رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
الفرح بالخلاص المسياني: 16 «هأَنَذَا أُرْسِلُ إِلَى جَزَّافِينَ كَثِيرِينَ، يَقُولُ الرَّبُّ، فَيَصْطَادُونَهُمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذلِكَ أُرْسِلُ إِلَى كَثِيرِينَ مِنَ الْقَانِصِينَ فَيَقْتَنِصُونَهُمْ عَنْ كُلِّ جَبَل وَعَنْ كُلِّ أَكَمَةٍ وَمِنْ شُقُوقِ الصُّخُورِ. 17 لأَنَّ عَيْنَيَّ عَلَى كُلِّ طُرُقِهِمْ. لَمْ تَسْتَتِرْ عَنْ وَجْهِي، وَلَمْ يَخْتَفِ إِثْمُهُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. 18 وَأُعَاقِبُ أَوَّلًا إِثْمَهُمْ وَخَطِيَّتَهُمْ ضِعْفَيْنِ، لأَنَّهُمْ دَنَّسُوا أَرْضِي، وَبِجُثَثِ مَكْرُهَاتِهِمْ وَرَجَاسَاتِهِمْ قَدْ مَلأُوا مِيرَاثِي». 19 يَا رَبُّ، عِزِّي وَحِصْنِي وَمَلْجَإِي فِي يَوْمِ الضِّيِق، إِلَيْكَ تَأْتِي الأُمَمُ مِنْ أَطْرَافِ الأَرْضِ، وَيَقُولُونَ: «إِنَّمَا وَرِثَ آبَاؤُنَا كَذِبًا وَأَبَاطِيلَ وَمَا لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ. 20 هَلْ يَصْنَعُ الإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ آلِهَةً وَهِيَ لَيْسَتْ آلِهَةً؟». 21 «لِذلِكَ هأَنَذَا أُعَرِّفُهُمْ هذِهِ الْمَرَّةَ، أُعَرِّفُهُمْ يَدِي وَجَبَرُوتِي، فَيَعْرِفُونَ أَنَّ اسْمِي يَهْوَهُ. بعد أن تحدث عن الفرح بالعودة من السبي، دخل بنا إلى الفرح الحقيقي في العهد الجديد حيث قدم لنا السيد المسيح كلمة الخلاص خلال تلاميذه ويكمل هذا الفرح بالأكثر عندما تحملنا الملائكة إلى اللقاء مع الرب في اليوم الأخير، إذ يقول: "هأنذا أرسل إلى جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب فيصطادوهم، ثم بعد ذلك أُرسل إلى كثيرين من القانصين (صيادي حيوانات) فيقتنصوهم عن كل جبل وعلى كل أكمة، ومن شقوق الصخور. لأن عينيّ على كل طرقهم. لم تستتر عن وجهي، ولم يختفِ إثمهم من أمام عينيّ وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، لأنهم دنسوا أرضي، وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي" [16-18]. التشبيه الخاص بدعوة صيادي سمك للصيد بين شعب يهوذا شائع كما في (حز 12: 13؛ 29: 4-5؛ عا 4: 2، حب 1: 14-17). وأيضًا صيادي الحيوانات الذين يصطادون حتى من شقوق الصخور كان معروفًا، كما جاء في (عا 9: 1-4). يقصد بالتشبيهين أن عيني الله تنظران إلى كل شيء حتى ما يبدو مخفيًا في وسط البحار أو في شقوق الصخور، وأنه لا بُد من المجازاة عن الشر أينما اُرتكب. يرى كثير من الدارسين أن تقسيم العدو الذي يسبي البلاد إلى صيادي سمك وصيادي وحوش، وذكره أنه يعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، إشارة إلى السبي على دفعتين عاميّ 598، 587 ق.