أيها الإله الكلمة يا ينبوع الحياة، دعني أنهل من مائك الحيِّ ليرتوي عطشي. أن فيض مراحمك يجعلني لا أكفّ عن الكلام، محاولاً أن أُعبِّر عمّا يجيش في صدري، من حبِّ وإيمان وعرفان بجزيل نعمك وعطاياك.
أيها الأزلي أنت ماء الحياة ولا حياة بدونك. إن أفصح البلغاء ليعجز عن وصف أعجوبة فدائك، فواهب الحياة نزل من عليائه ليموت من أجل مخلوقاته، وليهبها الحياة. هبني أيها الجبار القوَّة لأشرح بما أكتب، عن أسرار تجسدك وسموِّ تواضعك وعظمة رأفتك. أيها القوي الذي أراد أن يظهر بمظهر الضعيف، ولو شاء لإنهارت الجبال بكلمة منه. يا من حمل أثقال العالم وتعب من مشاق الطريق، أمنحني القدرة على وصف حديثك مع السامرية، وما نالها من هباتك وعطاياك.
قصة عجيبة سأرويها لك أيها المؤمن، فانصت وتمعّن وافهم وأعتبر.
إن الله العظيم غمَر الإنسان بخيراته، فتح له بفدائه أبواب السماء، علّمنا نحن البشر أن المحبة هي أم الفضائل، بها نتجه إلى الملكوت، فهي التي دفعت ربّ الأرباب ليتواضع ويصير منّا. يتجول في الأرض فقيراً وهو الغني. يمشي مثلنا وهو الذي تحمله الكاروبيم. يتحدث إلينا وهو الذي خلقنا. فبأي كلمات يمكننا أن نصف هذا الذي تعجز عن إدراكه العقول، ويقصر عن فهم أسراره الأنبياء والمرسلون، ومع ذلك سأروي أنا الضعيف العاجز قصة السامرية.
كانت تقف عند البئر تتأهب لتملأ جرتها، أنها سامرية، وكان الرب يسير وحيداً. اقترب وخاطبها قائلاً: أيتها المرأة أعطني شربة ماء. مفجر الينابيع ومالئ البحار يطلب ماءً ليشرب. ماء الحياة يسأل السامرية أن تعطيه ماءً من البئر. الذي قال عنه الأنبياء أن الغيوم هي غبار قدميه. مَن بإشارة من يده تتفجر الأرض أنهاراً. يسأل أن يعطى ماءً. أيظمأ مَن يروي العالم؟ أيكون فعلاً بحاجة إلى الماء؟ أنها حكمته الإلهية. فهو بسؤاله هذا إنما يفسِّر ما كتب في الأسفار، وغايته واضحة سامية وكلماته حكم هادفة.
كان يتجه نحو البئر وحيداً سائراً مثلنا. تبدو عليه إمارات التعب والإرهاق. أن إتخاذه جسد الإنسان كان يضفي عليه سمات بني البشر. بإرادته فعل هذا ولأجلنا تعب ولخلاصنا تألم.
يتعب ويتحمل المشاق لينقذ آدم وذريته من مهاوي الأعماق. خالق البشر يسير على قدميه كالبشر. اللا محدود يمشي في الطريق كالمكدود. يجتاز المسافات بين القرى والبلدان. لينشر السلام والأمان بين بني الإنسان. داس على الشوك والقتاد. ليقتلع جذور الضلالة والفساد. ليطأ بقدميه رأس أفعى الشرور والآثام والالحاد.
أعطني جرعة ماء أيتها المرأة
وقفت السامرية مشدوهة أمامه نبرات صوته أذهلتها. لم يكن في الحقيقة بحاجة إلى الماء وهو نبع العطاء، وإنما كان يريد أن يحطّم الحواجز والفواصل، بين مختلف الشعوب والقبائل، ويهب جميع الفئات البشرية ماء الحياة الأبدية.
كيف يكون ما تقول أجابت المرأة. أنا سامرية يا سيدي وأنت يهودي. وأنت تعرف أن ذلك مخالف للتقاليد، المتعارف عليها منذ زمن بعيد. أتطلب مني ماءً وأنا سامرية؟ أنها تجهل مَن يكون مخاطبها. ولو عرفت لامتلأ قلبها فرحاً وسعادة. أنه يسألها لا ليأخذ بل ليعطي. فأجابها الرب:
"لو كنت تعلمين مَن الذي يطلب منك ماءً ليشرب، لسألتيه أن يعطيك ماءَ الحياة"
فسّر لي يا سيدي قولك هذا. أنت لا تملك بئرً ولا دلواً فمن أين تأتيني بالماء. لعلك أعظم من أبينا يعقوب. الذي حفر البئر وشرب منها هو وغنمه وبنوه وأبقاها لنا؟
كانت تتكلم عن أمور مادية. ظنت أن مخاطبها كان يعني بماء الحياة الماء الطبيعي. لم يدُر بخلدها أنه يعني شيئاً آخراً. وهنا شرع الرب يخاطبها روحياً، قال لها:
كل من يشرب من ماء هذه البئر يعطش مرة أخرى، أمَّا الماء الذي أعطيه أنا فمن يشربه لا يعطش ثانية. عندي معين الحياة أعطيه لمن يسألني. سليني أيتها المرأة فأعطيك إياه.
