الأب يوسف أخو القديس الأنبا بيمن
من شيوخ برية شيهيت عاش في القرن الخامس ويمتاز بدرايته في الإرشاد والإفراز (التمييز في الأمور الروحية) حتى أن الأنبا بيمن نفسه مع شهرته الفائقة في القداسة ومع ما ناله من مواهب صنع المعجزات كان يطلب إرشاده ويسأله فيما هو نافع للنفس وسنذكر ذلك فيما بعد..
مكانة الأب يوسف(1)
رغم أن الأب بيمين كان شيخًا له دراية في الأمور الروحية إلا أنه كما ذكر عنه لما كان يزوره أحد ليستشيره في أي أمر من الأمور كان يرسله إلى الأب أيوب أخيه، وما ذلك إلا رفضًا منه الكرامة وإعطائها لأخيه الذي بالتالي كان هو أيضًا يعطى الكرامة للأب بيمين معتذرًا بأن مواهب هذا الأخير كثيرة - وكان الاثنان يعتذران في النهاية إلى الأب يوسف(2)!
الأب يوسف كمرشد
* سأل الأب يوسف الأب سيسوى(3) قائلًا: كم من الزمن يحتاج الإنسان لقطع الآلام(4)؟ قال له الشيخ: "هل تريد أن تعرف متى تقطع الآلام؟، أجاب الأب يوسف وقال له "نعم" - قال سيسوى "ينما تتحرك فيك الشهوة اقطعها حالًا".
* كانت للأب يوسف حكمة خاصة في الإرشاد مثل الطبيب الحاذق المتدرب، وكان يعطى النصيحة لكل واحد حسب حالته الروحية واحتماله، لذلك، نراه في القصة التالية يعطى نصيحة للأب بيمين الشيخ الذي جاء يسترشد عن الأفكار الشريرة. سأله الأب بيمين قائلًا: ماذا يجب على أن أفعل عندما تحضر أفكار شريرة لذهني؟ هل أطردها أم أجابهها.
فأجابه الأب المختبر قائلًا: دعها تدخل وحاربها بنشاط وكأنه يقول له: لماذا تهرب من الجهاد وأنت رجل شيخ(5)؟!
ويبدو أن هذه الأفكار تكون غير متعلقة بشهوات الجسد، التي يجب طردها فورًا، وذهب إليه راهب آخر(6) وسأله نفس السؤال السابق فأجابه "لا تدع الأفكار تدخل إلى ذهنك بأي حال من الأحوال لكن اطردها فورًا"(7).
سمع الأب بيمين بنصيحة الأخ فمضى لوقته إلى الأب يوسف يسأله عن هذا الازدواج في النصيحة بشأن الأفكار. وقال له: "يا أبى لقد أعطيت إرشادًا مختلفًا عن أمر واحد بعينه لكن لماذا؟".
أجاب بان النصيحة الأخرى التي للأخ فهي الطريق الأسلم والأعم بكل النفوس، فيتحتم الهروب من الشر وطرد الأفكار الشريرة في الحال بكل يقظة ونشاط بالصلوات المستمرة والتدريب على كراهية الخطية ونبذها والشعور بمرارتها.
وسأله أحد الإخوة: ماذا أفعل لأن الأفكار التي تقاتلني كثيرة ولا أعرف كيف أقاومها وأحاربها وأجاهد ضدها؟!"
أجابه الشيخ: لا تقاتلها جميعها ولكن أعلن الحرب على واحدة فقط منها -الأكثر خطرًا- لأن كل الأفكار الشيطانية لها رأس واحد فقط ومن الضروري للإنسان أن يفهم وأن يقوم بالحرب ضد الرأس فقط لأنه فيما بعد سوف تسقط وتزول جميع الأفكار الأخرى تمامًا كما في الحرب إذا ظهر في الميدان أحد الرجال العظام فإن الرجال في الميدان الآخر يفعلون كل ما في طاقتهم لكي يقفوا ضد ذلك الرجل العظيم وحده، لأنه إذا قهر ذلك العملاق العظيم في الحرب فإن باقي الرجال الذين في المعركة سوف يولون الأدبار فارين، وبهذه الكيفية فإن هناك رأسًا واحدًا لكل الأفكار الشريرة التي تأتى من الشياطين سواء أكانت أفكار زنى -عيش مسرف- محبة المال.. أو الجولان من مكان لآخر.
اقتنع الأخ وابتدأ يقاتل الخطية وعرف خطرها وأعلن الجهاد ضدها وهكذا تخلص من شر القتالات(8).
