حياة التواضع والوداعة (6)
تواضع الله (ب)
بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
تواضع الابن, وتواضع الروح القدس
تكلمنا في العديد عن تواضع الله عموما, بما في ذلك الله الآب, ونود أن نتحدث اليوم عن تواضع الابن, وتواضع الروح القدس:
تواضع الابن
1- أول شيء نذكره في تواضعه هو تجسده:
وفي ذلك يقول القديس بولس الرسول عن السيد المسيح إنه لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله, لكنه أخلي نفسه, آخذا صورة عبد, صائرا في شبه الناس, وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه.. (في 2: 6-8).. أي أنه أخلي نفسه من كل مظاهر العظمة والكرامة اللائقة بلاهوته, متخذا صورة العبد, أي تواضع يمكن أن يوجد أكثر من هذا؟!
وفي هذا التواضع حكمة التدبير الإلهي: فمادامت الخطية الأولي التي دخلت إلي العالم كانت هي الكبرياء, سواء بالنسبة إلي الشيطان أو الإنسان, لذلك كان يليق بالمخلص أن يقهرها بالاتضاع.
وهكذا كان تجسده هو أعظم عمل في الاتضاع وبه أخزي الرب تلك الكبرياء التي أغوي بها الشيطان أبوينا الأولين, بأن يصيرا مثل الله (تك 3: 5) وردا علي أن يصير الإنسان مثل الله, صار الله في الهيئة كإنسان بتواضعه.
2- ومن اتضاع الرب أيضا أنه ولد في مذود بقر
في مكان حقير, ومن أم فقيرة, خطبت إلي نجار فقير, ومن قرية كانت الصغري في يهوذا هي بيت لحم (مت 2: 5, 6), ولم يخجل من أن يدعي ناصريا, بينما يقال في استعجاب أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟! (يو 1: 46).
3- وفي تواضعه عاش بعيدا عن المظاهر والألقاب:
رضي أن يهرب من سيف هيرودس إلي مصر, بينما كان يمكنه أن يبيد هيرودس, وعاش ثلاثين سنة بعيدا عن الأضواء.
ومع أنه أقنوم الحكمة والمعرفة, المذخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم (كو 2: 3), رضي أن يقال عنه وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لو 2: 52).
وطوال فترة كرازته عاش وليس له أين يسند رأسه (لو 9: 58) بلا أية وظيفة رسمية في المجتمع, يتبعه تلاميذ بسطاء, غالبيتهم من الصيادين والجهلة, ولما ذهب إلي أورشليم, ذهب إليها راكبا علي أتان وجحش ابن أتان (مت 21: 5).
4- وعاش أيضا خاضعا للناموس, ودعا إلي حفظه
أليس هو القائل لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء, ما جئت لأنقض بل لأكمل, فإني الحق أقول لكم إلي أن تزول السماء والأرض, لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتي يكون الكل (مت 5: 17, 18).
وفي خضوعه للناموس أختتن في اليوم الثامن (لو 2: 21).
وفي يوم الأربعين لولادته صعدوا به إلي أورشليم ليقدموه للرب, كما هو مكتوب في ناموس الرب ولكي يقدموا ذبيحة كما قيل في ناموس الرب, زوج يمام أو فرخي حمام (لو2: 22, 23).
وحسب الناموس لم يبدأ خدمته الرعوية إلا في الثلاثين من عمره.
حسب السن الناضجة المفروضة في أي إنسان, مع أنه قيل عنه وهو في الثانية عشرة من عمره, وجدوه في الهيكل جالسا في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم وكل الذين سمعوه, بهتوا من فهمه ومن أجوبته (لو 2: 46, 47).
5- ومن تواضعه أنه تقدم ليعتمد من يوحنا المعمدان
كانت تلك معمودية التوبة, وما كان هو محتاجا إليها وهو القدوس (لو 1: 35) الذي في تجسده شابهنا في كل شيء ماعدا الخطية, وقد قبل المعمودية من أحد خدامه, أعني يوحنا الذي حاول أن يعتذر عن ذلك قائلا له أنا المحتاج أن أعتمد منك, وأنت تأتي إلي! فأجابه في اتضاع اسمح الآن, لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر (مت 3: 14, 15), يقصد بر الناموس وقد خضع له تواضعا.
6- ومن تواضعه سمح للشيطان أن يجربه!
وليست تجربة واحدة بل ثلاث مرات علي الجبل, وبلغ من عمق اتضاعه وإخلائه لذاته, أن الشيطان أخذه إلي جبل عال جدا, وأراه جميع ممالك العالم ومجدها, وقال له أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي (مت 4: 8, 9). يالجرأة الشرير ووقاحته في استغلاله لتواضع الرب, لذلك بعد أن رد الرب عليه بما هو مكتوب, انتهره قائلا: اذهب يا شيطان, فذهب ولكن القديس لوقا يقول في ذلك ولما أكمل إبليس كل تجربة, فارقه إلي حين (لو 4: 13). أي رجع بعدها!
