رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
العناية الإلهية في القسم السابق [1-9] تغنى المرتل بالخلقة التي تشهد لمجد الله وعظمته حيث نرى خلالها الله اللابس النور، والمقيم السماوات كخيمة، والسحاب كسقفٍ من الماء في العلية، يمتطي السحاب كمركبة إلهية، صوته يرهب المياه، فتلتزم الحدود التي وضعها الله لها. أما في هذا القسم، فيكشف عن عناية الخالق الفائقة. فالخليقة مدينة له، ليس فقط بوجودها ذاته، وإنما باستمرار وجودها الدائم. يُفَجِّر عيون مياه في وفرة، مُقَدِّمًا إياها مجانًا لحيوانات البرية. يُلَبِّي احتياجات خليقته مجانًا في مُنْتهَى العطف! فالطيور بما وُهِبَتْ من حدْسٍ فطري تبني أعشاشها في آماكن آمنة، وحيوانات البرية تجد أوجرة تعيش فيها. "للثعالب أوجرة، ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه". يا للعجب، يطلب راحة الحيوانات والإنسان وإشباع احتياجاتهم بينما يختار لنفسه الفقر والعوز من أجل حبه لخليقته! يُحَدِّثنا المرتل عن الماء المجاني والخبز والخمر الذي يُفَرِّح قلب الإنسان والزيت، والسكن المجاني حتى للعصافير والوعول الخ. هذه جميعها تحمل رمزًا لعطايا الله الفائقة للإنسان. يُقَدِّم روحه القدوس ماءً مجانيًا، وجسده المبذول ودمه المسفوك خبزًا، وخمرًا ليُشبع ويُروي ويُفَرِّح قلب الإنسان. يهب زيت نعمته، ويُقَدِّم الأحضان الإلهية مسكنًا لمؤمنيه! اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ. بَيْنَ الْجِبَالِ تَجْرِي [10]. يهتم الله حتى بحيوانات البرية، فيُفَجِّر عيونًا في الأودية كما في الجبال. في مناطق كثيرة في العالم ينعم الإنسان برؤية حركة المياه وسط الجبال، حتى يدعوها البعض بالمياه المتهللة أو الضاحكة أو الراقصة، وكأنها تجرى وسط الجبال تُسَبِّح الله وتُرَنِّم له بأصواتها العذبة غير المُتوقِفة ليلًا ونهارًا. * ربما يقول أحد: إن كان كل شيء صُنِعَ لخدمة البشرية، فما المنفعة من وجود ماء يفيض في البرية؟ هذا أيضًا قد وُضِعَ بتدبير لأجل نفعنا ولكي يمد الحيوانات بما ينعشهم، وذلك لخدمتنا أو يمكننا القول: الله الذي خلق كل شيء بعنايته، فكل الخليقة هي خليقته، يهتم بأن يمد الحيوانات غير العاقلة باحتياجاتها. القديس جيروم تَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ الْبَرِّ. تَكْسِرُ الْفِرَاءُ ظَمَأَهَا [11]. في وسط المناطق القفر نجد ينابيع تفيض ماءً عذبًا كما في دير القديس أنبا انطونيوس وأيضًا دير أنبا صموئيل المعترف، وفي مناطق لا يقطنها إنسانٍ، كأن الله يُعْلِن لنا أنه يهتم حتى بحيوانات البرية حتى تجد ماءً لتشرب في وسط الصحراء. كثيرٌ من هذه الينابيع لم يكتشفها الإنسان على زمن طويل، بينما اكتشفتها الحيوانات غير العاقلة، وعرفتْ الطريق إليها. إن كان الله يهتم أن يُقَدِّم ماءً لحيوانات البرية، فكم بالأكثر يهتم بتقديم مياه الروح للبشرية. يرى القديس أغسطينوس في حيوانات البرية رمزًا للأمم الذين لم يتركهم بل قدَّم لهم كلمة الخلاص ليتمتعوا بالإيمان. فَوْقَهَا طُيُورُ السَّمَاءِ تَسْكُنُ. مِنْ بَيْنِ الأَغْصَانِ تُسَمِّعُ صَوْتًا [12]. إذ تسكن الطيور بين أغصان الأشجار تشعر كما تحت حماية خالقها، فتُقَدِّم له صوت التسبيح. وكأن الخليقة غير العاقلة، حتى الطيور التي ليس لها بيوت ولا كهوف صلدة تشكر وتُسَبِّح، كم بالأكثر يليق بنا نحن البشر أن نسبحه ونمجده. يرى القديس أغسطينوس في طيور السماء النفوس الروحية التي تجد مسكنها وراحتها فوق الجبال، أي خلال الأنبياء والرسل والكارزين بكلمة الحق. * كل منها يُسَبِّح الله بأغنيتها التي لها. القديس جيروم يُبْدِع المرتل في تصوُّره للخليقة غير العاقلة وهي تُسَبِّح الله، كل حسب لغته وأسلوبه. فإن كان الله قد خلق للإنسان فمًا ليسبحه ويعَّبر به عن بهجة قلبه بالخالق المُعْتَنِي به، كثيرًا ما يقف ليمارس دور الجاحد المتذمر على خالقه، غير أن الأرض الجامدة ترتدي المحيطات كثوب يكسوها بالجمال فتُمَجِّد خالقها. وتحرُّكات المياه على الجبال وبين الجبال وفي الأودية تشبه رقصات متهللة وتسابيح للخالق. وحيوانات البرية تتعرف على ينابيع المياه الخفية وسط الصحراء، والطيور التي ليس لها مخازن تُغَنِّي على أغصان الأشجار. توجد طيور يحلو لها أن تُغَنِّي بصوتٍ عذب في منتصف الليل، وسط الظلمة. السَّاقِي الْجِبَالَ مِنْ عَلاَلِيهِ. مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ الأَرْضُ [13]. يستخدم كل وسيلة ليروي ظمأ حتى حيوانات البرية، تارة خلال العيون التي يُفَجِّرها وسط البرية، أو الأمطار التي تسقط على الجبال، فتصير مجاري مياه تشرب منها الحيوانات. يهتم الله بالجبال فيكسوها