاَهْ [6]. في المزمور السابق يتحدث المرتل عن بسط يديه كذبيحة مسائية. هنا يبسط يديه ليعلن عطش نفسه إلى الله، إنها كأرضٍ يابسة تترقب مطر الروح القدس يرويها ويحولها إلى فردوس إلهي. إذ نلتصق بالمصلوب نبسط أيادينا معه، لكننا لا نحمل مطرًا، إنما نعلن عن عطشنا إليه فيروينا بنعمته، ونحمل ثمر الروح. * يقول: "بسطت إليك يديَّ. نفسي نحوك كأرض يابسة". أمطر عليها، لكي تجلب ثمرًا صالحًا. "الرب يعطي عذوبة، وأرضنا تعطي غلتها" (راجع مز 85: 12). إني ابسط يديَّ إليك، نفسي أرض بلا ماء نحوك وليس نحوي أنا. أستطيع أن أعطش إليك، لكنني لا أستطيع أن أروي نفسي[16]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم "تعطش نفسي إليك مثل أرض جافة". كم تصير الأرض ظمآنة وفي حالة جفاف، فتتلمس المطر، هكذا نفسي تتوق وتعطش إليك أنت إلهها[18]. القديس جيروم الأب أنسيمُس الأورشليمي ولكي يحفظ نفسه في المستقبل من كل تهاونٍ يجب عليه ألاّ يتعلّق أبدًا بأدنى راحةٍ جسديةٍ أو نفسيةٍ، بل ليكشف أفكاره أمام الرب نهارًا وليلًا، وليبكِ بلا انقطاعٍ أمام الرب، وليُبكِّت نفسه بكل حزنٍ قائلًا: ”كيف صرتِِ متهاونةً حتى الآن؟ كيف بقيتِِ مُقفِرةً كل هذه الأيام؟" ولكي يتذكر دائمًا الدينونة والملكوت الأبدي، عليه أن يُبكِّت نفسه باستمرار قائلًا لها: ”كيف؟! لقد أجزل الله لكِِ كل هذه الكرامات وأنتِِ تعيشين في التهاون؟ لقد أخضع لكِ الخليقة كلها وأنتِ لا تكونين مطيعة"؟! فمتى قال لنفسه ذلك، مبكِّتًا إياها نهارًا وليلًا وفي كل ساعةٍ، تعود إليه الحرارة الإلهية سريعًا، ولكنها حرارة أفضل من كل وجهٍ من الأولى. لما شعر الطوباوي داود بالضجر ينهال عليه قال: "تفكّرتُ في أيام، القدم في السنين الدهرية، وكنتُ أتأمل" (راجع مز 77: 5-6). وأيضًا: "تذكّرتُ الأيام الأولى ولهجتُ في كل أعمالك، وفي صنائع يديك كنتُ أتأمل، بسطتُ إليك يديَّ، صارت نفسي لك مثل أرضٍ بلا ماءٍ" (مز 143: 5-6). فمتى استعَدْتَ الحرارة داخلك، تفرّغ للهذيذ بعظائم الله، وحينئذٍ ستخلص بنعمة الآب والابن والروح القدس إلى أبد الدهور آمين[19]. القديس مقاريوس الكبير [FONT=""]2. أجبنا يا رب [/FONT] أَسْرِعْ، أَجِبْنِي يَا رَبُّ. فَنِيَتْ رُوحِي. لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي فَأُشْبِهَ الْهَابِطِينَ فِي الْجُبِّ [7]. كثيرًا ما يردد المرتل كلمة "أسرع"، فهو في حالة طوارئ مستمرة، يطلب النجدة السريعة، فقد صار كمن على أبواب الموت. ومن جانب آخر، ففي دالة يطلب من الله سرعة التصرف. إذ يتأنى الله في الاستجابة، نظن أنه حجب وجهه عنا. لذلك يسأله المرتل ألا يحجب وجهه عنه مهما كانت خطاياه، فإن في هذا موت له! كثيرًا ما نشعر كأن الله قد حجب وجهه عنا، لكن كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن السبب الحقيقي في هذا هو خطايانا، كما قيل بإشعياء النبي: "ها إن يد الرب لم تقصر عن أن تخلص، ولم تثقل أذنه عن أن تسمع، بل آثامكم صارت فاصلة بينكم وبين إلهكم، وخطاياكم سترت وجهه عنكم حتى لا يسمع" (إش 59: 1-2). يسقط الخاطئ كما في جبٍ، فيحتاج إلى حبال الكتاب المقدس كي تربط إرادته، وترفعه من الجب. يدعونا الذهبي الفم إلى تحقيق ذلك قائلًا: [إن كنا بعد السقوط لا يخور قلبنا ولا نيأس، بل نغني لأنفسنا بهذه الكلمات الموحى بها: "هل يسقطون ولا يقومون" (إر 8: 4). وأيضًا: "اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم، كما في مريبة" (مز 95: 7-8). لنربط أنفسنا بهذه الأفكار ونسحب أنفسنا (من الجب)[20]]. * "أسرع، اسمعني يا رب". فإنه ما الحاجة بعد إلى التأجيل لإلهاب عطشي، إن كنت أنا بالفعل هكذا بغيرة أعطش (إليك)؟ لقد أرجأتَ المطر، لكي ما أشرب، وأشرب من فيضك الذي كنت أرفضه. إن كنت أرجأته لهذا السبب، فالآن لتهبني المطر، فإن روحي قد فنيت. دع روحك يملأني. هذا هو السبب أن تسرع وتسمعني. الآن أنا مسكين بالروح، هب لي أن أُطوّب في ملكوت السماوات (مت 5: 3)... "لا تحجب وجهك عني"، فإنك تنزعه عني عندما أتكبر. مرة كنت في حالة شبعٍ، وفي شبعي انتفخت. في شبعي قلت لن أتزعزع، ولم أدرك برَّك، ومساندتك لي. لكنك يا رب بمشيئتك وهبت قوة لجمالي. قلت في شبعي لن أتزعزع، مع أن من عندك ما هو لدي من شبعٍ، ولكي تؤكد لي أن ما لدي هو من عندك حجبت وجهك عني فارتعبت (مز 30: 6، 7). بعد هذا الرُعب طُرحت، لأنك حجبت وجهك عني. بعد ضجر روحي، اضطرب فيَّ قلبي في داخلي، لأنك حجبت وجهك عني، وصرت مثل أرض يابسة نحوك. لا تحجب وجهك عني! حجبته عني حين كنت متكبرًا، رده لي فإني الآن في مذلة. إن حجبته عني، أصير مثل من يهبط في الجب... لا تسمح للجب أن يغلق فمه عليَّ[21]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم لأَنِّي عَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ. عَرِّفْنِي الطَّرِيقَ الَّتِي أَسْلُكُ فِيهَا، لأَنِّي إِلَيْكَ رَفَعْتُ نَفْسِي [8]. يريد أن يسمع صوت الرب، فإن كلماته حلوة ومُشبعة، لأنها تعلن عن حب الله وحنوه ورحمته. القيادة الإلهية لا غنى عنها، فإننا بحق لا نعرف الطريق، ما لم يقدم الطريق نفسه لنا. نلتصق به، ونتحد معه، فنستعذب صليبه، ونتمم رسالتنا التي وضعها لنا المخلص. * فلأسمع بالغداة (في الصباح) رحمتك، فإني فيك أترجى". انظر، إنني في ليلٍ، لكنك فيك رجائي، حتى يعبر إثم الليل. وكما يقول بطرس: "وعندنا الكلمة النبوية، وهي أثبت، التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراجٍ منير في موضع مظلمٍ إلى أن ينفجر النهار، ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم" (2 بط 1: 19). "الصباح" إذن هكذا يدعو الوقت بعد نهاية العالم، عندما نرى ما نحن نؤمن به هنا في هذا العالم. ولكن ماذا هنا حتى يحل الصباح؟ إنه لا يكفي أن نترجى الصباح، يلزمنا أن نفعل شيئًا. لماذا نفعل شيئًا؟ لكي نطلب الله بأيادينا في الليل. ماذا تعني نطلب بأيادينا؟ نطلب بالأعمال الصالحة. يلزمنا هكذا أن نرجو الصباح ونحتمل هذا الليل، ونثابر بالصبر حتى الفجر، لماذا يلزمنا أن نفعل هنا؟ لئلا تظنوا أنكم تفعلون شيئًا بذواتكم به تتأهلون أن تأتوا إلى الصباح، يقول: "عرفني يا رب الطريق التي أسلك فيها[24]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم القديس جيروم الأب أنسيمُس الأورشليمي إِلَيْكَ الْتَجَأْتُ [9]. تهديدات الأعداء المستمرة ومقاومتهم له الظاهرة والخفية دفعته أن يلجأ إلى الله ليخلصه. * "أنقذني من أعدائي يا رب إليك التجأت". أنا الذي هربت مرة منك، الآن أهرب إليك. فإن آدم هرب من وجه الله، واختفى بين أشجار الفردوس، فقيل عنه في سفر أيوب: "مثل عبد هارب من وجه سيده، ووجد ظلًا" (أي 7: 2 LXX). ويل لي، إن بقيت تحت الظل، لئلا يُقال فيما بعد: "كل الأشياء تعبر مثل ظلٍ" (حك 5: 9). لتحاربوا رؤساء هذا العالم، هذه الظلمة، رؤساء الأشرار (إبليس وجنوده). عظيم هو جهادكم، فإنكم لا ترون أعداءكم ومع ذلك تغلبوهم![27] القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي [FONT=""]3. علِّمنا أن نعمل رضاك [/FONT] عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهِي. رُوحُكَ الصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ [10]. مع كل تمتع بالنصرة، ندرك بالأكثر حاجتنا إلى روح الله القدوس ليعلمنا الحق الإلهي. يليق بالمؤمن في وسط شدته أن يصرخ إلى الله، فيهبه أن يعمل فيه روحه القدوس الذي يقودنا ويهدينا إلى العمل حسب مرضاته أو مشيئته الإلهية، فنسلك الأرض المستقيمة، أي نبلغ أرض الأحياء. نحتاج ليس فقط أن نتعلم، وإنما أيضًا إلى التدرب العملي على حياة الطاعة لله وتنفيذ مشيئته الإلهية. هذا والروح القدس وحده قادر أن يقودنا في أرض مستوية خالية من المخاطر المخفية. يستخدمها القديس جيروم للرد على الأريوسيين بأن الآب أعظم من الابن، وأنه هو وحده الصالح. إن كان الروح القدس الذي يحسبه الأريوسيون أقل من الابن، يدعوه المرتل "الصالح" فكيف لا يكون الابن هو أيضًا الصالح؟! * "علمني أن أعمل مشيئتك، لأنك أنت هو إلهي". يا له من اعتراف مجيد! يا له من نظام مجيد! يقول: "لأنك أنت هو إلهي". لو أن آخر قد خلقني لكنت أسرع إليه ليعيد خلقتي. هل أبحث عن أبِ لكي أنال ميراثًا؟ أنت هو إلهي، ليس فقط تهبني ميراثي، بل أنت هو ميراثي نفسه! هل أبحث عن نصير يحييني، فأنال فداءً؟ أنت هو إلهي... لا يمكن أن تكون أنت إلهي، ومع هذا أجعل من نفسي سيدًا لها... لتقولوا: "روحك الصالح يهديني في الأرض المستقيمة"، لأن روحي تقودني إلى أرض ملتوية. وماذا أستحق؟ وما قيمة أعمالي الصالحة بدون عونك، الذي به أنال وأتأهل أن يقودني روحك إلى الأرض المستقيمة[28]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي * لم يقل فقط: "علمني إرادتك"، إنما "إن أعمل إرادتك (رضاك)، بمعنى لتقودني إلى تنفيذ إرادتك عمليًا. فإنه توجد حاجة إلى النعمة من فوق، وإلى تعلمها من هناك لكي أسلك الطريق إلى الفضيلة. ليس بأن أبقى عاطلًا، وإنما أن أساهم أيضًا فيما تُساهم فيه أنت."لأنك أنت إلهي". ألا تلاحظون طلباته الروحية؟ فقد قدم سؤاله لا ليقتني شيئًا أو ليحقق مجدًا، وإنما لكي يتمم إرادة الله، وهذا كنز كل الصالحات، وثروة لا تنقص، وبداية الرضا وجذره وطريقه وغايته. "روحك الصالح يهديني في أرض مستوية". ألا تلاحظون كيف نتعلم ونتدرب أن ننهي رحلتنا بالروح القدس؟ لهذا يقول أيضًا بولس: "فأعلنه الله لنا نحن بروحه القدوس" (1 كو 2 : 10). "في أرض مستوية". بالمعنى السطحي يقصد "وطنه"، وبالمعنى الروحي يعني الطريق المؤدي إلى الفضيلة... ليس شيء ممهدًا وسلسًا مثل الفضيلة، ليس فيها مخاوف ولا اضطربات[29]. القديس يوحنا الذهبي الفم * يليق بنا أن نسرع بالأكثر لنرى عمل الله أكثر من عملنا نحن. فإننا إن خدمنا بأية صورة نكون مدينين له (بهذا العمل) لا للبشر. لهذا يقول الرسول: "ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي"[31]. * إذ لا يمكن للرسل أن يحققوا شيئًا إن لم يقدم الله النمو، فكم يكون الأمر بالنسبة لكم ولي أو لأي شخصٍ في أيامنا الذي يتباهى بأنه معلم[32]. القديس أغسطينوس انظروا ماذا نطق صوت الرب عن الروح القدس. جاء ابن الله، وإذ لم يكن قد أرسل الروح أعلن أننا كنا نعيش مثل أطفالٍ صغارٍ بدون الروح. قال إن الروح القدس يأتي، هذا الذي يجعل هؤلاء الأطفال الصغار رجالًا أكثر قوة، وذلك بنموهم أي في العمر الروحي. وقد أوضح ذلك لا ليجعل قوة الروح في المركز الأول، وإنما ليظهر أن كمال القوة يتحقق بمعرفة الثالوث القدوس[33]. * ما هو الروح القدس إلا كمال الصلاح؟ هذا الذي وإن كان لا يمكن نوال طبيعته، وإنما يمكننا نوال صلاحه، يملأ كل شيءٍ بسلطانه، إنما فقط يتمتع الأبرار بالشركة فيه، وهو بسيط في جوهره، غني في فضائله، حاضر بالنسبة لكل أحدٍ، يقسم مما له لكل واحدٍ، وهو بكامله في كل موضع[34]. القديس أمبروسيوس بالتأكيد كان لدى داود الفهم الموهوب له بالطبيعة، كما كان لديه إلمام تام بمعرفة وصايا الله المحفوظة في كتاب الشريعة، ومع هذا نجده يظل مصليًا إلى الله لكي يعلمه الشريعة بإتقان... فما حصل عليه من فهم حسب الطبيعة لا يكفيه، ما لم ينر الله علي فهمه يوميًا، لكي يفهم الشريعة روحيًا، ويعرف وصاياه بوضوح. كذلك أعلن الإناء المختار هذا الأمر "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا، وأن تعملوا من أجل المسرَّة" (في 13:2). أي وضوح أكثر من هذا أن مسرتنا وكمال عملنا يتم فينا بالكمال عن طريق الله؟! وأيضًا: "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله"، وهنا يعلن بأن توبتنا وإيماننا واحتمالنا للآلام هذا كله عطية من الله. يعلم داود أيضًا بذلك فيصلي مثله لكي يوهب له هذا من قبل رحمة الله، قائلًا: "أيّد يَا الله هذا الذي فعلتهُ لنا" (مز 28:68)، مظهرًا أنه لا يكفي فقط أن يوهب لنا بداية الخلاص كهبة ونعمة من قبل الله، بل ويلزم أن يكمل ويتمم بنفس تحننه وعونه المستمر. لأن ليس بإرادتنا الحرة، إنما "الرب يطلق الأسرى"، ليس بقوتنا، لكن "الرب يُقوّم المُنحنين"، ليس بالنشاط في القراءة، بل "الرب يفتح أعين العُمْي"، ليس نحن الذين نعتني بل "الرب يحفظ الغرباءَ"، ليس نحن الذين نُعضد، إنما الله "يُعضد اليتيم والأرملة" (مز 7:146-9)[35]. الأنبا بفنوتيوس القديس باسيليوس الكبير [FONT=""]4. أحينا [/FONT] مِنْ أَجْلِ اسْمِكَ يَا رَبُّ تُحْيِينِي. بِعَدْلِكَ تُخْرِجُ مِنَ الضِّيقِ نَفْسِي [11]. إن كنا نشعر مع المرتل أننا قد انسحقت حياتنا إلى الأرض [3]، فصرنا كالأموات، فإنه ليس من يقدر أن يقيمنا من القبر سوى مخلصنا نفسه. لذلك يحتمي المرتل في اسم الرب يسوع المسيح ليتمتع بالحياة الأبدية، ويطلب برَّه (عدله)، فهو الطريق الذي به ينجو من الضيق. * أنصتوا إذن بكل طاقتكم إلى امتداح النعمة التي بها نخلص بلا ثمن. "من أجل اسمك يا رب تحييني ببرِّك". ليس ببرِّي، وليس لأني مستحق. أما عن استحقاقي، فأنا لا أستحق منك سوى العقوبة! إنك تنقيني (تقَّلمني) من استحقاقاتي، وتطَّعمني بعطاياك. "تخرج من الضيق نفسي"[36]. القديس أغسطينوس "تخرج من الضيق نفسي": "صلوا لئلا تدخلوا في تجربة" (مر 14: 38)[37]. القديس يوحنا الذهبي الفم الأب أنسيمُس الأورشليمي وَتُبِيدُ كُلَّ مُضَايِقِي نَفْسِي، لأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ [12]. استئصال عدو الخير هو من قبيل رحمة الله وعدله في نفس الوقت. * "وبرحمتك تستأصل أعدائي"، ليس لأني مستحق ذلك، وإنما من أجل رحمتك تحررني من الذين يحاربونني، أنقذني من الذين يدبرون المكائد، هب لي أن تحررني من الضيق. "وتبيد كل مضايقي نفسي، لأني أنا عبدك". لاحظوا مرة أخرى كيف تتحقق الطلبة. إنه ليس بسهوله ننال طلبتنا، إنما يلزمنا أن نجعل أنفسنا أهلًا لذلك، وأن نساهم من جانبنا ما يلزم أن نساهم به. وبهذا نقدم طلبتنا. طبيعيًا الصلاة (المجردة) غير كافية في ذاتها. فاليهود صلوا، وكانت الإجابة: "وإن أكثرتم الصلاة لا أسمع" (إش 1: 15). لماذا تندهشون لهذا إن كان (حزقيال) نفسه لم يُسمع له. فقد قيل: "إن جاء نوح وأيوب ودانيال لا يخلصون أبناءهم وبناتهم" (راجع حز 14: 14). لتدركوا هذا، فلا نصلي فقط، وإنما مع الصلاة نجعل أنفسنا أهلًا لنوال البركات الحاضرة والمستقبلة[38]. القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 143 إليك وحدك أصرخ! * إلى من أصرخ إلا إليك، فأنت أمين على الدوام في وعودك! وعدت أن تنصت إلى عبيدك! أنت قريب منهم، مستعد دومًا لتسمع لهم. لأتهيأ للاقتراب إليك، أنت هو الطريق، والحق، أسلك فيها، فالتقي بك. ألتحف بك، فتسترني بحقك وبرِّك. تستجيب لي بنعمتك، وتفيض عليّ بسخائك! وليس لي ما أقدمه من ذاتي، إنما أبحث عن رحمتك وحقك وبرِّك! * إليك وحدك ألجأ، لأنك إله رحوم وطول الأناة. لن يتبرر أحد أمامك، حتى إبراهيم وإسحق ويعقوب، لكن وأنت بعدلٍ تؤدب، إنما لكي برحمتك تدفعنا للرجوع إليك، فننعم علينا بغنى رحمتك. لن يتبرر أمامك طفل ابن يومٍٍ واحدٍٍ، لكنك تريد أن الكل يخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون. ليس من يدافع عنا أمامك سوى الالتجاء إليك! * احتلَّ أبشالوم الابن المحبوب مركز العداوة، لم يكن يقبل أقل من رأس أبيه داود بجانب عرشه. أراد أن يدخل بأبيه إلى ظلمات القبر، دون جريمة ارتكبها أبوه في حقه! انسحق داود في داخله، واختبر الجلوس مع الموتى في الظلمات! من يقدر أن يحرره من ظلمات القبر سواك؟ * إلهي هوذا العدو يحدرني إلى ظلمات الجحيم. يجد لذَّته في هلاكي، وسعادته في شقائي الأبدي! هب لي جناحي الروح فأطير! أسمع صوتك، يا أيها القيامة، فأنطلق إليك! تحملني إلى سماواتك، وتدخل بي إلى أحضان أبيك السماوي! لا تقدر أبواب الهاوية أن تحبس نفسي، ولا متاريس الجحيم أن تقف أمامك! أنت محرر نفسي القدير! * من يشعر بمرارة نفسي سواك، يا من بإرادتك اجتزت موت الصليب، وإذ تطلَّعت إلى ما بلغت أنا إليه، صرخت قائلًا: نفسي حزينة جدَا حتى الموت"! إنك لم تخف الموت الذي بإرادتك اقتحمته، لكنك حزين على النفوس الساقطة، التي ترفض أن تقبل القيامة بك من موتها! * أتطلع إلى أيام القدم، فتمتلئ نفسي من بهاء حبك. أعمالك تشهد لقدرة خطة خلاصك! أنت هو مخلص العالم العجيب: أنت هو معين من ليس له معين، ورجاء الذين يلتصقون بك. وحدك قادر أن تقيم من موت الخطية، وتدخل بي إلى شركة الأمجاد السماوية! أسجد عند قدميك، وأبسط إليك يديّ. ماذا أطلب سوى أن ترتوي نفسي من مياه حبك؟! نفسي أرض يابسة ظمآنة إليك! صليبك يحوِّلها إلى فردوس مثمر ومفرح! تمطر عليها بمياه روحك القدوس، فتحمل أعماقي ثمر الروح السماوي، وتجدد على الدوام أعمالي، فأسترد الصورة الإلهية المفقودة، وأنعم بغنى نعمتك الفائقة! * أعترف لك أنني في غباوتي سقطت في الكبرياء. ظننت أنني قادر أن أشبع بذاتي. حجبت وجهك عني لأدرك حماقتي. الآن نفسي كأرض يابسة، تحتاج أعماقي أن ترتوي منك. أسرع إليّ وليروي روحك القدوس نفسي! أسرع إليّ، فإني في خطر الموت، فإنه لا حياة لي إلا بالالتصاق بك! * أصرخ إليك لكي تعلم ذاتك لي. أنت هو الطريق، تحملني فيك، فأسير إليك. ترفعني إليك، وتدخل بي إلى أحضانك. لقد هربت منك، فحُرمت من وجهك. الآن أهرب إليك، فأتمتع بالحياة! التجئ إليك، فأنت ناصري من إبليس وكل قواته! * أصرخ إلي، فيقودني روحك القدوس، يهديني إلى العمل بإرادتك المقدسة، وأسلك في طريق مستوية بعيدة عن المخاطر. يسكن في أعماقي، ويطير بي كما إلى السماء. لا تتعثر قدمي في فخاخ العالم، ولا تنحرف نفسي يمينَا أو يسارًا عن الشركة معك! يفتح بصيرتي، فأنمو في معرفة وصاياك. وأعمل حسب مسرَّتك الإلهية. يجدد مثل النسر شبابي، يسير بنا ومعنا في الطريق الإلهي. يحفظنا ويعيننا ويحررنا ويحكِّمنا! * أصرخ إليك، وليس لي ما أقدمه لك. اسمك القدوس يشفع فيَّ، من أجله تقيمني كما من الموت يا أيها القيامة! ببِّرك تخرج نفوسنا من الضيق، برحمتك تبدد مؤامرات إبليس وكل أعماله. تحررني من العبودية له، فأمارس البنوة لأبيك السماوي، وأتمتع بمجد البنين, بك تؤهلنا للبنوة، وبك ننعم بعربون السماء، ونحن بعد في الجسد. وبك نرث الأمجاد التي تعدَّها لنا. |
||||
22 - 07 - 2014, 07:51 PM | رقم المشاركة : ( 168 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 144 - تفسير سفر المزامير المعركة الروحية يقدم لنا داود النبي تسبحة شكر لله الذي يدرب أولاده على مقاومة عدو الخير، والقتال، لكي يكتشفوا شخصية الرب المخلص وعمله ومعاملاته الفائقة. يقف المرتل في حيرة، لا يجد ما يمكن أن يعبر به بلغةٍ بشريةٍ عن حقيقة حب الله ومعاملاته مع كنيسته، كما مع كل مؤمنٍ عضو فيها. إنه أحد مزامير المعارك التي تعيننا في معركتنا الروحية ضد إبليس وقواته. نحتاج إلى الرب نفسه قائد المعركة بالصليب أن يدربنا على المعارك الروحية قبل الدخول فيها. نحن في أنفسنا لا شيء، لكن الله يحبنا ويهيئنا بنفسه لنتأهل بإمكانيّاته للدخول في المعارك الروحية. إنه لا يخبرنا على الدوام كيف يُعدّنا، لهذا يليق بنا أن نسلم حياتنا بين يديه في يقين أنه واهب النصرة لمؤمنيه الحقيقيين. لقد سمح الله لداود في صباه أن يصارع دُبًّا وأسدًا، ولم يكن يدرك أنه كان يُعدّه للمعركة مع جليات الجبّار. يليق بنا أن نرتدي أسلحة الله الواردة في أف 6: 10-18 في كل صباحٍ، فنكون مستعدين لسماع صوت البوق. إذ نرى بالإيمان الحيّ يد الله القوية تعمل معنا وبنا لا نخاف من الدخول في معركة الرب. إنه لن يتخلّى عنا (2 أي 20: 14-19). يليق بنا أن نقدم تسبحة شكر لله من أجل مساندته لنا كأشخاصٍ [9-11]، ولعائلاتنا [12]، وللجماعة كلها [13-15]. 1. الله صخرتي ورحمتي 1-4. 2. متى يتحقق تجسدك 5-10. 3. عدو مخادع 11. 4. لماذا يسمح الله بمقاومة العدو؟ 12-15. من وحي مزمور 144 العنوان لِدَاوُدَ جاء عن الترجمة السبعينية: "لداود بإزاء جليات". * عنوان هذا المزمور مختصر في عدد كلماته، لكنه ثقيل في أسراره. "لداود نفسه ضد جليات". هذه المعركة قامت في أيام آبائنا، وتتذكرونها أيها الأحباء معي من الكتاب المقدس... وضع داود خمسة حجارة في جرابه، لكنه قذف حجرًا واحدًا. الخمسة أسفار قد اختيرت لكن وحدتها قد غلبت. لقد ضربته وطرحته، وأخذ سيف العدو، وبه قطع رأسه. لقد طرح (السيد المسيح) الشيطان بأسلحته، وإذ بالعظماء الذين تحت سلطانه حولوا ألسنتهم للعمل ضد الشيطان، فقُطعت رأس جليات بسيفه[1]. القديس أغسطينوس 1. الله صخرتي ورحمتي مُبَارَكٌ الرَّبُّ صَخْرَتِي، الَّذِي يُعَلِّمُ يَدَيَّ الْقِتَالَ، أَصَابِعِي الْحَرْبَ [1]. يسبح المرتل الرب، لأنه هو الكل في الكل في معركته في هذه الحياة. هو الذي يدرِّبه على مواجهة العدو. وهو الصخرة، فيه يختفي من إبليس العدو العنيف، ولا تستطيع الحية أن تزحف على الصخرة لتقترب من المؤمن الساكن فيها. * هذه هي كلماتنا إن كنا جسد المسيح. يبدو هنا تكرار للفكرة: "أيادينا للقتال"، و"أصابعنا للحرب". بلا شك كل من الأيادي والأصابع تعمل. لذلك ليس بدون سبب نستخدم الأصابع عوض الأيادي. بالأصابع نعرف تنوع العمل، مع نوعٍ من الوحدة. بهذه الأصابع يحارب جسد المسيح، يقيم حربًا، يقيم معركة... وبأعمال الرحمة يُهزم عدونا، لكن لن نستطيع أن تكون لنا أعمال رحمة ما لم يكن فينا حب، ولن تكون فينا محبة ما لم نتقبلها بالروح القدس. فهو إذن يعلم أيادينا المعركة وأصابعنا الحرب. وبالحق نقول له: "أنت رحمتي"، إذ به نكون رحماء، فإن الحكم بلا رحمة لمن لا يُظهر رحمة (يع 2: 13)[2]. القديس أغسطينوس القديس جيروم على أي الأحوال، توجد حرب أشر من هذه، فيها تحتاج إلى نعمة خاصة من الأعالي، عندما ندخل في معركة ضد القوات المقاومة. الآن لتأكيد أن معركتنا معهم، اسمع قول بولس: "فإن مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع الرؤساء مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات" (أف 6: 12)[4]. القديس يوحنا الذهبي الفم لذلك نحن المسيحيين بعد أن خلصنا من أسر بابل المعنوية التي هي الخطية بواسطة المعمودية المقدسة والإيمان بالمسيح، لم يزل قائمًا علينا قتال أشد من القتال الحسي المنظور، لأنه قتال من أجواق طبيعتها غير طبيعتنا، وهي غير منظورة أيضًا، والجهاد القائم بيننا ليس من أجل أمرٍ يسير، وإنما من أجل خلاص نفوسنا أو هلاكها. وأما المقاتلون فلا تبصرهم أعيننا، ولا لزمنٍ محددٍ، بل في كل وقتٍ وفي كل مكانٍ القتال قائم بلا مهلة له. ليس من شفعاء يتوسطون له، ولا من أعلام للقيام به. لهذا ينبغي علينا أن نكون دومًا مستعدين، متذرعين من كل جانب، وأما الأتراس والمجن التي نحتمي فيها فهي ممارسة وصايا الله. وأما غذاؤنا الذي يقوينا فهو دراسة الأسفار المقدسة، واستعانتنا بالله الذي يعلم أيادينا القتال ضد المصاف الشيطانية، ويعلم أصابعنا أن نرشم الصليب على جباهنا وقلوبنا وعلى يسارنا ويميننا. بهذا الرشم نحارب ونقهر القوات المضادة كما بسلاح قوي، لأنه صليب ذاك الذي رحمنا بأكفانه، ونصرنا على أعدائنا، وأنقذنا من اقتدارهم، ويعضدنا بحمايته. الأب أنسيمُس الأورشليمي رَحْمَتِي وَمَلْجَأي،صَرْحِي وَمُنْقِذِي، مِجَنِّي، وَالَّذِي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، الْمُخْضِعُ شَعْبِي تَحْتِي [2]. المبدأ الذي على أساسه يتعامل الله مع المؤمنين المخلصين والجادين في حياتهم هو الرحمة الإلهية. يحتضن الله مؤمنيه وسط معركة الحياة ويكون لهم الملجأ الأمين، إليه يهربون ويعيشون في أمان. هو الحصن الذي يحتمون فيه، والبرج الذي من خلاله يدركون أبعاد المعركة، وهو واهب النصرة للمتكلين عليه. من هو هذا الشعب الذي يحتاج الإنسان إلى الله لكي يخضعه، سوى حواس الإنسان وعواطفه وأفكاره، أي إنسانه الداخلي، فبالمسيح يسوع يصيَّرنا ملك الملوك ملوكًا أصحاب سلطان على أعماقنا الداخلية خلال عمل روحه القدوس، وبعمل نعمته الإلهية. * "رحمتي وملجأي، صرحي ومنقذي". يا له من كفاح عظيم للمقاتل، حيث يشتهي جسده ضد روحه. لتحتفظ بهذا، فتحقق ما تشتهيه، عندئذ يُبلع الموت في غلبةٍ (1 كو 15: 54)، عندما يقول هذا الجسم المائت يتغير إلى حالة الملائكة ويرتفع إلى مستوى سماوي... توجد حياة، أيام صالحة، حيث لا توجد شهوة ضد الروح، ولا يُقال: "حارب" بل "افرح". بالتأكيد كل إنسان يقول: "هأنذا"... تعلموا أن تقولوا: "رحمتي وملجأي، صرحي ومنقذي، حاميَّ (مجني). لأقل: "صرحي" كي لا أسقط؛ "منقذي" لئلا ُأطعن؛ "حاميَّ" حتى لا أُضرب. في هذا كله، وسط كل كدِّي، في كل معاركي، في كل مصاعبي، فيه أجد رجائي "المخضع شعبي تحتي". انظروا فإن رأسنا يتحدث معنا![5] القديس أغسطينوس "الذي أخضع لي شعبًا" هذه الكلمات يُنطق بها في اسم المسيح بالطبع بالنسبة لتجسده. هذه أيضًا يمكن أن ينطق بها الرسل. بنفس الطريقة فإن أب الدير يشكر الله ويقول: "مبارك الرب إلهي الذي يخضع لي شعبًا، فإنهم ليسوا خاضعين لي بل لك، يطيعونني لكي يخدموك"[6]. القديس جيروم يقول إنني لا أطلبها خلال أعمالي. فإن كان هو "الرحمة"، إلا أنه لا يتمتع بها كل أحد بالتساوي. يقول: "أرحم من أرحم، وأتراءف على من أتراءف" (عا 8: 11). يقول المرتل إنه يتقبل عطية الرحمة ذاتها على هذا الأساس (أن الله رحوم). ألا ترون روحه المنسحق؟ ألا تلاحظون سلوكه الشاكر، إذ ينسب كل شيء لله المحب؟ "سندي، منقذي، مُجني، فيه رجائي". على الدوام يوجه الرجاء نحو الله، معلمًا كل أحدٍ ألا يُبتلع بواسطة المتاعب، وإنما في وسط الكوارث ذاتها يشتاق إلى هذا الاتجاه، ولا ييأس ولا يخور قلبه، فهو فوق كل شيء "سندي ومنقذي"[7]. * "المخضع شعبي تحتي". وضع هذا حسنًا، فإنه هنا أيضًا توجد حاجة للعون من الأعالي، حتى يخضع له الذين تحته، ولا يثورون أو يقومون عليه. يؤكد، أنه ليس فقط خضوع الأعداء والخصوم، وإنما أيضًا شعب الإنسان، فإننا في هذا نحتاج إلى نعمة عظيمة من الأعالي. في الواقع إنه إنجاز عظيم أن يطيعه شعبه حسنًا؛ هنا لا يتحدث عن الغلبة على الأعداء... بالتأكيد لا يقوم خضوع الجيوش على ملوكية الشخص، وإنما على نعمة الله له[8]. القديس يوحنا الذهبي الفم أَوِ ابْنُ الإِنْسَانِ حَتَّى تَفْتَكِرَ بِهِ؟ [3]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية "يا رب من هو الإنسان أنك ظهرت له، أو ابن الإنسان أنك أعددت له". على ضوء عظمة الله، خاصة في حبه ورعايته ودفاعه عن الإنسان حتى يقدم كل شيء للإنسان من أجل سعادته وشبعه وفرحه ونموه الدائم، يقف المرتل في دهشة: من يكون الإنسان حتى يقدم الله له كل هذا؟ ويفتكر فيه بهذه الصورة؟ المخلوق الوحيد على صورة الله هو الإنسان، وقد وهبه الله سلطانًا على كافة المخلوقات التي على الأرض، كما قدم له إحسانات فائقة، وقدم له الوصية اعتزازًا به، وفوق الكل تجسد كلمة الله من أجله، وصار إنسانًا ليخلصه من الفساد، ويرد له كرامته المفقودة، ويفتح له أبواب السماء، ويهبه مجدًا أبديًا الخ. من هو هذا الإنسان الذي قدم له الله كل هذه العطايا الفائقة؟ إنه من التراب وأيامه على الأرض تعبر كظلٍ سريع! يقول السيد المسيح للأشرار في يوم الرب العظيم: "لا أعرفكم"، فالمعرفة هنا ليست المعرفة العقلية وإدراك حقيقة الشخص وسماته، إنما معرفة الخبرة والالتصاق بالحب. هكذا أيضًا معرفة الله للإنسان هي معرفة اللقاء معه، ليثبت الإنسان فيه، ويتمتع بالشركة معه! * "يا رب من هو الإنسان أنك صرت معروفًا له... أو ابن الإنسان أنك تقدره". إنك تقَّدره بمعنى تجعله مُهمًا هكذا... يا لعظمة تقديرك للإنسان، الذي من أجله بذلت دم ابنك الوحيد! فإن الله يقَّدر الإنسان، بغير ما يقدر الإنسان إنسانًا آخر... تأملوا عظمة تقدير الله لكم "الذي لم يشفق على ابنه... كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟" (رو 8: 32) الذي يعطي طعامًا هكذا للمصارع، ماذا يحفظ الله للمنتصر؟[9] القديس أغسطينوس لم يقل المرتل "من هو الإنسان لكي يعرفك؟" بل "من هو الإنسان حتى تعرفه؟" لهذا فإن بولس أيضًا باستمرار يتقدم في هذا أكثر فأكثر، فيقول: "لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت" (1 كو 13: 12). وأيضًا يقول المسيح: "لستم أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم" (يو 15: 16). مرة أخرى يقول بولس في موضع آخر: "إن كان أحد يحب الله، فهو معروف عنده" (1 كو 8: 3)[10]. القديس يوحنا الذهبي الفم وماذا يقول؟ إن أخذت في الاعتبار جسده، فمن هو الإنسان؟ إن أخذت في الاعتبار روحه، فهو سامي المنزلة. ليتنا لا نحتقر الجسد بأية وسيلة، إنما نرفض أعماله. ليتنا لا نحتقر الجسم الذي سيملك في السماء مع المسيح. "إن لحمًا ودمًا لا يقدران أن يرثا ملكوت الله" (1 كو 15: 50). ليس الجسد والدم في ذاتهما، إنما أعمال الجسد، كيف إذن سيرثان معًا مع المسيح؛ كيف نجلس في السماء في المسيح (أف 2: 6)[11]. القديس جيروم الإِنْسَانُ أَشْبَهَ نَفْخَةً. أَيَّامُهُ مِثْلُ ظِلٍّ عَابِرٍ [4]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الإنسان شبه الباطل. أيامه مثل ظلٍ تعبر". الإنسان كائن سريع الزوال، أشبه بنفخة أو ظلٍ عابر، كأن لا وجود له. هذا بالنسبة لكل بشرٍ، فمن جانب نمجد الله الذي يهتم بنا، ويُعد لنا أمجادًا أبدية، ومن جانب آخر لا نخاف الإنسان مهما قاوم فإلى حين. * "الإنسان أشبه بالباطل، أيامه مثل ظلٍ عابر". ما هو الباطل؟ الزمن الذي يعبر ويزول. يُقال هذا الباطل في مقابل الحق الذي يثبت ولا يسقط، فإن هذا من عمل يده... مكتوب: "فإن الله ملأ الأرض من صلاحه" (سي 3: 14). هنا "هاء" ضمير الملكية، أي تتوافق معه. أما تلك الأشياء الأرضية التي تتلاشى وتزول، إن قورنت بذات الحق، حيث يُقال: "أنا هو الذي هو" (خر 3: 14)، هذه كلها تُدعى "باطلًا". إنها تزول خلال الزمن، كما يزول الدخان في الهواء. ولماذا أقول أكثر من هذا الذي يقوله الرسول يعقوب: "ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل" (يع 4: 14)[12]. القديس أغسطينوس الآن ما هو معنى "شبه الباطل"؟ يعني كأنه لا شيء، حيث ليس شيء بشري ثابت، وإنما يعبر ويزول. "أيامه مثل ظل عابر"، بمعنى أنهم وهم حاضرون ليس لهم أية قوة، بل بسرعة يُكنسون. لتلاحظوا هذا في الحياة الواقعية، ولتفكروا في أصحاب المراكز العالية، هؤلاء الذين يركبون المركبات، وأصحاب النفوذ، فإنهم يلقون في السجون ويُجلدون. بماذا يختلفون عن الظل، ليس في لحظة الموت بل وحتى قبل الموت...! ما هو حادث هنا يشبه لعبة طفل؛ الآن هو قاضي، وغدًا هو مُدعي عليه، التغير شديد، والتحول يقلب الأوضاع[13]. القديس يوحنا الذهبي الفم * "الإنسان أشبه بنفخة، أيامه مثل ظل عابر". كنت طفلًا؛ كنت صبيًا؛ كنت مراهقًا، كنت فتى، كنت رجلًا بالغ السن، بعد ذلك وقبل أن أتحقق من ذلك أنا شيخ. الموت يزحف نحو الشيخوخة. إني أتغير كل يومٍ، ولم أدرك أنني لا شيء. إننا لا نلاحظ ولو إلى لحظة الزمن الذي يعبر بنا خلال الحياة، إنما دائمًا نحن إما نامون أو نتقلص. إذن يتغير الإنسان من لحظةٍ إلى لحظةٍ. الكل لا يدرك هذا أنه في طريق الموت... حياتنا ظل، تبدو كأن لا كيان لها. ما هو موجود يعبر سريعًا[14]. القديس جيروم كم من كثيرين يشتهون العمر الطويل! كم من كثيرين يحسبون أيام الشباب وقتًا سعيدًا! هكذا كل فترة مختلفة لها بؤسها. عندما نستهجن أنفسنا بسبب حداثتنا، قائلين: لماذا نحن لسنا أكبر سنًا؟ وعندما تكون رؤوسنا في شيبة نتساءل إن كان شبابنا يعود ثانية. الأمور التي تحزننا لا حصر لها. يوجد طريق واحد للهروب من هذا؛ إنه طريق الفضيلة. هذا أيضًا له أحزانه، لكن مع الأحزان لا يكون بلا نفع، إنما نحمل ثمارًا ومكاسب ومنافع[15]. * يبدو لي أن النبي يعني البشر المتغربين عن الله، والمنحرفين عن الحق، الذين حياتهم مملوءة بالعادات الشريرة، يحبون الباطل، ويتكلمون كثيرًا فيما لا معنى له. القديس يوحنا الذهبي الفم * الإنسان الذي على صورة الله لا يكون أشبه بنفخة، أما من يفقدها، ويسقط في الخطية، ويهوي في الأمور المادية، فمثل هذا يشبه نفخة[16].القديس أمبروسيوس 2. متى يتحقق تجسدك يَا رَبُّ طَأْطِئْ سَمَاوَاتِكَ وَانْزِلِ. الْمِسِ الْجِبَالَ فَتُدَخِّنَ [5]. سبق فنزل الرب على جبل سيناء ليهب شعبه الشريعة، لكنه نزل ليلتقي بموسى وحده، ولم يحتمل الجبل نزوله، فصار يدخن، وارتعب الشعب الذي لم يصعد أحد عليه مع موسى النبي. أما في ملء الزمان، فنزل إلينا كواحدٍ منا، وحلّ بيننا، وشاركنا حياتنا ماخلا الخطية. لقد لمس جبل طبيعتنا البشرية، فوهبنا أن يُصلب إنساننا العتيق، وننعم بالخليقة الجديدة التي على صورته. * ما هي السماوات التي تنحني؟ الرسل الذين تواضعوا. فإن هذه السماوات تمجد الله (مز 19: 1). عن هذه السماوات التي تمجد الله يُقال: "لا قول ولا كلام، في كل الأرض خرج منطقهم"[17]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم "المس الجبال فتدخن"... لم يقل المرتل "فتحترق"، بل "تدخن". ليتها تحمل علامة العقوبة![19] القديس جيروم القديس كيرلس الأورشليمي أَبْرِقْ بُرُوقًا وَبَدِّدْهُمْ. أَرْسِلْ سِهَامَكَ وَأَزْعِجْهُمْ [6]. عند نزول الله لكي يسلم موسى الشريعة رافقت البروق والرعود نزوله، فانزعج الشعب، فماذا يكون حال المقاومين حين يأتي الرب ليدين إبليس وجنوده؟! يرى القديس جيروم أن النفوس المتشامخة يبرق عليها بالبروق لا ليهلكها، إنما ليبددها أي يشتتها، كما فعل حين أراد البشر أن يقيموا برجًا يحتمون فيه من الله، فبلبل ألسنتهم وتشتتوا، وكان ذلك لصالحهم، لإقامة أممٍ كثيرة في أماكن مختلفة. يرى القديس أغسطينوس أنه كما أعد داود النبي خمسة حجارة في جرابه ليضرب جليات في معركته معه، هكذا بهذه التسابيح يطلب المؤمن من الله أن يرسل بروقه وسهامه ليضرب، لكي يزعج السالكين بالباطل والمنحرفين الذين ينصبون الشباك للنفس. * البروق والسهام هنا لا تشير إلى تلك البروق والسهام التي نحن نعرفها. إنما يعطي هذه الأسماء عن العقوبات. بالإشارة إلى أشياء نحن نعرف ونقتنع أنها مُزدرى بها وراكدة لا تُرعب، ومع ذلك فهي مخيفة، وتحني الرأس. فإن كنتم لا تحتملون البروق، وهو لم يُرسلها كعقوبة، فكيف يمكنكم أن تقفوا عندما يمارس الله العقوبة؟ الآن سهام الله هي المجاعات والأوبئة والصواعق وغير ذلك من أشكال العقوبة[22]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس أغسطينوس أَنْقِذْنِي وَنَجِّنِي مِنَ الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، مِنْ أَيْدِي الْغُرَبَاءِ [7]. ما هي يد الآب إلا الابن، مدَّها بتجسده، لأجل خلاصنا. يصرخ المرتل إلى الله لكي ينجيه من المياه الكثيرة. وكما يقول القديس جيروم إن هذه المياه هي الهرطقات، عوض هذه المياه نطلب الينبوع الحي، أي المعمودية الواحدة والإيمان الواحد (أف 4: 5). يرى القديس جيروم هذه المياه الكثيرة هي معموديات الهراطقة، لأنهم أبناء الغرباء، لا أبناء الله. * مخلص الجسد هو نفسه يد الله. ما هي النجاة "من يد المياه الكثيرة"؟ أيمن شعوب كثيرة. أية شعوب؟ غير المؤمنين والغرباء (الهراطقة) الذي يهاجموننا من الخارج أو ينصبون شباكًا في الداخل... "من أيدي أبناء الغرباء". اسمعوا يا إخوة، بين من أنتم، بين من أنتم تعيشون، ممن تريدون أن تُنفذوا. "الذي تكلمت أفواههم بالباطل" [8][24]. القديس أغسطينوس الآن يدعو يدًا هنا للمساعدة والإعانة... ويدعو "المياه" أي الهجوم الشرس للعدو، والارتباك والتحرك بقوة عظيمة... يبدو لي أن "الغرباء" (القبائل الغريبة) يُقصد بها هنا المتغربين عن الحق. فإننا ننظر إلى المعينين الحقيقيين هم كأصدقاء وأنسباء، أما الغرباء فهم غير الصادقين[25]. القديس يوحنا الذهبي الفم وَيَمِينُهُمْ يَمِينُ كَذِبٍ [8]. جاء تعبير "يد الله" في العهد القديم يشير إلى الكلمة الإلهي المتجسد. أرسله الآب ليتمم الخلاص من إبليس وعبوديته ويحرر المؤمنين من قوات الظلمة، هؤلاء الغرباء على البشر وقد تسلطوا عليهم. إن كان اليمين يشير إلى الصلاح أو إلى العمل حسب مشيئة الله، حتى أن المؤمنين الحقيقيين يظهرون في يوم الرب عن يمينه، إلا أن الأشرار يمينهم يمين كذب، أي يستخدمون حتى الأمور المقدسة لحساب الشر، مثل الذين يستخدمون اسم الله في الرقي، أو المزامير في السحر، أو المواهب التي للبنيان لحساب الفساد. كان لابني عالي الكاهن يمين كذب، فإن كان أمام تابوت العهد انشق نهر الأردن وعبر الكهنة مع الشعب إلي أرض الموعد، لكن حين حمله الكهنة الأشرار مثل ابني عالي، انهزم الشعب واستولى الوثنيون على تابوت العهد. هكذا باسم المسيح وبقوة صليبه صنع التلاميذ آيات وعجائب، بينما عندما استخدم أبناء سكاوا الذين يمينهم يمين كذب اسم يسوع لطرد الشياطين، هاجمتهم الشياطين وغلبتهم (أع 19: 14). وهكذا لم ينتفع جيحزي الذي يمينه يمين كذب شيئًا بعصا إليشع، لم يكن الضعف في العصا، إنما في حاملها الذي كان فارغًا من نعمة الله. يرى القديس جيروم أن الهراطقة يدعون أن لهم الأيدي اليمين، لكن إذ هي شريرة، فهي ليست يمينية بل شمالية. يقف الشيطان عن يمين الأشرار (مز 109: 6)، لأن يمينهم شريرة. * ألا ترون من هم الذين يدعو غرباء؟ الذين يعيشون في الخطية، الذين يعيشون في الظلم، الذين ينطقون بغباوة، الذين لا ينطقون بأمرٍ نافع. لهذا يمكن التعرف على الغرباء من أفواههم وأعمالهم، كما قال المسيح: "من ثمارهم تعرفونهم" (مت 7: 6)... "يمينهم يمين كذب"، أي شيء يمكن أن يكون أردأ من هذا، إذ يتحول ما ُأعطى لنا لمساعدتنا، ليصير لخداعنا. لدينا يميننا لكي ندافع عن أنفسنا وعن الآخرين من الظلم، لكي ننزع الشر، لكي يكون ميناء وملجأ للذين يصيبهم ضرر. فأي عذر يقدمه هؤلاء الذين يستخدمون هذه الوسيلة لا لخلاص الآخرين بل لدمارهم هم أنفسهم؟[26] القديس يوحنا الذهبي الفم بِرَبَابٍ ذَاتِ عَشَرَةِ أَوْتَارٍ أُرَنِّمُ لَكَ [9]. خلاص الله يهبنا خبرة يومية مفرحة، خبرة عمل روح الله القدوس اليومي في حياتنا، فتتحول حياتنا كما إلى سيمفونية حب متجددة على الدوام ليس فيها أي فتورٍ أو مللٍ. ما هي هذه الترنيمة الجديدة إلا العهد الجديد الذي نصوبه ضد إبليس ونحطمه فلا يهلكنا؟ هذا هو الحجر الذي استخدمه داود النبي بمقلاعه لضرب جبهة جليات. يرى القديس أغسطينوس[27] أن المرتل هنا يربط بين الترنيمة الجديدة والرباب ذات عشر أوتار، فإننا في معركتنا مع إبليس نستخدم العهد الجديد (الترنيمة الجديدة) الذي يكمل العهد القديم (الرباب ذات عشرة أوتار إشارة إلى الوصايا العشرة)، كما يكمل الحب الناموس. الذين ليس لهم الحب لا يستطيعون أن يستخدموا الترنيمة الجديدة ولا الرباب، أي الكتاب المقدس بعهديه. يرى القديس جيرومأن المرتل يتحدث بصيغة المستقبل "سأرنم ترنيمة جديدة"، حين ينال الإنسان النصرة الكاملة عندئذ يرنم ترنيمة جديدة. * بعد أن قال أرسل يدك وأنقذني... يعلن ما يقدمه لله مقابل معونته، والتي لا تمثل أية منفعة لله الذي نرد له (معونته). الآن ما هذا؟ "يا الله، أرنم لك ترنيمة جديدة". فإن هذا قليل بالمقارنة بعظمة الإحسان. إن ما نقدمه هو لا شيء. فإننا نحن أيضًا لا نطلب شيئًا من المحتاجين، ومن لا يملكون شيئًا سوى الشكر والمديح. لكننا نحن نفعل ذلك من أجل الشهرة، أما الله فيجعل هذا ليس عن احتياج، وإنما ليجعل المسبحين أنفسهم في شهرة، ويقدم لهم إحسانًا آخر. "برباب ذات عشر أوتار أرنم لك"، أي أقدم لك تشكرات. في تلك الأيام كانت توجد آلات بها يقدمون التسابيح، أما اليوم فنستخدم الجسد كآلات لها. يمكنك أن تغني بالعينين وليس فقط باللسان. وأيضًا باليدين والقدمين والسمع. أقصد عندما تمارس هذه أعمالًا تكرم الله وتسبحه. كمثال عندما لا تنظر العينين إلى أشياء خليعة؛ ولا تمتد اليدان للسرقة بل للعطاء؛ وتستخدم الآذان لاستماع المزامير والتسابيح الروحية، وتسير القدمان إلى الكنيسة. والقلب لا ينتج مكائد بل حبًا؛ بهذا تصير أعضاء الجسم ربابة أو قيثارة، وترنم ترنيمة جديدة لا بالكلمات، وإنما بالأعمال[28]. القديس يوحنا الذهبي الفم أما نحن أهل العهد الجديد، فنسبح لله تسبيحًا جديدًا كما قال الذهبي الفم: نرنم لكن ليس بآلات عديمة النطق والحس، بل بقوى نفوسنا وأعضاء جسدنا. نسبحه بأبصارنا وأسماعنا، إن منعناها عن اللهو بالدنيويات. وبشفاهنا وأفواهنا إذا جعلناها عفيفة عما لا يليق بلفظة ما، وشغلناها بالصلوات والتسبيح الإلهية. نسبحه بأيادينا إذا مددناها للفقراء بالصدقة والأعمال الصالحة. وبأرجلنا إذا أسرعنا بها إلى هياكل الله. هذا التسبيح الجديد نسبحه للإله الذي يخلص الملوك وجنودهم، ويخلصنا نحن أيضًا، ويجعلنا أمة مقدسة وكهنوتًا ملوكيًا. وهو لم يزل مخلصًا للذين تملكوا وتسلطوا على شهوات الجسد وضبطوها. الأب أنسيمُس الأورشليمي الْمُعْطِي خَلاَصًا لِلْمُلُوكِ. الْمُنْقِذُ دَاوُدَ عَبْدَهُ مِنَ السَّيْفِ السُّوءِ [10]. لا يُقصد هنا بالملوك الأرضيين، إنما بالأتقياء الذين تقول عنهم الحكمة: "بي تملك الملوك" (أم 8: 15). يميز القديس أغسطينوس بين سيف السوء والسيف الصالح. فسيف الأشرار هو كلمتهم الباطلة المهلكة ذات النية الشريرة، أما سيف الله فهو كلمة الله ذات القصد الصالح، سيف ذو حدين. سبق لنا الحديث عن أفواه الأشرار الباطلة ويمينهم الكاذبة [8]. * "أنقذني من سيف النية السيئة". لا يكفي القول: "أنقذني من السيف"، لذا أضاف "من النية السيئة". دون شك يوجد سيف بنية صالحة. ما هو السيف بنية صالحة؟ ذاك الذي قال عنه الرب: "ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا" (مت 10: 34). فقد جاء لكي يفصل المؤمنين عن غير المؤمنين، والأبناء عن الآباء، وأن يقطع كل الرباطات الأخرى (الخاطئة). بينما قطع السيف السقماء، شفى أعضاء المسيح. القصد الصالح هو السيف ذو الحدين، حاد من الجانبين، العهد القديم والعهد الجديد، مع قصة الماضي والوعد بالمستقبل. هذا هو إذن السيف ذو القصد الصالح، أما الآخر فهو السيئ، الباطل. يستخدم الله السيف ذا القصد الصالح، إذ يتكلم بالحق[29]. القديس أغسطينوس "المنقذ داود عبده"؛ بعد أن تحدث بتعبيرات عامة يتحدث المرتل أيضًا عن شئونه الخاصة، فلا يقول: "الذي خلصه"، بل "المنقذ (المخلَّص)"، مظهرًا عناية الإلهية الدائمة[30]. القديس يوحنا الذهبي الفم 3. عدو مخادع أَنْقِذْنِي وَنَجِّنِي مِنْ أَيْدِي الْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ تَكَلَّمَتْ أَفْوَاهُهُمْ بِالْبَاطِلِ، وَيَمِينُهُمْ يَمِينُ كَذِبٍ [11]. * ما يلزم أن نبحث عنه ونطلبه من الرب الإله هو السعادة. كثيرون دخلوا في حوارات بخصوص طبيعة السعادة، ولكن لماذا تتوجه إلى كثير من الناس أو كثير من الجدل؟ كلمة كتاب الله المقدس مختصرة وحقه: "طوبى للشعب الذي الرب إلهه" (مز 11:144). غاية الوصية هي الحب من كل قلبٍ طاهرٍ وضميرٍ صالحٍ وإيمانٍ صادقٍ، فننتمي لذلك الشعب، ويمكننا التمتع بالتأمل في الله وفي الحياة الأبدية معه[31]. القديس أغسطينوس 4. لماذا يسمح الله بمقاومة العدو؟ لِكَيْ يَكُونَ بَنُونَا مِثْلَ الْغُرُوسِ النَّامِيَةِ فِي شَبِيبَتِهَا. بَنَاتُنَا كَأَعْمِدَةِ الزَّوَايَا مَنْحُوتَاتٍ حَسَبَ بِنَاءِ هَيْكَلٍ [12]. بعد أن تحدث عن إبليس العدو الشرير، والذي يستخدم أفواه الأشرار كسيفٍ ذي قصدٍ سيئٍ، كما يستخدم حتى يمينهم يمين كذب، يود أن يطمئن المؤمنين. فإن هذه الشرور التي يبثها العدو، إذ يقاومها المؤمنون، يتمتعون ببركات كثيرة. وقد جاء الآيات 12-15 تعدد هذه البركات: أ. بنون كغروسٍ نامية على الدوام [12]. ب. بنات يحملن جمالًا روحيًا، أشبه بزينة بيت الرب [12]. ج. محاصيل بفيض من كل صنفٍ [13]. د. أغنام كثيرة الإنتاج تملأ الشوارع [13]. هـ. كثرة البقر [14]. و. طمأنينة وسلام [14]. ز. حياة مطوّبة، عربون السماء ثمار الهراطقة أشبه بالغروس الجديدة، إذ يتجاهلون الأنبياء والرسل، ليقدموا تعاليم جديدة من عندهم. وإن اعتمدوا على نصوص من العهد القديم والعهد الجديد، غير أنهم يريدون كل ما هو جديد لأنه جديد، ويرفضون الحق لأنه في نظرهم قديم لا يناسب العصر. أما البنات اللواتي يحملن الزينة الخارجية مثل منحوتات في داخل الهيكل، فإن الهراطقة يعتمدون على الكلمات المخادعة والفلسفات البرّاقة، لا تحمل قوة الروح. أما بالنسبة للمؤمنين الأمناء، فيرى العلامة أوريجينوس أنهم يتمتعون بالبنين كرمز لأعمال الروح، والبنات رمز لأعمال الجسد. فمتى تقدس الإنسان يتمتع بثمار روحية للنفس والجسد. يعمل الجسد في تناغم مع النفس تحت قيادة روح الله، فتصير أعمال الروح أشبه بالغروس النامية أو أشجار روحية في فردوس سماوي، وأعمال الجسد كأعمدة مقدسة حيث يصير الإنسان هيكلًا مقدسًا لله وروح الله ساكن فيه. يرى القديس جيروم أن العبارات 12-14 هي حديث الهراطقة المفتخرين بكثرة عددهم وجاذبية فلسفاتهم المخادعة. * إنه يريد أن يسرد سعادتهم! لاحظوا يا أبناء النور، أبناء السلام؛ لاحظوا يا أبناء الكنيسة، أعضاء المسيح، لاحظوا من الذين يدعوهم أبناء الغرباء [7]، وسيف السوء [10]، أطلب إليكم أن تلاحظوا هذا، فإنكم إذ أنتم تعيشون في وسطهم، فإنكم في ضيقة. وبسبب ألسنتهم تحاربون شهوات جسدكم. بسبب ألسنتهم تدخلون في معركة مع إبليس، إذ يستخدمها كيدٍ له... [أورد القديس نصوص الآيات 12-14 ثم أكمل قوله:] أليست هذه سعادة؟ إنني أسأل أبناء ملكوت السماوات، أسأل نسل القيامة الدائمة، أعضاء المسيح، هيكل الله: أليست هذه سعادة، إن يكون لكم أبناء سلام وبنات جميلات، ومخازن مملوءة، وقطعان بوفرة، دون أي سقوط، لست أتكلم عن (سقوط) سورٍ، بل حتى سياجٍ؛ ليس من اضطراب وصخبٍ في الشوارع، بل هدوء وسلام وخيرات وفيض في كل شيء في البيوت وفي المدن؟ أليست هذه سعادة؟[32] القديس أغسطينوس أَغْنَامُنَا تُنْتِجُ أُلُوفًا وَرَبَوَاتٍ فِي شَوَارِعِنَا [13]. يصير الإنسان بعمل روح الله حقل الله، تمتلئ مخازنه بكل المحاصيل المقدسة. وتلد الأغنام ألوف وربوات في شوارع القلب، لتقديم تقدمات لا تنقطع. مخازن الهراطقة مملوءة من كل صنف من المجادلات الباطلة. أما رجال الله فيفتحون أفواههم والرب نفسه يملأها (مز 81: 11). ما يخزنه إنسان الله هو روح الله الساكن فيه، يملأه بالنعمة الإلهية، يهبه الكلمة القادرة على العمل في الوقت المناسب. أغنام الهراطقة تنتج ألوفًا وربوات، ولكن في الشوارع، وليس في بيت الله. إنهم يجتذبون الكثيرين، لا ليدخلوا بهم إلى الحياة السماوية، بل ليجولوا في الشوارع! بَقَرُنَا مُحَمَّلَةً. لاَ اقْتِحَامَ وَلاَ هُجُومَ وَلاَ شَكْوَى فِي شَوَارِعِنَا [14]. كما تسود الخيرات بفيضٍ في أعماق الإنسان من محاصيل مقدسة وأغنام، فإن السلام يملأ النفس، للعمل الدائم لحساب ملكوت الله، وليس من عدوٍ شرير يقدر أن يحطم هذا السلام الداخلي. طُوبَى لِلشَّعْبِ الَّذِي لَهُ كَهَذَا. طُوبَى لِلشَّعْبِ الَّذِي الرَّبُّ إِلَهُهُ [15]. يكتشف الشعب رعاية الله إلههم الفائقة خلال المعارك المستمرة، فيختبروا الحياة المطوَّبة، عربون السماء. * كما أن حياة الجسد هي النفس، هكذا الحياة المطوبة للإنسان هي الله. وكما جاء في الكتابات المقدسة للعبرانيين: "طوبى للشعب الذي الرب إلهه". القديس أغسطينوس بهذا يركز على فيضهم وكثرة خيراتهم وثروتهم (وهو التمتع بالله إلههم). الأمور الأخرى تزول وتعبر، أما هذا التطويب فيبقى على الدوام عوض القطعان والأبناء والحصون والكروم، فإن بركة الرب تعد بالثروة والأمان والحصون المنيعة[33]. القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي مزمور 144 في وسط المعركة أسبِّحك يا قائدي العجيب! * يُعد لي عدو الخير معركة دائمة لهلاكي. وفي صلاحك تسمح لي بالمعركة لبنياني. وسط القتال اختبئ فيك يا صخر الدهور. تحميني من ضربات العدو القاتلة. وتدرِّب يديّ الضعيفتين للقتال مع رئيس الظلمة. بروحك القدوس تهبني الحب، وبالحب أقدم أعمال رحمة فترحمني. بأعمال الرحمة يحترق إبليس الذي لا يحتمل الحب ولا الرحمة. أنت سلاحي ونصرتي وإكليلي! ماذا يفعل بي إبليس وكل قواته؟! بك تحطم خططه وقواته وأماله الشريرة. تدور المعركة لصالحنا، ما دمنا مستترين فيك! * تهبنا سلاحًا عجيبًا! تهبنا الصلاة مع قيثارة التسبيح والشكر. ليس من سلاحٍ فعَّال ومهلك لإبليس الجاحد، مثل القلب الشاكر والمتهلل بإلهه! أنت هو القدير الجبار، أنت تسمح بالمعركة، وتهب بنيك النصرة! تهبنا روح التسبيح والفرح، نصوبه كالسهم القاتل لإبليس الجاحد. كما صوَّب داود حجرًا صغيرًا بمقلاعه، فضرب به جبهة جليات الجبَّار، لنُصوِّب الفرح ضد جبهة عدو الفرح والتهليل، نحطمه بمسيحنا مصدر الفرح! * مصارعتنا ليست مع دمٍ ولحمٍ، بل مع أجناد الشر في السماويات، وسلاحنا ليس من هذا العالم، بل صليبك محطِّم قوات الظلمة. أعداؤنا ليسوا من طبيعتنا البشرية، أعداؤنا لا ينامون ولا يهدأون، أعدؤنا متمرِّسون على معارك لا تهدأ. أما مدربنا على المعركة، فهو أنت يا مخلِّص العالم، تدرَّبنا ولا تتركنا. تهبنا وصيَّتك الإلهية، وتقدم لنا نعمتك عاملة فينا. تغرس صليبك في قلوبنا، ويعمل روحك القدوس الناري فينا! أدخل المعركة متسلِّحًا بوعودك الإلهية، أقاوم عدو الخير وأنا داخل أحضانك التي لا تُغلب! أنت هو الحصن العجيب، والبرج الذي من خلاله أدرك أبعاد المعركة، بك نغلب، فتقيمنا ملوكًا يا ملك الملوك. ترفعنا وتحسبنا كأحد الطغمات السماوية. تهبنا سلطانًا، فننعم بحرية على مستوى أبدي. بنعمتك أتخلَّص من أعدائي وكل مقاومتهم، وأنعم بسلامٍ في داخلي، فأصير بك ملكًا، تعمل كل طاقاتي ومواهبي معًا بروحك القدوس! * يا للعجب، من أنا حتى تنزل من سماواتك، تتجسد وتتأنَّس لأجلي، تدخل في معركة مع إبليس، لتهبني بك وفيك النصرة عليه؟! يا لعظمة حبك لي، وتدبيرك العجيب لخلاصي! إنك مشغول بي على الدوام، تعرفني، لا معرفة أية خليقة بين البلايين من خليقتك، إنما تعرفني عن قرب، إذ تجعلني من أهل بيت الله. تعرفني ابنًا للآب، إذ وهبتني روح التبيني، تعرفني عضوًا حيًّا في جسدك المقدس، تعرفني هيكلًا مقدسًا، يسكن فيَّ روحك القدوس! تعرفني، إذ تنقش اسمي على كفَّك، وتدعوني باسمي لأرث أمجادًا أبدية! * حقًا بدونك أنا تراب ورماد، أيامي تعبر كظلٍ عابرٍ، مملوءة تعبًا وضيقًا. بك تتهلل أعماقي حتى وسط الضيقات. وأترقب يوم مجيئك لأحيا معك إلى الأبد. طأطأت السماوات ونزلت إلينا. وهبتنا الخلاص من خطايانا، وأقمت نفوسنا من الموت الأبدي. أبرقت بنورك الإلهي علينا، فاستنارت نفوسنا. وصوَّبت سهامك، فحطَّمت عدونا إبليس. مجيئك ردّ لنا الحياة، وفتح لنا أبواب السماء. لتأتِ على السحاب في مجدك، وتحملنا معك إلى سماواتك. * بمجيئك قدمت لنا قيثارة سماوية وربابًا عجيبًا، بل أقمت من نفوسنا قيثارتك وربابك. أعطيتني العهد الجديد قيثارة تعزف بروح الفرح، ووهبتني المفهوم الروحي للعهد القديم ربابًا ذات عشرة أوتار. لن تأتمن أحدًا يعزف عليهما سوى روحك القدوس. يعزف سيمفونية حب، فيلتهب قلبي بالحب الإلهي كما بالحب الأخوي. ينفتح قلبي لسكنى الثالوث القدوس، وتتحول أعماقي إلى عرشٍ إلهي مُفرح! لن يدخل قلبي قلق أو اضطراب، بل تهليل بالنصرة مع إكليل سماوي ومجد بديع! تسكب بهاءك في داخلي، فأصلُح لمملكة. وأحمل لمسة جمالك العجيب! حتى أعضاء جسدي كلها تُرنم لك. تتقدس وتتمم رسالتها في تناغم من الأعماق المتهللة. تسبحك وتشكرك بالصمت، كما بالعمل، وأيضًا بالكلام. * أتيت إلى أرضنا لا لتنزع المعركة، إنما لكي تحوِّلها لبنياننا ومجدنا! خلال المعركة تقيم منا ملوكًا أصحاب سلطانٍ. تقدم لنا بركات في هذا العالم وفي الحياة الأبدية. ننعم بأعمال الروح كما بأعمال الجسد المقدسة. تتحول أعماقنا في فردوس مثمر بغروس جديدة، وإلي هيكل بديع في جماله. يصير لنا أبناء سلام، وبنات جميلات في الرب. تمتلئ مخازننا بثمار الروح، ومراعينا بالقطعان الكثيرة. يملأ السلام أعماقنا، والخيرات كل كياننا. لا يعوزنا مخلصنا شيئًا، بل يهبنا أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب! لك المجد يا من تحوِّل أرض المعركة إلى خبرات جديدة معك! |
||||
22 - 07 - 2014, 07:52 PM | رقم المشاركة : ( 169 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 145 - تفسير سفر المزامير دعوة للتسبيحالخط الرئيسي في المزمور هو الفرح بعظمة الله ومحبته، إنه يؤكد سلطان الله الملوكي على الأرض وفي السماء. وهذا يدعونا للتسبيح له يوميًا وإلى الأبد. جاء ترتيب آيات المزمور بحسب الحروف الأبجدية العبرية، وإن كان حرف النون ما بين العبارتين 13، 14 مفقود. وقد ورد في النصوص اليونانية القديمة والسريانية واللاتينية: "الرب أمين في كل كلماته، لطيف في كل أعماله". كان اليهود يسبحون بهذا المزمور ثلاث مرات يوميًا في المجمع: في الصباح والظهر والمساء. وجاء في التلمود البابلي أنه يُسبح به ثلاث مرات يوميًا وله موضع خاص في العبادة في الحياة العتيدة[1]. لنسبحه يوميًا [1]، لأجل عظمته [3-6]، وصلاحه ورحمته [7-10]، وملوكيته [11-13]، وخلاصه [14]، ورعايته [15-17]، ولالتصاقه بنا [18]، ولأجل استجابته لطلباتنا [19-20]، نسبحه بلا انقطاع [21]. 1. مجدلة افتتاحية 1-3. 2. الرب كلي الجلال 4-7. 3. الرب محب البشر 8-13. 4. الرب الملك معضد الساقطين 14. 5. الرب والعناية الإلهية 15-16. 6. الرب كلي الرحمة 17. 7. الرب قريب 18. 8. الرب سامع الصلوات 19. 9. الرب حافظ محبيه 20. 10. مجدلة ختامية 21. من وحي مزمور 145 العنوان تَسْبِيحَةٌ لِدَاوُدَ * العنوان هو: "تسبحة لداود نفسه". تسبحة للمسيح نفسه. لقد دُعي داود، ذاك الذي جاء إلينا من نسل داود، إلا أنه هو ملكنا يسود علينا، ويأتي بنا إلى ملكوته، لذلك تفهم "تسبحة لداود نفسه" المسيح حسب الجسد هو داود، لأنه هو ابن داود. لكن بحسب لاهوته هو خالق داود، ورب داود[2]. القديس أغسطينوس 1. مجدلة افتتاحية كثيرًا ما يمجد المرتل الرب خلال معاملاته الشخصية معه ومع الشعب، أما هنا فيفتتح المزمور بالمجدلة للرب، الملك السماوي، فكل الخليقة تمجده وتسبحه! أَرْفَعُكَ يَا إِلَهِي الْمَلِكَ، وَأُبَارِكُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [1]. تترنم الكنيسة بالآيتين 1 و2 من هذا المزمور في صباح اليوم الثاني من عيد الصليب (18 توت)، لأن الصليب في حقيقته هو عرش المجد لمحبة ربنا يسوع ملك الملوك الذي يُعد القلوب كمملكة له. كما هو سرّ الدخول في علاقة شخصية معه، فيرنم كل مؤمنٍ، قائلًا: "أرفعك يا إلهي الملك". الصليب هو أيضًا مصدر فرح وبهجة للنفس البشرية. * "أرفعك يا إلهي وملكي. وأبارك اسمك إلى الأبد وإلى أبد الآبدين"... ها أنتم ترون أن التسبيح لله يبدأ هنا... لتبدأوا الآن التسبيح لله، إن كنتم تريدون أن تسبحوه إلى الأبد. من لا يسبحه في هذا الدهر الزائل، سيكون صامتًا عندما يأتي دهر الدهور[3]. القديس أغسطينوس "وأبارك (أسبح) اسمك إلى الدهر والأبد" [1]. ألا ترون أنه يشير أيضًا إلى بداية الحياة العتيدة؟ الآن بقوله: "أبارك (أسبح)"، يقصد لا ما يُمارس بالقول فقط، وإنما بالعمل أيضًا. هذا، على أي الأحوال، هو الطريق لتمجيد الله، الطريق لتسبيحه. هذا ما أمرنا به أن نقوله في الصلاة: "ليتقدس اسمك" (مت 6: 9)، أي ليتمجد[4]. القديس يوحنا الذهبي الفم من يومٍ إلى يومٍ يُعلن جلالك، وتشهد المخلوقات كلها مُظهِرة عظمتك. فكم بالحري يليق بيّ أنا الناطق الذي صنعت معي إحسانات رفيعة أن أوضح معلنًا رفعتك يا إلهي، وأبارك اسمك، أي أمجده وأحمده أيها الملك. هذا ما أفعله في حياتي حتى وبعدها في الدهر الآتي. الأب أنسيمُس الأورشليمي فِي كُلِّ يَوْمٍ أُبَارِكُكَ،وَأُسَبِّحُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [2]. * سبحوا إذن وباركوا الرب إلهكم كل يوم، حتى متى عبرت الأيام المنفردة، ويأتي اليوم الذي بلا نهاية، تذهبون من تسبحةٍ إلى تسبحةٍ، ومن قوةٍ إلى قوةٍ (مز 84: 7). لا يعبر إليه من لا يبارك الرب. لا نعجبٍ إن كان في يوم فرحكم تباركون الرب. ماذا إذا حلّ بكم يوم حزن، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لظروف طبيعتنا الفانية، إذ يوجد فيض من المتاعب وكثرة من التجارب؟ ماذا إذا حل شيء مُحزن، هل تكفون عن التسبيح لله؟ هل تتوقفون عن مباركة الرب[5]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي إنه لعار على الإنسان الذي وُهب عقلًا ومزايا أعظم من كل الأمور المنظورة أن يقدم تسبيحًا أقل من الأشياء المخلوقة، حيث يلزم التسبيح. إنه ليس فقط عار بل وأمر سخيف. كيف لا يكون هذا أمرًا سخيفًا، إن كانت الخليقة ذاتها تقدم كل يوم، بل وفي كل ساعة، لسيدها تسابيح الحمد؟ تذكر ما يقوله الكتاب: "السماوات تحدث بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلامًا، وليل إلى ليل يبدي علمًا" (مز 19: 1-2). كل من الشمس والقمر والمجرة المتنوعة للكواكب والصف البديع من كل الأشياء الأخرى تعلن عن خالقها... نحن مدينون كثيرًا لله من أجل خلقته لنا حيث لم يكن لنا وجود، وجعلنا ما نحن عليه، ومن أجل سيادته علينا (بالرعاية) عندما صنعنا، ومن أجل عنايته اليومية العامة والخاصة، السرية والعلنية، ما ندركه وما لا ندركه. أقصد ماذا يمكن للشخص أن يقول عن الأشياء المنظورة التي خلقها لأجلنا؟ وعن الخدمات التي يقدمها لنا، وعن تكوين الجسم وسمو النفس والإمدادات اليومية خلال العجائب والنواميس والتأديبات، وعنايته المتنوعة. أما قمة هذه الخيرات، فهي أنه لم يبخل علينا حتى بابنه الوحيد من أجلنا، والهبات التي قدمها لنا في المعمودية والإفخارستيا... في الواقع إن أحصينا كل شيءٍ من هذه، فإنكم تغرقون في محيطٍ لا يوصف من البركات، سترون كيف لا يمكن حصر ما أنتم مدينون به لرأفات الله. ليس فقط هذه، بل وأيضًا جلال مجد الله وخلوده. ها أنتم ترون أنه يليق بنا أن نسبحه على هذا ونباركه ونشكره على الدوام، ونتعبد له، ونخدمه بلا انقطاع[6]. القديس يوحنا الذهبي الفم عَظِيمٌ هُوَ الرَّب،ُّ وَحَمِيدٌ جِدًّا، وَلَيْسَ لِعَظَمَتِهِ اسْتِقْصَاءٌ [3]. * ربما تبدأ في الرغبة في تسبيحه، وتظن أنك قادر أن تبلغ إلى نهاية تسبيح ذاك الذي لا نهاية لعظمته. لا تظن أن ذاك الذي لا نهاية لعظمته يمكن أن تُقدم له تسبحة كافية... عظمته بلا نهاية، ليكن تسبيحه أيضًا بلا نهاية[7].