«الوطن» تحقق فى واقعة اغتيال «الحسينى»: شهادات وروايات الساعات الأخيرة
أحد أصدقائه: تم رصد «الحسينى» من على مقهى فى جسر السويس وهو يعرض الصور التى التقطها
«الحسينى قتيلاً»، كل شىء كان يروى النبأ: التليفزيون والإذاعة والصحف ومواقع الأخبار والوكالات العالمية والشوارع والبيوت والمظاهرات الدائرة فى طول البلاد وعرضها. كل شىء كان يؤكد أن الحسينى أبوضيف الصحفى بجريدة «الفجر» راح ضحية الاشتباكات الدائرة فى مصر بسبب إعلان دستورى أصدره رئيس الجمهورية فى نهاية نوفمبر الماضى فقسم به الشعب بين مؤيد ومعارض. كل شىء كان يحكى قصة ذلك الصحفى الشاب ذى الثلاثة والثلاثين عاماً الذى خرج عصر يوم الأربعاء 5 ديسمبر الماضى ليباشر مهام عمله فى تغطية أحداث الاشتباكات لصالح الجريدة التى يعمل بها، فأصيب بمقذوف نارى فى الرأس، أدخله فى غيبوبة دامت لثمانية أيام، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ظهر يوم 12 من نفس الشهر بمستشفى قصر العينى متأثراً بإصابته.
هكذا راح الحسينى أبوضيف، وهكذا كُتب الخبر الأخير فى حياة الصحفى الذى طالما كتب أخباراً، ودبج مقالات، وصنع خبطات. «الوطن» ترصد الساعات الأخيرة فى حياة الحسينى أبوضيف، من خلال شهادات أشخاص رافقوه لحظة بلحظة منذ أن تحرك فى اتجاه قصر الاتحادية حتى حملته الإسعاف إلى المستشفى عقب إصابته بطلق نارى فى رأسه.
عصر يوم الأربعاء 5 ديسمبر الماضى خرج «الحسينى» من نقابة الصحفيين ليلتقى صديقه منصور الشريف المدرس بكلية الفنون الجميلة «34 سنة»، كان الاثنان متواعدين على اللقاء للتوجه إلى قصر الاتحادية، يقول «منصور» إن «الحسينى» كان متعجلاً فى ذلك اليوم للذهاب إلى «الاتحادية»، وإنهما اضطرا لانتظار صديق ثالث يدعى سيد أبوبيه تواعد معهما على اللقاء عند نقابة الصحفيين، وعندما وصل «سيد» كان بصحبته صديق رابع يدعى أحمد النوبى، فى حوالى الخامسة أو السادسة استقل الجميع سيارة الصديق الأول وتوجهوا إلى «الاتحادية». صديق شاهد الصور: كانت تحتوى على ملتحين يمسكون فى أيديهم أسلحة ويطلقون النيران فى اتجاه معارضى الرئيس
يصف «منصور» إحساس الجميع فى ذلك اليوم: «كنا حاسين إن فيه حاجة هتحصل، وخصوصاً لما شُفنا فى التليفزيون مجموعات من الملتحين بتهاجم خيام المعتصمين عند الاتحادية، وعشان كده كلنا قرينا الفاتحة ونطقنا الشهادتين أول ما وصلنا هناك». كانت نقطة الوصول هى ميدان روكسى، هناك شاهد الجميع مجموعات من الملتحين يتحركون فى جماعات وبأيديهم حقائب بلاستيكية سوداء، وكان واضحاً من لهجاتهم وطريقة كلامهم أنهم قادمون من الأقاليم، وكانوا فى طريقهم إلى قصر الاتحادية، وفى نفس الوقت كانت هناك اشتباكات كثيفة بين الإخوان ومعارضى إعلان الرئيس فى الشوارع الرئيسية والجانبية، وهجوم شديد قادم من ناحية الميدان، وهو ما جعلهم يتراجعون إلى نقطة التقاء شارع الميرغنى مع الخليفة المأمون، وهناك حدث هجوم باتجاههم قادم من ناحية قصر الاتحادية الذى يقول «منصور» إن الإخوان سيطروا عليه بالكامل، فأصيب «الحسينى» بطلقة خرطوش فى يده، بينما أصيب سيد أبوبيه بقالب طوب فى صدره، الأمر الذى دفعهم للتراجع لمحطة البنزين القريبة من المكان، وهناك تمكن «منصور» من مشاهدة عناصر من الإخوان المسلمين تمسك فى أيديها بعدد من الأطباق التى تستخدم فى استقبال البث الفضائى فى أيديهم، على هيئة دروع، وكانوا يلقون على المعارضين قنابل مولوتوف و«مونة».