بالجمال، تارة بالثلوج التي تغطيها قممها، وأخرى بالغابات أو العشب، وحتى وهي قاحلة. كما يهتم بالأرض لخدمة الإنسان والحيوانات والطيور. إن كانت الجبال كما رأينا ترمز للأنبياء والرسل والكارزين، وأن الله من الأعالي يُقَدِّم لهم مياه الكلمة لكي يرويهم، وهم بدورهم يقدمونها للأرض، أي للبشرية، فإن الثمر لا من عمل الكارزين أنفسهم، بل هو من عمل الله نفسه. "من ثمر أعمالك تشبع الأرض". يرى القديس جيروم أن أعمال الله هنا التي تُشْبِع الأرض هي الرسل الذين يُشبعون البشر بكلمة الكرازة. الْمُنْبِتُ عُشْبًا لِلْبَهَائِمِ، وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ، لإِخْرَاجِ خُبْزٍ مِنَ الأَرْض [14]. حيث لا يُوجَد بشر يقومون بالزراعة يسمح الله بظهور العشب ليعول الحيوانات، وإن وُجِد البشر، فإنهم يقومون بالزراعة "الخضرة"، لكن حتى هذه المزروعات تتدخل فيها عناية الله ورعايته. ولعله يقصد أن الله يسمح بالعشب ليعول الحيوانات، ويُعطي الإمكانية للبشر للزراعة لكي يجد الإنسان قوته من حنطة وخضروات وفواكه الخ. حمل الرسل وهم بعد في الجسد السيد المسيح، الخبز النازل من السماء، كقول الرسول بولس: "لنا كنز في أوانٍ خزفية". عملهم أن يُقَدِّموا هذا الخبز لمن يكرزون لهم، لكي يتمتعوا به. * "لإخراج خبز من الأرض". يشير هذا إلى الرب الذي دبَّر أن يصير إنسانًا، كما هو مكتوب: أنا هو الخبز النازل من السماء" (يو 6: 41). القديس جيروم * لم يعطهم الخبز المادي الأرضي، بل الخبز الذي من فوق من السماء . * تقتات النفس العاقلة على الطعام الروحي بكلمة الله (اللوغوس)، لأن الطعام الذي تعطيه الأرض لا يُغَذِّي الروح . القديس كيرلس الكبير * قَوِّ قلبك، اشتركْ في ذلك الخبز كشيءٍ روحيٍ، وليكن لنفسك وجه مبتهج . القديس كيرلس الأورشليمي وَخَمْرٍ تُفَرِّحُ قَلْبَ الإِنْسَانِ، لإِلْمَاعِ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنَ الزَّيْتِ، وَخُبْزٍ يُسْنِدُ قَلْبَ الإِنْسَان [15]. العنب من الثمار التي وردت كثيرًا في الكتاب المقدس. عندما أراد يشوع بن نون وكالب أن يُبْرِزا للشعب خصوبة أحضرا لهم زرجونة بعنقود واحد من العنب (عد 13: 23). كان استخدام الزيت أساسًا في المسحة للتكريس والفرح بالله (خر 30: 22-25). وكان عادةً يُدهَن الضيوف القادمون لمناسبة اجتماعية على جباههم بالزيت علامة البهجة. والمزمور كله أحد التسابيح المُفْرِحة لصلاح الله وحنانه وسخائه العجيب على خليقته. كلما تطلع المؤمن إلى الله واهب النور ومُعطي الخيرات والمُشرِق بمجده على خليقته يصير هذا زيتًا ومسحة، تهب وجهه لمعانًا، ويشع فرح خلاص الله على أعماقه. يرى العلامة أوريجينوس أن الخمر هنا تشير إلى نعمة التعليم التي تُفَرِّح قلب الإنسان، بينما تشير كروم الأمم وخمرهم (مز 105: 33) إلى التعاليم السامة الغريبة عن الإيمان بالله. ما هو هذا الخبز الذي يسند قلب الإنسان، والخمر الذي يفَّرح قلبه لإلماع وجهه، إلا السيد المسيح القائل "أنا هو الخبز النازل من السماء"، وأيضًا: "أنا هو الكرمة الحقيقية" (يو 15: 1). إنه المأكل الحق والمشرب الحق؛ من يتمتع بجسده ودمه، يمتلئ بالقوة الإلهية، وتفرح أعماقه، ويشرق نور شمس البرّ عليه. يرى القديس مار أفرام السرياني الخبز الذي يسند قلب الإنسان هو حفظ الوصايا. والخمر الذي يُفرح قلبه هو من يلتمس الغفران، والزيت هو التوبة التي تنقي النفس، وتسكب عليها جمالًا وتؤهلها للتناول من جسد الرب ودمه . يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن الخمر الذي يفرح قلب الإنسان هو التعليم الصحيح، الذي يَلزم ألا يكون مغشوشًا بخلطه بالماء (إش 1: 22)، أي التعاليم الخاطئة. * "وخمر تفرح قلب الإنسان". هذا هو الخمر الذي وعد به الرب أنه لا يشرب منه إلا بعد القيامة (مت 25: 29؛ مر 14: 22-25؛ لو 22: 18-20). "لإلماع وجهه أكثر من الزيت". وجه الله يجعل الأبرار يشعون فرحًا. لكنه ليس دهنًا لرأس الخطاة (مز 140: 5). "وخبز يسند قلب الإنسان"، الخبز الذي نزل من السماء. القديس جيروم * دعا (ربنا) ذاته حبة حنطة، فإذًا تعليمه يُشَدِّد قلوبنا ويفرحها مثل الخبز والخمر، ويُبهج وجوه نفوسنا مثل الزيت. وأيضًا نفهم أن جسده القدوس هو خبز وخمر، الذي خرج من الأرض الطاهرة البتول، ودمه الكريم. فهما يشددان القلب ويفرحانه. وأما الزيت فهو مواهب الروح القدس. الأب أنسيمُس الأورشليمي * لا يمكن للأنفس أن تحيا إلاَّ إذا كانت تولد ثانية في أرض الأحياء (بالمعموديَّة)، وتتربِّى فيها بالروح، وتنمو قدَّام الرب نموًا روحيًا (بالتوبة والاعتراف)، وتكتسي من اللاهوت بحلل الجمال السماوي التي تفوق الوصف كلُّه، وبدون تلك القوَّة لا