لم تدرك المرأة ما عناه السيد بكلامه. لكنها تشوَّقت للحصول على مثل هذا الماء. الماء الذي مَن يشربه لا يعطش أبداً. وبإلحاح الراغب في إقتناء شيء ثمين عجيب قالت: أعطني ياسيدي من هذا الماء، أرجوك. وبدلاً من أن تقدّم له جرعة الماء التي طلبها أخذت تسأله وتلتمس منه أن يعطيها هو من هذا الماء العجيب، لكي لا تأتي كل مرّة إلى البئر وتستقي ماءً. نسيت ما طلبه منها ولم تعد تفكر إلا بذلك السائل الغريب.
قال لها الرب:
- أدعي بعلك فأعطيكما منه
فأجابت السامرية:
- ليس لي بعل. أنا وحيدة فأعطنيه
قال الرب:
- حسناً قلت أن ليس لكِ بعل، فقد كان لكِ خمسة رجال وهذا الذي تعايشينه ليس زوجك. فغرت السامرية فاهاً من الدهشة والاستغراب، وارتعدت فرائصها رهبة وفزعاً. إن هذا الذي يخاطبها ليس من البشر. فهو إما نبيُّ أو فوق الأنبياء. أنه يعلم أسرارها ويعرف عنها مالا يعرفه مواطنوها. أنه يهودي غريب ومع ذلك فقد كشف ما حَرَصت على اخفائه عن أقرب المقربين إليها. أنها معجزة حقاً.
فدنت منه وقالت:
- لا شك يا سيدي بأنك نبي. أنك حكيم وعالم وعظيم والشعب بحاجة إليك. فهلا أصلحت العداء المستحكم بين السامريين واليهود؟ ثم قل لي أرجوك أين يجب السجود؟ أهنا في هذا الجبل كما يعتقد السامريون، أم في أورشليم كما تقولون وأين هو مسكن العلي؟ إلى أية جهة أوجِّه أنظاري؟ وأين هو الرب حقاً؟ أنني أرى أنك عالم كبير وتعرف الكثير.
يا لك من امرأة ذكية أجابها الرب. طوبى لكِ لأنك أدركت ما لم يدركه سواكِ. إنك تستفسرين عن أمور خفيت. عَن الشعب اليهودي والشعوب الأخرى. تبحثين عن الحقائق التي عميت عيون الناس عن رؤيتها. لقد اختلفوا في أمور سطحية مادية وغفلوا عن الأمور الهامة الروحية. تمسَّكوا بالقشور دون اللباب وهم في ضلالهم يعمهون. تسألينني أين تسجدين للرب في هذا الجبل أم في أورشليم، وأنا أقول لكِ أن السجود لا هنا ولا هناك. إن الله موجود في كل مكان فليس هناك مكان يحدُّه. تستطعين أن تسجدي له في أية بقعة من الأرض. بالإيمان والطهارة تجدينه.
سمعت المرأة كلام مخاطبها فأرتعشت. إنزاحت غشاوة الجهل عن عينيها ومُلئت بالروح. لقد فسَّر لها هذا النبي كل شيء. وخطرت في ذهنها خاطرة لمعت كالبرق: لعلّه المسيح المنتظر. أنها تعلم أن المسيح سيأتي والكل يتنظرونه. أيكون مخاطبها هو المسيح الرب؟ كيف تتأكد وتستبين وكيف تقطع الشك باليقين.
أنها مترددة وخائفة ومع ذلك سألت:
أنك يا سيدي أوضحت لي الكثير من الحقائق، فهلا أعلمتني عن مجيئ المسيح المنتظر وكيف يتسنى لي معرفته؟ هو وحده القادر أن يمحو الذنوب ويجدّد حياة الشعوب. أنك رجل صادق وقد آمنت بك نبياَ.
كانت المرأة متلهفة لسماع جواب الرب. إنها تتشوّق لمعرفة الحقيقة، وهي تَشعر في داخلها أنها لم تخطئ في حديثها. إن هذا الواقف أمامها لا بدّ أن يكون هو المسيح.