ماذا كان يفعل «الحسينى» وقتها؟ يقول «منصور» إنه كان يصور ما يقع أمامهم لحظة بلحظة، كان يرتدى وقتها «جاكيت» شتوياً ويعلق على ظهره حقيبته الصغيرة، وفى يده كاميرته الجديدة التى كان يسجل بها الوقائع، يواصل «منصور»: «الحسينى كان مركّز قَوى فى التصوير على الأسلحة اللى ظهرت فى إيد الإخوان، ولفت انتباهه إن فيه واحد منهم كان ماسك فى إيده (shoot gun) ده لأنه كان بيعرف كويس فى أنواع الأسلحة، وكمان ركز فى التصوير على شخص ملتحى لابس خوذة حمرا ومعاه سلاح فى إيده بيضرب بيه المتظاهرين».
لا يستبعد «منصور» أن يكون هناك من رصد «الحسينى» أثناء قيامه بالتصوير داخل ميدان المعركة، لكنه يؤكد أن الرصد الحقيقى الذى يستطيع أن يقطع به حدث بالفعل، ولكن على مقهى توجه الجميع إليه ليستريحوا قليلاً حوالى التاسعة مساء، وليتناول «الحسينى» وسيد أبوبيه قليلاً من الطعام.
الحسيني في شارع محمد محمود
كان المقهى الذى توجه إليه الأربعة، الحسينى ومنصور وسيد وأحمد النوبى، يقع فى شارع جسر السويس القريب للغاية من مكان الاشتباكات، يقول «منصور» إنه توجه للمقهى بصحبة أحمد النوبى، تاركين «الحسينى» و«سيد» يشتريان طعاماً من محل الشرقاوى للكبدة، الذى يقع إلى جوار المقهى، وعندما عاد الاثنان قالا إن «سيد» اشتبك لفظياً مع بعض الأشخاص الملتحين داخل المقهى، وكاد الأمر يتطور إلى اشتباك جسدى لولا تدخل بعض الموجودين، وعلى المقهى وجد «الحسينى» الفرصة ليطلع أصدقاءه على ما قام بتصويره ففعل.
كانت الصور التى يقول «منصور» إنه رآها على كاميرا «الحسينى» عبارة عن «صور لناس معاهم أسلحة، وكمان أكتر من صورة لواحد ملتحى لابس خوذة حمرا بيضرب نار على المتظاهرين اللى إحنا كنا واقفين وسطهم»، يقول «منصور»: إن اللقطات كانت واضحة ومقربة للغاية للدرجة التى تظهر وجوه المهاجمين، وإن عرض «الحسينى» للصور كان مصحوباً بشرح من ناحيته بصوت مسموع لهم ولمن حولهم للموجود فى اللقطات، ويضيف أن بعضاً ممن كانوا حولهم دخلوا معهم فى الحديث وراحوا يعلقون على الأحداث ويسألون عن محتوى الصور قبل أن يقوموا جميعاً ويتركوا المكان.
نفس الرواية يؤكدها سيد أبوبيه، موظف، «45 سنة»، وأحد أصدقاء «الحسينى» فيقول إنه توجه بصحبة «الحسينى» إلى مطعم الكبدة الموجود فى شارع جسر السويس، وهما يشتريان الطعام كان تليفزيون المطعم يذيع بثاً مباشراً لما يحدث من اشتباكات عند قصر الاتحادية، وإنه هو شخصياً أبدى اعتراضه على ما يجرى، خاصة أنه كان هناك وشاهد بنفسه ما يقع من اعتداءات على المعارضين لسياسة الرئيس من قِبل أتباعه، بالإضافة إلى إصابته بقالب طوب فى صدره فور وصوله إلى موقع الحدث جاءه من الجهة التى يتمركز فيها مؤيدو الرئيس، غير أنه، كما يروى، فوجئ ببعض الأشخاص الملتحين كانوا يجلسون فى المطعم يتناولون طعاماً يقاطعونه، ويبدون تأييدهم لما يحدث لمعارضى الرئيس، وقتها، كما يقول «سيد»، «حصلت مشادة جامدة بينى وبينهم، وصاحب المحل والعمال اتدخلوا وقالوا ما يصحش». بعدها يقول «سيد» إنهم توجهوا للمقهى لينضما إلى صديقيهما وحدث ما ذكره «منصور» من قبل، أن قام «الحسينى» بعرض صوره على الجميع، وفى نفس الوقت، جاء للمقهى مجموعة من الشباب الملتحين الذين اشتبك معهم «سيد» فى المطعم فشاهدوا «الحسينى» وهو يعرض صوره على أصدقائه. صديق حضر واقعة الإصابة: متعلقات «الحسينى» فُقدت أثناء نقله إلى الإسعاف بعد إطلاق النيران عليه
يصف أحمد النوبى، موظف، «39 سنة»، الصديق الثالث الذى عاصر الواقعة تفاصيل أخرى عن المجموعات التى كانت موجودة فى المقهى، وقت أن كان «الحسينى» يعرض عليهم الصور الموجودة على الكاميرا، فيقول إن منهم من هو ملتحٍ ومنهم من هو بلا لحية، وإنه لاحظ أنهم متابعون لشرح «الحسينى» للصور التى التقطها، خاصة عندما قال «الحسينى» إنه يستطيع أن يقرب الزووم على وجوه من صورّهم، وذلك رداً على سؤال لـ«النوبى» عن كيفية تحديد هوية المهاجمين. ويواصل «النوبى» قائلاً إن بعض الموجودين دخلوا بالفعل فى الحديث الدائر، وسأل أحدهم كيف يمكن القطع بأن المهاجمين من الإخوان؟ فرد «الحسينى» بسرعة: «أنا مصورهم».