تمييز أفكار الدينونة:
سأل أحد الإخوة الأب وقال له: "إذا ما ريت شخصًا يفعل أمرًا ما وأخبرت الإخوة عنه، ولم أقصد من وراء ذلك دينونة أو النيل من كرامة.. بل كأني كلماتي بريئة وبسيطة فهل تحكم على هذا الحديث بأنه من الشرير؟ أجابه قائلًا " إذا كانت هناك خطية في القلب أو أي ضغينة أو حتى انفعال غضب أو ذكريات قديمة أو أي أمر يجعلك تنفعل وتثور أثناء الحديث فإن هذا الحديث يعتبر خطية إذا رددته، ولكن إذا كان الكلام يزيد المحبة ويضفى السلام فيخلو من الشر وبالتالي وبالتالي يكون مفيدًا.
الأب يوسف يجتاز ضيقة شديدة(9)
حدث مرة أن رأى الإخوة الأب يوسف حزينًا ومتكدرًا للغاية فسألوه لكي يخبرهم عن سبب حزنه، ولكنه لم يحادثهم.. وابتدأوا يقولون لبعضهم: ماذا يا ترى الذي أحزنه؟ إننا قد مكثنا معه سنين كثيرة ولم نره من قبل في مثل هذا الحزن والألم -ربما نكون قد أحزناه بطريقة ما- حينئذ ضربوا له مطانية قائلين: "ربما نكون قد أغضبناك في أمر ما فسامحنا لأجل محبة يسوع".
فأجاب الشيخ وقال: "لا بل سامحوني أنتم أيها الإخوة فأنتم لم تخطئوا لي ولكنني متألم من ذاتي لأني أرى أنى في تأخر مستمر وأرجع للوراء. بدل من التقدم للأمام، أيضًا لأني أرى أننا في الوقت الحاضر نخسر أنفسنا أكثر من أي وقت مضى لأن التهاون وعدم الخوف قد تسلطا علينا، وقص عليهم ما كان الآباء يعملونه حينما كانوا يجتمعون معًا إذ كانوا يتجهون وينشغلون بقلوبهم في أمور الحياة الأبدية والمحبة تملأهم بعضهم نحو بعض، أما نحن فلست أعلم لماذا -طرأ علينا الاسترخاء حتى كثرت خطايانا (وأراد أن) وأكمل قائلًا إني متألم لأننا نعطى أنفسنا الكرامة ونرفع أنفسنا على حساب الآخرين وبالتالي نسلب الآخرين كرامتهم ونسيء إلى إخوتنا وليس هذا فحسب بل ونحو الضيوف الذين يأتون من العالم لزيارتنا- ولهؤلاء نكون حجر عثرة وسبب خسارة وذلك لأنهم يتخذوننا قدوة.
وقد شكا الأب سلوانس والأب لوط للأب يوسف عدم استطاعتهما الاستمرار في النمو في حياتهما الروحية في هذا المكان وأنهما يريدان أن يغادرا هذا الموضع، وقد قال الأب لوط أن أحد الضيوف وبخه قائلًا إنني لا أظن أنك راهب بالفعل؟ أجابهما الأب يوسف قائلًا: "ماذا تظنون؟! هل نستمر على هذه الحال أو أن نقوم من تراخينا ونلاحظ جيدًا وصايا الإنجيل وروح آبائنا ونعمل على تنفيذها. وصدقوني إن كنتم لا تطيعوني في ذلك فإني أرحل بعيدًا عنكم.
ولما قال الأب يوسف هذا الكلام على مسمع من الإخوة كان وقعه شديدًا عليهم ولم يستطع أحد أن يعلق بكلمة فحدث سكون لمدة طويلة وقام أحدهم ليقرع الجرس يدعو الرهبان الذين لما حضروا علموا ما قاله الأب يوسف وعرفوا مصدر حزنه وضيق نفسه وبدأ كل واحد منهم يبكته ضميره وأخيرًا قاموا بنفس واحدة وألقوا بأنفسهم أمامه قائلين: "سامحنا أيها ألأب من أجل محبة يسوع. حقًا لقد أغظنا الله بأعمالنا التي عملناها: وصنع الأب يوسف لهم مطانية أيضًا وقال لهم أن الله دعانا لكي ننال كمال الفضيلة، وأنا أرجوكم أن تأتوا وتصلوا معي وتتوسلوا إلى ألله لكي تجوز عنا قوات إبليس العدو، لأني كنت أراهم واقفين في غيظ يريدون الفتك بنا جميعًا إذا لم يقم الله وينهض لمعونتنا ويرحم شقاوتنا.