م، بهذا السبي الذي تم على مرحلتين انتهت حياة الأمة تمامًا. الجزافون (صيادو السمك) والقانصون (صيادو الوحوش) الجازفون في رأي العلامة أوريجينوس هم تلاميذ السيد المسيح، صيادوا السمك، الذين اصطادوا النفوس ودخلوا بها إلى شبكة الكنيسة الملقاه في بحر هذا العالم لتعيش كالسمك الصغير مع السمكة الكبيرة "المسيح نفسه". أما القانصون فهم الملائكة الذين يجتذبون المؤمنين الذين صاروا كالجبال والأكمة وتمتعوا بشقوق الصخور فصار لهم حق اللقاء مع عريسهم السماوي في اليوم الأخير. يقول العلامة أوريجينوس: [في شبكة الرسل نموت لنحيا من جديد! مكتوب في إنجيل متى أن مخلصنا جاء إلى شاطئ بحر الجليل ورأي "سمعان وأندراوس أخوه يلقيان شباكهم في البحر، لأنهما كانا صيادين" ثم يضيف الكتاب أن المخلص حينما رآهما دعاهما قائلًا: "هلم ورائي فأجعلكما صيادين للناس". هذان تركا شباكهما وتبعاه. ثم وُجد أيضًا أخوان: يعقوب بن زبدي ويوحنا أخاه في السفينة مع زبدي أبيهما يصلحان شباكهما. فدعاهما أيضًا ليكونا صيادين للناس. إذا نظرنا إلى الذين أعطاهم الرب موهبة الكلمة المجدولة مثل الشبكة، والمصنوعة من مجموعة كلمات متشابكة مع بعضهما البعض ومأخوذة من الكتاب المقدس، بحيث تأسر في شباكها نفوس السامعين، وإذا علمنا أن ذلك الأمر يستلزم تواضعًا كما يعلمنا السيد المسيح، لأدركنا أنه ليس في الماضي فقط أرسل الله صيادين للناس، إنما الآن أيضًا لا يزال يرسل الرب صيادين للناس بعدما يقوم بتعليمهم، حتى يخرجونا من البحر وينقذونا من مرارة أمواجه. لكن الأسماك التي تقع في الشباك تموت موتًا بلا قيامة وليس لها حياة بعد هذا الموت، أما الذين يسقطون في شباك صيادي السيد المسيح والذين خرجوا من البحر، يموتون هم أيضًا، لكنهم يموتون عن العالم وعن الخطية، بعد هذا الموت يحيون من جديد بواسطة كلمة الله ويأخذون حياة جديدة. أي أنك تخرج من البحر وتقع في شباك تلاميذ السيد المسيح، وعند خروجك تتغير نفسك، فلا تعد السمكة التي تعيش وسط الأمواج والخارجة من البحر لتموت، وإنما تتغير نفسك وتتبدل وتتحول إلى نفسٍ أفضل، بل وإلى نفسٍ إلهية. ويقول بولس الرسول: "ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة تتغير إلى تلك الصورة عينها من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح" (2 كو 3: 18). بما أن هذه النفس التي أُخذت من شباك الصيادين الذين أرسلهم السيد المسيح قد تغيرت ولم تعد بعد تعيش في البحر، لذا تعيش في الجبال، بحيث لا تعود تحتاج إلى صياد يصطادها من البحر، إنما تحتاج إلى نوع آخر من الصيادين البريين الذين يصطادون على كل جبلٍ وعلى كل أكمةٍ. عندما تكون قد خرجت من البحر وأُخذت في شباك رسل السيد المسيح، تَغَيرْ في نفسك واتركْ البحر وامحه تمامًا من ذاكرتك، ثم تعالَ إلى الجبال التي هي الأنبياء، وعلى الأكمة التي هي الأبرار، واقضِ هناك حياتك، حتى متى جاء موعد رحيلك من هذه الحياة، يرسل إليك صياديين من نوع جديد وهم الملائكة الذين يستلمون أرواح الأبرار، فهم مكلفون باستلام الأرواح الموجودة على الآكام وليس الأرواح المائتة المطروحة إلى أسفل. اعتقد أن هذا المعنى