القديس أغسطينوس * ما يعنيه: إذ لكم رب عظيم، فلترتفعوا، وتتخلصوا من شئون العالم. تبنَّوا غرضًا أسمى فوق دناءة الوجود الحاضر، لا لتكونوا متشامخين أو متغطرسين، إنما أصحاب فكرٍ عالٍ وعظيمٍ. الغطرسة والعظمة أمران مختلفان تمامًا. الشخص المتغطرس هو من يفتخر بأمور دنيا ويحتقر زملاءه العبيد، أما الشخص السامي فهو المتواضع الفكر حاسبًا كل أمور الحياة الحاضرة كلا شيء[8].القديس يوحنا الذهبي الفم 2. الرب كلي الجلال دَوْرٌ إِلَى دَوْرٍ يُسَبِّحُ أَعْمَالَكَ، وَبِجَبَرُوتِكَ يُخْبِرُونَ [4]. يرى القديس أغسطينوس أنه يمكن تفسير هذه العبارة بمعنى أنه يليق بكل جيلٍ أن يسبح الله، كما يمكن أن تعني أننا نسبح الله في هذا الدهر كما في الدهر الآتي. كثيرًا ما يفسر القديس أغسطينوس التعبير "دورٍ إلى دورٍ" أو "من جيلٍ إلى جيلٍ"، بأن الحديث خاص عن الجيل الأول الذي هو حياتنا في هذا العالم، والجيل الثاني هو حياتنا في الأبدية. وكأن التسبيح يمتد كل أيام غربتنا كعربونٍ للحياة الأبدية، ويستمر في حياتنا الأبدية مع صفوف السمائيين. في هذا الجيل نسبحه من أجل خليقته الجميلة التي أوجدها لنا، أما هناك فنسبحه، لأنه هو الجمال عينه، الخالق! * "جيل فجيل يباركون أعمالك". ربما يقصد "بجيل فجيل" أي كل جيلٍ... أما يمكن أن يعني بالتكرار هنا جيلين؟ فإننا نحن في جيل أبناء الله، وسنكون في جيل آخر لأبناء القيامة... إن كان الجمال يبهجك، أي جمال أعظم من الخالق؟ إن كان نفع (المخلوقات) موضع تسبيح، أي نفع أكثر من ذاك الذي خلق كل الأشياء. إن كان السمو يُسبح، فأي سمو بالأكثر من ذاك الذي به خُلقت كل الأشياء (السامية)؟[9] القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم وَأُمُورِ عَجَائِبِكَ أَلْهَجُ [5]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "وبعظم جلال مجد قدسك يتكلمون، وبعجائبك يخبرون". بكل امتنانٍ وشكرٍ يتأمل المرتل في عظمة الله السامية كما تعلنها أعمال خلاصه العجيبة. * على أي حال انظروا هذا الإنسان في تأمله في أعمال الله؛ إنه ينتقل من العامل إلى العمل، ينحدر من ذاك الذي يخلق إلى الأشياء التي يخلقها. غير أنه جعل من الأشياء التي خلقها خطوة يصعد منها إلى الخالق. لأنكم أن أحببتم هذه الأشياء أكثر منه لن تنالوه. وأي نفع لكم أن فاضت عليكم الأعمال، إن كان العامل نفسه يترككم؟ بالحق يلزم أن تحبوه بالأكثر، تحبوه لأجل نفسه. إنه لا يقدم وعوده بدون تقديم التهديدات أيضًا. إن لا يقدم وعودًا لا يوجد تشجيع، وإن لم يقدم تهديدات لا يوجد إصلاح. الذين يسبحونك يتكلمون أيضًا عن سمو أعمالك المهوبة، سمو أعمال يديك اللتين تؤدبان وتعاقبان، إنهم يتكلمون عنها ولا يصمتون. فإنهم لا يعلنون عن ملكوتك الأبدي، ويصمتون عن النار الأبدية. فإن تسبيح الله يظهر أنك يجب أن تُحب، ويجب أيضًا أن تكون مخوفًا[11]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم وَبِعَظَمَتِكَ أُحَدِّثُ [6]. يعدد البشر أعمال الله المهوبة، أما المرتل فيستمر في الحديث عن عظمة محبته ورعايته. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[13] أن عناية الله تُعلن خلال حنوه ورأفاته، كما خلال تأديباته. ويرى ذلك واضحًا في الخليقة نفسها؛ فالله الذي خلق لأجلنا العالم بجماله الفائق وإبداعه، هو الذي سمح بوجود المخاوف من برقٍ ورعدٍ وبراكينٍ وعواصفٍ ثلجية وفيضانات وحرائق الخ. هذه كلها تستخدمها عناية الله لأجل رجوعنا إليه، وتيقظنا من غفلتنا، وتقودنا إلى حياة السهر. * عندما كتب الرسول العظيم بولس إلى كنيسة كورنثوس عن رؤيته السمائية، لم يكن متأكدًا إن كان قد رآها بروحه فقط أم بجسده وروحه معًا. وشهد قائلًا: "أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئًا واحدًا، إذ أنسى ما هو وراء، وأمتد إلى ما هو قدام". (في 3: 13) يتضح من هذا أن بولس وحده كان يعرف ما يوجد وراء السماء الثالثة، لأن موسى نفسه لم يذكرها عندما تكلم عن خلق الكون وأصله. استمر بولس في الارتفاع ولم يتوقف بعدما سمع عن أسرار الفردوس التي لا يُنطق بها. ولم يسمح للسمو والارتفاع الذي وصل إليه أن يحدّ من رغبته هذه. وأكد بولس أن ما نعرفه عن الله محدود، لأن طبيعة الله أبدية، واسمي مما نعرفه، وليس لها حدود. أمّا من يتحدون مع الله، فتنمو شركتهم معه وتزداد باِستمرار في الحياة الأبدية، ويتفق هذا مع كلمات السيد المسيح: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). إنهم سيعرفون الله بقدر ما تسمح به عقولهم من فهم، إلا أن الله الغير محدود والغير مدرك يبقى دائمًا بعيدًا عن الفهم. إن مجد الله العظيم جدًا لا حدود له كما يشهد بذلك النبي (مز 145: 3-6). يبقى الله دائمًا كما هو عندما نتطلع إليه ونفكر في علو سمائه. هذا ولقد حاول داود العظيم بكل قلبه أن يرتفع بفكره إلى الآفاق العليا. وكان دائمًا يتقدم من قوةٍ إلى قوةٍ (مز 84: 7). وصرخ إلى الله: "أما أنت يا رب فمتعالٍ إلى الآبد". (مز 92: 8) من ذلك يتضح أن الشخص الذي يجرى نحو الله يصبح أعظم كلما ارتقى إلى أعلى، وينمو باِستمرار في الخير حسب مستواه في الارتفاع. ويحدث هذا في جميع العصور، والله هو الأعظم ارتفاعًا الآن وإلى الأبد، ويظهر باستمرار هكذا لمن يقتربون منه، فهو أعلى واسمي من قدرات كل من يرتفعون[14]. القديس غريغوريوس أسقف نيصص ذِكْرَ كَثْرَةِ صَلاَحِكَ يُبْدُون،َ وَبِعَدْلِكَ يُرَنِّمُونَ [7]. يشهد البشر عن عظمة صلاح الله، إذ يجدون في برِّه باعثًا على التسبيح المُفرح. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[15] إننا كما نعدد الأمور المخيفة التي تستخدمها العناية الإلهية لصالحنا، يليق بنا أن نذكر الخيرات الصالحة مثل وجود فصول السنة والأزمنة والحدائق والمروج والمياه العذبة والأمطار وخصوبة التربة والثمار المتنوعة وأشعة الشمس وبهاء القمر والكواكب وهدوء الليل والأغنام الخ.، هذه التي يقدمها الله حتى لغير المستحقين. كثيرًا ما يتحدث القديس أغسطينوس عن محبة الله وحنوه ولطفه وطول أناته، وعن أبواب الرجاء التي يفتحها أمام الخطاة لأجل توبتهم وإصلاحهم بفرحٍ، وفي نفس الوقت لا يتجاهل مخافة الرب ومهابته، وتأديباته في هذا العالم، كما يؤكد وجود نار جهنم لمن لا يقبل الحب ولا يرتدع بالتأديب. تارة يستخدم الله المخاوف للتأديب، وتارة الخيرات وفيضها لنتلمس محبته ورعايته. بالأولى يؤدب، وبالثانية يجتذبنا نحوه. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم[16] على التهديد بوجود الجحيم نفسه قائلًا: [إنه يهددنا بالجحيم لا لكي يبلينا به، وإنما لكي لا نسقط فيه، فقد أعده لإبليس. اذكروا قوله: "إلى النار الأبدية المُعدة لإبليس وملائكته" (مت 25: 41). لقد أعد الملكوت للبشر، مظهرًا أنه لا يريد أن يطرح البشر في جهنم.] 3. الرب محب البشر اَلرَّبُّ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ [8]. عظيم هو الرب، لا في قدرته وأعماله فحسب، وإنما أيضًا في حنوه ورحمته وطول أناته. * لم يقل فقط "رحوم"، وإنما هو غني في الرحمة، مظهرًا أن هذا الغنى لا يمكن قياسه، إنما يتعدى كل الحسابات البشرية[17]. * الله يريد أن يُدعى بواسطتها: "الرب حنان ورحيم، بطيء الغضب وكثير الرحمة" (LXX)، والحق رحمة الله فوق كل الأرض. إنها تخلص جنس البشر (مز 145: 9)، فلولا تعطفها علينا لتدمَّر كل شيء. ونحن أعداء (رو 5: 10) صالحتنا، وقدَّمت بركات لا حصر لها. لقد حثت ابن الله أن يصير عبدًا، وأن يخلي ذاته عن مجده. دعونا نتبارى فيها بكل غيرة، هذه التي بها خلصنا. لنحبها، ونفضلها عن الغنى والثروة. لتكن لنا نفس رحومه. ليس شيء يميز شخصية المسيحي مثل الرحمة[18]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس مقاريوس الكبير وَمَرَاحِمُهُ عَلَى كُلِّ أَعْمَالِهِ [9]. ما يُترجم هنا "صالح" يترجمه القديس أغسطينوس "حلو". يمتد صلاح الله على الكل دون محاباة، وكل خليقته تتلامس مع مراحمه. * لا تقل: "غدًا سأرجع، غدًا سأرضي الله، وكل أعمالي اليوم وبالأمس ستُغفر لي". إنك تقول الحق: الله يعد بالمغفرة بهدايتك، لكنه لا يعد بالغد والتأجيل (سي 5: 7)[20]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي إن كنتم تسألونني لمن هو صالح، أجيبكم: ليس فقط لهابيل وإنما أيضًا لقايين. ليس فقط لنوحٍ وبنيه، وإنما للذين غرقوا في الطوفان، كل الأمور كانت تتم خلال رأفته. لكي تتعلم أنه صالح للكل تأملوا هذا... إنه يسلمهم للتأديب الذي هو بالحقيقة لنصحهم أكثر منه لعقابهم، لكي يطهر الشخص عبر الزمن من ممارسة الخطية، ويكون عبرة يتعلم منها الآخرون مما يتألم به هؤلاء... تعبير "للكل" لا ينطبق على هذه الحالات فقط، بل على كل المنظورات، الخلائق الحية، والوحوش غير العاقلة، بل وإن صعدتم إلى الملائكة أنفسهم ورؤساء الملائكة سترون صلاحًا عظيمًا، وحنوًا عميقًا، كل عمل يتمتع برأفات كثيرة[21]. القديس يوحنا الذهبي الفم أليس هو صالحًا؟ فقد أصعد الأرض إلى السماء، حتى مثلما تعكس النجوم بهاء مجده في السماء كالمرآة، كذلك فإن جوقة الرسل والشهداء والكهنة يتلألأون كالنجوم تمامًا، ويبعثون نورهم للعالم أجمع. إذًا هو ليس صالح فحسب، بل أكثر من ذلك كثيرًا. إنه راعٍ صالحٍ لخرافه... و"الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف". إنه لنفعي أؤمن أن الله صالح، و"صالح هو الاتكال على الرب". جيد هو الاعتراف بأنه هو الرب، لأنه مكتوب: "احمدوا الرب، فإنه صالح"[22]. القديس أمبروسيوس وَيُبَارِكُكَ أَتْقِيَاؤُكَ [10]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "فلتعترف لك يا رب كافة أعمالك، وقديسوك يباركونك". وجود الخليقة من العدم، وتدبير الله الفائق لها، ورعايته كل هذا يمثل تسبحة حمد وشكر على قدرته وحكمته وحنوه، هذه التسبحة لا يُنطق بها. أما قديسوه فيشتركون مع الخليقة في الشكر والتسبيح من أجل كمالاته عير المحدودة. يستشهد القديس أغسطينوسبالثلاثة فتية القديسين وهم في أتون النار يقدمون تسبحة لله، طالبين حتى من الخليقة غير العاقلة أن تشترك معهم في تسبيح الله. * عندما تفكر في جمال المسكونة في هذا العالم، أليس هذا الجمال عينه يُحسب كأنه صوت واحد يجيبك، قائلًا: "إني لم أخلق نفسي، الله هو خلقني؟"[23] القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي * "يحمدك يا رب كل أعمالك، ويباركك أتقياؤك" [10]. بمعنى ليقدموا لك الشكر، وليرسلوا لك التسابيح، الذين يقدمونها بصوتٍ، والذين يقدمونها بدون صوتٍ. كل الخلائق التي ليس لها صوت خُلقت بطريقة لتسبح خلال طبيعتها، حتى إن بدت بلا صوت في نظر البشر، مع تمتعهم بها. ما تفعله هذه الخلائق خلال وجودها نفسه، يفعله البشر خلال طريقة حياتهم وأنشطتهم. لقد أوضح ذلك بإضافته: "ويباركك أتقياؤك (قديسوك)"[24]. القديس يوحنا الذهبي الفم بِمَجْدِ مُلْكِكَ يَنْطِقُونَ،وَبِجَبَرُوتِكَ يَتَكَلَّمُون [11]. يليق بالأتقياء أن يشهدوا لملكوت الله المفرح، ويتحدثوا عن عظمته بألسنتهم كما بحياتهم الداخلية وسلوكهم العملي. * يا لقوة (جبروت الله) الذي خلق الأرض! يا لقوة الله الذي ملأ الأرض بالخيرات! يا لقوة الله الذي أعطى لكل حيوان حياته! يا لقوة الله الذي أعطى البذور المتنوعة لرحم الأرض، فتُخرج براعم متنوعة وأشجارًا جميلة! يا لقوة الله! عظيم هو الله. إذ تسأل يا قديس الله الخليقة تجيب، وبإجابتها كاعترافٍ تبارك الخليقة الله، وتتكلم بجبروته![25] القديس أغسطينوس وَمَجْدَ جَلاَلِ مُلْكِكَ [12]. * يمدح قديسوك "مجد عظمة جمال ملكوتك"... ما دام كل ما عنده جمال، هذا الجمال هو من عندك، فكم يكون عظمة جمال ملكوتك كله! ليت ملكوتك لا يرعبنا؛ فإنه فيه أيضًا جمال يبهجنا. ما هو الجمال الذي سيتمتع به القديسون الذين سُيقال لهم: "تعالوا يا مباركي أبي، تمتعوا بالملكوت" (راجع مت 25: 34)...؟ يا لعظمة الجمال الذي لهذا الملكوت الذي ليس فيه سوى الملائكة يعيشون معك! يُوجد عظمة لذاك الجمال، فلنحبه قبل أن نراه، حتى إذ نراه نتذكره![26] القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم مُلْكُكَ مُلْكُ كُلِّ الدُّهُورِ،وَسُلْطَانُكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ [13]. جاء في الترجمة السبعينية: "الرب أمين في كل كلماته، وقدوس في كل أعماله". يليق بنا في محبة كاملة أن نخضع لسلطان الله في هذا الدهر كما في الدهر الآتي، كما يخضع له السمائيون بفرحٍ وتهليلٍ. * مُلك هذا الدهر له جماله، لكنه ليس فيه تلك العظمة كمُلك كل الدهور[28]. القديس أغسطينوس * بعد أن ذكر أن مملكته بلا نهاية، ولا يمكن أن تهتز، بل ثابتة لا تتزعزع، يشير إلى ثبات كلماته. فإن كلمة "أمين" هنا تعني الثبات والصدق... "قدوس في كل أعماله". ما هو معنى "قدوس"؟ لا عيب فيها، ومستقيمة، وبلا دنس، لا تعطي فرصة لأحدٍ أن ينتقدها[30]. القديس يوحنا الذهبي الفم القديس باسيليوس القديس أثناسيوس الرسولي 4. الرب الملك معضد الساقطين اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ السَّاقِطِين،َ وَمُقَوِّمٌ كُلَّ الْمُنْحَنِينَ [14]. تتجلى عظمة الله في اهتمامه بالساقطين والمنحنين ليقيمهم ويرد لهم الحياة الكاملة. إنه يقترب جدًا من الذين انحنت نفوسهم بسبب الأمراض أو الأحزان أو الضيقات، ويترفق بهم، ويميل بأذنيه ليسمع أنين قلوبهم الخفية. يقدم التسبيح للرب الذي يبسط يديه على الصليب، ليحتضن البشرية الساقطة. يرفعها من التراب، ويقيمها لتنعم بشركة المجد الأبدي. هذه هي مسرته! * الذين يفقدون شيئًا في هذا العالم وهم مقدسون، يكونون كمن هم محتقرين في هذا العالم. فبعد أن كانوا أغنياء صاروا فقراء، وبعد أن كانوا مكرمين صاروا في مستوى أقل، ومع هذا إذ هم قديسو الله يبدو أنهم ساقطون والرب يعضدهم. "لأن الصديق يسقط سبع مرات ويقوم، أما الأشرار فيعثرون بالشر" (أم 24: 16). عندما تحل الشرور على الأشرار يضعفون بها. وعندما تسقط على الأبرار فـ"الرب عاضد كل الساقطين، ومقوم كل المنحنين"... كل المنتمين إليه[32]. القديس أغسطينوس الأب أنسيمُس الأورشليمي إنه رب الجميع كما ترون ولا يعبر عن الساقطين أو يستخف بالمترنحين... كمثالٍ لقد أقام داود عندما سقط، وجعله قويًا. أقام بطرس عندما كان ساقطًا. لتصغوا ماذا فعل معه، إذ قال: "سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك". (لو 22: 31-32)[33] القديس يوحنا الذهبي الفم إن طبيب النفوس العظيم، الذي يريد أن يحرر، مستعد أن يشفي مرضكِ، ليس أنتِ وحدك فحسب، بل كل الذين أسرتهم الخطية[34]. القديس باسيليوس الكبير القديس أغسطينوس 5. الرب والعناية الإلهية أَعْيُنُ الْكُلِّ إِيَّاكَ تَتَرَجَّى، وَأَنْتَ تُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ [15]. كل راعٍ يود أن يشبع قطيعه، ويقدم له كل احتياجاته، لكنه يقدم كل شيءٍ في الوقت المناسب، حتى لا يسبب لقطيعه أذية. هكذا كثيرًا ما نشتهي أن يهبنا الله أمورًا صالحة، لكننا لا نعرف متى تكون لبنياننا، ومتى تسبب لنا أذية. يعرف راعينا السماوي ما يناسبنا، ويعرف الكمية المناسبة، وفي الوقت المناسب. لتتطلع أعيننا إليه في يقين نحو يديه. إنه محب وحكيم وسخي في العطاء! عظيم هو الرب في تقديمه احتياجات كل أحدٍ. لذلك كل الخليقة تتطلع إليه، وتعتمد عليه، فيقدم لها طعامها في حينه. إن كان الله يسمح بوجود فقراء وأغنياء، فإنه هو المهتم بالجميع، يعطي الجميع طعامهم في الوقت المناسب. يعطي الصالحين والخطاة. تتطلع كل الخليقة إلى خالقها بكونه المشبع كل احتياجاتها، وهو من جانبه يقدم ما تحتاج إليه حسب حكمته بالقدر اللائق وفي الوقت المناسب. * "أعين الكل إياك تترجى، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه". ذلك كأنك تنعش الإنسان المريض في حينه، عندما يلزم أن ينال شيئًا، أنت تعطيه. أحيانًا يشتاق البشر إلى شيءٍ وهو لا يعطيه؛ ذاك الذي يرعى يعرف الوقت المناسب للعطاء. لماذا أقول هذا يا إخوة؟ لئلا ينهار أحد إن لم يُسمع له عندما يطلب شيئًا صالحًا من الله. فإنه عندما يطلب شيئًا شريرًا لا يُسمع له كعقوبة، لكن عندما يطلب شيئًا صالحًا من الله، ليته لا يُصاب بحالة إحباط ولا ينهار. لتنتظر عيناه الطعام الذي يُقدم له في الوقت المناسب. عندما لا يعطي الله، يفعل ذلك لئلا ما يعطيه يسبب ضررًا. "أنت تعطيهم طعامهم في حينه"[36]. القديس أغسطينوس * "ليأت حبيبي إلى جنته، ويأكل ثمره النفيس". (نش 4: 16) إنه لتعبير جريء من نفس ممتلئة حماسًا وروعة ترتفع على كل تعجبٍ. من تدعوه العروس لوليمتها التي تتكون من فاكهتها الخاصة؟ لمن تُجهز العروس ولِيمتها التي أقامتها من مصادرها الخاصة؟ من تدعوه العروس لكي يأكل مما عرضته؟ هو "الذي منه وبه وله كل الأشياء". (رو 11: 36) إنه يعطي كل شخص طعامه في حينه (مز 145: 15)، يفتح يده ويملأ كل كائن حي بالنعيم. هو الخبز النازل من السماء (يو 6: 41)، وهو الذي يعطي الحياة للعالم، ويجعل المياه تفيض من نبعه الخاص للحياة. هذا هو الواحد الذي تُرتب العروس له مائدتها، وهي الحديقة التي تنبت منها أشجار حيّة. ترمز الأشجار إلينا، وتُشير أرواحنا المُخلصة إلى الطعام المُقدم له. قال لتلاميذه: "لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم" (يو 4: 32، 34)، وهو تتميم إرادة الله المقدسة! فهو "يريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون". (1 تي 2: 4) هذا الخلاص هو الغذاء الذي يُجهز له. تعطي إرادتنا الحرة الثمرة لله وهي أرواحنا، ليقطفها من على غصنها الصغير. تمتعت العروس في البداية بثمرة التفاح الحلوة المذاق، قائلة: "وثمرته حلوة لحلقي". (نش 2: 3) ثم أصبحت هي نفسها الثمرة الجميلة الحلوة التي قُدمت للراعي ليتمتع بها[37]. القديس غريغوريوس النيسي * إنّ الفقر الاختياري صالحٌ للذين لهم عادات صالحة، لأنهم بمجرد أن يطرحوا عنهم جميع الممتلكات غير الضرورية يأتون للرب بعلامةٍ على تعهُّدهم وهم يرتلون بطهارةٍ تلك الآية الملهَمة: "أعين الكل إياك تترجَّى، وأنت تعطيهم طعامهم في حينه". (مز 145: 15) القديسة الأم سنكليتيكي القديس يوحنا الذهبي الفم تَفْتَحُ يَدَكَ، فَتُشْبِعُ كُلَّ حَيٍّ رِضىً [16]. يفتح الرب يده، فمع إشباع كل حي باحتياجاته يملأه فرحًا وسرورًا. كل مخلوق له ما يناسبه لكي يشبعه ويبهجه! * العلامات التي بها نعرف الله هي ذات العلامات التي بها يلزم على الابن أن يراها في علاقته بأبيه "يفتح يده، ويشبع كل حي بالفرح عن الإثم". (مي 7: 18 LXX) "يندم على الشر". (يوئيل 2: 13) "يوم الرب صالح للكل ولا يغضب علينا كل يوم". (مز 145: 9 LXX) "الله مستقيم لا ظلم فيه". (مز 92: 15 LXX) هذا هو ما يفعله الآباء لأبنائهم... إن كنت هكذا فإنك بالحق تصير ابنًا لله[39]. القديس غريغوريوس النيسي القديس أمبروسيوس 6. الرب كلي الرحمة الرَّبُّ بَارٌّ فِي كُلِّ طُرُقِهِ، وَرَحِيمٌ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ [17]. إنه عظيم في برّه وحنوه. يليق بنا أن ندرك أن الله لا يبخل على خليقته بشيءٍ، لكن وإن سمح أحيانًا بمتاعب، أو ما نسميها أحيانًا كوارث ومحن، فإنه لا يتم شيء بدون حكمة الرب العادل في كل طريقه والبار في سائر أعماله. لا يخطئ في تصرفاته. * عندما يضرب وعندما يشفي هو بار، ولا يوجد فيه شر. كل قديسيه عندما يوضعون في وسط ضيقة أولًا يسبحونه، وبعد ذلك يطلبون بركاته. يقولون أولًا: "ما تفعله هو مستقيم". هكذا سأل دانيال وغيره من القديسين: "بارة هي أحكامك، بحق نحن نتألم، إننا نستحق الألم". لا ينسبون شرًا لله، لا ينسبون له ظلمًا... أولًا يسبحون تأديباته، وبهذا يدركون رعايته[41]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم 7. الرب قريب الرَّبُّ قَرِيبٌ لِكُلِّ الَّذِينَ يَدْعُونَهُ، الَّذِينَ يَدْعُونَهُ بِالْحَقِّ [18]. قمة عطاياه - كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[43]- إنه قريب للذين يدعونه، بمعنى أنه يتنازل ويلتصق بالذين يطلبونه بإخلاص، ويهتم بهم، ويُظهر لهم أعظم درجات العناية الإلهية، ورحمته وحنوه، ويعلن لهم الخيرات بصورة فائقة. * كثيرون يدعونه، ولكن ليس بالحق. يطلبون منه شيئًا، لكن لا يطلبونه هو. لماذا تحب الله؟ "لأنه جعلني معافى". واضح أنه هو الذي جعلك هكذا. فإن الصحة لا تأتي من أحدٍ سواه. يقول آخر: "لأنه أعطاني زوجة غنية. بينما كنت قبلًا لا أملك شيئًا، وهي تغنيني". هذه أيضًا هو أعطاك؛ أنت تقول الحق... لذلك فإن الله صالح، هذا الذي يعطيك ما هو لديك، كم بالأكثر تكون مطوّبًا عندما يعطيك نفسه! لقد اشتهيت كل هذه الأشياء منه، أسألك أن تشتهيه هو أيضًا. فإن هذه الأشياء بالحق ليست أحلى منه، ولا يمكن مقارنتها به بأي حال من الأحوال. إذن من يفضل الله نفسه عن كل الأشياء التي يتقبلها منه، ومن أجل ذلك يفرح بالأشياء التي يتقبلها، فهو يدعو الله بالحق[44]. القديس أغسطينوس الآن وقد تجسد كلمة الله دعانا أحباء وإخوة، ووهبنا البنوة للآب. في العهد القديم ينسب الله نفسه لأتقيائه، فيدعو نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، وفي العهد الجديد قدم لنا الدالة لندعو الله في كل صلواتنا الجماعية والشخصية: "أبانا الذي في السماوات..." الأب أنسيمُس الأورشليمي القديس يوحنا الذهبي الفم 8. الرب سامع الصلوات يَعْمَلُ رِضَى خَائِفِيه،ِ وَيَسْمَعُ تَضَرُّعَهُمْ، فَيُخَلِّصُهُمْ [19]. من يتقي الله أو يخافه، إنما يجد مسرته في الله نفسه، ويعمل الله ما يسره في الوقت المناسب واللائق والنافع له. يجد خائفو الرب لذتهم في مشيئة الله، والله من جانبه يتمم اشتياقهم حسب حكمته. كما هو عظيم في برِّه [17] لا يخطئ في تصرفاته، هو عظيم في خلاصه لخائفيه الذين يطلبونه، يقتربون إليه بإيمانٍ وبقلبٍ نادمٍ على أخطائه. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم[46] إن بولس طلب منه أن يفارقه ملاك الشيطان أي التجارب والضيقات، لكن الله لم يفعل ذلك. بالحقيقة فعل ما هو لصالح بولس الرسول، إذ قال: "لذلك أُسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حيث أنا ضعيف، فحينئذٍ أنا قوي". (2 كو 12: 8-10) * إنه بالتأكيد سيخلص (مز 145: 19)، لكنه سيفعل هذا بالطريقة التي يعد بها. بأية طريقة هو يعد بهذا؟ أن نريد نحن ذلك، وأن نسمع له. فإنه لا يقدم وعدًا لكتلٍ خشبية![47] القديس يوحنا الذهبي الفم * "(الله) يصنع مشيئة خائفيه". إنه يتممها، وإن كان لا يتممها في الحال، لكنه يتممها. حقًا إن كنت تخاف الله فلتتمم مشيئته، وتراه من جانبه هو يخدمك؛ إنه يصنع إرادتك. "يستجيب تضرعهم ويخلصهم". إنكم ترون أنه لأجل هذا يسمع الطبيب، كي ينقذ. متى؟ اسمعوا الرسول يخبركم: "لأننا بالرجاء خلصنا، لكن الرجاء المنظور ليس رجاء. لأن ما ينظره أحد كيف يرجوه أيضًا". (رو 8: 24) يدعوه بطرس: "خلاص مستعد أن يُعلن في الزمان الأخير". (1 بط 5: 5)[48] القديس أغسطينوس * سؤال من الأب نفسه إلى الشيخ الكبير: أتوسل إليك أن تخبرني من أين تأتيني ليونة الجسد وميوعة القلب؟ ولماذا لا أستطيع أن أمكث دائمًا في نفس التدبير؟إجابة الأب برصنوفيوس: أيها الأخ، إنني مندهش ومذهول من رؤية كيف أن أهل العالم الذين لهم شهوة الربح أو القتال يستخفون بالوحوش وفخاخ قطاع الطرق وأخطار البحر وحتى الموت ذاته. إنهم لا يجبنون من أجل الغِنى الذي يشتهونه بتلهُّفٍ، في حين أنهم غير متيقنين من الحصول عليه. ونحن البؤساء الجبناء الذين نلنا سلطانًا أن ندوس على "الحيات والعقارب وكل قوة العدو" (لو 10: 19)، نحن الذين سمعنا القول: "أنا هو لا تخافوا" (يو 6: 20)، نحن الذين نعلم بوضوح أننا لا نصارع بقوتنا، بل بقوة الله الذي يسلِّحنا ويحصنّا، نستسلم لليونة والاكتئاب! ومن أين يأتي ذلك؟ هذا لأن أجسادنا لم تتسمّر فيها مخافة الله (مز 118: 120 السبعينية)، ولأنه لم يجعل صراخ نوحنا (أو تنهُّدنا) مطلقًا ينسينا أكل خبزنا (مز 102: 4-5). لذلك نحن نتقلّب من جانب إلى آخر، ومن نظام إلى آخر، لأننا لا نتشبث تمامًا بالنار التي جاء الرب ليلقيها على الأرض (لو 12: 49)، والتي يمكنها أن تُهلك وتلتهم أشواك حقلنا الروحي، إن تخاذلنا وتغافلنا، وحبنا لأجسادنا لا يسمح لنا بالرحيل. يشهد لي ابن الله الحي أنني أعرف إنسانًا، وهو هنا في هذا الدير المبارك، ولا يقول أحد أنني أتكلم عن نفسي، فأنا لا أحسب نفسي شيئًا في أي أمر، هذا الإنسان يمكنه أن يبقى كما هو بدون أي غذاء أو شراب أو ملبس حتى يفتقده الرب، ولن يعوزه من كل ذلك أي شيء على الإطلاق، لأن غذاءه وشرابه ولباسه إنما هو الروح القدس! فإذا أردت نافسه وتشوّق وبادر، وامتلئ بالغيرة ومخافة الله، وهو سيحقق رغباتك. لأنه مكتوب: "يعمل رضى خائفيه" (مز 145: 19). وفي الحقيقة، فإنني أنا، الذي لستُ شيئًا، بسبب الوصية أعمل بقدر استطاعتي، ولكن الله هو الذي منه يكون الثبات والتحصين والتحرر وإتمام كل عملٍ صالحٍ وتجنُّب كل شر وتدبير الخلاص في ملكوته، وله المجد. آمين. فردوس الآباء 9. الرب حافظ محبيه يَحْفَظُ الرَّبُّ كُلَّ مُحِبِّيهِ، وَيُهْلِكُ جَمِيعَ الأَشْرَارِ [20]. عظيم هو أيضًا في سهره على كل محبيه. يدعوهم لكي يلقوا بكل همومهم عليه. أخيرًا عظيم هو في عدله، فيتخلى عن الأشرار المصممين على شرورهم، فيشربون من كأس الفساد الذي ملأوه بإرادتهم الشريرة. * إنه سيخلص كل الذين يرجونه، كل المؤمنين، كل الذين يخافونه، كل الذين يدعونه بالحق. "ويهلك جميع الأشرار". من هم جميع الأشرار سوى المصرين على الخطية، الذين في جسارة يلومون الله لا أنفسهم. الذين يجادلون يوميًا مقاومين الله، الذين ييأسون من غفران خطاياهم، وبهذا اليأس يكدسون خطاياهم، الذين يعدون أنفسهم بالمغفرة بطريقة فاسدة، وخلال هذا الوعد عينه لا يفارقون خطاياهم وشرورهم[49]. القديس أغسطينوس 10. مجدلة ختامية بِتَسْبِيحِ الرَّبِّ يَنْطِقُ فَمِي، وَلْيُبَارِكْ كُلُّ بَشَرٍ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ [21]. إذ يرى المرتل عظمة الله في كل شيءٍ، يلهج قلبه ولسانه وكل كيانه بالتسبيح له. يختبر عذوبة التسبيح، فيدعو كل بشرٍ ليشترك معه في هذه الخبرة المفرحة. * ألا ترون أنه في تدبيره اللائق يدعو ليس فقط الذين يتمتعون بإحسانه، بل والذين يعانون من العقاب (كعلامة على اهتمامه بالكل)، ليس فقط البشر، بل والحيوانات غير العاقلة، كل العناصر وكل الأشياء الجامدة، الكل مملوءون بصلاحه كما ترون[50]. القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي مزمور 145 هب لي ألا أُحرم من التسبيح لك! * تطلع المرتل إليك، وتلامس مع عظمتك الفائقة. عظيم أنت في صلاحك، يا من تحول المتاعب إلى تعزيات. وتنزع عنا فسادنا، فننعم بصلاحك في حياتنا، * عظيم أنت في رحمتك وحنوك، غافر الخطايا، ومنقذ النفوس من الفساد. * عظيم أنت في ملكوتك، يا من تقيم من قلبي عرشًا لك. عظيم أنت في مهابتك، تسكبها فيّ، فأحمل صورة بهائك. * عظيم أنت في عجائبك، فتجعل من شعبك عجبًا. تقيمنا من المزبلة، لنجلس مع الطغمات السماوية. تنزع عنا الطبيعة الترابية، لتهبنا السكنى في سماواتك. * عظيم أنت في طول أناتك، تفتح أبواب الرجاء للجميع. عظيم في رعايتك، تقيم الساقطين، وترفع المنحنين. عظيم في حراستك وسهرك، فلا يتسلل العدو، ليخطف أحدًا من يدك. * عظيم أنت في خلاصك، فتدخل بنا إلى أمجادك السماوية. عظيم أنت في برِّك، تكسونا به، فنتبرر بك. عظيم يا أيها القدوس وحده، فتقيم منا قديسين! * عظمتك تدعونا للتسبيح لك من دورٍ إلى دورٍ. نسبحك هنا من يومٍ إلى يومٍ. ونسبحك في السماء مع الطغمات السماوية أبديًا. نسبحك ونفرح بالمسبحين معنا. ليت كل بشرٍ يختبر لذة التسبيح لك! |
||||
22 - 07 - 2014, 07:58 PM | رقم المشاركة : ( 170 ) | ||||
† Admin Woman †
|
رد: تفسير الكتاب المقدس - تفسير سفر المزامير - القمص تادرس يعقوب
