رقم المشاركة : ( 1 )
|
|||||||||||
|
|||||||||||
وَعَدَ المسيح تَلامِيذَه بالرُّوح القُدُس الأحد السَّادس للفصح: وَعَدَ المسيح تَلامِيذَه بالرُّوح القُدُس (يوحنا 14: 15-21) النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-21) 15 إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي. 16 وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد 17 رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه. أَمَّا أَنتُم فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم. 18 لن أَدَعَكم يَتامى، فإِنِّي أَرجعُ إِلَيكم. 19 بَعدَ قَليلٍ لَن يَراني العالَم. أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَني لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون. 20 إنَّكم في ذلك اليَومِ تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم. 21 مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي)). مقدمة وعد سيدنا يسوع المسيح تلاميذه في اللحظات الحزينة والمظلمة والمأساوية، من خلال خطاب الوداع بعد العشاء الأخير (يوحنا 14: 15-21) أن يبقَ حاضراً معهم بالرغم من رحيله عنهم، وعودته إلى الآب، وذلك بإرسال الرُّوح القُدُس تحضيرًا لحلوله عليهم يوم العنصرة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. أولا: وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-21) 15 إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي تشير عبارة "إِذا" إلى أداة شرط التي تربط بين فعلين: وهما حُبُّ يسوع وحفظ وصاياه. أمَّا عبارة "إِذا كُنتُم تُحِبُّوني" فتشير إلى فعل الشرط، وهو المحبة التي تقود إلى طاعة أوامر المسيح، فطاعة الوَصايا برهان على محبته، ويؤكد ذلك يوحنا الرسول: " أَنَّ مَحبَّةَ اللهِ أَن نَحفَظَ وصاياه " (1 يوحنا 5: 3). أن يحمل المَرء اسم الرّب يسوع المسيح من دون حفظ وصاياه، أليس في ذلك خيانة للاسم الإلهي والتخلّي عن محبته؟ أَمَّا عبارة "حَفِظتُم" فتشير إلى فعل الشرط أي إن كناَّ نحبّ يسوع، نحفظ وصاياه ونعمل بها ونُطيعها. والطاعة هي الثقة بكلمة شخص الذي نُحبُّه. وهذه الثقة تقود إلى اتباعه. ومن يُحب يحفظ الوَصايا ويعمل بها ويطيعها، والرُّوح القُدُس يعطينا الحب كي نحفظ الوَصايا. لذا فإنَّ إرسال الرُّوح من قبل الآب هو تلبية لطلب يسوع، ويرتبط برسالة يسوع ارتباطا وثيقا (يوحنا 14: 13-14). ومن هذا المنطلق، إن محبَّتنا تُختبر بحفظ الوَصايا وطاعتها. فالمحبة لا تكون بالكلام والعواطف، بل بحفظ وصايا يسوع والعمل بها، كما يؤكد الكتاب المقدس "لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقِّ" (1 يوحنا 3: 18). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "الله يطلب الحب الذي يَظهر بالأعمال". هذا هو السبب الذي لأجله يقول يوحنا في رسالته: " مَن قالَ: إِني أَعرِفُه ولَم يَحفَظْ وَصاياه كان كاذِبًا ولَم يَكُنِ الحَقُّ فيه" (1 يوحنا 2: 4). وصايا الله هي إثبات لحبِّه لنا، وطاعة وصاياه هي تعبيرٌ لحبِّنا له. أَمَّا عبارة "وَصاياي" فتشير إلى الوَصايا العشر (خروج 34: 28). وهي ما نطق به الله في سيناء. وتدعى أيضاً كلمات العهد (تثنية الاشتراع 29: 1)، وهي موجز لكثير من تعاليم العهد القديم. فالوَصايا الثلاث الأولى، تختص بواجبات الإنسان نحو الله، والسبع الأخيرة بواجبات الإنسان تجاه الإنسان. لقد أجَّلّ يسوع الوَصايا، وشدَّد عليها ولخَّصها في وصية واحدة هي وصية المَحبَّة، وفسَّرها تفسيراً حقيقياً، وعلم الناس أنَّ غاية الوَصايا، إنَّما هي المحبة الله والقريب (متى 22: 37). وضَّح بولس الرسول أن الإيمان العامل بالمَحبَّة هو تكميل الناموس "في المسيحِ يسوعَ لا قِيمةَ لِلخِتانِ ولا لِلقَلَف، وإِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة" (غلاطية 5: 6). وأَمَّا يوحنا فقد وسع معنى الوصية وعمَّقه ودمغه بدمغة المَحبَّة، ولذا تكلم عن الوصية الجديدة " أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34). وصايا الله هي إثبات لحُبِّ يسوع لنا، وإطاعة وصاياه هي تَعبيرٌ لحُبِّنا له. وموجز القول، إن المَحَبَّة هي أصل الناموس وتتمَّته. 16وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد تشير عبارة "سأَسأَلُ الآب" إلى النتيجة الثانية وهي رفع يسوع صلاته للآب الذي سيهبنا بدوره مُؤَيِّدا آخرًا يكون معنا للأبد ويوحّدنا بالله. فالمسيح يشفع لتلاميذه أمام آبيه، كما يقول بولس الرسول "المَسيحُ يسوع الَّذي مات، بل قام، وهو الَّذي عن يَمينِ اللهِ والَّذي يَشفعُ لَنا" (رومة 8: 34). فبدم المسيح وفدائه صار هناك إمكانية لإرسال الرُّوح القُدُس للإنسان. وهذا يذكِّرْنا برئيس الكهنة في العهد القديم الذي كان بعد أن يقِّدِّم الذبيحة يدخل بدمها إلى قدس الأقداس ليشفع إلى شعب العهد القديم، وكان ذلك رمزًا إلى ما فعله يسوع في السَّماء، وهو رئيس الكهنة الذي بشفاعته تُغفر خطايانا وتُستجاب صلواتنا. أَمَّا عبارة " فيَهَبُ لَكم " فتشير إلى الآب الذي يمنح الرُّوح القُدُس ويرسله إلى التلاميذ، هذا الروح الذي يجعلُهم أهلًا لله. ولأَنَّ مجيء الرُّوح القُدُس يتوقف على موت المسيح وشفاعته، يحق للمسيح أيضا أن يقول انه هو يرسله أيضا "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 