ولما قال هذا وقعوا جميعًا على الأرض ورفع يوسف قلبه نحو السماء وابتدأ يصلى قائلًا: ".. لترتد أسلحتهم إلى قلوبهم وتنكسر سهامهم واجعلهم يا الله مثل التراب أمام الرياح وليقم الله الآن ولتتفرق جميع أعدائه يا الله خلصنا يا أيها السيد التفت إلى معونتنا وصلى جميع الإخوة صلوات المزامير معًا بعد ذلك، وكان هناك بكاء شديد من الإخوة ووقعوا على عنق الأب يوسف وقبلوه ثم قاموا من أمامه وقلوبهم تنطق: "يا الله القدوس، يا الله العظيم غير المائت اصنع معنا رحمة" وفي تلك الأثناء كانوا يسمعون أصوات غريبة كأنها أصوات فرسان وكان هناك كمن يتكلم بغيظ ويقول: "لا ينبغي لكم أن ترحموهم.. من هم الرهبان حتى يقفوا ضدنا؟ لولا معونة الله لهم لأهلكناهم.." فعلموا أن هذه قوة الشيطان الذي كان مرابضًا حولهم والتي حدثهم عنها الأب يوسف سابقًا.
وجاء الإخوة إلى الأب يوسف قائلين: اغفر لنا وصل لأجلنا لكي يسامحنا الله لأننا أخطأنا إليه وأغظناه.
حينئذ قال لهم الأب يوسف: تقووا في الرب وفي شدة قوته والتفتوا لذواتكم وتأملوا..! قد تأكدتم بأنفسكم إن عدونا يجول كأسد زائر راغبًا في أن يبتلع من يفترسه! فليترك كل واحد ماله على أخيه وتقووا بمحبة الرب يسوع واقتربوا إليه فيقترب إليكم وينهض لمعونتكم ضد عدوكم،وإذا لاحظتم روح آبائنا فإنى أؤكد لكم أن الشيطان لا يستطيع أن يضركم وأن البربر أيضًا سوف لا يأتون إلينا ولكن إذا توانيتم فصدقوني أن هذا المكان سوف يترك لكم خرابًا.
وكانت محبة الإخوة تزداد بعضهم لبعض وعاشوا في محبة وخوف الله.
وحدث بعد ذلك أن الأب يوسف أرسل أحد الإخوة ليستدعى الأب سلوانس والأب لوط، ولما علم هذان الأبوان بما حدث بين الإخوة شكرا الله، وكان لما حدث أثر بالغ في نفسيهما حتى إنهما لم يستطيعا أن يمنعا الدموع من أن تنهمر من أعينهما.. ، ومجد الجميع الله الذي لم يرفض الذين التجأوا إليه.. وأخذ الأب يوسف بعدئذ يكثر من افتقادهما وإرشادهما وتعزيتهما.
وفيما يختص بالقوانين والأوامر التي وضعها الإخوة بينهم وبين أنفسهم قد ساروا بموجبها تمامًا في يقظة واجتهاد كل أيام حياتهم في خوف الله وفي عيشة مرضية حتى يوم نياحتهم.
درس في الصلاة(10)
ذهب الأب لوط إلى الأب يوسف مرة متضجرًا من الصلوات والأصوام وقال للأب يوسف إني أتلو صلواتي وأصوم قدر قوتي فماذا ينبغي أن أفعل أكثر!؟ ويبدو من السؤال كأنه كان غير مقتنع بما يفعل فلم تعد الصلاة والصوم مصدر إشباع ونمو له ولم يعرف كيف يصلى..!
أما الأب يوسف فلم يجبه على السؤال بكلمة واحدة لكنه وقف للصلاة معه، وبينما كان الشيخ القديس في انسحاق روحي يرفع يديه ويصلى كان وجهه يضيء بمحبة الله وكانت يداه المرفوعتان تظهران كأنهما ملتهبتان من حرارة الصلاة - أما الأب لوط الذي كان يحس في ذلك الوقت أنه في حضرة الله فلم يستطع أن يقف على قدميه وطرح ذاته على الأرض وأخذ يقرع صدره قائلًا.. ويلي لقد أضعت زماني في الفتور والتهاون وظننت أنى شيء.. فقد أحس بعظمة الصلاة وقوتها، ولما انتهيا من صلاتهما وقبلا بعضهما انصرف الأب لوط دون أدنى كلمة واحدة.. فقد اختبر شيئًا جديدًا.
وبعد أيام ليست بكثيرة زار الأب لوط الأب يوسف وسأله كيف يصلى فأجابه الشيخ إنك لم تصبح بعد راهبًا فتقوى لأن الراهب ينبغي أن يكون شعلة متوهجة.