7- وفي اتضاع الابن الوحيد, اللوجوس عاش في حياة الطاعة
قال عنه القديس بولس الرسول إنه وضع نفسه وأطاع حتي الموت, موت الصليب (في 2: 8), وهو قال عن نفسه لتلاميذه لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم.. طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني, وأتمم عمله (يو 4: 22, 24), وقال لليهود الحق الحق أقول لكم لايقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئا, إلا ما ينظر الآب يعمله (يو 5: 19), وقال للآب لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك (يو 6: 41) (يو 5: 30) وقال ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (مت 26: 39).
وطاعته لم تكن للآب السماوي فقط, بل أيضا لأمه مريم
قيل في طفولته بالنسبة إلي علاقته بمريم العذراء ويوسف النجار: وكان خاضعا لهما (لو 2: 54) أنه درس لنا هذا الذي كانت الملائكة خاضعة له (مر 1: 13) (1بط 3: 22).
8- ومن تواضعه: إنه كان يجلس مع العشارين والخطاة
هؤلاء الذين كان الكتبة والفريسيون يحتقرونهم ويترفعون عن مخالطتهم ولكن الرب اختار واحدا من هؤلاء متي ليكون له تلميذا, وبهذه المناسبة اتكأ في وليمة أعدها أولئك العشارون, حتي انتقده الفريسيون (مت 9: 9-11). فأجاب الرب في اتضاعه أني أريد رحمة لا ذبيحة لأني لم أت لأدعو أبرارا بل خطاة إلي التوبة (مت 9: 13).
وهكذا أيضا دعا زكريا العشار ودخل إلي بيته.
ومن تواضعه أنه اتكأ في بيوت أعدائه من الفريسيين, كزيارته لبيت سمعان الفريسي وسماحه للمرأة الخاطئة أن تلمسه وتمسح قدميه بشعرها, مما أثار ذلك الفريسي (لو 7).
9- ومن تواضع الرب أنه كان يسلك ببساطة مع الكل
كان يسلك ببساطة مع الأطفال, ومع النساء, ومع عامة الشعب: يكلمهم ببساطة, بلا تعال ولا ترفع, كواحد من البشر.
وكان يدعو نفسه ابن الإنسان, أو ابن البشر, في كثير من المناسبات وقد قيل عنه في وداعته إنه كان لا يخاصم ولا يصيح, ولا يسمح أحد في الشوارع صوته, قصبة مرضوضة لا يقصف, وفتيلة مدخنة لا يطفئ (مت 12: 19, 20).
10- ومن تواضعه أنه رفض عمل المعجزات للمظهرية والفرجة
مثل رفضه تجربة تحويل الحجارة إلي خبز, ورفضه أن يلقي نفسه من جناح الهيكل, فتحمله الملائكة علي أجنحتها (مت 4).
ولما طلب منه اليهود أن يروا آية منه كموضوع للفرجة Showy, قال لهم جيل شرير وفاسق, يطلب آية ولا تعطي له آية إلا آية يونان النبي - لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال, هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض... (مت 12: 39), موجها أنظارهم إلي موته, لا إلي معجزاته.
11- ومن تواضعه أنه مجد تلاميذه
فقال للآب عنهم المجد الذي أعطيتني, قد أعطيتهم (يو 17: 22), بل قال أكثر من هذا والحق الحق أقول لكم: من يؤمن بي, فالأعمال التي أنا أعملها, يعملها هو أيضا, ويعمل أعظم منها (يو 14: 12), وقال عنهم القديس بولس الرسول الذين سبق فعرفهم, سبق فعينهم, فهؤلاء مجدهم أيضا (رو 8: 29, 30).
أعطاهم أيضا أن تبني كنائسه ومذابحه بأسمائهم, وأن ترسم لهم الأيقونات وتوقد أمام أيقوناتهم الشموع, وترتل لهم المدائح والأكصولوجيات.
12- ومن تواضعه أن نعمته تعمل في الناس باختفاء
عملهم هم هو الذي يظهر, أما نعمة الرب العاملة فيهم, فلا يراها أحد وقد كشفت لنا هذا الأمر القديس بولس الرسول حينما قال:
ولكن بنعمة الله أنا ما أنا, ونعمته المعطاة لي كم تكن باطلة, بل أنا تعبت أكثر من جميعهم ولكن لا أنا, بل نعمة الله التي معي (1كو 15: 10).
13- ومن تواضعه أنه احتمل ظلم الأشرار, وقبل الإهانات في صمت
شتم, ولطم, وأهين, وجلد, واتهم ظلما, وقبل كل ذلك دون أن يدافع عن نفسه, ودون أن يرد عليهم شرهم, وقد قيل عنه ظلم, أما هو فتذلل ولم يفتح فاه, كشاة تساق إلي الذبح (إش 53: 7) وصلب بين لصين وأحصي مع أثمة (إش 53: 12).