تستطيع أن تعيش متعزِّية مكتفية. لأن الطبيعة الإلهيَّة فيها خبز الحياة حقًا، هذا الذي قال: "أنا خبز الحياة" (يو ٦: ٣٥) وماء الحياة (يو ٤: ١٠)، والخمر الذي يفرح قلب الإنسان (مز ١٠4: 1٥)، ودهن البهجة (مز ٤٥: ٤). وجميع أصناف طعام الروح السماوي، وحلل النور السمائيَّة التي من الله. بهذه تعيش النفس... وويل للجسد الذي يقف عند قاع طبيعته، فإنَّه يفسد ويموت. وويل للنفس التي اِستندت على قوَّة طبيعتها، ولم تتَّكل إلاَّ على أعمالها، بحيث لا تكون لها شركة الروح الإلهي (١ يو ١: ٢)، فإنَّها تفسد وتموت حقًا بعدم تأهُّلها لحياة اللاهوت الأبديَّة (يو ١٧: ٣). القديس مقاريوس الكبير * البيت الذي تسكن فيه الكنيسة هو كتابات الآباء والناموس والأنبياء. لأن هناك توجد غرفة الملك المملوءة بكل غِنَى الحكمة والمعرفة. هناك أيضًا بيت الخمر، التعليم، سواء السري أو الأخلاقي، هذا الذي يفرح قلب الإنسان . العلامة أوريجينوس * الكنيسة وهي حاملة نعمة عظيمة بهذا المقدار تخص أولادها وأصدقاءها أن يقبلوا إلى الأسرار قائلة: "كلوا يا أصحابي واشربوا واسكروا يا إخوتي" (1 بط 1: 2). إن ما نأكله وما نشربه قد أوضحه الروح القدس في موضوع آخر بواسطة النبي القائل: "ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب، طوبى للرجل الذي يضع رجاءه فيه" (مز 34: 9). وفي هذا السرّ يوجد المسيح، لأنه جسد المسيح، لذلك فهو ليس طعامًا جسديًا بل روحيًا. لذلك يقول الرسول عن مثال هذا الطعام: "آباؤنا أكلوا طعامًا روحيًا وشربوا شرابًا روحيًا" (1 كو 10: 3)، لأن جسد الله جسد روحي، جسد المسيح هو جسد الروح الإلهي، لأن الروح هو المسيح كما نقرأ: "الروح الذي أمامنا هو مسيح الرب" (مرا 4: 20). وفي رسالة بطرس نقرأ: "المسيح مات عنَّا"، وأخيرًا فهذا الطعام يشدد قلوبنا، وهذا الشراب "يفرح قلب الإنسان" (مز 104: 15)، كما يسجل النبي. القديس أمبروسيوس * وهذا أيضًا هو المعنى المقصود من الكرمة المُزدَهِرة، التي يُفرِح خمرها القلب (مز 104: 15)، وفي يوم من الأيام يملأ كوب الحكمة. وسوف يُقَدَّم مجانًا لهؤلاء الذين يشربون من المواعظ العالية، ويستمتعون بها، وكأنهم سكارى منتشين بوعيّ جميل. وأعني به الغيبة التي يمر بها الشخص بثباتٍ من دائرة الماديات إلى الروحانية المقدسة. والآن تزهر الكرمة بواسطة براعمها، ويخرج منها عبير عطر حلو ناعم يملأ الجو ويحيط بنا. وأنت تعرف هذه الرائحة الزكية من القديس بولس (2 كو 2: 16)، وتعرف كيف تنطبق على كل الذين يُخَلَّصون. يوضح كلمة الله هذه الأشياء للعروس كتذكار لأيام الربيع الجميلة للنفس. ثم يحثها على التمتع بما يوجد أمامها، ويشجعها قائلًا: "التينة أخرجت فجَّها، وقُعال الكروم تُفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي" . * عندما وصفت ارتقاء العروس في العظات السابقة، ذكرت أنها نالت النعمة. لقد تعرفت على التفاحة ذات المذاق الحلو، وفرَّقت بينها وبين الوعل غير المثمرة. لقد اشتاقت إلى ظل عريسها، واستمتعت بمذاق فاكهته الحلوة، ودخلت إلى الحجرات الداخلية للفرح. ولقَّبت هذا الفرح "بالخمر" الذي يُفرِّح قلوب من يشربونه (مز 104: 15). وبعد ما ثبتت العروس في الحب زادت قوته بدعم الروائح الزكية من التفاح الذي كان يظللها، ثم استقبلت سهم الحب في قلبها وتلا ذلك أيادي مُصَوِّب السهم، وأباحت هي نفسها سهما مُصَوَّبًا إلى معرفة الحق بواسطة الأيادي القوية لمُصَوِّب السهم (مز 127: 4)... لا تربكوا أنفسكم هكذا كثيرًا بالخبز. لكن قولوا لذاك الذي يُخرج الخبز من الأرض، والذي يطعم الغربان (مز 147: 9)، ويُعطي طعامًا لكل ذي جسدٍ (مز 136: 25)، ويفتح يده فُيشبع كل حي بكل بركة (مز 145: 16): حياتي هي منك، ومنك أيضًا أنال كل احتياجات الحياة . القديس غريغوريوس النيسي * يكفى الحب ليقتات به الإنسان عوض الطعام والشراب. هذا هو الخمر الذي يبهج قلب الإنسان . القديس مار اسحق السرياني * إن لم تولد النفس الآن في "أرض الأحياء" (مز 13:27)، وتستمد غذاءً روحيًا منها، وتنمو أمام الرب، وتكتسي من اللاهوت بحلل الجمال السماوي التي تفوق الوصف، فإنها بدون هذا القوت لن تقدر أن تحيا بذاتها في فرحٍ وراحةٍ. تحوي الطبيعة الإلهية خبز الحياة الذي قال: "أنا هو خبز الحياة" (يو 35:6)، و"الماء الحيّ" (يو 10:4)، و"الخمر الذي يفرح قلب الإنسان" (مز 15:104)، و"زيت الابتهاج" (مز 7:45)، وجميع أصناف طعام الروح السماوي المختلفة، ولباس النور السماوي الذي من عند الله . القديس مقاريوس الكبير * "صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا، إذ قيل لي كلَ يوم: أين إلهك؟" (مز 42 :3)، وبحق دُعيتْ الدموعُ هنا خبزًا، حيثُ الجوع