15: 26). ويصحُّ أن يُنسب الرُّوح القُدُس إلى كل من الآب والابن لأَنَّهما واحد. أعطى يسوع بمجانيّة للتلاميذ الروح القدس وهو على الصليب (يوحنا 19: 28-30) ، وحينما نفخ فيهم مساء يوم القيامة ( يوحنا 20: 22). أَمَّا عبارة "مُؤَيِّداً آخَرَ " في الأصل اليوناني παράκλητος فتشير إلى الرُّوح القُدُس علما أنَّ المُؤَيِّد الأول هو المسيح كونه مع تلاميذه بالجسد (لوقا 2: 25). والمؤيد الآخر هو الروح القدس وليس " محمد رسول الإسلام " كما يدّعي د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي قائلا "أن كلمة παράκλητος «باراقليتوس» تفسير خاص محرف، أو قراءة محرفة لكلمة «بيريقليتوس» (periclytos) ومعناها: المستوجب للحمد. وأنه كان في القول الأصلي لعيسى نبوءة خاصة بنبينا الكريم أحمد" (قسم العقيدة -كلية الشريعة وأصول الدين -جامعة القصيم في السعودية 21/6/142). أمَّا البابا فرنسيس بقوله "إن البَراقليط الأول هو يسوع المسيح نفسه والأخر هو الرُّوح القُدُس" (عظة 25/4/5/2014). وتدل لفظة "مُؤَيِّداً" أيضا على المسيح "يا بَنِيَّ، أَكتُبُ إِلَيكم بِهذا لِئَلاَّ تخطَأُوا. وإِن خَطِئ أَحدٌ فهُناك شَفيعٌ παράκλητος لَنا عِندَ الآب وهو يسوعُ على المَسيحُ البارّ (1 يوحنا 2: 1). إن الشيطان يتهم الإنسان ويضع خطيئته في المركز ويعامله كخاطئ غير قادر على سداد الدين من ناحية، ومن ناحية أخرى إن يسوع المُؤيّد اجتاز الموت بسبب خطايا الإنسان، وفداه بنفسه ليغفر له. واستعمل يوحنا لفظة مُؤَيِّد أربع مرات في الإنجيل (لوقا 14: 16، 26؛ و15: 26، و16: 7) ومرة واحدة في رسالة يوحنا الأولى "إِن خَطِئ أَحدٌ فهُناك شَفيعٌ لَنا عِندَ الآب وهو يسوعُ المَسيحُ البار (1يوحنا 2: 1). أَمَّا عبارة " مُؤَيِّداً" في الأصل اليوناني παράκλητος (معناها معزّي والمعنى الحرفي واحد يُدعى إلى جانب الشخص) فتشير إلى لفظ مقتبس من لغة القانون ويدلُّ على من يسُتدعى لدى المُتَّهم للدفاع عنه ومساعدته في التَّحقيق أمام المحكمة. فالمعنى الأول هو المُحامي والمُساعد والمُدافع والشَّفيع (1 يوحنا 2: 1). وبناءً على هذا المعنى، ظهرت معاني أخرى كالمُعزّي والمُشجّع. فالمسيح عزّى تلاميذه حين كان معهم بالجسد، وإذ فارقهم بالجسد أُرسل لهم روحه القدوس معزيًا آخر. وهذه اللفظة ترد فقط في كتابات يوحنا الرسول للدلالة على الرُّوح القُدُس الأقنوم الثالث في اللاهوت لينوب عن المسيح بعد صعوده إلى السماء كي يُعين الرسل في التبشير وهداية الناس إلى التوبة والإيمان، ولمتابعة عمل يسوع، ومُعاونة التلاميذ في اتهام العالم لهم. ووظيفته هي أن يبكت (يوحنا 16: 8) وان يشهد (يوحنا 15: 26) وان يعلّم (يوحنا 14: 26)، ويرشدنا للمسيح الحق "لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" (يوحنا 16: 14)، فهو يعزِّي ليس فقط بالمُواساة بل أيضًا بإعلان طبيعة يسوع وعمله. هذا الرُّوح يبقى معنا، ولا يحل محل يسوع الذي هو معنا حتى انقضاء الدهور (متى 28: 20) ويعمل عمل التقديس في الكنيسة، دون أن يكون له حدود في الزمان والمكان (يوحنا 14: 16 و26، 15: 26 و16: 7). وهذا لا يعني أنَّ الرُّوح القُدُس لم يكن سابقا في قلوب أتقياء الله، مثل يوحنا المَعمَدان (لوقا 1: 15) إنَّما الآن يظهر بطرق جديدة. يُعلق القدّيس يوحنّا الآبلّيّ " كما كان الرَّبّ يسوع يَعِظُ، فإنّ الروح القدس يعِظُ الآن؛ وكما كان يُعَلِّم، فإنّ الروح القدس يعلّم؛ وكما كان المسيح يُعَزّي، فإنّ الروح القدس يعزّي ويعطي السرور. ماذا تطلب؟ عمّا تبحث؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟ أن تحصل على مؤيّدٍ بداخلك، أو مُرَبٍّ أو حارسٍ، شخصٍ يرشدك وينصحك ويشجّعك ويدلّك على الطريق ويصحبك في كلّ عمل تقوم به! " (العظة رقم 30، الرابعة عن الروح القدس). أَمَّا عبارة " يَكونُ معَكم لِلأَبَد" فتشير إلى موهبة الرُّوح الذي تُعطى بلا سقف زمني، وهي تضمن للأبد الاتحاد بالمسيح الذي يهب الرُّوح (يوحنا 18: 20). يبقى الرُّوح القُدُس مع كل واحد من المؤمنين إلى نهاية حياته ومع الكنيسة إلى الأبد. يعلق القدّيس رومانُس المرنِّم " أرسل الرّب يسوع إلى رسله الروح القدس، المؤيّد، الّذي نلناه نحن المُعمَّدين جميعًا، وبه تَقَدّسنا " (نشيد عن النبيّ إيليّا)، ويبقى للأبديّة. إنّه حضور يرافق حياة الكنيسة في جميع الأوقات ويستمر حضور المُؤَيِّد الأول (يسوع) والمُؤَيِّد الآخر (الروح القدس). والجدير بالملاحظة في هذه الآية دلالة على الثالوث: الابن الذي يسأل، والآب الذي يهب، والرُّوح القُدُس المُرسل المُعزِّي. 17 رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه. أَمَّا أَنتُم فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم تشير عبارة "روح الحَقِّ" إلى الرُّوح القُدُس أي الأقنوم الثَّالث من الثَّالوث الذي يهبه الآب، وسُمِّي بذلك "لأَنَّ الرُّوح هو الحقّ (1يوحنا 5: 6)، ولأَنَّه علم تلاميذ المسيح الحَقّ ويرشدهم إليه ويحفظهم من الباطل "فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث " (يوحنا 16: 13)، ولأنَّه أيضًا يقود الناس إلى المسيح الذي هو الحَقّ، ويشهد له ويجتذب النفوس لقبول إنجيله، والتَّعرف على أسراره. ويساعد الرُّوح القُدُس التلاميذ على التقدّم في المعرفة (يوحنا 16:13) وفي تأدية الشهادة له "وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء"(يوحنا 15: 27). وروح الحَقّ يتعارض مع روح الضلال (1 يوحنا 4: 5) والكذب المُسيطر على العالم الذي " ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحَقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب " (يوحنا 8: 44). وكما أنَّ الرُّوح القُدُس حق فكذلك الآب حق، كما جاء في تصريح يسوع "الحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" (يوحنا 3:17) والمسيح أيضا حق " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة "(6:14)؛ أَمَّا عبارة "لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه" فتشير إلى رفض العالم للرُوح القُدُس، كما رفض يسوع المسيح (يوحنا 1: 10)، وذلك لأنّه لا يراه ولا يعرفه. فالعالم لا يملك نظرة اعتبار لكل ما هو إلهي، لذلك لا يُميِّز روح الحَقّ، ولا يستطيع أن يقبله، لأَنَّ العالم يجد ذاته في شهوات الجسد " لأَنَّ كُلَّ ما في العالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العالَم" (1 يوحنا 2: 16). إن العالم أحيانا مكان الكذب والنفاق وتشويه الحقيقة، حيث يبحث كل واحد عن مصلحته، وفيه تحل الضبابية مكان الشفافية. ويخبئ كل واحد أهدافه ويتظاهر بكل إخلاص وإنسانية. يعلن عن المبادئ الإنسانية دون تواصل حقيقي مع الإنسان. فالعالم لا يُدرك سوى المحسوسات، كما جاء في تعليم بولس الرسول " إِذا كانَت بِشارتُنا مَحجوبَة، فإِنَّما هي مَحجوبَةٌ عنِ السَّائِرينَ في طَريقِ الهَلاك، عن غَيرِ المُؤمِنينَ الَّذينَ أَعْمى بَصائِرَهم إِلهُ هذِه الدُنْيا، لِئَلاَّ يُبصِروا نورَ بِشارةِ مَجْدِ المسيح، وهو صُورةُ الله "(2 قورنتس 4: 3-4)، فالعام مُصاب بالعمى الرُّوحي وفساد الفكر، فلا يقدر أن يرى رُوح الحَقّ أو يعرفه. ويُعلق القديس أوغسطينوس "الحُبُّ العالمي (الزمني) ليس له تلك الأعين غير المنظورة بينما الرُّوح القُدُس لا يمكن أن يُرى إلاَّ بالأعين غير المنظورة". أَمَّا عبارة "العالَمُ" فتشير إلى أهل العالم المُتكبِّرين الطمَّاعين الذين اتَّخذوا الدُنيا نصيبًا لهم ، فهؤلاء لا يستطيعون قبول الرُّوح القُدُس مُعزِّيا لهم؛ ويوضِّح ذلك بولس الرسول " الإِنسانُ البَشَرِيُّ لا يَقبَلُ ما هو مِن رُوحِ الله فإِنَّه حَماقةٌ عِندَه، ولا يَستَطيعُ أَن يَعرِفَه لأَنَّه لا حُكْمَ في ذلِكَ إلاَّ بِالرُّوح " ( 1 قورنتس 2: 14)؛ أما عبارة "لأَنَّه لا يَراه" فتشير إلى سبب عدم رؤية العالم للرُّوح القُدُس، لأَنَّ إنسان العالم لا يرى سوى المَحسوس ولا يُسرّ بالرُّوحانيات، ولا يشعر بحقيقتها، ويعتبر أنَّ المسيحيين هم من أهل الأوهام، لأَنَّهم يتكلمون على أمور لا ترى إلا بعين الإيمان. أَمَّا عبارة "ولا يَعرِفُه" فتشير إلى عدم ادراك إنسان هذا العالم الرُّوحَ القُدُس، لأنَّه لا يقبله كي يحصل به على التوبة والإيمان والرجاء والمحبة، ويوضِّح بولس الرسول ذلك، لأنَّ إنسان هذه الدنيا يعيش بالإثم و "يَتَجَنَّبِ الإِثْمَ مَن يَذكُرُ اسمَ الرَّبّ " ( 2 طيموتاوس 2: 19) أَمَّا عبارة "أَمَّا أَنتُم فتَعلَمون" فتشير إلى رؤية التلاميذ ومعرفتهم للرُّوح القُدُس لأَنَّ المسيح اعدَّهم لذلك ، وهكذا المؤمنون الذين عرفوا الابن يعرفون الرُّوح أيضًا، كما جاء في رسالة العبرانيين "إنَّ الطَّعامَ القَوِيَّ هو لِلرَّاشِدين، لأَولئِكَ الَّذينَ بِالتَّدَرُّبِ رُوِّضَت بَصائِرُهم على التَمْييزِ بَينَ الخَيرِ والشَّرّ"(عبرانيين5: 4)؛ أَمَّا عبارة "يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم" فتشير إلى المؤمنين الذين هم هيكل الرُّوح القُدُس الذي يُغير قلوبهم ويُقدِّسها ويُقدِّرها على الإتيان بأثماره الرُّوحية "فمَن حَفَظَ وَصاياه أَقامَ في الله وأَقامَ اللهُ فيه. وإِنَّما نَعلَمُ أَنَّه مُقيمٌ فينا مِنَ الرُّوح الَّذي وَهَبَه لَنا" (يوحنا 5: 10). وهكذا يعزّي يسوع تلاميذه بأنَّهم سيعيشون في علاقة أتحاد مع حياة الله بفضل الروح القدس الذي سيكون معهم (يوحنا 14: 16) وعندهم (يوحنا 14: 17) وفيهم (يوحنا 14: 20). ويُعلق القدّيس برنادس "بفضل الروح القدس انتقل الرسل من مرحلة الخوف إلى هذه الحالة من الثقة التامّة. وقد ظهرَ هذا التحوّل، بشكل واضح في بطرس، رئيس الرسل؛ هو الذي كان بالأمس مذعورًا من صوت جاريةٍ (متى 26: 69)، أضحى الآن ثابتًا لا يتزعزع أمام تهديد كبار الكهنة (أعمال الرسل 4: 8). وظهر هذا التّحول أيضًا في باقي الرّسل: "أَمَّا هَم فانصَرَفوا مِنَ المَجلِسِ فَرِحين بِأَنَّهم وُجِدوا أَهلاً لأَن يُهانوا مِن أَجْلِ الاسْم"(أعمال الرسل 5: 41)"(العظة الأولى عن عيد العنصرة). 