هو الذي كان يقصده النبي حينما قال في نبوته: "هأنذا أرسل إلى جزافين (صيادي سمك) كثيرين يقول الرب فيصطادونهم ثم بعد ذلك أرسل إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل أكمة". إذ تتغير السمكة التي امسكها تلاميذ الرب، لتكف عن الحياة في البحر وتحيا في الجبال، فلا تحتاج بعد إلى صيادين يسحبونها من البحر، وإنما إلى نوع آخر من الصيادين اسمهم قناصين "يقتنصونها عن كل جبل وعن كل أكمة" [16]]. الصعود على الجبال المقدسة [إن أردت أن يأخذك القانصون احذر من أن تقضي حياتك مختبئا في هذه الأرض وعائشًا في التراب، بل ابحث عن الجبال. اصعد إلى الجبل الذي تجلي عليه السيد المسيح. اصعد إلى الجبل الذي قيل عنه: ولما رأى الجموع صعد إلى الجبل، ولما جلس تقدم إليه تلاميذه ففتح فاه وعلمهم قائلًا طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات، وبقية التطويبات التي علمها لهم السيد المسيح على هذا الجبل ]. ["ثم أرسل بعد ذلك إلى كثيرين من القانصين فيقتنصونهم عن كل جبل وعن كل أكمة ومن شقوق الصخور". غير مسموح لهؤلاء القانصين أن يصطادوا إلا على "الجبال" وعلى "الآكام" وفي "شقوق الصخور". كيف أفسر "شقوق الصخور"؟ ارجع إلى سفر الخروج وابحث فيه عن تفسيرٍ لذلك؛ أجد أن موسى النبي حينما أراد أن يرى الله، قال له الرب هذه الكلمات ليجيب على طلبه: "هوذا عندي مكان، فتقف على الصخرة، ويكون متى اجتاز مجدي إني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز. ثم أرفع يدي فتنظر ورائي، وأما وجهي فلا يُرى" (خر 33: 21). إذا فهمت ما هي هذه الصخرة وما هي هذه الفتحة أو النقرة الموجودة فيها عالمًا كيف أن الذي يقف على الصخرة وينظر من خلال النقرة التي فيها يمكنه أن يرى الله لأمكنك أن تفهم ما هي الصخور العديدة وما هي شقوقها. ما هي إذن تلك الصخرة الفريدة من نوعها؟ "لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح (1 كو 10: 4)"، وأيضًا: "وأقام على صخرة رجلي" كما يقول المزمور (مز 40: 2). ما هي إذًا النقرة الموجودة في الصخرة والتي تمكنا من رؤية ما وراء الله (فتنظر ورائي)؟ الصخرة هي السيد المسيح، والنقرة الموجودة فيها هي التجسد الإلهي، لأنه بمجيء السيد المسيح في الجسد أمكننا أن ننظر ما وراء الرب، أي الابن الكلمة. إلى الآن لم نتكلم إلاّ على صخرة واحدة ونقرة واحدة فقط، لذا انتقل من نقرة الصخرة إلى شقوق الصخور. فإنه بالنظر إلى جماعة الأنبياء أو الرسل أو الملائكة القديسين، يمكنني أن أقول أن كل المتشبهين بالسيد المسيح، يصيرون صخورًا كما أنه هو أيضًا صخرة. وكما أن المخلص له نقرة يمكننا من خلالها أن نرى ما وراء الرب، كذلك أيضًا كل واحدٍ منهم، يصنع في نفسه نقرة أو شقًا يمكننا من رؤية الله، ذلك من خلال "كلماتهم" التي ترشدنا إلى الرب. فموسى قدم لنا الناموس، وإشعياء قدم لنا نبوته، وإرميا قدم لنا كلمات أخرى للرب. لكن إذا حدث وكان المتكلم هو ملاك كما تقول الآية: "الملاك الذي يتكلم في"، ففي هذه الحالة أيضًا يكون عندي "صخرة" و"نقرة"، وأرى الله من خلال كلمات (نقرة) الملاك (الصخرة). أحتاج إلى مثال لأوضح كيف يمكننا أن نرى الله عن طريق ملاك. مكتوب في سفر الخروج: "وظهر له ملاك الرب بلهيب نارٍ من وسط عُلِّيقة، فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق"، ثم بعد ذلك، لم تقل له الكلمة: "أنا ملاك من عند الرب"، وإنما: "أنا إله إبراهيم إله إسحق وإله يعقوب" (خر 3: 6). إذن في هذه الحالة يظهر الله في صورة ملاك، وبالتالي يمكن رؤيته عن طريق الصخرة التي هي الملاك، كذلك عن طريق النقرة التي هي كلمات الملاك له. إذ تجهل متى يرسل الله إليك القانصين، يجب عليك ألا تنزل أبدًا من على الجبال، ولا تترك الآكام، ولا تخرج من شقوق الصخور، لأنك إن وُجدت خارجًا، يُقال لك مثل أهل العالم الموجودين خارجًا باستمرار: "يا غبي، هذه الليلة تؤخذ نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟" يُقال لك نفس هذا الكلام إذا قلت في نفسك: "أهدم مخازني وابني أعظم منها، وأقول لنفسي: يا نفسي كلي وشربي لك خيرات كثيرة تكفيكِ لسنين كثيرة". أرأيت إذن كيف أن الإنسان الذي يعيش أسفل "الجبال" وأسفل "الآكام" وخارج "شقوق الأرض" يخطئ حتى في تقديره للخيرات، حاسبًا أن تلك الأشياء التي على الأرض خيرات. يظن أن القمح وكثرة الأشياء الأرضية تسمى خيرات، ولا يدرك أن الخيرات الحقيقية لا توجد في الأرض التي نزرعها وإنما في السماء، ولأنه حسب أن الخيرات موجودة في الأشياء الأرضية ظل يكنز كنوزًا على الأرض. لكن إذا اتبع أحد قول السيد المسيح وكنز كنزه في السماء، فلن يُقال له: "يا غبي، هذه الليلة تؤخذ نفسك منك"، بل يأخذه القانصون من على الجبال أو من على الآكام أو من بين الصخور ليقوده إلى حيث الراحة الأبدية في أحضان القديسين والأنبياء وكل المطوبين في المسيح يسوع. "لأن عيني على كل طرقهم"، أي طرق الأبرار الذين نتحدث عنهم.فإن عيني الرب مركزة على كل طرق الناس الذين يعيشون على الجبال وعلى الآكام وبين شقوق الصخور. "لم تستر عن وجهي" أو "لم يختبئوا من أمام وجهي"، أي أن الأبرار لا يختبئون من أمام وجه الرب، أما الأشرار فيختبئون. سمع آدم بعدما كسر الوصية صوت الرب يتمشى في الجنة فاختبأ، أما الأبرار فلا يختبئون، بل تعطيهم الحياة المقدسة في الرب ثقة يستطيعون من خلالها أن يقفوا أمامه، لأنه "إن لم تلمنا قلوبنا فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه" (1 يو 3: 21-22). بالرغم من أن آدم قد أخطأ إلا أن خطيته لم تكن خطية فظيعة، لهذا اختبأ من أمام وجه الرب، أما قايين فكانت خطيته أكبر بكثير، إذ قتل أخاه، فماذا فعل؟ "خرج قايين من لدن الرب" (تك 4: 16). بالنظر إلى الحالتين نجد أن الاختباء من وجه الرب" يكون من أجل شرٍ أقل. في الواقع "الاختباء" دليل على خزي الإنسان من خطيته. إذًا فإن الأبرار "لم يختبئوا من أمام وجهي". حدث بعد ذلك أن هؤلاء الأبرار سقطوا في بعض الخطايا، ثم قام الصيادون المُرسلون من قبل الله بانتشالهم خارج خطاياهم أي من البحر. حتى لا يظن هؤلاء الأبرار أن انتشالهم مرة أخرى من الخطية وصعودهم ثانية إلى "الجبال"، يرجع إلى برهم أو قداستهم أو استحقاقهم يذكرهم الكتاب ويذكرنا نحن أيضًا بخطايانا السابقة، فيضيف قائلًا: "ولم يختفِ إثمهم من أمام عيني" [17] ]. يقول القديس جيروم أن اليهود المعاصرين له يفسرون صيادي السمك أنهم الكلدانيون، وصيادي الوحوش هم الرومانيون. غير أنه يمكن القول عن صيادي السمك أنهم المصريون الذين ارتبطوا بالنيل، وأن صيادي الوحوش هو البابليون، فإن كانت مملكة يهوذا تارة تلجأ إلى فرعون ضد بابل أو العكس، فإنه لن ينقذها هذا أو ذاك بل الرجوع إلى الله. وكأن إرميا النبي يحذرهم من الاعتماد على ذراع بشر. "وأعاقب إثمهم وخطيتهم ضعفين، لأنهم دنسوا أرضي، وبجثث مكرهاتهم ورجاساتهم قد ملأوا ميراثي" [18]. يرى البعض أن الكلمة العبرية misnehالتي تترجم عادة ضعفين double يمكن أن تفهم بمعنى معادل equialent. هذا التعادل يحدث بأنهم دنسوا أرض الله بالآلهة التي بلا حياة، وكأنها جثث ميتة، لذا سقط عابدوها في الموت وأُلقيت جثثهم على الأرض لتدنس الأرض عينها التي دنسوها أثناء حياتهم بعبادتهم للأوثان (راجع إش 47: 6). يقول العلامة أوريجينوس: [إن كلمة "أولًا" موجودة هنا فعلًا في موضعها الصحيح، لأن جزاء الإثم يكون "أولًا" ثم يأتي من بعده جزاء الخير. فإن الله لا يوزع الجزاءات بالترتيب العكسي. لأنه لو كان قد أعطى جزاء الخير أولًا لكان يجب أن تتوقف أعمال الخير حتى يمكننا أن نعاقب على الإثم. لكنه يُجازي الآن عن الخطية، حتى إذا انتهت الخطايا، تنتهي أيضًا عقوباتها، وبعد ذلك يجازي الله عن أعمال الخير. كذلك تجد في الكتاب المقدس أن الله يتحدث "أولًا" عن الأشياء التي تبدو أكثر حزنًا ثم يذكر بعد ذلك الأشياء الأفضل منها: "أنا أميت وأحيي، سحقت وإني أشفي" (تث 32: 39). "لأنه هو يجرح ويعصب، يسحق ويداه تشفيان" (أي 5: 18). لذلك فالإنسان الذي يفهم هذه الكلمات ويدرك معنى "عقاب الخطية أولًا" يمكنه أن يقول مع المرتل: "يا رب من يسكن في مسكنك، من يحل في جبل قدسك؟ السالك بلا عيب، والفاعل البر، والتكلم بالحق في قلبه، الذي لا يغش بلسانه ولا يصنع بقريبه سوءًا، ولا يحمل تعيير على جيرانه. فاعل الشر مرذول أمامه. ويمجد الذين يتقون الرب" (مز 14)] . يقدم الله تعليلًا لتأديبهم، قائلًا: "لأنهم دنسوا أرضي" [18]. ينسب الله القدوس لنفسه هذه الأرض التي وهبها لشعبه، لذا لاق بهم أن يسلكوا فيها كما يليق بصاحبها القدوس، فتكون أرضًا مقدسة، وتصير لهم آمانًا، وتقدم لهم احتياجاتهم، حسب وعده الإلهي: "فتعلمون فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملونها لتسكنوا على الأرض آمنين، وتعطي الأرض ثمرها، فتأكلون للشبع وتسكنون عليها آمنين" (لا 25: 18-19). يليق بكل ما ينسب للقدوس أن يكون مقدسًا: ملائكته وكل الطغمات السمائية، المؤمنون به، هيكله، الأواني المستخدمة فيها، المذبح إلخ. حتى الأرض التي يقدمها لشعبه! ويحسب الله كل تدنيس أو إفساد لقدسية هذه الأمور إهانة موجهة إليه شخصيًا! بمعنى آخر كل استهتار في بيت الرب الذي دُشن باسمه القدوس؛ كل تهاون بالهيكل المقدس، كل تدنيس لجسدك الذي هو هبته لك كهيكل لروحه القدوس... إنما هي خطية موجهة ضد الله. كثيرًا ما يتساءل بعض الشباب: لماذا يحسب الله الفكر الشهواني خطية؟ أو لماذا يُعتبر الزنا خطية ما دامت برضى الطرفين وليس من يصيبه ضررًا في المجتمع؟ الإجابة أن فكرك كما جسدك وجسد الغير هو مركز ملكوت الله القدوس، حتى الفكر الخفي الشرير إن قبلته بتهاونٍ وتراخٍ فيه إساءة إلى مقدسات الله. عندما يمر بك فكر شرير قل لنفسك: "لا تدنس أرض الرب المقدسة!" ربما بقول الله عن شعبه: "لأنهم دنسوا أرضي" [18]، يمكننا أن نفهم لماذا طلب الله من إرميا التوقف عن مشاركة الشعب في كل شيء. الأرض التي تدنست لا تستحق أن يقيم فيها رجل الله عائلة تستقى فيها، ولا أن يشارك الشعب في ولائمهم سواء في الأحزان أو الأفراح، بل يعتزل كل شيء! هكذا إذ ندنس أرض قلوبنا نُحرم من الحضرة الإلهية ومن شركة القديسين والسمائيين حتى نعود بالتوبة فنتقدس بعمل روح الله القدوس، نتحد مع الآب في ابنه، وتكون لنا شركة مع القديسين وننعم حتى بالعبادة مع السمائيين. "يا رب عزِّي وحصني وملجأي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون: إنما ورث آباؤنا كذبًا وأباطيل وما لا منفعة فيه. هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟! لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة، أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه" [19-21]. يختتم هذا الأصحاح بقطعة شعرية رائعة تتحدث عن خلاص الشعب من السبي، وفي نفس الوقت عن خلاص الأمم وقبولهم الإيمان فتكون لهم معرفة حيَّة بالله مخلصهم. يكشف إرميا النبي عن عظمة خلاص الله، الأمر الذي يشد انتباه كل الأمم فيدركوا أن ما حدث لم يكن عن قوة بابل عندما سبت يهوذا ولا عن ضعفها عندما تحرر الشعب كله (إسرائيل ويهوذا)، وإنما هي خطة الله ضابط التاريخ، في يده كل أمور البشرية. يقوم الله بدور المدرس ليعلم الأمم بطلان العبادة الوثنية ويكشف لهم عن نفسه وعن قدرته واسمه لكي يختبروا الحياة معه. ُيلقب الله: "عزَّي (قوتي)، "حصني"، "ملجأي"، وهي عبارات وردت في المزامير (مز 18: 3-4؛ 28: 1-7؛ 59: 11، 18-19) وفي مواضع أخرى تعبر عن الثقة في الله العامل في حياة أولاده. لم يكن حلمًا لدى إرميا النبي أن تأتي الأمم من كل أطراف الأرض لتعترف ببطلان آلهتهم الوثنية، وتتعرف على الرب وعلى يده القوية وعلى اسمه، إنما كان ذلك نبوة عن الخلاص التي تتحقق بمجيء المسيا مخلص العالم كله. هنا نلاحظ تكرار كلمة "أعرف" ثلاث مرات، ربما إشارة إلى التمتع بالإيمان الثالوثي. أعلن إشعياء النبي عن هذا الحدث العجيب قائلًا: "عزوا عزوا شعبي... صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب. قوموا في القفر سبيلًا لإلهنا. كل وطاءٍ يرتفع وكل جبلٍ وأكمةٍ ينخفض ويصير المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلًا، فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر جميعًا، لأن فم الرب تكلم" (إش 40: 1-5). وقد اقتبس القديس مارمرقس هذا القول النبوي في بدء إنجيله (مر 1: 15). ويعلق القديس أغسطينوسعلى كلمات إرميا النبي: [هوذا الآن يحدث هذا؛ هوذا الأمم تأتي من أقاصي الأرض إلى المسيح تنطق بأمور كهذه نازعة عنها عبادة الأوثان! ]. يقول العلامة أوريجينوس: [هلموا لنرى ماذا تقول النبوة عنا: "يا رب عزي وحصني وملجأي في يوم الضيق، إليك تأتي الأمم من أطراف الأرض ويقولون: كاذبة هي الأصنام التي عبدها آباؤنا ولا يوجد فيها منفعة" [19]. جاءت الأمم من أطراف الأرض. كيف "من أطراف الأرض"؟ يوجد على الأرض أناس أولون ويوجد أيضًا أناس آخرون. فمن هم هؤلاء الأولون؟ أولون على الأرض وليسوا أولين على كل شيء؟ هم حكماء هذا العالم وأغنياؤه. ومن هم الآخرون؟ "واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود" (1 كو 1: 28). إذًا "تأتي الأمم من أطراف الأرض". كأنه يقول: إن تلك الأمم مكونة من الأدنياء والمزدرى بهم والجهال والناس الآخرين على الأرض. "ويقولون: إنما كاذبة هي الأصنام التي عبدها آباؤنا ولا يوجد فيها منفعة": ليس أن يوجد أصنام صادقة عكس الأصنام الكاذبة المذكورة في الآية، إنما يقصد بها الأصنام عمومًا، التي بطبيعتها كاذبة ولا يوجد فيها منفعة]. "هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة وهي ليست آلهة؟! لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة، أعرفهم يدي وجبروتي، فيعرفون أن اسمي يهوه" [20-21]. يقول العلامة أوريجينوس: ["هل يصنع الإنسان لنفسه آلهة؟!" [20]. لا يصنع الناس لأنفسهم آلهة من خلال التماثيل والأصنام فقط، لكنك تجد أيضًا أناسًا يصنعون لأنفسهم آلهة من خلال أوهامهم وتصوراتهم (الفلاسفة والهراطقة). عمومًا جميع الذين يصنعون لأنفسهم آلهة أخرى غير الرب، وخليقة أخرى مخالفة لترتيب العالم الذي أخبرنا به الروح (روح الله) ومخالفة للعالم الحقيقي، كل هؤلاء يصنعون لأنفسهم آلهة، ويعبدون عمل أيديهم. إذن كل الذين يصنعون لأنفسهم آلهة من الأصنام والذين يصنعونها من تصوراتهم الشخصية، يرفضهم الرب إذ قيل: "إذا صنع الإنسان لنفسه آلهة إذًا فهي ليست آلهة. لذلك هأنذا أعرفهم هذه المرة أعرفهم يدي وجبروتي". "هذه المرة"، ماذا يقصد ب "هذه المرة"؟ يقصد بها المجيء التالي للرب، خاصة لأنه يضيف بعد ذلك: "فيعرفون أن اسمي يهوه" ]. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
آرميا النبي | القحط والتطلع إلى العصر المسياني |
حزقيال النبي | التدبير الديني للعصر المسياني |
الفرح بالخلاص |
الفرح بالخلاص الإلهي |
الفرح المسيحي بالخلاص الإلهي |