إلى البرّ. "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يُشبعون" (مت 5 :6)، لهذا توجد دموع بمثابة خبزٍ، تقَّوي وتسند قلبَ الإنسان (قابل مز 104 :15)، ومقولة الجامعة المأثورة تناسب المقامَ هنا أيضًا "الِق خبزك على وجه المياه" (جا 11 :1 LXX)، لأن خبزَ السماء هناك، حيث مياه النعمة. حقا إن أولئك الذين تتدفق من بطونهم أنهار ماء حَّية (قابل يو 7: 38؛ 4 :10)، سوف ينالون عون الكلمة (الإلهي) وتعضيده، وقوتًا من نوعٍ سري (باطني). أيضًا هناك هذا الخبز الحي، (قابل يو 6 :51)، حيث هنا مياه الدموع والبكاء، بكاء التوبة. لأنه لهذا كُتب: "بالبكاء يأتون، وبالعزاء أعيدهم" (إر 31 : 9LXX ). لهذا طوباهم الذين خبزهم الدموع؛ لأنهم يستحقون أن يضحكوا؛ لأنه "طوبى للباكين" (لو 6 :21) . * لنتعلم أي طعام وإنتاج يُقَدِّمه الله وليمة لمن يجد فيهم مسرته. إنه يجد مسرته في هذا: إن كان أحد يموت عن خطيته، ويمحو معصيته، ويُحَطِّم آثامه ويدفنها. فالمُرّ يمثل دفن الموتى (نش 5: 5)، لكن الخطايا هي موتى، إذ لا تقدر أن تحوي عذوبة الحياة. علاوة على هذا، فإن جراحات الخطاة تُرَطَّب بدهن الكتاب المقدس، والطعام الأقوى الذي للكلمة هو الخبز (مز 104: 15)، وهو يُغمَس بكلمة الله العذبة مثل العسل. القديس أمبروسيوس * يخبرك أحكم رجل، أي سليمان، قائلًا: "أعطوا مسكرًا لهالكٍ وخمرًا لمرّي النفس، يشرب وينسى فقرهُ ولا يذكر تعبهُ بعدُ" (أم 6:31-7). بمعنى أن أولئك الذين قد صاروا في ضيق الحزن والأسى بسبب أعمالهم الماضية، أسندهم بأفراح المعرفة الروحية بوفرة وذلك مثل "خمرٍ تفرّح قلب الإنسان لإلماع وجههِ أكثر من الزيت، وخبز يسند قلب الإنسان" (مز 15:104). هؤلاء أصلحهم بالشرب القوي لكلمة الخلاص، لئلا يغرقوا في الحزن المستمر، ويسقطوا في اليأس الذي للموت، لئلا يبتلعوا من الحزن المفرط (2 كو 7:2). أما الذين لا يزالون في برود واستهتار، غير مضروبين بالحزن القلبي، هؤلاء نقرأ عنهم "كلام الشفتين إنما هو إلى الفقر" (أم 23:14) . الأب نسطور * إنني أقول أن هذا هو الناموس المنغرس في أعضاء البشر جميعًا الذي يحارب ناموس أذهاننا ويعوقها عن رؤية الله. إذ بعدما لُعِنَتْ الأرض بأعمالنا بعد معرفتنا للخير والشر، صارت تنبت حسك الأفكار وأشواكها التي تخنق بذور الفضائل الطبيعية، حتى أنه بغير عرق جبيننا لا نستطيع أن نأكل خبزنا "النازل من السماء" (يو 33:6)، والذي "يسند قلب الإنسان" (مز 15:104). لذلك فإن البشر عامة، بغير استثناء، خاضعون لهذا الناموس . الأب ثيوناس * إذ قد تعلَّمنا هذه الأشياء، وتأكدنا تمامًا أن ما يبدو خبزًا ليس خبزًا، ولو أنه مُساغ في الطعام لكنه جسد المسيح. وأن ما يبدو خمرًا ليس خمرًا ولو أن مذاقه كذلك لكنه دم المسيح. وعن هذا ترنم داود البار قديمًا "لإخراج خبز تفرح قلب الإنسان لإلماع وجه أكثر من الزيت" (مز 104: 15). "قوِّ قلبك باشتراكك روحيًا، واجعل وجه نفسك يلمع"، ومع جعل وجهك مكشوفًا بضميرٍ طاهرٍ تعكس كمرآة مجد الرب، وتنتقل من مجدٍ إلى مجدٍ في المسيح يسوع ربنا، الذي له المجد والكرامة والقوة من الآن وإلى دهر الدهور. آمين . القديس كيرلس الأورشليمي * لم يخلق الله الخمر إلا ليفرح قلب الإنسان كما قال النبي، أما السكيرون فيضيعون بهجته. * يحدث السُكر بالتأكيد ليس من الخمر بل من الإفراط فيه. لقد وُهب الخمر لنا لا يغرض سواء الصحة الجسدية، لكن هذا الهدف أيضًا يُعاق بالاستخدام المفرط. القديس يوحنا الذهبي الفم * بعد أن انتهت وجبة الفصح الرمزي، وأَكَلَ لحم الفصح مع تلاميذه، أخذ الخبز الذي يقوي القلوب البشرية (مز 104: 15)، وانتقل إلى السرّ الحقيقي للفصح. بكونه مثل ملكي صادق، كاهن الله العلي الذي كان رمزًا للمسيح بتقديم الخبز والخمر (تك 14: 18)، هكذا صبغ هذا بجسده الحقيقي ودمه. * خمر الجسد لا يُبهج قلب الإنسان بل يستبد به ويجلب جنونًا. مكتوب أنه ليس للملوك أن يشربوا خمرًا (أم 31: 4). يكتب أيضًا يأكل لحمًا ولا يشرب خمرًا (رو 14: 21)، ومع هذا قيل لنا إن ذاك الخمر يُفَّرح قلب الإنسان (مز 104: 15). هذا يعني الخمر الروحي، الذي إن شربه أحد يصير للحال ثملًا. القديس جيروم * من يقتات بكلمة المسيح لا يحتاج إلى طعام أرضي، ولا من يقدر أن يقتات بخبز المخلص يشتهي طعام العالم. الرب له خبزه، بالحقيقة الخبز هو المخلص نفسه، كما علَّمنا قائلًا: "أنا هو الخبز النازل من السماء" (يو 6: 41). عن هذا الخبز يقول النبي: "وخبز يسند قلب الإنسان" (مز 104: 15) . الأب مكسيموس أسقف تورين * بلياقة تُدعَى الدموع خبزًا هناك حيث توجد مجاعة للبرّ. "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يُشبعون" (مت 5: 6). هكذا