سلام المسيح (ع 27-31):
27 «سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. 28 سَمِعْتُمْ أَنِّي قُلْتُ لَكُمْ: أَنَا أَذْهَبُ ثُمَّ آتِي إِلَيْكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي. 29 وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ. 30 لاَ أَتَكَلَّمُ أَيْضًا مَعَكُمْ كَثِيرًا، لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ. 31 وَلكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هكَذَا أَفْعَلُ. قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ ههُنَا.
ع27: إن كان الحديث هنا موجها للتلاميذ، إلا أنه يتجاوزهم للكنيسة كلها في كل زمان ومكان، فميراث الآباء لأبنائهم قد يكون مالا أو جاها، أما ميراث المسيح وعطيته، فهو سلام يفوق العقل ولا يفهمه العالم، فالعالم كله لا يستطيع أن يعطى بعضا من هذا السلام، ومنْح المسيح هذا السلام كهبة منه، هو إشارة واضحة للاهوته كما تنبأ عنه إشعياء: "ويدعى اسمه عجيبا، مشيرا، إلها قديرا، أبا أبديا رئيس السلام" (إش 9: 6).
والنتيجة الطبيعية لهذا السلام، هي ثبات القلب وعدم خوفه مهما كانت الأهوال. ولعل أزهى برهان على ذلك، هو حالة آبائنا الشهداء في وقت عذاباتهم، فقد كان سلامهم وهدوءهم محيرا وغير مفهوم للذين كانوا يعذبونهم.
ع28: "لو كنتم تحبوننى...": أي المحبة الروحية وليست العاطفية، فالعاطفة تحزن للفراق، ولكن المحبة الروحية تتعداها، لأنها تفهم وتعى نتائج ما يحدث بعد فراق المسيح للتلاميذ بالجسد، مثل: إعداد المكان (ع2)، إرسال الروح القدس (ع16)، المتعة الدائمة مع الآب والابن سواء في الأرض (ع23) أو السماء بعد ذلك (ع3). ولعلنا نشعر بهذا أيضًا ونفهمه في حياتنا عند انتقال أحد أحبائنا القديسين إلى السماء، فنحن نفتقده بالعاطفة الإنسانية، ولكن بالروح نفرح، إذ صار لنا شفيعا يطلب عنا أمام عرش النعمة، إلى أن نلقاه نحن هناك أيضًا.
"أبى أعظم منى...": ليس في الطبيعة، لأنهما متساويان في الجوهر. ولكنه يتكلم عن مجد لاهوته المُخْفَى خلال رحلة الألم والصلب، بينما مجد الآب لا يُخْفَى، فصورة الابن المنظورة، خلال الأيام القادمة، خالية من كل عظمة بمفهوم البشر. وهنا، يقول القديس بولس عن المسيح: "أخلى نفسه آخذا صورة عبد" (في 2: 7)، أي ترك إظهار مجده اللاهوتي، لكي يفدى البشر بجسده. ولما كانت هذه الآية من الآيات التي استخدمها الكثير من الهراطقة (المنشقين وأصحاب البدع) للإقلال من شأن مساواة الابن بالآب، فإليك أيها الحبيب ما قاله أيضًا المسيح في نفس الإنجيل، وفي هذا الشأن:
(1) "أبى يعمل حتى الآن وأنا أعمل" (ص 5: 17).
(2) "لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب" (ص 5: 23).
(3) "أنا والآب واحد" (ص 10: 30).
(4) "الذي رآني، فقد رأى الآب" (ع9).
(5) "أنا في الآب والآب فىّ" (ع10).
(6) "كل ما هو لى فهو لك، وما هو لك فهو لى" (ص 17: 10).
(7) "أنت أيها الآب فىّ وأنا فيك" (ص17: 21).
ع29: أي كل ما يتعلق بالآلام ورحلة الصليب والأوقات الصعبة، فمتى أتت إذن تتذكرون أننى تنبأت لكم بكل هذا، فلا يخور إيمانكم بل يثبت ويزداد.
ع30: "لا أتكلم أيضًا معكم كثيرًا": أي لم يتبق للتلاميذ مع المسيح سوى ساعات قليلة، وقد مضى زمن الكلام والتعليم، ولم يبق سوى زمن الفداء والصليب.
"رئيس هذا العالم": أي أنها الحرب الأخيرة المزمع أن يقوم بها الشيطان... من تهييج الكهنة والشعب، وإتمام خيانة يهوذا، وكل المحاكمات والمؤامرات المصاحبة، وهذا ما أعلنه المسيح في (لو 22: 53) "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة".
"ليس له فىّ شيء": أي أن الشيطان، بكل قوته، ليس له سلطان أمام بر وعظمة وسلطان المسيح.
ع31: ترتبط هذه الآية بما قبلها، أي أنه بالرغم من أن رئيس هذا العالم ليس له فىّ شيء، ولكن، لأننى أحب الآب، فإننى أبذل نفسي كإرادته لخلاص العالم.