مزمور 146 (145 في الأجبية) - تفسير سفر المزامير حياة التسبيحتعتبر المزامير الأخيرة في النسخة العبرية 146-150 مزامير تسبيح، أو مجموعة هالليل Hallel، تشبه مزامير هالليل المصرية (113-118) ومزمور هالليل الكبير (136). يبدأ كل مزمور من المزامير الخمسة بالدعوة لتسبيح الرب، كما تنتهي بـ"هلليلويا". لا نسمع فيها عن صراعات أو آلام أو متاعب. ليس فيها أنين، وإنما تسابيح مفرحة وشكر على خلاص الله. إن ما يشغل المرتل هو فرح القديسين بمجد الله. مفتاح مزامير التسبيح تعتبر كلمة "سبحوا" أو مشتقاتها أو ما يعادلها هي مفتاح هذه المزامير. في المزمور 146 وردت في الآيتين الأولى والثانية، وفي المزمور 147 وردت في الآيات 1، 7، 12. وفي المزمور 148 وردت في ثلاث آيات. وفي المزمور 149 وردت كلمة "غنوا" في الآية 1، و"ليسبحوا" في الآية 3. وفي المزمور 150 وردت معدل مرتين في كل آية. يستطيع المرتل أن يقول: "أما أنا فتسبيح للرب"، يربط التسبيح بكل جوانب حياته. 1. لا حياة بدون تسبيح [1-2]. إذ يود المرتل أن تكون حياته إعدادًا للأبدية، يريد ألا يتوقف عن التسبيح مادام موجودًا. فكل ما في السماء هو تسبيح، وأما جهنم فلا تعرف التسبيح قط، لا وجود له فيها. وعلى الأرض يمكن أن للإنسان أن يسبح أو يتوقف عن التسبيح. 2. التسبيح يشجع على الإيمان بالله والثقة فيه [3-4]. فمن يثق في طبيعة السماوي لا يتوقف عن مدحه والتسبيح له في أعماقه، كما أمام الآخرين، وإذ يسبحه ينمو بالأكثر إيمانه به. أما من لا يثق في طبيعة السماوي متكلًا على أصحاب السلاطين أو الإمكانيات الزمنية، فيقلل من التسبيح لله حتى يتوقف تمامًا. 3. التسبيح يشجع على الرجاء [5-7]. التسبيح يملأ النفس فرحًا، ويبث فيها الرجاء في الرب، فتسبح الرب في كل الظروف. 4. التسبيح يشجعنا على المحبة لله والناس [8-10]. كأن التسبيح يرتبط بالحياة نفسها كما بالإيمان والرجاء والمحبة. من الجانب الليتورجي ينقسم المزمور إلى خمسة أقسام. 1. الشعب: دعوة للتسبيح الدائم 1-2. 2. نصيحة كهنوتية: عدم الاتكال على البشر 3-4. 3. تطويب كهنوتي 5. 4. الشعب: اعترفوا بالإيمان 6-9. 5. لحن ختامي 10. من وحي المزمور 146 العنوان هَلِّلُويَا. جاء عن الترجمة القبطية والسبعينية: "مرسوم بهللويا. لحجَّي وزكريا". يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن كلا من النبيين حجَّي وزكريا كانا يسبحان به بعد رجوع اليهود من سبي بابل. 1. الشعب: دعوة للتسبيح الدائم سَبِّحِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ [1]. يبدأ المزمور بحوار المرتل الممتع مع نفسه. يبدأ بدعوة نفسه وسط آلامه وضيقاته لكي تسبح. قبل أن يدعو الإنسان غيره للتسبيح يليق به أن يدعو أعماقه لممارسة التسبيح، فمن جانب يدرك المؤمن أن يؤكد لنفسه علاقته الشخصية الدائمة مع الله، ومن جانب آخر فإن التسبيح كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أقوى سلاح لمقاومة إبليس. ومن جانب ثالث فإن المؤمن يصير نموذجًا عمليًا لمن هم حوله. يرى القديس أغسطينوس أن المتحدث هنا ليس الجسد ليقدم النصيحة للنفس، لأن النفس هي التي تصدر النصح والأوامر للجسد، وليس العكس. يشَّبه النفس بالذهب والجسد بالرصاص، فإن الذهب وإن أصابه صدأ، فهو أثمن من الرصاص، حتى وإن بدا نقيًا ولامعًا. هنا النفس (أو العقل) تنصح ذاتها. * انظروا فإن المزمور يعلن: إنه صوت شخصٍ يشجع نفسه لكي تسبح الله، قائلًا لنفسه: "سبحي يا نفسي الرب". لأنه أحيانًا في الضيقات والتجارب التي للحياة الحاضرة تصير نفوسنا مضطربة، أردنا أو لم نرد... فلإزالة هذا الاضطراب يقترح (المرتل) الفرح، لا كواقعٍ حقيقيٍ بل في رجاءٍ، ويقول لنفسه وهي مضطربة وفي قلقٍ وحزنٍ: "ترجي الله، فإني أعترف له"[1]. القديس أغسطينوس تشجع النفس كيانها بغيرةٍ، وكأن داود يقول: "سبح الرب يا داود"[2]. القديس جيروم وَأُرَنِّمُ لإِلَهِي مَا دُمْتُ مَوْجُودًا [2]. جاءت كلمة "يهوه" أو "الرب" ثلاث مرات في الآيتين 1 و2، وذلك كما تكررت ثلاث مرات في البركة الخاصة بالكهنة (عد 6: 24-26)، حيث يُقدم التسبيح للثالوث القدوس، ويقوم الثالوث بتقديم البركة للشعب كما للمؤمن. إن كان المسيح هو حياتنا، فإننا إذ نلتصق به ونقتنيه في أعماقنا نتمتع بالحياة، وتمتلئ نفوسنا فرحًا، فتسبح في كل حين! إذ ننشغل بالخطية ونلتصق بها نُحسب أمواتًا وغير موجودين، فلن نستطيع التسبيح حتى وإن رددت أفواهنا وألسنتنا كلمات التسبيح! * تجمع (النفس) ذاتها كما في حالة صحية، وتقول: "سبحي يا نفسي الرب"... وعندئذ إذ انحدرت وصارت عاجزة عن القيام كما يجب تجيب العقل: "أسبح الرب في حياتي". ماذا يعني "في حياتي"؟ لأنني الآن أنا في موتي...! تجيبك نفسك قائلة، أسبح قدر ما استطيع، فإني هزيلة وفقيرة وضعيفة. لماذا؟ "ونحن مستوطنون في الجسد، فنحن متغربون عن الرب" (2 كو 5: 6). "في حياتي"... إن كان الالتصاق به هو حياة، فإن التغرب عنه موت. ولكن ماذا يريحكم؟ الرجاء! الآن تعيشون في الرجاء، وفي الرجاء تسبحون، في الرجاء تغنون. موتكم نابع عن حزن هذه الحياة. إنكم تحيون في رجاء الحياة العتيدة. وكيف ستسبحون الرب؟ "أرنم لإلهي مادمت موجودًا[3]". القديس أغسطينوس "سأسبح الرب في حياتي". بحقٍ يقول المرتل: "سأسبح" وليس "أسبح". عندما أكون مع ربي، عندئذ أسبحه في حياتي. الآن أنا في الموت؛ لا استطيع أن أتفوه بالتسبيح. في حياتي سأسبح. حياتي هي المسيح. لنسبح الرب في الحياة... عندما نتمم أعمال البرّ، نكون أحياء، وعندما نخطئ نكف عن ذلك[4]. القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم 2. نصيحة كهنوتية: عدم الاتكال على البشر لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ عَلَى ابْنِ آدَمَ، حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ [3]. يدعونا الروح المقدس أن نسبح الله كل أيام حياتنا. من علامات هذا التسبيح عدم الاتكال على الذراع البشري، مهما كان مركز الإنسان أو سلطانه أو إمكانياته، فإنه عاجز عن تقديم الخلاص لنفسه كما لمن هم حوله. جاء بقية المزمور يوضح لماذا الله وحده دون الإنسان يستحق الاتكال عليه. يليق بنا ألا نتكل على ذراع بشر، حتى على الرؤساء، فإنهم عاجزون عن تحقيق خلاصهم، فكيف يخلِّصون الغير؟ * الآن خلال نوع من الضعف تدخل نفس الإنسان في ضيقٍ هنا، فتيأس من الله، وتختار الاعتماد على إنسانٍ. إن قيل لإنسان ساقط في نوعٍ من الحزن: "يوجد إنسان عظيم يمكنك به أن تتحرر"، يبتسم ويفرح ويرتفع. لكن إن قيل له: "الله يحررك"، يصير في برودة لا يتكلم، بسبب اليأس. عندما تنال وعدًا من إنسانٍ مائتٍ تفرح، فهل عندما تنال وعدًا من الخالد تحزن؟ إنك تنال وعدًا أن تتحرر من إنسانٍ يحتاج إلى التحرر معك، ومع ذلك تتهلل كما لمعونةٍ عظيمةٍ، وها أنت تنال وعدًا من المحرر (الإلهي) الذي لا يحتاج إلى من يحرره، ومع ذلك تيأس كما لو كان تافهًا! ويل لمثل هذه الأفكار، فإنها تجول بعيدًا. حقًا في داخلها حزن وموت عظيم! إنه لن يترك عمله (الإنسان) مادام عمله لا يتركه[6]. القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم الأب إبراهيم الآن ما يعنيه هو هذا: كيف يُمكن لمن هو عاجز عن الدفاع عن نفسه أن يسحب الآخرين (من الخطر)؟ لا يمكن ذلك بكل الطرق، فإن هذا الرجاء غير ثابت وغير سليم. هذا ما توضحه الطبيعة. لذلك فإن بولس في حديثه عن الرجاء في الله قال: "والرجاء لا يخزى" (رو 5: 5)، أما الأمور البشرية، فمن الجانب الآخر، أضعف من الظل. أقصد بذلك، لا تقل لي إن هذا حاكم، فإنه حتى الحاكم لا يزيد عن أن يكون غريبًا، يتعرض كغيره لعدم الثبات. لا يمكن الاعتماد على إنسان أيًا كان مركزه أو قدرته أو إمكانياته. فمن جهة، هذه كلها غير دائمة. ومن جانب آخر، حتى الحاكم نفسه قد يتعرض للغدر والخيانة من الحراس أنفسهم، فإن كان يعجز عن حماية نفسه، فمن يحرسه؟ هل يستطيع أن ينقذ الآخرين؟ من جانب آخر، فإن كان هذا الحاكم نفسه سيموت ويتعرض للهلاك، فكم بالأكثر تكون وعوده واهية ومعرضة للدمار[9]. القديس يوحنا الذهبي الفم فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَفْسِهِ تَهْلِكُ أَفْكَارُهُ [4]. شتان ما بين ذراع البشر ومسيحنا ذراع الله. فالبشر يموتون، فترجع أجسامهم إلى التراب، أما مسيحنا فمات، ولم يرَ جسده فسادًا، بل ووهبنا الحياة المُقامة هنا، كما يق يم أجسادنا عند مجيئه الثاني. يعجز عظماء هذا العالم عن مساندة أحدٍ، خاصة بعد خروج نفوسهم من أجسامهم، كما تبطل كل تهديداتهم، وتزول كل أحلام يقظتهم. * كثيرون يضعون رجاءهم في رئيسٍ. اليوم هو موجود، غدًا لا يوجد بعد. اليوم يتقدمه جيش، بالليل ينام في قبره[10]. القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم وعن الملائكة يقول في سفر المزامير: "الصانع ملائكته رياحًا وخدامه لهيب نار" (مز 104: 4). وعن الرياح يقول: "وروح عاصف بها تكسر سفن ترشيش" (مز 48: 7)، وأيضًا "النار والبرد والضباب والروح العاصف" (إش 12: 2). وعن التعليم الصالح يقول الرب نفسه: "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة" (يو 6: 63) بدلًا من أن يقول "هو روحي". أما الروح القدس، فلا ينطق به اللسان، إنما هو روح حيّ يهب الحكمة في الكلام متحدثًا وواعظًا بنفسه[12]. القديس كيرلس الأورشليمي * الخطط التي تتحدث عنها هي تلك الخاصة بهذا العالم، بخصوص البيوت والممتلكات، الآباء والأبناء، والمعاملات التجارية. هذه جميعها تتدمر فورًا عندما تعبر النفس من الجسم، ولا يعود يُذكر شيء من هذا أو يكون موضع اعتبار[13].الأب دوروثيؤس من غزة 3. تطويب كهنوتي طُوبَى لِمَنْ إِلَهُ يَعْقُوبَ مُعِينُهُ، وَرَجَاؤُهُ عَلَى الرَّبِّ إِلَهِهِ [5]. الاتكال على إله يعقوب هو طريق السعادة والعون والرجاء. * ماذا ينبغي علينا أن نفعل إن كنا لا نضع رجاءنا في بني البشر، ولا في الرؤساء؟ "طوبى لمن إله يعقوب معينه"، ليس هذا الإنسان أو ذاك، وإنما "طوبى لمن إله يعقوب معينه"... لقد صار يعقوب إسرائيل، أي "رؤية الله"، وبهذا ينتهي كل تعبٍ وكل التنهدات، وتبطل كل مضايقات الهموم، ويتبع ذلك تسابيح سعيدة (مطوّبة)[14]. القديس أغسطينوس القديس جيروم * أنصحكم ألا تتركوا كل شيءٍ لله وأنتم تغطون في النوم في عدم اكتراث. ولا عندما تجتهدون في سعيكم تظنون أن بمجهوداتكم يتحقق كل العمل. الله لا يريد منا أن نكون كسالى. فإن الله لا يتمم كل العمل بنفسه... ولا إرادته أن نكون مكتفين بأنفسنا تمامًا، إذ لا يترك الله العمل كله لنا وحدنا[17]. * ليس أحد يمارس حياة صالحة، ويقلق من جهة المستقبل... هل واقعنا الصالح يكمن في الرجاء؟ نعم، لكنه ليس رجاءً بشريًا الذي غالبًا ما يبطل ويترك خلفه الارتباك فقط. رجاؤنا هو في الله، لذا فهو أكيد وثابت[18]. القديس يوحنا الذهبي الفم 4. الشعب: اعترفوا بالإيمان الصَّانِعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، الْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا. الْحَافِظِ الأَمَانَةَ إِلَى الأَبَدِ [6]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الحافظ العدل إلى الدهر". وجاءت الترجمة عن القديس أغسطينوس "الحافظ الحق إلى الأبد". يقدم لنا المرتل الأسباب التي تجعلنا نتكل على الله. أولها أنه الخالق كلي القدرة. إن كان قد خلق السماوات والأرض والبحر وكل ما فيها، ماذا لا يقدر أن يفعله؟ أيضًا، إذ هو أمين في وعوده، ومخلص في محبته، يُمكن الاعتماد عليه والثقة فيه. لن يقدر أن يكذب أو يتراجع في وعوده. ليس من خطرٍ نخشاه عند اتكالنا عليه. إنه لن يخفق في تحقيق وعوده. إن كانت السماوات والأرض قد بقيتا كل هذه القرون الطويلة، فكم بالأكثر يبقى خالقها أمينًا في وعوده إلى الأبد. * لنا يا إخوتي الله العظيم، لنبارك اسمه القدوس، الذي تفضل وجعلنا مقتناه. كل ما ترونه قام بخلقه. إنكم تُعجبون من العالم، لماذا لا تُعجبون من خالق العالم؟ إنكم تنظرون إلى فوق وتدهشون، إنكم تتأملون كل الأرض وترتعبون، متى يمكنكم أن تحتوي أفكاركم اتساع البحر...؟ انظروا، فإن الذي صنع هذا كله هو إلهكم! ضعوا رجاءكم فيه، فتسعدون[19]. القديس أغسطينوس "الحافظ العهد إلى الأبد". إن كنا نُُسحق بالباطل والخداع، فلنحزن على ذلك. الرب هو الحافظ للحق كل الأبدية. قد يكذب أحد علينا، وقد يُصدَّق الكذاب أكثر منا نحن الذين نُخبر بالحق، يلزمنا ألا نيأس، فإن الرب حافظ الحق إلى الأبد... بلياقة قيل "يحفظ". إنه يحفظ الحق، ويحفظه في خزنته، ويرد لنا ما قد خزَّنه بعيدًا عنا. "حافظ الحق إلى الأبد". المسيح هو الحق؛ لتنطق بالحق، والحق يحرس الحق لنا." (الرب) يجري عدلًا للمظلومين" (راجع مز 146: 7). فإنه وإن تأخر العدل في مجيئه لا تفقد الرجاء، فإنه بالتأكيد سيأتي، ويقدم خلاصًا ويحقق عدلًا للمظلومين... المسيح هو الحق. لننطق بالحق. فإن الحق (المسيح) يحفظ الحق لنا[20]. القديس جيروم القديس يوحنا الذهبي الفم لكن كيف يستطيع الأشرار أن يعطوا عطايا صالحة؟! لقد دعاهم أشرارًا، لأنهم لا زالوا إلى الآن محبين للعالم وخطاة. وقد دعيت الأشياء صالحة بحسب مشاعرهم، فهي رغم كونها صالحة حسب طبيعتها، لكنها أمور زمنية خاصة بهذه الحياة الواهية. غير أن الأشرار لا يعطون هذه العطايا من عندهم، لأن للرب الأرض وملؤها (مز 1:24). الذي صنع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها (مز 6:146). فإن كنا ونحن أشرار نعرف كيف نعطي ما يسألونه منا، فلا نخدع أبناءنا، بل نعطيهم أشياء صالحة ليست منا بل من الرب، فكم بالأكثر يكون رجاؤنا في الرب أن يعطينا عندما نطلب منه أمورًا صالحة[22]. القديس أغسطينوس الْمُعْطِي خُبْزًا لِلْجِيَاعِ. الرَّبُّ يُطْلِقُ الأَسْرَى [7]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الرب يحل المقيدين". إذ يقول المرتل: "الحافظ العدل أو الحق إلى الأبد، يتساءل القديس أغسطينوس ما هو هذا الحق الذي يحفظه؟ وأين يحفظه؟ جاءت العبارة التي تليها كإجابة على هذين التساؤلين. إنه مدافع عن العاجزين عن حماية أنفسهم أو عن الدفاع عن أنفسهم. يحسب قضاياهم قضاياه هو شخصيًا. يبدو كأن الأمواج ضدهم والرياح تحطمهم، لكن النصرة لهم أكيدة في الوقت المناسب. إن يعول الجياع والعطاش روحيًا وجسديًا. يحضرنا إلى وليمته، ويدخل بنا كما إلى سماواته، لنتمتع بخبز الملائكة. يميز القديس أغسطينوس بين نوعين من الجائعين، فالله يعطي الطعام المادي لأي جائع، أما الجائعين إلى البرَّ، فيقدم لهم طعامًا خاصًا يشبعهم. إنه محرر الأسرى من الضغوط البشرية، وقيود الخطية، وقبضة العالم، وعبودية إبليس، بل ومن مذلة الأنانية التي تحطم قلوبنا. يوضح القديس أغسطينوس معنى المظلومين هنا، فإنه ليس كل من يعاني من متاعب يُحسب مظلومًا يدافع عنه الله. إنه يدافع عن المتألمين عن ظلم، وليس عن خطأ ارتكبوه. فاللصوص يعانون أمورًا كثيرة، وأيضًا الأشرار من زناة ومخادعين، لكنهم ليسوا مظلومين يدافع الله عنهم. * "الصانع الحكم للمظلومين". إنه ينتقم للمظلومين. يأتي إليكم صوت الرسول: "الآن فيكم عيب مطلقًا، لأن عندكم محاكمات بعضكم مع بعض. لماذا لا تُظلمون بالحري" (1 كو 6: 7). إنه يحثكم ألا تنزعجوا، وإنما تُظلمون. ليس كل انزعاج هو ظلم... اهتموا بما تفعلونه، لا بما تعانون منه. فإن فعلتم أمرًا مستقيمًا تُظلمون، أما إن فعلتم شيئًا خطأ، فإنكم تعانون عن حقٍ[23]. * يليق بنا أن نكون جائعين إلى الله[24]. * كان جسمنا زينة لنا، الآن أخطأنا، بهذا صارت له قيود موضوعة علينا. ما هي القيود؟ فسادنا![25] القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم * إن كان العدل يتأخر لكنه قادم، لا تفقد الرجاء. بالتأكيد هو قادم (راجع حب 2: 3)، ويجلب الخلاص. "المجرى حكمًا (عدلًا) للمظلومين...""المعطي خبزًا للجياع"... للجياع، وليس للعنفاء... لنجوع إلى المسيح، وهو يعطينا الخبز السماوي... "الرب يطلق الأسرى" إن كان هذا الخبز، الكلمة الإلهية، والتعلم السماوي، ينعش النفس، فإنه يحرر أقدامنا فورًا من أغلالها. الرب يحرر الأسرى. كان لعازر مربوطًا بقيودٍ، وقال الرب: "حلوه" (يو 11: 44). الرب يحل القيود[27]. * لما كان "الرب يطلق الأسرى" (مز 146: 7)، ويجد راحته في المنسحق الروح والمرتعد من كلمته (إش 66: 2)، فإنه قد يقول لي أنا الراقد في قبر الخطية: "جيروم! هلم خارجًا" (يو 11: 43)[28]. القديس جيروم الرَّبُّ يُقَوِّمُ الْمُنْحَنِينَ. الرَّبُّ يُحِبُّ الصِّدِّيقِينَ [8]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الرب يحكم العميان، الرب يحب الصديقين". يهتم الله بالعميان روحيًا وجسديًا، البعض يفقد البصر أو البصيرة منذ ميلادهم، والبعض خلال بعض الأحداث، والآخرون بمحض اختيارهم. ليس شيء مستحيل بالنسبة له، يود بالأكثر أن يفتح البصيرة الداخلية لكي تعاينه. إذ يقول: "طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله" (مت 5: 8). كما يرفع المنحنين بسبب ما أصابهم من حالة يأس وإحباط، تحت ثقل القلق والمتاعب والأحزان. يعلن الله محبته واحتضانه للصديقين الذين يطيعون وصيته، ويُسرون بمشيئته. * لم يرد أن يقول: "الرب ينير العميان"، لئلا تفهموا هذا أنه خاص بالجسد، وذلك كما استنار الرجل (الأعمى) بواسطة الرب، إذ طلى عينيه بالطين حين تفل، وشفاه. فلا تطلبوا أن تنظروا إلى شيءٍ مثل هذا عندما يتكلم (الله) عن أمورٍ روحية، إذ يشير إلى نوع من نور الحكمة به يستنير الأعمى[29]. القديس أغسطينوس يقول الرب: "إن كنت أعمى يليق بك ألا تخطئ؛ فإن قلوبنا تصير في عمى بسبب ظلمة الخطايا. الغباوة والحماقة هما ظلمة عيوننا. لذلك عندما نقتات في جوعنا، وتتحرر أقدامنا من قيودها، فإنه بعين قلبنا نبدأ نرى النور الذي فقدناه في وقتٍ ما، وننمو في الحكمة. أخيرًا نصير بحقٍ حكماء، ماذا بعد ذلك؟ "الرب يقوِّم المنحنين". حتى إن كنت منبطحًا، لكن في سلامٍ، فإن الرب يمد لك يده. "الرب يحب الصديقين" أرى هنا أمرين يلزم أن يكونا في الاعتبار: إنه يحب ويحمي. من يحب إنما كمن يحب نفسه، ومن يحمي إنما يصون من كان في خطرٍ. الرب يحب الصديقين. يحب الرب الإنسان الصديق والكامل، ويحرس الغريب الذي لم يدخل خدمة الرب [9][30]. القديس جيروم * ليس أحد يمارس حياة صالحة يقلق من جهة المستقبل... هل صلاحنا بحق يعطي رجاءً؟ نعم، لكن ليس رجاءً بشريًا يبطل، ويسبب وراءه ارتباكًا. رجاؤنا هو في الله، فهو أكيد وثابت[32]. القديس يوحنا الذهبي الفم وكما أن الابن هو الحكمة، فإننا إذ نقبل روح الحكمة يصبح لنا الابن، وفيه نصير حكماء. لأنه هكذا كُتب في المزمور المائة والخامس والأربعين: "الرب يطلق الأسرى، الرب يحكم العميان" (مز 146: 7-8)، وعندما يعطي لنا الروح القدس... يصبح الله فينا، لأنه هكذا كتب يوحنا: "إن أحب بعضنا بعضًا، فالله يثبت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا، أنه قد أعطانا من روحه" (1 يو 4: 12-13). وعندما يكون الله (الآب) فينا يكون الابن أيضًا فينا، لأن الابن نفسه قال: "الآب وأنا نأتي، وعنده نصنع منزلًا" (يو 14: 23). وأيضًا كما أن الابن هو الحياة، لأنه قال: "أنا هو الحياة" (يو 14: 6)، فإننا نحيا بالروح القدس. إنه يقول: "الذي أقام المسيح من الأموات سيحيي أجسادهم المائتة، أيضًا بروحه الساكن فيكم" (رو 8: 11)، وعندما نحيا بالروح القدس، يكون المسيح نفسه حيًا فينا، لأنه يقول: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ" (غل 2: 20). القديس أثناسيوس الرسولي البابا أثناسيوس الرسولي ما هذا الذي قيل: "ازرعوا لأنفسكم نور المعرفة"[34] (هو 12:10)، وقد قيل عن الله: "المعلم الإنسان معرفةً" (مز 10:94)، "الرب يفتح أعين العمي" (مز 8:146)، أو ما نقوله في صلواتنا بالنبي: "أَنِرْ عينيَّ لئَلاَّ أنام نوم الموت" (مز 3:13)؟! في هذا كله إعلان عن نعمة الله وحرية الإرادة، حتى متى رغب إنسان في السلوك في طريق الفضيلة، يقف سائلًا مساعدة الرب. فلا يقدر أن يتمتع بالصحة الجيدة بإرادته، وبرغبته يتحرر من الضعف. لكن الأمر الصالح الذي نتوق إليه من جهة الصحة لا أناله ما لم يهبه الله الذي يمنحنا متعة الحياة ذاتها ويقدم لنا الصحة المملوءة نشاطًا. من الواضح أنه خلال سمو الطبيعة التي وهبها لنا صلاح الخالق أحيانًا تثور فينا بداية الإرادة الصالحة، والتي لا نقدر أن نحققها عمليًا أو نتممها بغير قيادة الرب. ويشهد بذلك الرسول القائل: "فإني أعلم أنه ليس ساكن فيَّ، أي في جسدي، شيء صالح. لأن الإرادة حاضرة عندي، وأما أن أفعل الحُسنَى فلست أجد" (رو 18:7)[35]. الأب شيريمون القديس برصنوفيوس يَعْضُدُ الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ. أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَيُعَوِّجُهُ [9]. يهتم الله بالغرباء، خاصة الأسرى، يعزيهم لكي يشعروا أنهم يجدون راحتهم فيه أينما وُجدوا. يسند الله من لا عون له مثل اليتيم والأرملة. أما الأشرار الذين يحسبون أنهم فوق القانون، ليس لأحدٍ سلطان عليهم، فإنه وإن أطال أناته عليهم لعلهم يرجعون إليه ويتركون طريق الشر، تصطادهم شرورهم، وتنتهي حياتهم بالدمار. * كل كنيسة من الأمم هي غريبة. فقد جاءت إلى الآباء وهي ليست من نسلهم حسب الجسد، إنما صارت ابنة لهم بالتمثل بهم. يحفظها الرب وليس إنسان ما. "ويعضد اليتيم والأرملة": لا يفكر أحد أن الرب يعضد اليتيم بميراثٍ له، والأرملة ليقدم لها عملًا. بالحق الرب يعضدهم، ويعمل في الجنس البشري، يقدم خيرًا، ذاك الذي يعتني باليتيم، ولا يترك الأرملة. ولكن بنوعٍ ما نحن جميعًا أيتام، ليس لأن أبانا ميت، بل لأنه غائب (عن حياتنا)... "وطريق الخطاة يبيد": ما هو طريق الخطاة؟ الاستخفاف بالأمور التي نقولها... ما هو ملكوت السماوات؟! ماذا تكون عقوبة جهنم؟! إنها خزعبلات المسيحيين. ما أراه هو ما أحياه. لنأكل ونشرب، فإننا غدًا نموت (1 كو 15: 32). احذروا لئلا يقنعكم مثل هؤلاء الناس إلى عدم المبالاة. ليتهم لا يدخلون إلى قلوبكم من خلال آذانكم... ألا تصدقون ما يقوله الرب إلهكم: "واسع الباب، ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك، وكثيرون هم الذين يدخلون منه" (مت 7: 13) هذا الطريق يبيده الرب[36]. القديس أغسطينوس "أما طريق الأشرار فيحطمه". لم يقل المرتل إنه يحطم الخطاة... إن كان المسيح هو طريق الأبرار، فطريق الأشرار هو الشيطان، فهو يحطم طريق الأشرار[37]. القديس جيروم أما الآن وقد أخذ الله زوجكِ لنفسه، فإنه يحتل مكانه بالنسبة لكِ. هذا لا أقوله من عندي، بل يقول النبي الطوباوي: "يعضد اليتيم والأرملة" (مز 9:146). وفي موضع آخر يقول: "أبو اليتامى وقاضي الأرامل" (مز 5:68). وهكذا نجد الله يهتم بهذه الفئة من البشرية بغيرة كما عبر عن ذلك بعبارات كثيرة[38] . القديس يوحنا الذهبي الفم 5. لحن ختامي يَمْلِكُ الرَّبُّ إِلَى الأَبَدِ، إِلَهُكِ يَا صِهْيَوْنُ، إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ. هَلِّلُويَا [10]. يختم المزمور ببث روح الرجاء في حياة الإنسان التقي المُسبح لله، فإنه إذ يلتصق بالأبدي الذي يملك في السماء، وينعم الإنسان بالأبدية المفرحة. يرى القديس جيروم أن تعبير "إلى دورٍ فدور" في كل الكتاب المقدس يرمز إلى شعبين: اليهود والأمم. * عندما يهلك طريق الخطاة عندئذ يملك الرب إلى الأبد. لم يقل النبي: إنه يملك في العالم الحاضر، وإنما إلى الأبد... ما دامت أقدامنا تسير في طريق الشيطان لا يملك المسيح فينا. إني أفسح المجال للغضب ضد أخي باطلًا، إني بهذا أسير في طريق الشيطان، فلا يملك المسيح فيّ[39]. القديس جيروم القديس أغسطينوس القديس يوحنا الذهبي الفم من وحي المزمور 146 أما أنا فتسبيح للرب! * هب لي يا ابن داود أن أحمل روح التسبيح. فاقتدي بداود مرتل إسرائيل الحلو. كانت حياته كلها تسبيح حتى في وسط ضيقاته. قيثارته وربابه ومزماره لم تفارقه. بل تحول كل كيانه إلى قيثارة، يعزف عليها روحك القدوس. تأهل بروح التسبيح والشكر لنقاوة القلب. وبنعمتك تأهل أن تصير حياته تسبحة مفرحة. * لأصرخ مع المرتل، قائلًا: سبحي يا نفسي الرب! أدعو أعماقي أن تتحول إلى خورس تسبيح. فأتهيَّأ للشركة مع السمائيين، وبالنعمة أتمتع بعربون السماء! فالسماء بيت التسبيح، وجهنم مسكن الجحود! من تسبح أعماقه للرب يرتفع قلبه إلى السماء، ولن تقبل جهنم دخوله إليها، فإنها تلفظ المسيحيين الحقيقيين والشاكرين! * أسبح الرب في حياتي. إلهي أنت هو حياتي، بك تتهلل نفسي. بك أقدم ذبيحة شكر لا ينقطع. بدونك أموت، فأقدم جحودُا واضطرابًا. أحمل رائحة الموت والظلمة، فيهرب التسبيح من قلبي! ما دمت بك أحيا، أختبر الحياة المقامة. تمتلئ نفسي تهليلًا، وتبث روح الفرح في كل أحبائي. قل كلمة، فأخرج من قبر الخطية، وتنحل رباطات العدو لأتنسَّم الحرية، وينطلق كل كياني ليسبحك، حتى يلتقي بك وجهًا لوجهٍ. لا أعرف للتسبيح وقتًا دون وقتٍ آخر، بل تذوب أعماقي حبًا وفرحًا بحضورك فيَّ! تقيم ملكوت الفرح في داخلي، ولا يجد التذمُّر والجحود موضعًا في أعماقي! أرنِّم مع المرتل، قائلًا: "أرنم لإلهي ما دمت موجودًا". * تسبِّحك نفسي على الدوام، من أجل القيثارة العجيبة التي وهبتني إيَّاها، ومن أجل روحك القدوس الذي يعزف عليها، يضرب على أوتار حواسي وعواطفي وأفكاري، يضرم مواهبي وإمكانياتي وطاقاتي، إنها عطاياك لي، أوتار روحية ثمينة، لن يقدر أن يعزف عليها آخر غير روحك القدوس، فيُلحِّن سيمفونية سماوية يُسرّ بها الآب. تُدهش الطغمات السمائية، وتحطِّم قوات الظلمة! يا للعجب روحك يُخرج من الآكل أُكلًا، ومن التراب والمزبلة من يجلس مع أشراف شعبك! هذه هي التسبحة التي لن يقدر أن ينشدها بشر! هي أنشودة تكلفتها دمك الثمين! * إذ تحوَّل المرتل إلى تسبحة شكر فريدة، ارتفع عقله مع قلبه وكليتيه وكل حواسه إليك. لم يعد يتكل على الرؤساء ولا على بني آدم، صرت يا مخلصي أنت رجاءه وخلاصه وفرحه! يسبِّحك، لأنك الخالد واهب القيامة والخلود، أما البشر فتخرج روحهم، ويعودون إلى ترابهم! * لأسبِّحك يا خالقي، فأنت حافظ الأمانة إلى الأبد. قد تضطرب نفسي إلى حين، لأن العالم كثيرًا ما يصدِّق الكذب ويرفض. لا أرتعب بل أسبِّحك لأنك أنت هو الحق. لألتصق بك فأسلك بالحق، أي فيك! وأنت تحفظ الحق إلى الأبد. * أسبحك، فأنت تجري الحكم للمظلومين. قبلت الظلم لتحتضن المظلومين وتقيمهم متهللين بك. أنت معطي خبزًا للجياع. صرت الخبز النازل من السماء، تدخل بنا إلى وليمتك السماوية. هب لي أن أجوع إليك، وأعطش إلى روحك القدوس أقتنيك مجَّانًا، فأشبع بك ولا أجوع إلى العالم. وأشرب من ينابيع روحك القدوس. أنت تطلق الأسرى. تحررنا من مذلَّة الأنانية التي تحطِّم قلبي بقيودها المرَّة. * أسبحك يا إله المستحيلات. كنتُ أعمى بسبب دنس الخطايا، فقدتُ نور الحق، وصرت في ظلمة حالكة. افتح عينيَّ قلبي، فأرى النور. أراك يا نور العالم، وأرى الكل بك وفيك. حقًا أنت تحكم العميان، إذ تحل يا حكمة الله فينا! أسبحك، إذ تتطلع إلى نفسي المنحنية حتى التراب. وحدك قادر أن ترفعني من ثقل المخاوف واليأس. تحطم اليأس والإحباط، وتهبني الرجاء المفرح. ماذا أطلب منك يا محب الصدِّيقين، هب لي مخافتك، فأتمتع بدفء حضنك الإلهي. قدِّسني بروحك القدوس فاستعذب حبك. * أسبحك يا من تحفظ الغرباء. احفظني حتى ألتقي بك وأتحد معك. تعزٍّيني في غربتي حتى أرجع إلى وطني السماوي. أسبحك يا من تعضِّد اليتيم والأرملة. أنت ميراث الأيتام، وملازم الأرامل. عضِّدني حتى أرجع إلى بيت أبي السماوي. اسندني حتى أدخل حجال العُرس. * أسبحك يا ملكي وإلهي من دورٍ إلى دورٍ. أسبحك في هذا الجيل كابن لك، وأسبحك في جيل الأبدية كابن للقيامة. * إلهي لألتصق بك، فأنت هو حياتي. تتهلل أعماقي بك، فأسبح اسمك القدوس. قد يئن جسدي وسط الضيق. لكن نفسي تتأمل حبك، فتسمو فوق كل آلام الجسد. ليس لي ما أعمله أفضل من التسبيح! أنت هو حياتي وفرحي، أسبحك كل يوم مادمت مقيمًا فيّ! ملكوتك المفرح يعلو بي فوق كل الأحداث. يسحب قلبي وفكري وكل أعماقي إليك. أعيش كما في وسط السمائيين. لا يعرف القلق له موضعًا فيّ. * أسبحك متهللًا بسكناي في أحضانك. لا أتكل على ابن آدم مهما كانت إمكانياته. ولا أستجدي عاطفة إنسان ٍأو حنوه. يعطيني اليوم ويقاومني غدًا. يفتح مخازنه لي الآن، ولا أدري أين يكون غدًا. تخرج روحه، فيعود جسده إلى ترابه. تئن نفسي إذ تبحث عنه، فإذا هو ليس موجودًا. أما أنت فتضمني إليك، بك أتحدى الموت نفسه! بك تُفتح لي أبواب السماء أبديًا. أسبحك لأنك معيني القدير. * تسبحك نفسي وتتهلل بك. إن حلّ عليّ ظلم، فأنت وحدك مجري حكمًا للمظلومين. أنت تشبع كل احتياجات نفسي وجسدي. تقدم لي طعام الملائكة، وتهتم حتى بخبزي المادي. تحرر نفسي من كل عبودية، إذ تهبني سلطانًا أدوس على الحيات والعقارب. تفتح بصيرتي، فأرى السماوات ببهائها العجيب. بكلمة تشفي كل انحناء أو اعوجاج فيّ. في وسط غربتي ترافقني في الطريق، فتستريح نفسي برفقتك. كثيرًا ما أعاني من المذلة. تارة أحسب نفسي يتيمًا، وأخرى تشعر نفسي أنها مترملة. أنت أبي السماوي، وعريس نفسي الأبدي! * أسبحك على الدوام وإلى الأبد. نفسي مملوءة فرحًا بك. نفسي تشتاق للقاء معك وجهًا لوجه. لك كل تسبيح وشكر يا ملكي وإلهي. |
||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|