الكتب المقدسة وتسمية الكتاب المقدس
الكتب المقدسة هي معاً كتاب إعلان الله كما رأينا بالتفصيل، وأول من أطلق هذه التسمية في العهد الجديد بالروح القدس على الأسفار المعروفة بالعهد القديم هو القديس بولس الرسول إلى تلميذة القديس تيموثاوس الرسول قائلاً له على وجه خاص: [ وأنك منذ الطفولة تعرف الكُتب المقدسة القادرة أن تُحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع ] (2تيموثاوس 3: 15)...
وبادئ ذي بدء، لابد من أن نُميز النعمة الظاهرة في الكتاب المقدس فيما قبل ظهور الله في الجسد وبعد ظهوره في الجسد، لأن كثيرين بلا وعي لاهوتي دقيق وانحرافاً عن مقاصد الله وإعلان محبته الظاهر في العهدين قائلين : [ نشكر الله لأننا في عهد النعمة، لسنا بعد تحت الناموس، نحن في العهد الجديد لا في العهد البائد القديم، وأخذنا نعمة عوضاً عن الناموس ]، وكأن العهد القديم كله لم يكن فيه نعمة على وجه الإطلاق، غير مُميزين الفرق في معنى كلمة ناموس، لأن هناك الناموس الطبيعي، والناموس الطقسي، والناموس الروحي، والناموس الاجتماعي الذي يُنظم العلاقات الإنسانية (وسوف نشرح معنى الناموس ومفهومه ونفرق بين هذا كله فيما بعد) !!! وهل الله تعامل منذ آدم إلى موسى بالناموس وبأي ناموس، ناموس الأعمال أم ناموس الإيمان، أم ناموس الطقس !!!
وهل العهد القديم كله ناموس حرفي طقسي بلا نعمة، أم كانت النعمة مستترة فيه، وماذا عن نعمة إعلان الله عن ذاته، وعن اختيار شعب بلا استحقاق، أليست كلها أفعال نعمة !!!
في عام 140م خلال القرن الثاني الميلادي ظهر شخص يُدعى ماركيون Marcion البُنطي، اي من بُنطس وهي ولاية في شمال آسيا الصُغرى متاخمة للبحر الأسود، وهو تلميذ لواحد اسمه كردون، وكرودن سوري الأصل وقد أتى إلى روما في عهد هيجينوس تاسع أسقف منذ عهد الرسل، ونادى بأن الله الذي أعلنه الناموس والأنبياء ليس أبا ربنا يسوع المسيح، لأن الأول معروف والأخير غير معروف (أي المسيح الرب)، الأول عادل والأخير صالح، أما ماركيون بدأ يُعلم بأن إله العهد القديم يختلف عن إله العهد الجديد مثل مُعلمه مع تطوير أفكاره وتوسيعها. لأنه يرى في نظره أن إله العهد القديم إله الغضب والنار، إله مُخيف ومُرعب. وألقى ماركيون بالعهد القديم جانباً وكتب الكثير ضده مقاوماً كل ما فيه، هادماً كل قوامه وحصره في الغضب والانتقام بغرض إثبات بأن هذا ليس الله الذي نعرفه، وقد رفضته الكنيسة – في ذلك الزمان – لأنه لا يُريد ان يسمع وذلك في روما عام 144م، وتأثر القليلين بفكره وبدأوا في نشر أفكاره إذ مالوا نحوها حسب منطق تفكيره واستنتاجاته الخاصة، مع أن هذه الأفكار ابتدأت تنحصر وتنكمش وتُكاد أن تتلاشى بسبب كتابات القديس يوستينوس الشهيد مقاوماً هذه البدعة ببرهان الروح والقوة، ولكن في أواخر القرن التاسع عشر ظهر شخص يُدعى أدولف هارنك Adolph Harnack وأضاف الكثير إلى أفكار ماركيون Marcion الذي اعتبره أستاذاً له، وأخذت أفكاره في الهبوط والصعود مختلطة بأفكار فلاسفة تلك الفترة مثل هيجل وغيره...