14- وفي اتضاعه حمل خطايا العالم
هذا الذي لم يعرف خطية, جعل خطية لأجلنا (1كو 5: 21) حمل خطايا العالم كله, كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلي طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا, ونحن حسبناه مصابا ومضروبا من الله (إش 53: 4, 6) وهكذا صلب كفاعل إثم وهو البار ورضي أن يكون أمام الآب ذبيحة خطية.
15- ومن تواضعه أنه جعل صلبه واضحا أمام الناس كلهم, بينما قيامته الممجدة لم يظهرها إلا لأفراد قلائل!
وكان يمكن أن تكون تلك القيامة واضحة للكل, بطريقة مبهرة ترد إليه اعتباره أمام اليهود, ولكنه في اتضاعه لم يفعل ذلك, وترك لتلاميذه أن يبشروا بقيامته وسط شكوك أثارها اليهود.
16- لهذا كله, دعانا أن نتعلم منه الاتضاع
وقال تعلموا مني, فإني وديع ومتواضع القلب (مت 11: 29) فجعل أهم ما نتعلمه منه هو الاتضاع وفي عظته علي الجبل, أعطي الطوبي الأولي للمسكنة بالروح, ثم أعطي الطوبي للودعاء (مت 5).
تواضع الروح القدس
17- من تواضع الروح القدس أنه يعمل كل شيء في بناء الكنيسة في سرية واختفاء, فتسمي أعماله هذه بالأسرار الكنسية
يلد الإنسان الجديد في المعمودية, ويمنحه المغفرة والبنوة دون أن يظهر وكذلك في سر الميرون يسكن في المؤمن دون أن يظهر, وبالمثل يغفر الخطايا من فم الكاهن دون أن يظهر, وكذا في باقي أسرار الكنيسة.
18- من تواضع الروح القدس أنه يتكلم من أفواه الرسل, وينطق في الأنبياء دون أن يظهر أيضا
كما قال السيد المسيح لتلاميذه لأن لستم أنتم المتكلمين, بل روح أبيكم هو الذي يتكلم فيكم (مت 10: 20), ولكن الظاهر طبعا أمام الناس أن الرسل يتكلمون, أما عمل الروح فهو في الخفاء.
كذلك قيل عن النبوة لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان, بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس (2 بط 1: 21), ولكن عمل الروح القدس لا يراه أحد, بل يسمعون النبوة من إنسان.
19- بنفس الاتضاع القوة التي يمنحها الروح القدس للخدام
كمال قال السيد المسيح لتلاميذه القديسين لكنكم ستنالون قوة متي حل الروح القدس عليكم وحينئذ تكونون لي شهودا (أع 1: 8) والناس كانوا يرون قوة شهادة الرسل ويمدحونهم ويتأثرون بهم, أما عمل الروح القدس فيهم, فكان في اختفاء, لا يرونه.
20- وفي اتضاع أيضا كان الروح القدس يمنح المواهب
والناس يرون أصحاب المواهب, ويعجبون بهم ويمتدحونهم, بينما من جهة هذه المواهب كلها يقول الكتاب لكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه, قاسما لكل واحد بمفرده كما يشاء (1كو 12: 11), ولكن الظاهر هو أصحاب المواهب, أما الروح فعمله في اختفاء.
21- هكذا كان الروح القدس يعمل في الكنيسة, والذي يظهر كان هو عمل الكنيسة, أما الروح فكان يعمل العمل كله في سرية واختفاء
اقرأ التاريخ كله, وما يحمله من تمجيد لأبطال الإيمان وللكرازين, وآباء الرهبنة, ومعلمي البيعة, لقديسي التوبة أيضا, نري أن التاريخ يمجدهم ويرفع شأنهم, بينما يرجع الفضل كله إلي عمل الروح فيهم, ذلك الذي عمله الروح تواضعا في اختفاء.
22- ومن تواضع الروح أنه يرضي أن يسكن في أجسادنا البشرية
كما يقول الرسول أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل الروح القدس الذي فيكم (1كو 6: 19) وأيضا أما تعلمون أنكم هيكل الله, وروح الله يسكن فيكم (1كو 3: 16). من نحن التراب والرماد؟! وما هي أجسادنا؟ حتي يسكن فيها روح الله أليس هذا تواضعا منه؟!
23- ومن تواضع الروح القدس أنه يحتملنا
يحتملنا ونحن نحزن الروح (أف 4: 30) ونطفئ الروح (1تي 5: 19), ونقاوم الروح (أع 7: 51), بل نرفض الشركة مع الروح بخطايانا!
فليرحمنا الله, وليجدد روحه فينا.
|