هناك توجد الدموع التي هي الخبز الذي يقوِّي قلب الإنسان (مز 104: 15). حكمة الجامعة أيضًا تتناسب مع هذا النقاش، "أرم خبزك على وجه المياه" (جا 11: 1). لأن خبز السماء يوجد هناك، حيث توجد مياه النعمة. إنه بحق هؤلاء الذين تفيض من بطونهم مياه حيَّة (يو 7: 38) يتقبلون عون الكلمة ويقتاتون على طعامٍ سري. القديس أمبروسيوس في مباركة إسحق لابنه يعقوب قال له: "فليُعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر" (تك 27: 28). وجاء تعليق القديس كيرلس الكبير على هذه البركة موضحًا ما تشير إليه الحنطة والخمر. * هذه الأمور تليق بالمسيح، وأيضًا تليق بالشعب الجديد. "فليُعطك الله من ندى السماء، ومن دسم الأرض، وكثرة حنطة وخمر" (تك 27: 28). ندى السماء ودسم الأرض، أي الكلمة قد أُعطي لنا بواسطة الآب، مع شركة الروح. لهذا صرنا شركاء الطبيعة الإلهية خلاله (2 بط 1: 4). وقد تسلمنا كثرة من الحنطة والخمر، أي من القوة والسعادة. بالحقيقة يقال إن الخبز يقوي قلب الإنسان، والخمر يفَّرح قلبه (مز 104: 15). الخبز هو رمز للقوة الروحية، والخمر للقوة الجسمانية. وهما يُعطيان للذين هم في المسيح. بأية طريقة أخرى نصير راسخين وثابتين في التقوى، لا نتزعزع، مدركين التفكير في الأمور الصالحة؟ بالحقيقة وهب لنا السلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19). هذا كما اعتقد معنى الكثير من الحنطة. لكننا تسلمنا أيضًا خمرًا، إذ نفرح في الرجاء (رو 12: 12)، ونصير مبتهجين (مز 126: 3)، حسب الكتاب المقدس. نحن نتوقع المساكن السماوية، الحياة الأبدية في عدم فساد، وأن نملك مع المسيح. بهذا فإن هذه الأمور قيلت لأجلنا. القديس كيرلس الكبير تَشْبَعُ أَشْجَارُ الرَّبِّ أَرْزُ لُبْنَانَ الَّذِي نَصَبَهُ [16]. يرى القديس أغسطينوس أن خمر السيد المسيح وزيته وخبزه يبلغ إلى رجال الدولة والنبلاء والملوك بكونهم أشجار السهول فيشبعوا. أولًا يشبع المتواضعون وبعد ذلك أشجار أرز لبنان، التي يغرسها (الرب)، الأرز التقي، أي المؤمنين الورعين، لأنه هو الذي يغرسهم، لذلك يقول "الذي نصبه".لأن الأشرار أيضًا يدعون أرز لبنان حيث قيل: "يكسر الرب أرز لبنان" (مز 29: 5). فمن جهة لبنان هي جبل يوجد عليه أشجار الأرز التي تعيش طويلًا، وهي أشجار رائعة. ومن جهة أخرى فإن "لبنان" تفسيرها "لمعان"، هذا اللمعان يبدو على العالم الحاضر الذي يضيء متألقًا بمعرياته. هذه هي أشجار أرز لبنان. يدعو المرتل أرز لبنان "أشجار الرب"، تُعتَبر "مجد لبنان" (إش 35: 2؛ 60: 13)، تتسم بالقوة (مز 29: 4-5)، والعلو الشامخ (عا 2: 9)، مع روعة الجمال (نش 5: 15). قيل إن الصديق ينمو "كأرز في لبنان" (مز 92: 12). مازال السوريون يدعونه إلى اليوم "أرز الرب". حَيْثُ تُعَشِّشُ هُنَاكَ الْعَصَافِيرُ. أَمَّا اللَّقْلَقُ فَالسَّرْوُ بَيْتُهُ [17]. جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية "البلشوم" عوض اللقلق، وجاء في جيروم "مالك الحزين Heron". ويرى القديس جيروم أنه طائر ليس له استقرار في عشٍ معين، وإنما أينما حل الليل ينام في أي موضع. وأنه يدخل عادة في معركة مع النسر، ملك الطيور، ويغلبه. إنه يمثل الراهب الذي ليس له قلاية خاصة به، يحارب الشيطان وينتصر عليه. إن كان شجر الأرز يشير إلى الصديقين، فإنهم يحتضنون صغار النفوس والضعفاء "العصافير". كما يحتضنا الله ويترفق بضعفنا، هكذا يليق بنا أن نحتضن إخوتنا. أما السرو في فلسطين، فهو عالٍ ينافس الأرز، وهو دائم الأخضرار. * بهذا القول يخبر النبي بأن الطيور كما تختلف في مأكولاتها كذلك تختلف في أعشاشها. أيضًا يقول "عصافير" عن النفوس التي حاول الشيطان أن يصطادها، وكسر الرب فخاخه ونجَّاها من الهلاك. هذه العصافير المعنوية تُعَشِّش على الأشجار العالية التي هي التعاليم الرفيعة، وتقوت فراخها بتناولها ما استفادته لأتباعها. أما اللقلق (الهيرودي) وهو طير يعشش في أعلى الأشجار، وإذا وقع في شباك الصياد يُمَزِّقها ويهرب، وإذا صار مألوفًا لأحد الناس يتبعه ولا يفارقه. هكذا كان رسما لبطرس الرسول الذي سقط في شرك الأفكار، لكنها مزقها وهرب، فصار رسولًا ملازمًا اتباع المسيح. الأب أنسيمُس الأورشليمي الْجِبَالُ الْعَالِيَةُ لِلْوُعُولِ. الصُّخُورُ مَلْجَأٌ لِلْوِبَارِ [18]. الوعول هي ذكور الأيائل. غالبًا ما يُقَدِّم الله لكل نوع من المخلوقات ما يناسبه فالعصفور الذي يتسم بالضعف وعدم قدرته على الدفاع عن نفسه يُسكنه في وسط فروع الأشجار، خاصة الأرز بكونه أشجار الرب. وكأن الله خلق الأرز بجماله وإمكانياته الكثير من أجل العصفور الذي ليس له من يدافع عنه. واللقلق يجد بيته غالبًا في شجر السرو. أما الوعول (تيس