يا للمرأة النبيهة الحكيمة سألت، عرفت الحقيقة وآمنت، فلتخجل صهيون.
قال الرب:
- تسألينني عن مجيء المسيح وكيف تتعرفين عليه
فمن أخبرك أنه سيأتي ويحادثك؟
- انها الأسفار يا سيدي أجابت المرأة، فموسى النبي صوَّره لنا والتوراة أعلنت عن مجيئه. وأبونا يعقوب بشّر به. فالمسيح سيأتي وتستنير الأرض من تعاليمه. ها أنذا انتظر قدومه مع باقي الشعوب. أنه سينقلنا من الظلام إلى النور وبه سيتجدد هذا العالم.
تمهلّ الرب فلم يجبها في الحال. إن هذه المرأة تبحث عن الحقيقة وتعرف. أنه آت لا ريب في مجيئه. فإن لم يعرفها بنفسه ظلت تبحث عنه. فهي مؤمنة به ولن تتوانى عن السؤال والانتظار. وهي تعرف العلامات التي تدل على مجيئه من النبوءات والاسفار، فليعرّفها بنفسه. وفي الحال أضاء المكان نور إلهي نور غلب ضياء الشمس. أحاط بالرب من كل جانب نور يبهر الأبصار. فغطت المرأة وجهها بيديها وخرَّت ساجدة وهي تقول: أنت المسيح. أنت المسيح الرب.
وتركت جرتها على الأرض وهرولت عائدة إلى المدينة تعدو. تتعثر من شدة اضطرابها. تنادي بأعلى صوتها: تعالوا أيها الناس هلمّوا أيها السامريون لقد اقترب الخلاص لقد ظهر المسيح الرب.
كان الفادي قد أرسل تلاميذه ليشتروا خبزاً. لم يكن بحاجة إلى الخبز. وكان بإمكان واحد منهم فقط أن يذهب لشرائه. لكنه أبعدهم بهذه الحجّة. كان يعرف أنه سيلتقي بالسامرية، وأنه سيعرّفها بنفسه أنه المسيح. كان يعلم أن التلاميذ لو كانوا حاضرين لكلموا السامرية نيابة عنه، حتى ولو أبقى معه تلميذاً واحداً لكان هذا التلميذ هو الذي سيتولى الكلام. لهذا أرسلهم الفادي جميعهم ليعلن للمرأة الحقيقة، ليكشف لها عن نفسه، ليملأ نفسها بالإيمان. لتشرب من ماء الحياة لترتوي وتروي به عشيرتها. لم تملأ جرتها ماء وإنما امتلأت هي بالروح. غرفت من ينبوع الحياة ما يكفيها ويكفي أهل المدينة. إن نبع الحياة قد تفجّر عند البئر. تعالوا أيها العطاشى واشربوا أرووا ظمأكم.
تصوّر أيها المؤمن ما حدث للسامرية وما سوف يحدث. واستمع بانتباه لا تمل من قراءة قصتها أن لك فيها عبرة وفائدة. أنها مائدة مملوءة بالغذاء الروحي فلا تتوانى عن المشاركة بها. كانت السامرية مهتمة بالأمور الدنيوية. جاءت تملأ جرتها بالمياه الطبيعية. فعادت مشغولة بالظواهر الروحية محمَّلة بالمياة السماوية. كانت تعيش في ظلمة التقاليد ومتاهات العصبيات وأصبحت مغمورة بنور الحق. تبيَّنت لها مسالك التسامح والمساواة. جاءت بجرَّة واحدة فارغة وعادت محمّلة بجرار تفيض بمياه الحياة. إلى مدينة السامرة عادت تحمل البشرى بالخلاص. بحياة جديدة لا فروق فيها بين الأجناس.
تعالوا أيها الناس. كانت السامرية تصرخ بأعلى صوتها. أفيقوا أيها النيام أسرعوا أيها العطاش. عند بئر يعقوب تجدون نبعاً لا ينضب ماؤه. اذهبوا إليه استقوا منه جميعكم. اخرجوا أيها السامريون من بيوت الظلمة إلى رياض السعادة والنعيم. لقد صادفت هناك رجلاً أنه رجل ولا كالرجال. أقول رجلاً واستغفر واستميح عذراً أنه الرب المسيح. أنه المسيح حقاً وصدقاً. لقد كشف خفاياي وعرف أسراري. لقد فاض علي نوره الإلهي وبهرني ضياؤه السماوي. اذهبوا إليه استنيروا به. هيّا أيها السامريون حطّموا أصنام آبائكم. لقد أظهر الله لي نفسه وكلمني. وأنا أحمل لكم البشري فتعالوا واسألوه فتقضى حاجاتكم. أنه الله على صورة إنسان تحيط به هالات النور. شمس البرَّ العظيم تجدونه عند بئر الماء. يا عبدة الضلال ظهر الحق جاء المعبود ربَّ الوجود. تعالوا اتبعوني لأريكم مَن بشّر به أنبياؤكم وانتظره أجدادكم وأباؤكم، وعنه تحدثت الأسفار وإليه اشتاقت الأنظار.