18 لن أَدَعَكم يَتامى، فإِنِّي أَرجعُ إِلَيكم تشير عبارة " لن أَدَعَكم يَتامى " إلى النتيجة الثالثة التي مُنحت لمَن يحبون الرَّبّ يسوع ويحفظون وصاياه. انه يهبهم حياته ويُدخلهم في العلاقة ذاتها التي تجمعه مع الآب. يعلق البابا فرنسيس ". الآب يعطي معنى للحياة بأسرها ويجعل من جميع البشر عائلة واحد" (عظة 17/5/2020). ويُعزِّي يسوع هنا تلاميذه بعدم تركهم يَتامى وكأنَّ لا أبٌ لهم يُسندهم ويَحميهم، ويعتني بهم. فقد كان اليهود يدعون المعلمين آباء، والتلاميذ أبناءهم، فغياب السيد المسيح عن تلاميذه يصيرون كمن هم بلا أب؛ ويُعلق البابا فرنسيس "تنقل هذه الكلمات فرح مجيءٍ جديد للمسيح: فهو، قائم من الموت ومُمجَّد، يقيم في الآب وفي الوقت عينه، يأتي إلينا بالرُّوح القُدُس" (كلمة البابا 21 أيار 2017)؛ إن لم يعطينا الله الرُّوح، نبقى وحيدين في العالم. لهذا السبب يقول لنا يسوع بأنه لن يدعنا يتامى: فبالروح نصبح بشكل نهائي أبناء الله، وبالتالي يُصبح الله بشكل نهائي أبانا. أَمَّا عبارة "فإِنِّي أَرجعُ إِلَيكم" فتشير إلى وعد يسوع لتلاميذه بظهوره بعد قيامته كتأييد لوحدته الجوهرية مع الآب، ويأتي إليهم أيضًا بعد صعوده في مجيئه الأخير ليحملهم إلى المجد. وإنَّه يأتي أيضًا إلينا على الدوام بروحه، الحاضر في قلوبنا، وفي وسطنا. فهو يأتي إلينا ولا سيما حين نصرخ "تعالَ، أَيُّها الرَّبُّ يَسوع" (رؤيا 22: 20). وفي الواقع، إن لم يُعطينا الله الرُّوح، نبقى وحيدين في العالم. لهذا السبب يقول لنا يسوع بأنَّه لن يدعنا يَتامى؛ فبالرُّوح نصبح أبناءَ الله، وبالتالي يُصبح الله آبًا لنا. فالآب شاء ويشاء، والابن تمّم ويتمّم، والرُّوح لا يزال يكمّل مشيئة الآب وعمل الابن فينا. هو المُعزّي الّذي يُحقـِّق استمراريّة إرادة الآب وعمل الابن في حياة المؤمنين، فيوقن التلاميذ أنّهم ليسوا يَتامى في العالم، بل يحيوا بالرُّوح بعد ارتفاع الابن إلى يمين الآب. وتعلق القدّيسة تيريزا الطفل يسوع: "تذكّرْ، يا ربّ، أنّه عند صعودكَ إلى الآب، أنتَ لم تستطعْ تركنا يَتامى"(قصيدة بعنوان "يا حبيبي يسوع، تذكّرْ!"). لأَنَّ هناك مجيء للربّ في حياة كلّ واحد منّا حسب استحقاقه وحماسته، مجيء مُتكرّر وحميم في الفترة ما بين المجيء الأوّل والمجيء الأخير. 19 بَعدَ قَليلٍ لَن يَراني العالَم. أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَنيي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون تشير عبارة "بَعدَ قَليلٍ" إلى ساعة آلامه التي اقتربت، أنها أقل من يوم، لأنَّه قال يسوع ذلك في الليلة السابقة لآلامه وموته. أَمَّا "لَن يَراني العالَم" فتشير إلى عجز العالم عن معرفة يسوع القائم من الموت (يوحنا 6: 34 و8: 21). فبعد أن يُصلب يسوع ويموت لا يعود العالم يراه، لا حسب جسده ولا حسب لاهوته؛ لأنّ يسوع أوقف من قبل اليهود، وصُلِب في اليوم التالي، ودُفِن في المساء واختفى بالتالي عن أنظار البشر. وتبقى العلاقة بين يسوع والآب غير مرئية لمَن لا يؤمن ولا يُحبّ، ومن لا يعيش في الرُّوح والنعمة، كما جاء في تعليم يسوع " الَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"(يوحنا 14: 21). أَمَّا عبارة "أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَني لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون" فتشير إلى اختبار التلاميذ بحُضور يسوع القائم لمدَّة أربعين يوما بعد قيامته (أعمال الرسل 10: 41) ومشاركتهم في حياته الجديدة، وكذلك من سيؤمنون، بناءً على شهادتهم. وهذه المعرفة وهذه المشاركة في حياة القائم من الموت تُمهدان وتستبقيان ما سيتمُّ عند مجي المسيح " نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو" (1 يوحنا 3: 1-2)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "فقد أبلغهم يسوع من خلال هذه العبارة بأنّه سيعود، وبأنّ الافتراق سيكون قصيرًا وبأنّ اللقاء معهم سيدوم إلى الأبد" أَمَّا عبارة "أَنتُم فسَتَرونَني" إلى رؤية يسوع القائم من بين الأموات وترائيه لتلاميذه (يوحنا 16: 16-22)، ولكن هذا الحُضور لن يكون حسِّي محض، إنَّما يرافقه اكتشاف روحي حيث يتَّضح لهم حُضوره فيهم، والتلاميذ يحيون حياة جديدة بيسوع حاضرًا فيهم، ويعرفون علاقة يسوع بابيه وانهم سوف يرونه مُمجدًا في السماء؛ أَمَّا عبارة "لِأَنِّي حَيٌّ" فتشير إلى المسيح الذي لا يزال حيًا باعتبار لاهوته، لأنَّه منذ الأزل وإلى الأبد هو الله الحّي. فالموت الذي اعترى جسده وقتيًا لم يؤثر شيئاً في لاهوته، إذ قام حالاً من ذلك الموت ولا يذوق الموت ثانية كما يصرّح بولس الرَّسول: “وقضى على المَوت وجَعَلَ الحَياةَ والخُلودَ مُشرِقَينِ بِالبِشارة" (2 طيموتاوس 1: 10). يُقدّم لنا يسوع الخبر السَّار الأول: لن ينتصر الموت على يسوع، لأنَّه حَيٌّ. أَمَّا عبارة "سَتَحيَون" فتشير إلى الخبر السار الثاني وهو أن سنحيا من خلال حياة يسوع نفسها، حياة اجتازت الموت وأصبحت أبدية. فنحن شركاء حياته. هذه الحياة هي الاتحاد بالابن وعن يده بالآب، وهذا التبادل القائم على المعرفة والمحبة المتبادلة مضمون على وجه ثابت ونهائي، كما جاء في تعليم بولس الرسول " أَحْيانا مع المَسيح" (أفسس 2: 5)؛ وكما اختبره بولس الرسول نفسه " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ" (غلاطية 2: 20). حياة المسيح هي عربون حياة تلاميذه "إِنَّ المسيحَ قد قامَ مِن بَينِ الأَموات وهو بِكرُ الَّذينَ ماتوا" (1 قورنتس 15: 20)، وكما أن الكرمة تأكيد لحياة أغصانها، وحياة الراس تأكيد لحياة الأعضاء كذلك قيامة المسيح هي تأكيد لحياتنا وقيامتنا. وهناك التمييز بين التلاميذ والعالم. فالتلاميذ هم الذين يختبرون حُضور المسيح القائم من الموت، ويقاسمونه حياته الجديدة. هو يحيا، وهم سيحيون، أَمَّا العالم فلا يستطيع أن يُدرك يسوع (يوحنا 7: 34). وباختصار، يتكلم يسوع في هذه الآية عن حياة الآب في يسوع، وهذه الحياة نفسها ستكون فينا. 20 إِنَّكم في ذلك اليَومِ تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم تشير عبارة "إِنَّكم في ذلك اليَومِ" إلى عبارة مألوفة في العهد القديم للدلالة على مجيء المسيح في آخر الأزمنة (أشعيا 2: 17). وتبتدئ هذه الأزمنة بقيامة يسوع التي يشترك فيها المؤمنون. وتشير العبارة أيضا إلى يوم قيامة الرَّبّ لمَّا ظهر لتلاميذه حيًا في أماكن مختلفة، وخاصة يوم الخمسين حين أرسل الرُّوح القُدُس واظهر حياته بهبته هذا الرُّوح. أَمَّا عبارة "تَعرِفونَ" فتشير إلى تبدُّل تفكير التلاميذ حيث يعرفون العلاقة التي تربط بين الآب بالابن، والعلاقة التي تربطهم بالابن، وبواسطته بالآب من خلال قيامته والظهور لهم. أَمَّا عبارة "أَنِّي في أَبي" فتشير إلى الوحدة القائمة بين الآب والابن، وحدة الطبيعة أو الجوهر، وجوهر الله ألوهيته، كما أكَّده سابقًا يسوع بقوله "وإِذا كُنتُ أَعمَلُها فصَدِّقوا هذهِ الأَعمال إِن لَم تُصَدِّقوني. فَتعلَموا وتُوقِنوا أَنَّ الآبَ فيَّ وأَنيِّ في الآب"(يوحنا 10: 38)؛ وهذا الأمر يؤكد صحة دعوى يسوع أنَّه رسول الله والمسيح المنتظر؛ أَمَّا عبارة "وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم" فتشير إلى العلاقات التي تربط التلاميذ بيسوع، وتمكّن من اكتشاف حقيقة العلاقة القائمة بين يسوع والآب. وهذه شركة بيننا وبينه، حيث يهبنا حياته ويشترك معنا في كل عمل، وهو يعمل الأعمال فينا، ويعطينا القداسة، والسلطان على إبليس وعلى الخطيئة، وبهذا يصير لنا سلطان أن نكون أبناء الله (يوحنا 1: 12). أَمَّا عبارة "وأَنَّكم فِيَّ" فتشير إلى اتحاد بين جسد المسيح البشري وجسدنا البشري. المسيح هو الله المتأنس الذي تجسَّد، وصار له جسد بشريتنا، أنه أخذ البشرية فيه بتجسده، فأصبحنا مسكن الله. وهذا الاتحاد بالمسيح لا يُمكن الانفصال عنه على مثال الكرمة والأغصان (يوحنا 15: 1-7)، ويحقق للتلاميذ الأمن وقبول الآب إياهم وقداستهم وسعادتهم وحياتهم الأبدية. أَمَّا عبارة "أَنِّي فِيكُم" فتشير إلى الشركة في حياة المسيح حيث هو حال في تلاميذه بروحه ليهبَ لهم النِّعمة والقوَّة لكي يشهدوا له أمام العالم، كما اختبرها بولس الرسول "وأَكونَ فيه" (فيلبي 9:3). يسوع صار فينا، وهكذا نحن ننعم بشركة الطَّبيعة الإلهية. أخذنا أعضاء جسده، ووهبنا إياه فينا بإقامة ملكوته داخلنا. لم يعد الأمر يقوم فقط على معرفتنا بأن يسوع يعيش في الآب والآب في يسوع. ثمة أمر جديد وعظيم هو "أَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم " ويعلق الراهب البندكتاني غييوم دو سان تييري "مسكنك، أيها الرَّبّ يسوع، هو الآب، وأنت مسكن الآب. ولكن ليس هذا فقط، فنحن أيضًا مسكنك، وأنت مسكننا". (صلوات تأمّليّة). فهل نحن اليوم ندرك بحسّ الإيمان أنّنا شعب الله في شركة مع الآب ومع يسوع بواسطة الرُّوح القُدُس؟ 21مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي. تشير عبارة " مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها " إلى توجُّه يسوع إلى جميع المؤمنين الذين عندهم وصايا المسيح ويعترفون جهرًا أنَّهم تلاميذه. وهذا الأمر يدلُّ على معنى مزدوج: عرف وعمل مثل: سمع وحفظ (يوحنا 12: 47) وسمع وآمن (يوحنا 5: 24)، وهذه الطاعة هي التعبير عن المحبة، وتمكّن من معرفة الآب على وجه محسوس من خلال ظهوره؛ إن َّمحبة المسيح تنشئ الطاعة له. أَمَّا عبارة "حَفِظَها" في الأصل اليوناني τηρέω فتشير إلى حفظها في فكره وفي قلبه كوديعة، وعمل بها (يوحنا 12: 47). يتصف الحب الصادق بالخضوع التام لمن يُحبُّه. عندما نُحبُّ شخصًا نستطيع أن نتخلى بحرِّية عن وجهة نظرنا الشخصية، للتوافق مع إرادته ورغباته؛ الحبُّ الصادق هو تعبير عن هبة الذات للآخر، ولا ينفصل حبُّ المسيح عن حفْظ وصاياه. نسمع إلى صوت يسوع ونحفظه (يوحنا 5: 24) ونسمع له ونؤمن به. فطاعة الرسل لوصايا المسيح بمثابة امتحان محبتهم ودليل وحدتهم معه. أَمَّا عبارة "فذاكَ الَّذي يُحِبُّني" فتشير إلى الشهادة الحقيقية لحبِّنا للسِّيد المسيح بالطاعة لوصيته؛ ويوضِّح يوحنا الرسول شرط محبة المسيح "مَن قالَ إِنَّه مُقيمٌ فيه وَجَبَ علَيه أَن بَسِيرَ هو أَيضًا كما سارَ يَسوع" (1يوحنا 2: 6). أَمَّا عبارة " والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه" فتشير إلى ثمرة الحب العملي، وهو تمتُّع المُؤمن بحبِّ الآب. فالآب يُحبُّ الابن، والابن يُحبُّ مُحبّيه. إن المحبَّة هي الشرط الذي تنبع منه الطاعة للمسيح، والشركة الرُّوحية مع الله. والطاعة للمسيح تجعل التلاميذ أحبِّاء للآب. المحبَّة هي سلسلة من الصداقة تقوم بين يسوع وبين الآب ومُحبِّه. ويُعلق البابا فرنسيس "المحبّة هي التي تدخلنا في معرفة يسوع، بفضلِ عملِ "المُؤَيِّد" الذي أرسله يسوع، أي الرُّوح القُدُس. والرَّبّ يدعونا اليوم، لأن نتوافق بسخاء مع دعوة الإنجيل إلى المَحبّة، واضعين الله محورًا لحياتنا، ومكرّسين أنفسنا للإخوة، ولاسيما المُحتاجين إلى العون والعزاء. لنتعلّم فنّ المحبّة كلّ يوم"(كلمة البابا 21 أيار 2017). إن الإرث الذي تركه لنا يسوع هو في الوقت نفسه وصية المحبة والرُّوح القدس. ولكن أن يكون الحبّ وصية، هذا أمر صعب فهمه! فالوصية تأتي دائماً من الخارج، تُعطى لنا من قبل آخر. بينما الحُبّ، يأتي من أعماقنا، نحو الآخر. هذا ما يسمح لنا بالقول بأن هذه الوصية تأخذ معنى جديد، ككل ما يأتينا من المسيح. أَمَّا عبارة "فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" فتشير إلى ظهور يسوع القائم من الموت والمُمجَّد، كجزاء طاعة التلميذ لوصايا المسيح حيث يشرق يسوع بنوره على فكر المؤمن وعلى قلبه، ويتمتع باستنارة روحية. ولا يعني الظهور الخارجي للحواس، إنَّما الظهور الداخلي للقوى الباطنية مما ينشئ راحة الضمير والسَّعادة والرَّجاء. يعلق القدّيس أوغسطينوس " هذا الظهور ليس لهذه الحياة، بل للدهر الآتي. وهو ليس لفترة معيّنة، لكن لن يكون له نهاية. "الحياةُ الأبديّةُ هي أن يَعرفوكَ أنتَ الإلهَ الحقَّ وحدَكَ ويَعرفوا الذي أرسَلتَه يسوع المسيح" (يوحنا 17: 3) "(العظة 101 حول إنجيل القدّيس يوحنّا). عن هذ الظهور قالَ القدّيس بولس: "َنَحن اليومَ نرى في مرآةٍ رؤيةً مُلتَبِسَة، وأمّا في ذلك اليوم فَتَكونُ رؤيَتُنا وجهًا لِوَجه. اليومَ أعرفُ معرفةً ناقصة، وأمّا في ذلك اليوم فَسأعرفُ مثلما أنا معروف" (1قورنتس 13: 12). ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-21) بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-21)، يمكن أنْ نستنتج انه يتمحور حول وعد يسوع بحُضوره من خلال الرُّوح القُدُس وحفظ وصاياه. 1) حُضور يسوع لتلاميذه من خلال الرُّوح القُدُس الرُّوح القُدُس هو الذي يؤمِّن حُضور المسيح بشكل من الأشكال كما صرّح يسوع: “أَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16). كان حُضور الله الموقَّت في المسيح على الأرض شيئًا حتميًا، لأَنَّ المسيح من حيث انه إنسان، ما كان يستطيع أن يبقى على الأرض إلى الأبد مع المؤمنين. لكن بالرغم من صعود يسوع بالجَسَد إلى أبيه، بقي حُضوره مُستمرًا بطريقة جديدة عن طريق الرُّوح القُدُس. ويُعلق القدّيس العلامة يوحنّا الآبلّيّ، "كما كان الرَّبّ يسوع يَعِظُ، فإنّ الرُّوح القُدُس يعِظُ الآن؛ وكما كان يُعَلِّم، فإنّ الرُّوح القُدُس يعلّم؛ وكما كان المسيح يُعَزّي، فإنّ الرُّوح القُدُس يعزّي ويعطي السرور. ماذا تطلب؟ عمّا تبحث؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟" (العظة رقم 30، الرابعة عن الرُّوح القُدُس). إن المعزّي، روح الله ذاته، يجيء بعد صعود يسوع للاهتمام بتلاميذه ورعايتهم وإرشادهم. وقد حدث هذا في يوم العنصرة (أعمال الرسل 2: 1-4) حيث قطع الله عهدًا جديدًا معنا خاتمًا إيَّاه بسكنى رُوحه القُدوس فينا. وهذا ما أكّده بولس الرسول "أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟" (1 قورنتس 3: 16)، فحُضور الرُّوح في حياتنا هو تتميم لمُخطط الله الخلاصي لنا. قال القديس أثناسيوس الإسكندري: "لقد أصبح الله إنسانا ليجعلنا أهلاً لقبول الرُّوح القُدُس". وكشف لنا الرُّوح عن ذاته من خلال الصور: "حمامة" في عماد يسوع في الأردن "اعتَمَدَ يسوع وخَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء، فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه" (متى 3: 16)، وظهر بصورة "ريح وألسنة نار" يوم العنصرة. كما جاء الوصف في أعمال الرسل "انْطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه، 3 وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، 4 فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوح القُدُس" (أعمال الرسل 2: 2-4). وشبّه الأنبياء الرُّوح بالذي "يمسح" مختاريه. إنّ الإنسان الذي يحصل على هذه المسحة يصبح "ممسوحًا" أو "مسيحًا". ويُصبح المعمّد خاصة المسيح عندما يختمنا الرَّبّ بروحه. "فيه أَنتُم أَيضاً سَمِعتُم كَلِمَةَ الحَقّ أَي بِشارةَ خَلاصِكم وفِيه آمنُتُم فخُتِمتُم بِالرُّوح المَوعود، الرُّوح القُدُس" (أفسس 1: 13). نجد صورة المسحة مكتملة فينا عندما نحصل على سر الميرون المقدس (سر التثبيت المقدس)، ويتكلّم القديس بولس عن الرُّوح القُدُس ويُشبِّهه بختم في علاقتنا مع الله، "ولا تُحزِنوا رُوحَ اللّه القُدُّوسَ الَّذي به خُتِمتُم لِيَومِ الفِداء" (أفسس 4: 3). فالرُّوح القُدُس هو "عربون الميراث الآتي وباكورة الخيرات الأبدية" (الليتورجيا الإلهية). ويدعوه الرسول بولس الرُّوح القُدُس هو "الضمانة" للحصول على الحياة الأبدية: إنه "هو عُربونُ مِيراثِنا إلى أَن يَتِمَّ فِداءُ خاصَّتِه لِلتَّسْبيحِ بِمَجدِه" (أفسس 1: 14). لن يتركنا الرُّوح القُدُس يتامى بل يبقى معنا إلى الأبد، ويقودنا إلى الحَقّ كله "رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه"(يوحنا 14: 17)، ويحيا معنا وفينا لأنَّه في وسطنا وسيكون في داخلنا " تَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم" (يوحنا 14: 17)، وهو يُعيننا أن نحيا حسب ما يريده الرَّبّ الإله منّا، ويُعلمنا كل شيء كما قال يسوع " المُؤَيِّد، الرُّوح القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء"(يوحنا 14: 26)، ويذكّرنا بكل أقوال يسوع المسيح " يُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم "(يوحنا 14: 26). والرُّوح القُدُس هو مصدر كل الحَقّ، لأنه هو "رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب" (يوحنا 15: 26)، ويقنعنا بخطايانا وبدينونة الله " وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة "(يوحنا 16: 8)، وهو يشهد للحقِّ، أي للمسيح، كما صرّح يسوع "فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 26:15)، ويُعطينا بصيرة إلى