الجبل Ibex) السريعة الحركة بطريقة عجيبة ذات النشاط القوي فجعل لها الجبال العالية مسكنًا تجري فيه بحرية وقوة، أما الوبار (نوع من الأرانب) إذ تتعرض لهجوم الكثير من الحيوانات المفترسة يجعل الصخور ملجأ لها. إن كان الله قد أعد للطيور والحيوانات ما يناسبها فكم بالأكثر يهتم بالإنسان، وبكل احتياجاته مع حمايته من الشيطان وقواته وكل من يُسَبِّب له أذى؟! إنه يُقَدِّم لنا نفسه صخرة الدهور، نختبئ فيه فلا تقدر رياح العالم وعواصفه أن تُحَطِّمنا، مادمنا في داخله مستترين. يقول القديس جيروم: [على هذه الصخرة أسّس الله كنيسته، ومنها استمدّ الرسول بطرس اسمه: "أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (مت 16: 18). على هذه الصخرة لا يوجد أثر للحيّة، لذا يقول النبي في ثقة: "وأقام على صخرة رجليّ" (مز 40: 2)، وفي موضع آخر يقول: "الصخور ملجأ للوبار" (مز 104: 18). فالوبار يلجأ إلى الصخور بكونه خائفًا... (وموسى النبي إذ كان كالوبار صغيرًا) قال له الرب بعد خروجه من أرض مصر: "إني أضعك في نقرة من الصخرة، وأسترك بيدي حتى أجتاز ثم أرفع يدي فتنظر ورائي" (خر33: 22-23) .] هكذا إذ نشعر أننا صغار في حاجة إلى صخرة نلتجئ إليها نتقدَّم إلى المسيح يسوع صخر الدهور نحتمي فيه، وعليه يقوم بناؤنا الروحي، هاربين من الحيَّة التي لا تقدر أن تجد لها موضعًا في الصخرة الحقيقيّة فلا تقترب إلينا. * هذا الحيوان (الوعل) يقتل الحيات ويأكلها. لهذا فالجبال هي المسكن اللائق بالذي يقتل الحية الحكيمة، أي في جنة الفردوس، الحيَّة التي كانت أحكم كل الحيوانات، وقد خَدعتْ حواء. القديس جيروم * إن سُئلتَ: لماذا صارت الجبال ملجأ، تقول إن الله جعلها مهربًا وسترًا للحيوانات الضعيفة متى طاردتها الحيوانات الأقوى منها. الإيل تخاصم الحيات وتهلكها. هكذا رسل المسيح كانوا يخاصمون اليهود الذين قيل عنهم إنهم حيات طائرة وأولاد أفاعي. لذلك شُبَّه الرسل بالإيل الذين بسرعة عدوهم ارتفعوا إلى أعالي التعاليم. وأما من كان ضعيف القوة من المؤمنين وصغير المنزلة، فملجأه الصخرة التي هي ربنا وإلهنا يسوع المسيح. الأب أنسيمُس الأورشليمي * لاحظنا فعلًا وحقًا أن الوعول تشير إلى القديسين الذين جاءوا إلى هذا العالم لكي يبيدوا سُم الحيَّة. لكن لنرى ما هي الجبال العالية التي تبدو محفوظة للوعول وحدها، والتي لا يُمكن أن يتسلقها من لا يكون وعلًا. في اعتقادي الشخصي إنها معرفة الثالوث، هي التي تُدعَى بالجبال العالية، فما من أحدٍ يبلغ هذه المعرفة ما لم يكن وعلًا . العلامة أوريجينوس صَنَعَ الْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ. الشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا [19]. في سفر التكوين تحدَّث عن خلقة الشمس والقمر في اليوم الرابع، أما هنا فيكشف عن غاية خلقتهما، حيث يقيم الله فصول السنة لخدمة الإنسان. لقد عيَّن الله النهار والليل كما فصول السنة... كلها لنفعنا. بينما يُكرِم العالم الوثني الشمس، حتى أقام الكثير من الأمم منها إلهًا، كما فعل المصريون، إذ عبدوا الإله رَعْ، وتطلع البعض إلى الليل كما لو كان رمزًا للشر، فإن المرتل يرى في عناية الله عجبًا، فيُقَدِّم القمر عن الشمس حتى لا نستخف به. هذا وقد اهتم الله أن يجعل عيدًا شهريًا يرتبط برأس الشهر والقمر، فالنهار والليل لخدمتنا، يمكن أن يكونا مُقَدَّسين لله. هذا وبعض الأعياد كالفصح والخمسين (الأسابيع) يحكمها أيضًا القمر. يرى الأب أنسيمُس الأورشليمي أن القمر يشير إلى اليهود، وقد صُنع لتحديد وقت معين، لأن الديانة اليهودية تقوم بدورها إلى حين مجيء السيد المسيح شمس البرّ. وأن الشمس تعرف غروبها، إذ يعرف السيد المسيح شمس البرّ يوم آلامه وصلبه وموته. يُقَدِّم لنا الأب أنسيمُس الأورشليمي لماذا ذكر موسى النبي وأيضًا داود النبي هنا الحديث عن الأشجار قبل الحديث عن الشمس والقمر والكواكب. يقول: [إن الجهال من الناس عندما ينظرون النبات ينمو ويزهر من حركة الكواكب يتوهمون أن الكواكب هي التي خلقت الأشجار، لذلك قدَّم النبي إبداع الأشجار على الكواكب ليُعَرِّفهم بأن الله وحده هو خالق كافة الأشياء، وبأمره تُعِين الخلائق بعضها بعضًا وتساعدها.] جاء عن الترجمة السبعينية والقبطية: "الجبال العالية للآيائل، الصخور ملجأ للأرانب". * الآيائل هم الأقوياء الروحيون الذين يعبرون في حياتهم فوق كل المناطق المملوءة أشواكًا في الأدغال والغابات. "الذي يجعل قدمي كالإيل، وعلى المرتفعات يقيمني" (مز 18: 33). ليتمسكوا بالجبال العالية، وصايا الله المرتفعة؛ ليفكروا في الأمور العلوية، ليتمسكوا بالأمور التي في الأسفار المقدسة. ليتبرروا في الأعالي، فإن الجبال العالية هي للآيائل. ماذا بالنسبة للحيوانات المتواضعة؟ ماذا بالنسبة الأرانب البرية؟ ماذا بالنسبة للقنفذ؟ الأرانب البرية صغيرة وضعيف، القنفذ أيضًا مملوء بالأشواك. واحد جبان والآخر مُغَطَّى بالأشواك. ماذا تعني الأشواك إلا الخطاة؟ من يخطئ يوميًا، حتى وإن كانت ليست خطايا عظيمة، مُغَطَّى بأشواك صغيرة. في ضعفه هو أرنب بري وفي تغطيته بالخطايا الصغيرة هو قنفذ، ولا يستطيع يتمسك بتلك الوصايا العالية الكاملة. لأن "الجبال العالية للآيائل". ماذا إذن هل تهلك هذه الحيوانات؟ لا، فإن "الصخرة ملجأ للقناقذ وأرانب البرية". فإن الرب ملجأ المساكين. * "صنع القمر للمواقيت". نفهم روحيًا الكنيسة التي تنمو من الحجم الصغير وتكبر كما من موت هذه الحياة، إذ تقترب نحو الشمس (ربنا يسوع). لستُ أتحدث عن هذا القمر المنظور للعين. وإنما إلى ما يعنيه هذا الاسم. عندما كانت الكنيسة في الظلمة، عندما لم تكن قد ظهرت بعد، كان البشر في ضلال، وكان يُقال: هذه هي الكنيسة، هنا المسيح. هكذا. عندما كان القمر مظلمًا. فوقوا سهامهم ليرموا الأبرار في قلوبهم" (راجع مز 11: 2). كم يكون أعمى ذاك الذي يضل بينما القمر في كماله؟ "صنع القمر للمواقيت". القديس أغسطينوس * ما قاله المرتل: "الشمس تعرف مغربها" ، ألا يُؤخذ عن شمس البّر بأشعته الشافية الذي نقرأ عنه في سليمان أن الأشرار سيقولون: "الشمس لم تشرق لنا!" لهذا فإن المسيح هو شمس البّر الحقيقي، يعرف ساعة مغربه، حينما أسلم ذاته للآلام لأجل خلاصنا، لأنه لما صُلِبَ استبدت الظلمة والليل بنفوس تلاميذه . الأب قيصريوس أسقف آرل تَجْعَلُ ظُلْمَةً، فَيَصِيرُ لَيْلٌ. فِيهِ يَدِبُّ كُلُّ حَيَوَانِ الْوَعْرِ [20]. من أهم مبادئ الغنوسيين "الثنائية"، فيحسبون أنه يوجد الله الكائن الأسمى، كما يوجد الخالق للمادة، والتي في نظرهم عنصر ظلمة، لذا فالخالق بالنسبة لهم إله شرير، أو أدنى من الكائن الأسمى. هنا لم يذكر المرتل أن الله خالق الليل أو الظلمة إنما أوجدها بغياب الشمس أو النور. فالظلمة ليس لها كيان في ذاتها، ولا تحتاج إلى خلقة، إنما هي غياب النور. يتحدث المرتل هنا عن الظلمة والليل بكونهما من عطايا الله. فإنهما ضروريان لحياة الإنسان لأجل راحته، وأيضًا للحيوانات والنباتات. فبعض الحيوانات خاصة حيوانات البرية المفترسة لا تُمَارِس حياتها في النهار، بل غالبًا ما تختبئ في الكهوف والعرين، لتخرج في الليل تبحث عن الفريسة. يرى القديس أغسطينوس أن شمس البرّ إذ يغرب في حياة الإنسان تحل الظلمة في أعماقه، ويدب كل حيوان الوعر، أي يخرج الشيطان كأسدٍ ليفترس هذه النفس. وكما قال السيد المسيح لبطرس: "سمعان، سمعان، هوذا الشيطان يطلبكم لكي يُغَرْبلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك" (لو 22: 31-32). عندما أنكر بطرس سيده ثلاث مرات (مت 26: 70-71)، ألم يكن بين أنياب الأسد؟ كثيرًا ما يتحدث الآباء مثل القديس يوحنا الذهبي الفم عن بركات الليل، والسماح بغياب الشمس لأجل راحة الإنسان واسترداد طاقته بالنوم. فيحسبون الليل عطية إلهية نافعة للحياة. * إذ تُشرق الشمس، ينسحب كل وحشٍ مفترسٍ، ويلجأ إلى عرينه. هكذا أيضًا عندما تشرق الصلاة مثل شعاع الشمس، تشرق من ألسنتنا، وتخرج من أفواهنا، يستنير ذهننا، وتهرب الأهواء المتوحشة التي تحطم عقلنا وتلجأ إلى عرينها. ذلك متى كانت صلاتنا يقظة، وتصدر عن نفس ساهرة وعقلٍ صاحٍ. متى كان الشيطان حاضرًا فإنه ينسحب عندما نصلي. القديس يوحنا الذهبي الفم * بقوله: "تجعل ظلمة فتصير ليل" [20]، يبكم شيعة مرقيون الذي زعم أن النور خلقه الإله الصالح، وأما الظلمة فخلقها الشيطان... الظلمة ليست خلقة جوهرية بل هي غياب النور. كما أن الشر هو غياب الخير. لذلك لم يقل "خلق الظلمة"، بل قال "جعل الظلمة"، كما كتب موسى، قائلًا: "فصل الله بين النور والظلمة، ودعا الله النور نهارًا، والظلمة دعاها ليلًا" (تك 1: 4-5). الأب أنسيمُس الأورشليمي * بالمعنى الرمزي، عندما يغيب شمس البرّ عنا، نصير في ظلمة تامة، عندئذ تهجم علينا الحيوانات ويزأر الأسد في البرية لكي يخطفنا ويفترسنا. القديس جيروم * لا يَقِلُ الليل عن النهار في منفعته وخيره للبشرية... فحين نحظى بالكثير من ضوء النهار نحتاج أيضًا إلى سكون الليل. وحين نشبع بهدوء الليل نشتاق إلى نور الصباح وضيائه... يقود الليل الناس إلى بيوتهم، لينعموا بالنوم الحلو اللذيذ، ويسحب أيضًا الحيوانات المُفترِسة للغذاء ويعطيها الحرية والمَرعى . ثيؤدوريت أسقف كورش * إذا أراد ابن الظلمة أن يجعلنا أبناء الظلمة مثله (1 تس 5: 5) موقعنا في النوم، سوف يضغط علينا بقوه عندما يسود الليل "يجول" (1 بط 5: 8) كما يقول الكتاب كالحيوان المفترس (مز 104: 20) وبكونه ظلمة ومحبًا لها يرانا في نور الصلاة ساهرين مع الرب متمثلين بملائكة النور، "بأغاني روحية مترنمين" (أف 5: 19)، مُعطِين المجد لله خالقنا، الشيطان وهو يحترق بغيرة غاضبة ومملوء حسدًا لمنظر البشريين الذين يتشبهون بسهر الملائكة، سوف يغمرنا بثقل النوم، مشاركًا لنا في ظلمته . مارتيريوس - Sahdona * الزمن الذي فيه تُهاجَم نفوسنا هو ليل وظلمة دائمة. إنه زمن الليل كما يخبرنا النبي حينما تحاول حيوانات البرية أن تقتات طعامًا دنسُا بافتراسها قطعان الرب . القديس غريغوريوس النيسي الأَشْبَالُ تُزَمْجِرُ لِتَخْطُفَ، وَلِتَلْتَمِسَ مِنَ اللهِ طَعَامَهَا [21]. مع ما للأشبال من قوة، إلا أنها تلتمس طعامها كما من الله نفسه. * يريد ابن الظلمة أن يجعلنا أبناء الظلمة مثله، فنغوص في سُبات عميق، ويفترسنا بشدةِ، خصوصًا وقت الظلمة، حينما يملك الظلام، فيخرج مهرولًا ليفترس خلسة. خصوصًا وكما يقول الكتاب المقدس عن الوحش المفترس (مز 104: 21) إنه هو نفسه الظلمة، محب الظلام، لكنه يرانا في نور الصلاة ساهرين مع ربنا، متشبهين بملائكة النور بتسابيحنا الروحية وأغانينا، نمجد الله خالقنا. إنه يلتهب بغيرة متقدة، ويمتلئ حسدًا، إذ يرى البشر يمارسون سهر الملائكة، فيحاول أن يغمسنا في ثقل النوم لكي نشاركه ظلمته . الأب مرتيروس السرياني * عند صُلِبَ المسيح، حيث استبدت ظلمة الشك بنفوس رسله، راحت تلك الوحوش الروحية تجول لتفترس النفوس. وبينما هي تجول تشرق الشمس فتنسحب. ما هو معنى هذا؟ ما معنى أن الشمس تشرق فتنسحب تلك الوحوش، إلا أن المسيح قد قام، فاجتمعت الوحوش الروحية معًا؟ "وفي مآويها تربض" [22] حقًا عندما أشرقتْ الشمس بدأ نور الإيمان يسطع شرقًا من جديد في الرسل، أما تلك الوحوش الروحية فقبعت في مآويها، أي في قلوب اليهود . الأب قيصريوس أسقف آرل تُشْرِقُ الشَّمْسُ فَتَجْتَمِعُ وَفِي مَآوِيهَا تَرْبِضُ [22]. العجيب في محبة الله أنه إذ تشرق الشمس ينطلق الإنسان للعمل بعد فترة الراحة والسكون أثناء الليل. وعلى العكس فإن الحيوانات المفترسة بشروق الشمس ترجع إلى أماكن سكناها لتجتمع معًا وتستريح وهذا من عناية الله الفائقة، حتى لا تتعرض حياة الإنسان للمخاطر. إذ يشرق شمس البرّ في حياة المؤمن تجتمع الشياطين معًا وتختفي في جحورها، لأنها تفقد سلطانها على المؤمن الحقيقي. * الإنسان الذي يسقط في خطية يلزمه ألا يكتئب، بل يتوب. فإن شمس البرّ ستشرق مرة أخرى، وكل الحيوانات المفترسة تهرب، ومعها خطاياه، وسيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل السقوط. القديس جيروم الإِنْسَانُ يَخْرُجُ إِلَى عَمَلِهِ، وَإِلَى شُغْلِهِ إِلَى الْمَسَاءِ [23]. سمح بحدوث الظلمة لأجل راحة الإنسان ودوائه. ولكي تكون فرصة للوحوش أن تخرج للصيد، ويفزع منها الأشرار ولا يسرقوا. وجعل أيضًا الوحوش تكره نور الشمس حتى لا تخرج في النهار، وتؤذي الإنسان الذي يخرج إلى عمله منذ شروق الشمس إلى المساء. * ماذا تفعل يا إنسان الله؟ يا كنيسة الله؟ ماذا عنك يا جسد المسيح الذي رأسه في السماء؟ ماذا تفعل يا إنسان في الاتحاد معه؟ لذلك فليعمل الأعمال الصالحة في أمان سلام الكنيسة، ليعمل حتى المنتهى. القديس أغسطينوس * بعد أن يُشرق شمس البرّ يلزمنا أن نرجع إلى عملنا حتى المساء، أي إلى يوم موتنا بالطبع. إنه لأمر في غاية الأهمية أن نتبع أعمال البرّ في كل دقيقة من حياتنا. القديس جيروم * بعد هذا يتقدَّم المرتل فيقول: "الإنسان يخرج إلى عمله، وإلى شغله إلى المساء" [23]. هذا الإنسان الذي يخرج إلى عمله يُفهم أنه هو الكنيسة جسد المسيح، الذي كان آنذاك يتكون من التلاميذ وحدهم. قبل قيامة المسيح، إذ سألتْ الجارية بطرس أنكر الرب ثلاث مرات، لكن إذ قامتْ الشمس، أعني عند قيامة الرب، تقوى بطرس، فأراد أن يُجلَد ويُقتَل من أجل اسم المسيح. من ثَمَّ عند قبول نعمة الروح القدس يخرج الإنسان إلى عمله، أي تبدأ كنيسة المسيح في أداء عملها. وهي لا تبدأ فقط بل وتُكَمِّل العمل "إلى شغله إلى المساء"، أي حتى نهاية العالم. ولكي يعزي هذا إلى نعمة الله وليس إلى جهاد الإنسان يذكر فورًا: "ما أعظم أعمالك يا رب!" حقًا إنها أعماله وليست استحقاقاتنا. يكمل المرتل: "كلها بحكمةٍ صُنعت"، أي أكملتَ كل شيء بالمسيح قوتك وحكمتك، وأيضًا: "ملآنة الأرض من خلائقك" . الأب قيصريوس أسقف آرل |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
قد تكون مهتم بالمواضيع التالية ايضاً |
الموضوع |
مزمور 107 | العناية الإلهية |
العناية الإلهية |
خطة العناية الإلهية |
العالم تصونه العناية الإلهية، إذ لا يوجد مكان لا تدركه هذه العناية |
ما هي العناية الإلهية؟ |