يقول «النوبى» إنه بنهاية الجلسة على المقهى كان قد وضح للجميع أن «الحسينى» معه كاميرا، وأنه صوّر المهاجمين عند «الاتحادية»، وأنه يملك على كاميرته الصور التى التقطها، وأنه فى سبيله لمواصلة عمله بعد قيامه من على المقهى، يضيف «النوبى» أنه لم يستطِع أن يصحب «الحسينى» فى طريق عودته مرة أخرى لمنطقة الاشتباكات، فقد وصلته مكالمة هاتفية اضطر بعدها للمغادرة، وهو ما حدث مع منصور الشريف، تاركين «الحسينى» بصحبة «سيد» يواصلان تجوالهما.
يتحدث «سيد» عن الساعات التى أعقبت انصراف «منصور» و«النوبى»، فيقول إن الساعة وقتها كانت تقترب من العاشرة، وإن «الحسينى» كان يواصل التصوير والتحرك بخفة بين ميدان روكسى ونقطة تقاطع شارع الخليفة المأمون مع شارع الميرغنى، وبين المستشفيات الميدانية التى كانت موجودة فى المكان، فقام بتسجيل شهادات حية للمتظاهرين يتحدثون فيها عما جرى فى هذا اليوم.
كانت الساعة قد قاربت على الحادية عشرة مساءً عندما قرر «سيد» الانصراف بصحبة «الحسينى»، قبل أن يتلقى الأخير اتصالاً هاتفياً من صديقه محمود عبدالقادر يطلب منه فيه انتظاره فى مكان الأحداث لأنه سيوافيه بعد قليل مع عصام الزيات، الصديق الثانى. يقول «سيد» إنه انتظر مع «الحسينى» حتى وصل صديقاه، ثم تركه فى عهدتهما وانصرف.
الحسيني مع ميري دانيال
يقول عصام الزيات، «33 سنة»، صحفى، إنه بمجرد وصولهم لمنطقة الاشتباكات قادمين من شارع الخليفة المأمون فوجئوا بالوضع الصعب «كنت أول مرة أشوف مواجهة بالشكل ده ما بين مدنيين، دخلنا أنا ومحمود على ناس ما نعرفش تبع مين، والشوارع كانت ضلمة واشتباكات فى كل حتة»، يواصل «عصام» حديثه قائلاً إنه بمجرد وصوله ومحمود عبدالقادر إلى ميدان روكسى بالقرب من «العبودى» وجدا «الحسينى» قادماً ناحيتهما حاملاً فى يده الكاميرا، نقل إليهما على الفور ما شاهده خلال الساعات الماضية وحذرهما من الاقتراب من قصر الاتحادية، يقول «عصام» إن دورات السلامة المهنية التى حصل عليها «الحسينى» كانت مؤثرة فى شخصيته بشكل كبير، فقد قدم لهما النصائح وأعطاهما بعض التعليمات قبل أن يتركهما يتحركان بعد أن أصرا على الدخول لشارع الميرغنى.
بالفعل تحرك «عصام» بصحبة «محمود» تجاه «الاتحادية» وهناك بعد ما يقرب من 50 متراً من بداية الشارع، كما يروى «عصام»، فوجئوا بطلقات خرطوش تنهمر عليهم من ناحية القصر لتصيب «محمود» طلقة منها فى وجهه مما جعلهم يتوجهون للمستشفى الميدانى بميدان روكسى من أجل إسعاف سريع. لم يطُل الأمر كثيراً، كما يقول «عصام»، إذ قرر الرحيل حوالى الواحدة والنصف صباحاً بعد أن شعر بما أطلق عليه «حالة إحباط واكتئاب»، بسبب عدم تمكنه من فعل شىء وهو يرى الإخوان يعتدون على المتظاهرين، ويسمع طلقات الخرطوش والرصاص تدوى فى المكان، ويشاهد عشرات المصابين ينقلون إلى الإسعاف، ولا يسعه إزاء ذلك كله أن يفعل شيئاً، ومن ثم فقد قرر الرحيل تاركاً «الحسينى» بصحبة محمود عبدالقادر، بعد انصراف «سيد» من مكان الحدث.