أحداث المستقبل " فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث" (يوحنا 16: 13)، ويُبيِّن مجد المسيح " سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه "(يوحنا 16: 14). وكان الرُّوح القُدُس عاملاً بين النَّاس منذ بداية الزَّمان، لكنَّه بعد العنْصَرة سكن في المؤمنين (أعمال الرسل 2: 1-13). الرُّوح القُدُس هو الله داخلنا وداخل كل المؤمنين. وهو يعمل معنا ولأجلنا، ويُعيننا أن نحيا كأبناء الله؛ كما كتب بولس الرسول:" إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! وهذا الرُّوح نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله" (رومة 8: 14-16). وبالرُّوح القُدُس نُصبح أبناء للآب وأخوة بعضنا لبعض وللناس كلّهم. الرُّوح القُدُس قريبٌ منّا، بشكل خاص، في الصلاة. ففي الصلاة نختبر بشكل خاصّ بأنّ "إِنَّ الرُّوح أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوح نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف. والَّذي يَختَبِرُ القُلوب يَعلَمُ ما هو نُزوعُ الرُّوح فإِنَّهُ يَشفَعُ لِلقِدِّيسينَ بما يُوافِقُ مَشيئَةَ الله" (روما 8، 26-27). ويُعلق أوريجانوس: "حينما نُصلّي نكون دائماً إثنين: نحن والرُّوح القُدُس. بواسطة الرُّوح القُدُس، نحن ندخل في حوار أبديّ مع الآب والابن، ولا يتمّ الاستماع إلى الصلاة بحسب صوتنا، بل بحسب صوت الرُّوح القُدُس الّذي يُصلّي لنا، وهو الوسيط الدائم لدى الآب والّذي يطلب دائماً ما هو الأفضل لنا". ومن هنا نتساءل: ما هو دور الرُّوح القُدُس اليوم في حياة كلِّ واحدٍ مِنَّا؟ ماذا عملنا بالرُّوح القُدُس الذي أُعْطي لنا يوم عمادنا؟ هل نسمح له أن يعمل في حياتنا؟ هل له أي دور في حياتنا؟ دعونا نطلب من الرُّوح القُدُس، الرُّوح المعزِّي، أن يأتي ويسكن في قلوبنا فنشعر بحُضور المسيح فينا، ونتذكر تعاليمه وصلاته، ونعمل على حفظ وصاياه. 2) حُضور يسوع لتلاميذه من خلال حفظ وصاياه يدعونا يوحنّا الإنجيلي، في بشارته، إلى استقبال كلام المسيح من كل قلوبنا. وباستقبالنا له، نحن في الحقيقة نجعل المسيح نفسَه حاضرًا في حياتنا، كما قال: "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" (يوحنا 14: 21). وينشأ رباط وثيق بين يسوع والتلميذ الأمين لوصاياه، إذ يقوم حوار حميم بينه وبين يسوع، فيسوع يُظهر نفسه كما هو. وحيث أنَّ يسوع لا ينفصل عن الآب، فوجود الواحد لا يُعقل دون وجود الآخر "أَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ" (يوحنا 14: 10). وهكذا يتمُّ الوعد بمجيء الآب والابن إلى التلميذ "ذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23). فالمسيحي يكون مُضيفا وهيكلا للأقانيم الثلاثة. يؤكِّد يسوع المسيح لتلاميذه الضمانة بحُضور الآب والابن والرُّوح القُدُس " مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"(يوحنا 14: 21). هذه الآية تُشكّل جواب يسوع لفيليبّس: " يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا" (يوحنا 14: 8)، وتعيدنا إلى العهد القديم، إلى سفر الخروج حيث طلب موسى معاينة مجد الرّب قائلاً: "أَرِني مَجدَكَ " (خروج 33: 18)، فكان جواب الله له : " وَجْهي لا تَستَطيعُ أَن تَراه لأَنَه لا يَراني الإِنْسانُ وَيحْيا" (خروج 33: 20)، فالله الّذي يحيا في النّور لا يمكن الوصول إليه كما يصرِّح بولس الرسول : "الَّذي لَه وَحدَه الخُلود ومَسكِنُه نَورٌ لا يُقتَرَبُ مِنه وهو الَّذي لم يَرَه إِنسان ولا يَستَطيعُ أَن يَراه لَه الإِكرامُ والعِزَّةُ الأَبَدِيَّة. آمين"(1طيموتاوس6: 16)، حُضور يسوع القائم يختلف عن الذي كان التلاميذ يحلمون به (يوحنا 14: 8-22). قال يوحنا الرسول: "لا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1يوحنا 4، 12)، لكن لا يمكن أن يُعاين يسوع فقط على ضوء العقل والمعرفة الحسيّة. كما كان الحال في العهد القديم من خلال علامات حسِّيَّة مُبهرة والتي تُثير حماسهم كان يظهر إلى موسى النبي "غَطَّى الغَمامُ الجَبَل. وحَلَّ مَجدُ الَرَّبِّ على جَبَلِ سيناء" (خروج 24: 15-16)، لكن يسوع أدخل تلاميذه في عالم الإيمان. إنسان يطلب أن يرى ليؤمن، والرّب يطلب الإيمان لإظهار ذاته. فحين يطلب الإنسان المعاينة، لا يضحي للإيمان معنى، لأَنَّ من يعاين لا يعود بحاجة للإيمان. وهذا ما نستشفه من قول يَهوذا، غَيرُ الإِسخَريوطيّ: "يا ربّ، ما الأَمرُ حتَّى إِنَّكَ تُظِهرُ نَفْسَكَ لَنا ولا تُظهِرُها لِلعالَم؟ (يوحنا 14: 22). نجد الرّب يُعلن للتلاميذ أنّهم قادرون على معاينة الله "فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"، لأَنَّ الرّب ذاته يُظهر لهم نفسه، أي يُعلن الرَّبّ ذاته، ويحل في حياة التلميذ، إذ يجعل من حياته "مقاماً إلهيّاً". وهذه السكنى لا تتم دون توفّر الشَّرطَين: الحبّ وحفظ الوَصايا. فشرط المعاينة هي ليست الرّغبة في المعرفة، في اللّمس والفهم والإدراك، بل هو الدخول في علاقة حُبّ مع الرّب. فقط من يحبّ الله يمكنه أن يُعاين الله، لأَنَّ الله محبّة ومن يحيا المحبّة يشترك بالنِعمة، لا بالطبيعة، في جوهر الله نفسه. محبّة الإنسان لله ليست محبّة نظريّة، بل محبّة عمليّة، هي في أن نحيا وصايا الرَّبّ يسوع في حياتنا. الإيمان هو عمل حبّ لا عمل معرفة عقليّة، والحُبّ الّذي يدخلنا في المعرفة