جهاده الأخير ونياحته
روى عن الأب يوسف(11) أنه لما قارب أن يتنيح لم يفارقه شيوخ المنطقة ويقال أيضًا أنه نظر إلى النافذة ورأى الشيطان جالسًا كأنه يحاول أن يرعبه، ولكن الأب نادى تلميذه في ثبات وقال له أحضر لي عصا هنا لأن الشيطان يظن أنى أصبحت كهلًا لا أستطيع أن أقوم وأقاومه.. وأمسك بالعصا بقبضة يده وحاول القيام وفي تلك الأثناء تحول الشيطان إلى شكل كلب ألقى بنفسه من النافذة وهرب من الشيخ.
ويظهر أن الشيخ عاش إلى سن متقدم جدًا فهو يكبر الأب بيمين رغم أن هذا الأخير تقدمت به السنون.
من أقوال الأب يوسف:
"نحن أخوة هذا الزمان نأكل وننبح الجسد، من أجل هذا لا ننمو مثل آبائنا لأن آباءنا كانوا يبغضون جميع نباح الجسد، ويحبون كل الضيقات من أجل الله، ولهذا اقتربوا إلى الله الحي".
يوجد ثلاثة أمور مفضلة أولها أن يؤدى الإنسان عمله من أجل الله فقط ولهذا لا يرائي فيه وثانيهما أن يكون الإنسان إبان مرضه وفي أثناء تواتر المحن والتجارب عليه راضيًا شاكرًا وثالثهما أن يداوم الإنسان على طاعة أب روحي يعمل بحسب مشورته وبهذا يؤهل الإنسان نفسه لإكليل لا يفنى.
_____
الحواشي والمراجع:
(1) يوسف كلمة عبرية معناها "فرح القلب".
(2) The Paradise of the Holy Fathers, P. 112.
(3) سيسوى الكبير من مشاهير الرهبان في شيهيت نزح إلى الصحراء منذ حداثته وترهب تحت القيادة الرشيدة للأب هور وصل إلى قمة التواضع وأُعْطِيَت له موهبة المعجزات وتنيح حوالي سنة 429 م. - هو شوشاى وشيشاى.
(4) قطع الآلام: أي الانتصار على الشهوات.
(5) هذا التدريب لا يعطى إلا لمن صارت لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر كما أنه يعطى لمن لهم قوة في الجهاد وقدرة على احتمال التعب وقمع النفس. ولا يعنى ترك الأفكار تدخل ويقبلها الإنسان ويتناقش معها بطلاقة ويرحب بها لئلا ينخدع فيسقط ولكنه يقصد زيادة في الجهاد بالنسبة لشيخ مختبر حتى يكون له أجر أكثر، فمن ترك الفكر يدخل إليه ينبغي أن يعلم أنه سيتقابل مع جليات الجبار. وعلى العموم فهذا تدريب خاص أعطاه مرشد روحي مسئول عنه ولا يعطى إلا في حالات روحية ممتازة استثنائية.
(6) ذكر "بلاديوس" جزء ثان ص 260 أن ذلك الراهب كان قد جاء من طيبة إلى الإسقيط، ولما عاد من الإسقيط إلى طيبة أعلن أمام الجميع عما أخبره به الأب يوسف - وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الاهتمام بالإرشاد الروحي في ذلك الزمان.
(7) ينبغى أن تعطى النصيحة لكل إنسان بالهروب فلا يدع الأفكار تدخل إلى قلبه لئلا يسقط. ولذا ينبغي على كل من تحاربه الأفكار الشريرة ولاسيما الشهوات الجسدية أن يشغل فكره دائمًا بأي أمر من الأمور النافعة والمحببة لنفسه - ويقول أحد المختبرين لشاب محارب "أملأ فكرك وقلبك بمحبة الرب يسوع دائمًا ولا تخف حينئذ من هجوم الخطية"..
(8) وردت هذه القصة بالبستان الجزء الثالث ص 76 كالآتي:
"سأل أخ شيخًا قائلًا: أي شيء أصنع فإن أفكارًا كثيرة تقاتلنى ولست أدرى كيف أقاتلها؟ قال له الشيخ: "لا تقاتل مقابل الكل دفعة واحدة ولكن قاتل واحدة فقط لأن الأفكار لها رئيس فاجعل همك إلى رئيسها، فإذا هزمت ذلك الفكر فقد إنهزمت البقية".
(9) The book of paradise ص 683-685 ومن ص 890-893.
(10) The book of paradise ص 950.
(11) عن Budge ص 25 الجزء الثاني، وكتاب Wit and Wisdom ص 32.