كانت عقارب الساعة تدور فى الواحدة والنصف صباحاً عندما وجد محمود عبدالقادر، فنان تشكيلى، «33 سنة»، نفسه بصحبة صديقه «الحسينى» بعد انصراف باقى الأصدقاء، يقول «محمود»: «بعد ما كل اللى كانوا معانا مشيوا لقينا الإخوان اللى كانوا متمركزين فى شارع الميرغنى اتقدموا لغاية الخليفة المأمون، وبقوا على مشارف التقاطع، كانوا عاملين حواجز وكل شوية يزقوها ويطلعوا كام متر زيادة، فوجئنا إن فيه تقريباً 20 واحد من ناحيتنا جايين فى اتجاه الإخوان ودخلوا عليهم دخلة جامدة، لقيت الحسينى بيجرى من جبنى ووقف فى الجزيرة الوسطى اللى عند تقاطع الخليفة المأمون مع الميرغنى عشان يصور اللى بيحصل». يتذكر «محمود» هذا المكان بدقة كما يحدده بدقة أيضاً إذ إنه نفس المكان الذى أصيب فيه «الحسينى»، كان ذلك، كما يقول «محمود»، بعد أن انتهى من تصوير حالات كر وفر بين الإخوان والمتظاهرين، أخبره «الحسينى» وقتها أنه يستخدم الكارت الثانى فى الكاميرا بعد أن امتلأ الأول، وعندما سأله أين وضع الكارت الأول؟ أشار «الحسينى» إلى الحقيبة التى يحملها على ظهره، ساعتها يقول «محمود» إن «الحسينى» أبلغه أنه التقط صوراً كثيرة لعدد كبير من الأشخاص الملتحين يمسكون أسلحة فى أيديهم ويطلقونها فى اتجاه المتظاهرين، الذين كان يقف هو فى صفوفهم، ومن ثم فقد كان تصوير الجانب الثانى سهلاً للغاية بالنسبة له، يواصل «محمود» قائلاً إنه أثناء حديثهما عندما كانا يقفان فى الجزيرة الوسطى الموجودة فى شارع الخليفة المأمون التى تطل على شارع الميرغنى فتح «الحسينى» الكاميرا ليعرض على «محمود» فيديو كان قد التقطه للهجوم الدائر منذ لحظات، كان الاثنان يقفان إلى جوار بعضهما البعض، كتفاً بكتف، ورأساً برأس، عندما شعر «محمود» بسقوط «الحسينى» إلى جواره، نظر إليه فوجده ممدداً على الأرض والدم ينزف من رأسه بغزارة. كاميرا الحسيني عادت بعد إصابته بـ4 أيام دون كارت الذاكرة
يقول «محمود» إنه صدم أول الأمر، ثم راح ينادى على من حوله حتى يحملوا «الحسينى» معه وينقلوه إلى سيارة الإسعاف، وعندما كان منشغلاً فى حمل «الحسينى» لمح أحد الأشخاص وهو يلتقط الكاميرا من الأرض، فى نفس الوقت الذى لم تكن فيه الحقيبة على ظهر «الحسينى» ولا حتى الجاكيت الذى كان يرتديه، الأمر الذى يفسره «محمود»: «قلت يكمن يكونوا اتخلعوا وإحنا بنحاول نشيله عشان ننقله». راحت الكاميرا كما راحت كل المتعلقات التى كانت بحوزة «الحسينى». أما المتعلقات التى كانت موجودة فى الحقيبة وضمنها كارت الكاميرا الأول الذى صور عليه «الحسينى» الوجوه مقربة فلم تعد مرة أخرى، وأما الكاميرا فقد عادت بعد حوالى أربعة أيام من إصابة «الحسينى»، حملها أحد الأشخاص إلى جريدة «الفجر» وسلمها هناك قائلاً إنه احتفظ بها حتى لا تسقط فى يد أحد وقد نوى أن يسلمها.
عادت الكاميرا بالكارت الثانى، أما الكارت الأول فلم يعد، وبعدها بيومين تقريباً أسلم «الحسينى» الروح بمستشفى قصر العينى طاوياً فى صدره وجوه أولئك الذين صورهم عن قرب وهم يطلقون النيران على المتظاهرين، وأولئك الذين سمعوه فى المقهى وهو يتحدث عمن صورهم، ولعلها هى نفسها الصور التى كانت ستقدم إجابة عن السؤال: «مَن قتل الحسينى أبوضيف؟».
الوطن