تجمهر الناس وقد أخذتهم المفاجأة. منهم من صدّق وتشوّق ومنهم مَن تردد وترفّق. أيظهر الله لامرأة؟ أتكون صحيحة هذه الأنباء. يا للجهلة الأغبياء. انظروا إلى أصنامكم التي سقطت على وجوهها تؤكد لكم صحتها. إن الله هو رب المخلوقات جميعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً. يعطي سره لأضعف مخلوقاته فلِمَ تتعجبون ولماذا تترددون.
تقدمت المرأة جموع السامريين الزاحفين إلى موقع البئر. كانت تسرع الخطى ووجهها مشرق بالايمان. أما الرب فقد كان جالساً كصياد.
عاد التلاميذ ومعهم الخبز عرضوه على السيد ليأكل. قال لهم ان طعامي هو أن أعمل مشيئة مَن أرسلني. وأخذ يحدثهم عن الجسد وأنه الخبز الحقيقي. وإن الحصاد قد اقترب. تقولون أن الحصاد يلزمه أربعة أشهر. وأنا أقول لكم أنني زرعت كلمتي قبل مجيئكم وحصادها وغلّتها سترونها بأعينكم.
سمع التلميذ جَلَبة وضجيجاً كالهدير. تطلعوا إلى مصدر الصوت فإذا بجمهور غفير. حشود من الناس نحوهم تتجه وتسير. منهم من يمشي على قدميه ومنهم مَن يُحمَل. رجال ونساء شيوخ وأطفال أصحاء ومرضى خليط من البشر يمتد على مرأى النظر.
اندفعت تلك الجموع إلى حيث يقف الفادي وتلاميذه. كانت تتقدمهم السامرية تحثّهم على الاسراع. انظروا إليه كانت تقول. ألا ترون النور المنبعث منه ألا تشاهدون جلاله أنه المسيح الرب.
اقتربت الحشود من السيد. أنهم عطاش بالروح فقراء بالايمان مثقلون بالأوهام. فسقاهم وأغناهم وأراحهم. الصُم والبكم أصبحوا يسمعون ويتكلمون. العميان يبصرون المرضى يَشفون. المخلعون ينتصبون الموتى يحيون.
عمَّت الفرحة هذه الجموع المحتشدة. كانت الهتافات التسابيح تملأ المكان. كانت قلوبهم مفعمة بالايمان. إن هذا الذي يرون هو المسيح حقاً. وما قيل لهم عنه كان صدقاً. فكلمة من فيه أوقفت مخلعاً بل مخلعين. لمسة من ثوبة شفت مرضى. نظرة منه أعادت البصر إلى العميان. الصمّ والبكم بأمره أصبحوا يسمعون ويتكلمون. إنها أعجوبة الأعاجيب. لم يعد هناك حاجة لبئر يعقوب. لقد ارتوى الناس من ماء الحياة. نور السماء طرد ظلمة الأرض. الينبوع الإلهي تفجّر بين الناس.
كانت السامرية تنتقل بين الجماعات يعلو صوتها فوق كل الأصوات. أرأيتم كانت تقول ألم أصدقكم القول ألم تشاهدوا بهاءه. أما لمستم بأنفسكم معجزاته؟ ألم تسمعوا بآذانكم حِكَمه. لقد عرفته أنا فجئت إليكم وأخبرتكم. أنا الذي أنبأتكم أنا هي مَن دعتكم لتنعموا بالخيرات أنا التي دلتكم على ماء الحياة. أصمتي أيتها المرأة قالت لها الحشود. دعينا نسمع كلامه فتتغذى أرواحنا. افسحي لنا المجال لتستضيء بنوره عقولنا. أننا عرفناه من الآيات التي صنعها وتأكدنا بأنه المسيح الرب مخلص العالم. أنه ليس لنا وحدنا فهو لجميع الشعوب. أنك لست أنت الذي عرفته. ولولا أنه أراد ذلك لما عرفته. بسلطانه أدركته وبإرادته تعرفت عليه. هو لا يحتاج لمن يشهد له. فأعماله الخارقة تدل عليه. أنه الشمس المشرقة التي لا تحتاج إلى تعريف. هو النور والحق والحياة. أنه المسيح ابن الله له المجد.