وبالطبع ظهر الكثيرين تعمقوا وتأصلوا في العهد القديم وأظهروا عمق ارتباطه بالعهد الجديد مؤكدين على وحدانية الله في العهدين وأنه إله واحد وليس إلهين، إله عهد قديم وإله عهد جديد، وأكثر من قاوم هذه البدعة بقوة الدراسة وعمقها هو العالم الكتابي بولتمان Bultman مؤكداً العلاقة الكبيرة بين العهدين الذي لا انفصال فيهما قط، وأكد على أن العهد القديم يُساعدنا عي فهم وإدراك نعمة الله في العهد الجديد، ولكي أتمكن من فهم العهد الجديد فهماً سليماً واعياً لا مناص من أن أدرس العهد القديم، كما أن العهد الجديد يوجد به نصوص عديدة منه تُعد تفسيراً واضحاً للعهد القديم .
لذلك كثيرين يترجمون آية يوحنا الرسول ترجمة خاطئة، فعوض أن يقولوا [ ومن ملئه نحن جميعا أخذنا، ونعمة فوق نعمة ] (يوحنا 1: 16) يقولون خطأ [ ومن ملئه نحن جميعا أخذنا، نعمة عوضاً عن نعمة ]، مع أن الآية في أصلها هنا تُشير للمتابعة وليس للانفصال، أي أن كل نعمة تأتي من ملء وتفيض ملء على ملء، لأن النعمة تمتد وتتدرج في الإعلان والعطايا، لأن مصدر النعمة هو الله الحي بشخصه في كلا العهدين، ولكن في العهد الجديد الله ظهر في الجسد فظهرت قوة النعمة المُخلِّصة في قمتها حتى أنها فاضت بشدة من ملء الذي يملأ الكل، إذ يفيض بنعمته وتنسكب نعمة فوق نعمة، مثل البناء الذي يُبنى فيه طابق فوق طابق، وعموماً في المنهج الروحي السليم، أن كل نعمة يحصل عليها الإنسان في المسيح ترفعه إلى نعمة أخرى أعلى مبنية على ما ناله من نعمة سابقة، ولا تترك نعمة ويُمسك في نعمة أخرى، وعلى مستوى العهد القديم فيه نعمة إعلان الله عن ذاته ووعده الذي قطعه بخلاص الإنسان، ونعمة تربية الإنسان وإعداد قلبه لظهور المُخلِّص حسب الوعد الإلهي، وتدرج الإنسان في العهد القديم من نعمة لنعمة بحسب الإيمان واستعلان الوعد وكشفه بالنبوات قليلاً قليلاً إلى أن أتى العهد الجديد وظهور مخلصنا الحبيب، ففاضت النعمة جداً وظهرت قوتها المستترة في العهد القديم في الابن الوحيد لتفيض على كل واحد وتعطيه من قوتها وتظل تفيض فيه وينال منها قوة على قوة ورفعة على رفعه وذلك كله يأتي من ملء المسيح الرب الحي [ ومن ملئه نحن جميعا أخذنا، ونعمة فوق نعمة ] (يوحنا 1: 16).
تُطلق تسمية [ العهد القديم ] على الأسفار المقدسة من تكوين إلى ملاخي، وأول من أطلق هذه التسمية هو ميليتُس أسقف ساردس عام 170م في أواخر القرن الثاني الميلادي، أنا عن تسمية [ العهد الجديد ] فقط أطلقها العلامة ترتليان عام 200م على الأناجيل والرسائل متضمناً أعمال الرسل وسفر الرؤيا، والمراجع الآبائية التي اعتمد عليها الآباء في هذه التسميات هي في [ إرميا 31: 31 – 43، لوقا 22: 20، 1كورنثوس 11: 25، عبرانيين 8: 8 – 10 ]، ورجاء العودة لهذه الفقرات لأهميتها القصوى...
إلا أن التسمية في الأصل العبري للأسفار من تكوين إلى ملاخي هي: توراة – أنبياء – كتب (كتوبيم) كما سوف نرى فيما بعد من خلال دراستنا بالتدقيق. وهذه التسمية وهذا التقسيم نجده عند الرب يسوع [ أنظر لوقا 24: 27، 44، 45 ]، أما القديس بولس الرسول – كما رأينا – أطلق على هذه الأسفار [ الكتب المقدسة ] (2تيموثاوس 3: 15، 16)، وأوضح الهدف منها في نفس الرسالة العدد 17: [ لكي يكون إنسان الله كاملاً مُتأهباً لكل عمل صالح ]، لأن من طبيعة الكتاب المقدس أن يُنشأ إيمان حي عديم الرياء يسكن في القلب بالتعليم (بحسب المعنى الذي رأيناه وشرحناه سابقاً)