الإلهيّة يكون السَّبيل إلى المعرفة العقليّة بالقدر الّذي يُمكِّن عقلنا من الوصول إليه. وحفظ الوَصايا هو التطبيق العملي للحُبّ الإلهيّ. يجب أن نؤمن أوّلاً بالرَّبّ، ثمّ أن نستسلم بدون تحفّظ لوصاياه. ونعتمد الإيمان عنوانًا لمحبّتنا. الإيمان يأتي أولاً ثم المحبة كما قالت القديسة تريزا دي كالكوتا " ثمرة الإيمان الحُب"، فمن يؤمن يرى المسيح. ومن يرى المسيح يُحبُّه. ومن يحب المسيح يطيع الوَصايا، والرُّوح القُدُس هو الذي يُعطينا الحُب لنحفظ الوَصايا، كما جاء في تعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية "أن المَحبَّة التي هي ثمرة الرُّوح وكمال الناموس تحفظ وصايا الله ومسيحه" (رقم 1824). فالوصية تأتي دائماً من الخارج، تُعطى لنا من قبل آخر. بينما الحبّ، على العكس يأتي من أعماقنا. المَحبَّة هي التزام وسلوك أكثر من كونها كلمة لطيفة. المَحبَّة هي التزام بالآخر وليست نزوة...هي مسؤولية تجاه النفس والآخرين وليست أنانية... ويصفه بولس الرسول أعمالها: "هي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء" (1 قورنتس 13: 7)، وتُصحّح وتغفر، تلتزم بالحَقّ وتدافع عن العدل، تنتبه إلى الفقير وتشفق على الضعيف، لا تبحث عن الغِنى والجَاه والتقدير، بل في كلّ شيء تبتغي خدمة الله وتمجيده وإعلان اسمه القدّوس. مَن تبع يسوع يُظهر محبته له بطاعة وصاياه. والوَصايا هي ليست مجموعة من الأنظمة والقوانين، والأوامر والنواهي المفروضة من الخارج، بل هي برنامج حياة؛ نحن أحياناً نختار أن نرى الوَصايا بأنها قيود. قد نشعر أحياناً أن قوانين الله تُقيِّد حرية اختيارنا الشخصية، وتسلب منا حريتنا، وتحدُّ من إمكانية نمونا. لكن عند سعينا لفهم أكبر وعند سماحنا لأبينا السماوي بأن يُعلّمنا، سنبدأ برؤية بأن وَصاياه هي إثبات لحُبِّه لنا، وان إطاعة وصاياه هو تعبيرٌ لحُبِّنا له. الوَصايا هي أن يدخل الإنسان مع المسيح في شركة حب وحياة، وذلك أن يكون تلميذًا وشاهدًا ورسولاً. فإن أردنا أن يجعل الرَّبّ له مقامًا عندنا، فيجب علينا أن نحفظ وصاياه، فحفظ وصايا الرَّبّ هي الدليل على محبَّتنا له ورغبتنا باستقباله في حياتنا. فمن يُحبّ الله يمكنه أن يُعاين الله، لأَنَّ الله مَحبّة ومن يحيا المَحبّة يشترك بالنِّعمة في جوهر الله نفسه. والعلامة الحسِّيّة لهذه المَحبّة هي في عيش الوَصايا. وصاياه هي إثبات لحُبِّ الله لنا، وحفظ وصاياه هو تعبير لحُبِّنا له. وعد المسيح التلميذ الذي يُحبّ ويحفظ الوَصايا بحُضور الآب والابن والرُّوح القُدُس. ولكن هذه الحُضور يتطلب الطاعة والمَحبَّة اللتين كان الله يطلبهما في العهد القديم (تثنية الاشتراع 6: 4-9)، كما يصرّح السيد المسيح "إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23). فحُضور المسيح في حياتنا وفي عالمنا يُقلب الموازين. لا يكفي احترام الوَصايا وتطبيقها، لكن الأهم هو أن يقبل كل واحد أن يعيش من حُب الله، الآب والابن والرُّوح القُدُس. وإذا قبلنا أن نعيش من هذا الحُبِّ، تتغيَّر حياتنا. فيصبح المسيح في قلب حياتنا اليومية ونكون شهودًا له في عالم اليوم. ما قيمة الحُبّ إذا لم يقترن بأعمال ومبادرات فعلية؟ ما قيمة الحُبّ إن لم أحترم الآخر؟ فحفظ التلميذ للكلمة وأمانته لها، يضمنان له حياة صداقة وعلاقة حميمة مع الله الذي كشف عن ذاته في عمق حياته الثالوثية (ثلاثة أقانيم في إله واحد). وعندئذٍ تتحقق نبوءة حزقيال "أَقطَعُ لَهم عَهدَ سَلام. عَهدٌ أَبَدِيّ يَكونُ معَهما، وأَجعَلُ مَقدِسي في وَسطِهم لِلأبد" (حزقيال 37: 26). فالمَحبَّة هي العلامة الأساسية لحُضور الرُّوح فينا، وهي تُضفي على كل عمل مسيحي صفته الشرعية، وأمّا فقدان المحبة فعملنا ناقصًا. الخلاصة يتناول النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-21) إلى تكملة من خطاب الوداع في العشاء الأخير. ويتكلم يسوع عن موته بل وعده بانتصاره على الموت، كما يعلن "أَنتُم فسَتَرونَني لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون" (يوحنا 14: 19)، أي إننا سنحيا من خلال حياته نفسها. يعلق البابا فرنسيس "خلال العشاء الأخير، تنبأ المسيح بموته وجعل من الموت تقدمة لذاته، وتغلب بقوة محبته على الموت. والقيامة من الموت تصبح ممكنة بواسطة الإيمان، ونوال سر العماد. وكما يقول القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ" (غلاطية 2: 20)" (عظة 16/4/2006). إننا نعيش في شركة مع المسيح الذي هو الحياة الأبدية، ويمكننا أن ننال هذه الحياة إذا اتَّحدنا مع من هو الحقيقة والمحبة، ومن هو الله نفسه. رحيل يسوع الجسدي، هو ليس النهاية، بل هو بداية حُضوره وبقاءه النهائي والمستمر للإله الثالوث في قلب وحياة المؤمن. والمؤمن الحقيقي هو الذي يعيش ويُطبِّق بمحبة كلام يسوع وتعليمه "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"(يوحنا 14: 21). يدعونا يسوع أن ننظر إلى الحياة ليس بعيون العالم، لكن بعيون الذين يمتلكون حياة الله فيهم. دعاء أيها الآب السماوي، إنَّنا نضع ثقتنا في ابنك يسوع الذي قال "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي". ضع فينا روحَك القُدُّوس فنحبك ونحفظ وصاياك فنحافظ على حُضورك فينا فنظل ثابتين في الرَّبّ واثقين وآمنين لمُستقبلنا. آمين. |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|